الذكرى السادسة
في صباح الغد طُرق بابي باكرًا ودخل عليّ طبيب البلدة الذي كان بصلاحه وعنايته صديق كل نفس فيها. شهد تعاقب جيلين اثنين من أهلها والأطفال الذين دخلوا العالم على يده وصلوا إلى دور الأبوة والأمومة، وما زال يعاملهم جميعًا معاملة الأب لأبنائه. لم يتزوج مع أنه كان حتى في شيخوخته قويًّا جميلًا. رأيته مذ عرفته كما يقف الآن أمامي وعيناه الزرقاوان الرائقتان يلمعان تحت حاجبيه وشعره الأبيض الكثيف يتلوى جعديًّا، وهو يلبس الجرابات البيضاء وهذا الحذاء ذا العرى الفضية، وعلى ذراعه هذا الرداء البني الذي قضى عمره جديدًا. وعصاه هذه الذهبية الرأس كان يحملها بعينها أيام طفولتي إذ يقف إلى جانب سريري ليجس نبضي ويصف لي الدواء. ولقد تعددت الأمراض في حداثتي إلا أن إيماني بقدرة هذا الرجل كان كفيلًا بالشفاء، لأني لم أشك لحظة في كفاءته وسطوته على جميع العلل، فكان قول والدتي بوجوب استدعاء الطبيب يوازي عندي قولها بوجوب حضور الخياط ليفصل لي قميصًا بذلة. وما كان عليَّ إلا أن أتناول أول جرعة من الدواء لأشعر ببدء الشفاء والتحسن.
دخل الغرفة قائلًا: «كيف حالك يا صديقي الصغير؟ أرى على وجهك دلائل التعب فلا تكثر من الدرس. ليس لدي وقت طويل للحديث. إنما جئت أقول لك أن تكف عن زيارة الكونتس ماري. لقد صرفت الليل قرب سريرها وأنت علة اضطرابها فامتنع عن زيارتها إذا كانت حقيقةً عزيزة عليك. ستذهب هي إلى البرية قريبًا وخير لك أن تسافر أنت أيضًا وتغيب مدة. والآن عم صباحًا وكن أبدًا ولدًا صالحًا كما هو عهدي بك.»
قال هذه الكلمات وتناول يدي ناظرًا في عيني بعطف مستفهمًا كمن يود سلب الوعد سلبًا. ثم غادرني ليعود الأطفال المرضى.
أدهشني أن يهتدي غريب إلى أسرار نفسي قبل أن أكون على علم تام بها. غير أني لم أفكر في ذلك إلا عندما بلغ الطبيب أطراف الشارع، فجاش قلبي كالماء طال مكوثه على النار فغلى فجأة وفار وعلا حتى ضاق عليه الإناء فتدفق.
كيف لا أرى صديقتي بعد الآن وأنا لا أحيا إلا ساعة أكون قربها؟ سأقابلها هادئًا لا أتحرك، وصامتًا لا أتكلم، بل أكتفي بالوقوف عند النافذة وأنظر إليها وهي نائمة تحلم. كيف لا أراها؟ وكيف يمكنني أن لا أراها؟ بل كيف لا أودعها؟ هي لا تعلم، ولا تستطيع أن تعلم، أني أحبها. وأنا لا أرجو شيئًا ولا طمع لي في شيء وقلبي ينبض بانتظام في حضرتها. إنما أحتاج إلى الشعور بوجودها، أحتاج إلى استنشاق روحها، وعلي أن أزورها لأنها تنتظرني. ترى أيجمعنا القدر بلا مأرب؟ ألست أنا تعزيتها، وأليس أنها موضع راحتي؟ أَتُدْنِي الحياةُ بين روحين شأنها بذراتِ الرمل في الصحراء ثم تَبْعَث بريح سموم فتتلاعب بضعفها وتذرها في الهواء غبارًا؟ أليس أن نفوسًا سعدت بالتقارب والتفاهم تحافظ على سعادتها، ولا تفصل بينها قوة ولو أسرفت في الدفاع والنضال وقضت في سبيل ذلك الاتصال؟ وقد تحتقرني الفتاة إن أنا جازفت بحبها وأجفلت لأول إشارة إجفال تلك الشجرة عند دوي الرعد في الفضاء.
