الذكرى السابعة
ما أسعده فتى ذاك الذي جال في أنحاء «التيرول» فتسلق جبالها الشاهقة وهبط أوديتها العميقة برفقة صديق محبوب: أليس أن حظًّا كهذا يبعث فيه نشاطًا ويطيل منه العمر؟ وما أشقى ذاك الذي يجوب البراري والقفار والغابات والمدن وحده لا نديم له سوى أفكاره المؤلمة.
ترى ماذا يهمني من هاتيك الجبال المتجلية بحللها الخضراء، ومن هذه الوهاد الغائرة السوداء، وتلك البحيرات الزرقاء، والشلالات المتدفقة تتكسر فيها خطوط الأنوار والظلمات؟ عوضًا عن أن أنظر إليها ها هي تنظر إليَّ وبها ذهول لدلائل اليأس المرسومة على الوجه البشري الماثل أمامها، وذهولها يسحق قلبي ويثقل علي انفرادي إذ ليس في هذا العالم الواسع شخص يشتاق إليّ، ويرغب فيَّ، ويؤثرني على أي أحد غيري. كنت أرقد كل مساء وأستيقظ كل صباح بهذا اللهف المبرح، كأنما هو نغمة نفذت في سمعي واحتلت ذاكرتي دون أمل في الجلاء.
دخلت ذات مساء إحدى الفنادق تعب النفس والجسد وجلست بين الحضور فتوجهت إليّ أنظارهم ورأيت فيها خيال الشفقة على هذا الغريب التائه في ديارهم، فأمضتني جراح قلبي ومضيت أسعى تحت جنح الظلام حيث لا عين ترى ولا شفيق يشفق. وعدت إلى غرفتي في أواخر الليل وانطرحت على مضجعي الملتهب مهمهمًا لنفسي بأغنية شوبرت المعروفة «حيث لست موجودًا هناك السلام والطمأنينة». ومرت الأيام وحالي في ازدياد حتى أمسيت لا أحتمل منظر المغبوطين الضاحكين ومشاهد الطبيعة البديعة الدائمة، فصرت أنام ساعات النهار بطولها وأصرف الليالي متجولًا من مكان إلى مكان. إلا أن عاطفة قوية كانت تستولي علي فتحول أفكاري عن مجراها وتردني إلى مخدعي، وهي عاطفة الخوف أو إحساس الخوف، سمه ما تشاء.
نعم كنت أخاف في تلك الليالي القمراء إذ أتسلق أكتاف الأطواد في أدغال ليس بمعروف مداها ولا منتهاها بمأمون؛ فتتوتر أعصابي ويتيقظ بصري ويرهف سمعي فأرى أشباحًا بعيدة مبهمة، وأتوجس أصواتًا ذات همس ودوي وطنين تنبعث من كل صوب، وتتعثر قدمي في جذور انبثقت من شقوق الصخور، هذا إن لم تزلق في عطفة بلت ترابها مياه الشلال؛ فينكمش فيَّ فؤادي القانط وتهزه قشعريرة البرد وليس لديه من حرارة التذكار ما يدفئه ومن حلو الرجية ما يتعلل به. إن من أخذه مرةً وجل الليل لعالم بأنه وجلٌ يتناول النفس والجسد معًا.
لا أشك أن الخوف كان أول عذاب الإنسان يوم ظن نفسه منسيًّا من الله. ثم تشدد وخف اضطرابه بتعاون أبناء الله فيما بينهم واتفاق كلمتهم على التكاتف والتضامن. وهو لا يعرف الوحدة الساحقة واليأس الصميم إلا عندما يعوزه الحب والمعونة فيخال له أنه إنما انقطع عن شركة الأحياء لأن الله هجره وأغفل وجوده. يسائل الطبيعة وعجائبها فيلقى من سكوتها هولًا لا مواساة، وينقل خطواته على الأرض المتينة الصلبة فتترنح تحت وطئه وتتوارى كزبد البحر وموجه. وإن رفع بنظره نحو النور ينشره القمر صاعدًا وراء أحراج الشربين حسب أشعته رءوس حراب تطعن مهج الصخور، وخيوطه عقارب ساعة دارت دورتها زمنًا ووقفت وقوفًا لا ينتهي.
النجوم تدور مسرعة في أبراجها السحيقة لا تلتفت إلى تعساء الغبراء فلا تعزية في مشهدها، بل هو يزيد النفس شعورًا بالوحدة والهجران. وما من سلوى ممكنة في غير عمل الطبيعة المستطرد بدقة يشمل الموجودات بأسرها لا تشويش يزعج ذلك النظام الكامل العظيم.