توقفت بغتةً وإذا بكلمة «حبها» تتراجع كالأصداء في جميع أنحاء قلبي مخيفة مروعة، «حبها؟» وماذا فعلت لأستحقه؟ هي لا تعرفني إلا قليلًا، وإذا استطاعت أن تحبني فعلي مصارحتها بأني لست أهلًا لتلك النعمة. وأخذت أفكاري وآمالي تتصاعد في جو نفسي ثم تهبط يائسةً كأطيار تحاول التحليق في بعيد السماء وهي تجهل أن الأسلاك ضربت حولها سياجًا محكمًا. إن لم تكن هذه السعادة سعادتي، فلماذا تحل على مقربة مني؟ ألا يصنع الله العجائب؟ ألا يصنعها كل يوم وكل ساعة؟ ألم يصغ إلى صلواتي مرارًا أرسلتها نحو علاه فعادت إليّ تحمل مساعدة للمنكوب وتعزية للمضني؟ أنا وهي لا ننشد خيرًا دنيويًّا، إلا أن نفسينا المتفاهمتين تودان عبور هذه الحياة يدًا بيد ووجهًا إزاء وجه، وأن أكون أنا عضدها في آلامها وأن تكون هي تعزيتي أو حملي الغالي، وهكذا إلى نهاية العمر. ولماذا لا يمد الله بعمرها وينعم عليها من أيامها بربيع بعد أوان الربيع ويبرئ سقامها؟ آه! يا للصور العذبة تمر أمام عيني! هي تملك قصر والدتها في «التيرول». هناك نمكث فوق الآكام الخضراء في هواء الجبال النقي بين أصحاء لم تضعفهم المدنية، بعيدًا عن هموم العالم وجهوده حيث لا حاسد ولا عذول. هناك ندرك بسلام غروب الحياة فتذوب أيامنا الأخيرة رويدًا رويدًا كاحمرار الشفق لدى هجوم الظلام …
تراءت لي البحيرة القاتمة بأمواجها الهادئة ترجع صورة الجبال البعيدة يجلل الثلج أعاليها. وسمعت رنين أجراس القطيع وأغاني الرعاة، وخلت الشيوخ والشبان متجمعين عند المساء في مدخل القرية، وفوق هؤلاء جميعًا لمحت خيال الفتاة سابحًا كملك حب وسلام، ورأيتني دليلًا لها وصديقًا.
عندئذ صرخت بأعلى صوتي: «يا لك من غبي! يا لك من غبي! أخارت قواك وذل شممك، وبلغ بك الحمق والغرور هذا المبلغ؟ ألا تيقظ وانهض، واذكر من أنت واذكر فروقًا تحول بينك وبينها! هي صالحة لطيفة تسر برؤية نفسها منعكسة على مرآة نفس أخرى. غير أن ثقتها هذه الشبيهة بثقة الأطفال، وكيفية تصرفها معك ومعاملتها لك، كلها تنم عن خلو فؤادها من عاطفة عميقة تحييك. ألم تر في ليالي الصيف المنيرة وأنت تائه وحدك بين أحراج الزان كيف يسكب البدر فضي أشعته على كل غصن وكل ورقة، ويضيء بركة الأسماء ذات المياه القاتمة فيشرق ممثلًا في كل قطرة وجزء من قطرة؟ ذاك موقف الفتاة إزاء ليل هذه الحياة، ولئن نشرت في فؤادك نورًا ترتسم خلاله خطوط صورتها المأنوسة فلا ترج شعاعًا، لا ترج شعاعًا حارًّا لاذعًا! لا ترج عاطفة حارة تشبعك وتحييك!»
مثلت صورتها أمامي مثول الحياة ليس كذكرى بل كرؤيا، فاستوقفني جمالها. ذلك لم يكن جمال الرونق الزاهي الذي تفتننا به الفتاة الحسناء لأول نظرة ثم ينقضي ويزول بزوال الربيع. بل كان جمال الانسجام والالتئام بين أجزاء كيانها، وجمال الحركة الصادقة والتعبير الروحي، ومعنى السكون المقيم. إن جمال الشكل واللون الذي تمنحه الطبيعة بنات حواء لا يُرضي إلا إذا أظهرت صاحبته أهليةً له بل وتغلبًا عليه. وإلا فهو يغضب ويسخط كأنه رداء ملكي تجره في المسرح ممثلة ذات فن خامل سقيم. الجمال الروحي هو الجمال الوحيد يمد الصورة الترابية الجامدة بالحياة والمعنى ويصير المنفر جذابًا والقبيح مليحًا.
كلما أمعنت النظر في طيف الحبيبة أدركت منها نبل الجمال وعمق الروح كأن الوحي بذلك الجمال يهبط عليّ بالتدريج. أواه إنها لغبطة، إنها لسعادة تلمس يدي! وما غاية الزمن من تعذيبي؟ أيريني قمة الهناء ثم يلقي بي غدرًا في القفار حيث الرمال المحرقة والوحدة الموجعة؟ ما الغاية من اكتشاف كنوز تحويها أرضنا هذه؟ أليس دوام الشقاء خيرًا من أن يحب المرء مرة ثم يبقى إلى الأبد وحيدًا، ويرجو يومًا ليسحق اليأس قلبه دوامًا، ويلمح النور طرفه ليصرف حياته في الظلمات كفيفًا؟ هذا ألم يفوق الآلام البشرية مجموعة بتمامها.
طال تشتت أفكاري وتتابعها المشوش المختل، إلى أن هدأت عاطفة شعوري وتجمعت خواطري وانتظمت قليلًا قليلًا. يسمي الناس هذا الخمود تفكيرًا ولكن التفكير في مثل ذلك محال وما لدينا من قوة سوى الترقب والانتظار. وما هي نتيجة هذا وذاك؟ هي تلك التي يشهدها الكيماوي بعد أن تتخذ العناصر أشكالها فيذهله أن نتائج التحليل تختلف عن مقدماته الاختلاف كله.
كذلك كانت الكلمة التي لفظتها بعد العودة من غيبوبتي هي هذه «يجب أن أسافر»! فجلست إلى مكتبي وكتبت إلى الطبيب إني سأغيب أسبوعين وإني أترك الأمر له. ثم انتحلت عذرًا قدمته لأبوي وغادرت البلدة في ذلك المساء ووجهتي جبال «التيرول».