هاك الشلال، يا أيها المتأمل! فإن تدفق أمواهه أنال الجلاميد على جانبيه حياة وكساها بطحلب ذي خضرة قاتمة، وفي ظل الجلاميد تختبئ تلك الزهرة النحيفة المدعوة «لا تنسني!» هذه واحدة من ملايين الزهرات المنورات قرب كل ساقية وكل جدول في كل روض من رياض الأرض. وقد نورن في أمكنتهن مرارًا عديدة منذ أن نثر الكون على الخليقة ثروة حيويته التي لا نفاد لها. أحصيت جميع الخطوط في وريقات هذه الزهرة، وعددت جميع الذرات في كأسها، وضبطت جميع ألياف جذعها فليس من قوة أرضية مهما طغت وبطشت أن تزيد عليها أو تنقص منها فتيلًا. وإذا استعنا بالمجهر (المكروسكوب) لتبين عمل الطبيعة واكتشاف خفاياها في أدق أنواع إنتاجها وجدنا في أحشاء البذور الهادئة، وفي البراعم والأزهار والأنسجة والخلايا، الناموس ذاته متكررًا متجددًا، ويظل نظام الكون في أصغر الذرات وأنحف الألياف أبديًّا لا يلمسه تغير ولا يلحق به تبديل. أنى توجهنا لقينا النظام الأوحد، فالنفس من هذا العالم الصوري عين أحاطت بها المرايا ففقدت ذاتها في تكرار لا حد له ولا نهاية. وفي كل كائن وكل موجود يستقر الأبد الآبد الذي يختلب ذهنك إزاء هذه الزهرة النحيفة.
وهناك في أعالي الفلك تجد النظام بعينه نافذًا في الأجرام الكبرى: فالأقمار تدور حول السيارات، والسيارات حول الشموس، والشموس حول شموس أخرى وما السديم الخيالي السحيق إلا عالم عجائب وقدرة وجمال. ولا تفتأ هذه الكواكب العظيمة تدور في أبراجها لتظفر الأرض بتوالي الفصول فتتمكن الزهرة من البروز والنمو، وتنسج منها الخلايا وتنتشر الأوراق فترصع هي وأخواتها بساط الحقول. كذلك ينفذ النظام في الفراشة المتوسدة أحضان الأزهار، فإن يقظتها للوجود وتمتعها بالحياة وكيفية تنفسها ونموها لأعجب من نسيج النبات ودورة الشموس. ونحن البشر نظير كل كائن إنما يختص بنا النظام الكلي الخالد، فكم من موجود انتبه من غفلة العدم وتحرك وعاش ثم اختفى غير تارك لمروره من أثر!
فإذا كان الكل بموجوداته الكبيرة والصغيرة وما يدبرها من حكمة وقدرة، إذا كان هذا الكل بأعجوبة حياته وحياة أعاجيبه صنع كائن أحد، فلماذا أنت ترتعد وماذا تخشى؟ أليس الأحرى بك أن تخر ساجدًا مدركًا ضعف نفسك وعدمها ثم أن ترفع عينيك نحوه واثقًا بحبه وعطفه؟ أليس أن فيك شيئًا أثمن من نسيج الأزهار وأعضاء الخفافيش وأبراج السيارات؟ إذا كان ذلك ورأيت خيالك في صفحة الوجود محاطًا بتألق الكائن الدائم وشعرت بحضوره فوقك وتحتك وفي داخلك وإنما بذلك الحضور الإلهي يصبح الشبح منك إنسانًا، والقلق عندك راحة، والانقطاع اشتراكًا، والانفراد واحديةً كبرى؛ إذا كان ذلك وعرفت أنك تناجي إلهك إذ تصرخ في ليل الحياة البهيم: «أبتي، فلتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض وكذلك فيَّ!» فكيف لا تنقشع عنك إذن غيوم الأكدار ويبزغ فجر السرور حاملًا معه تعزية ونورًا؟ إن لك من الله يدًا لا تهملك بل تظل تعضدك وتقودك عندما تهتز الراسيات وتنطفئ الشموس. حيثما حللت تكن معه ويكن معك وهو قريب إليك على الدوام. له الخليقة بورودها وأشواكها، وله الإنسان بأفراحه وأتراحه «ولا يحدث شيء إلا بإرادة الله وسماحه.»
بمثل هذه الخواطر كنت أسلي نفسي فأتقبلها تارة فرحًا وطورًا حزينًا. لأنه إن نحن بلغنا لحظة مقر الراحة والسلام القائم في غور الروح فيتعذر علينا المكث هناك طويلًا. وكثر من ينسى تلك الخلوة بعد الاهتداء إليها، وينسى حتى السبيل الفكري الممتد بين العالم وبينها.
انقضت الأسابيع ولم أتلق من فتاتي حرفًا، فساورني همٌ جديد إذ قلت لنفسي: «ربما توفيت وهي تستريح الآن في حضن السلام الأبدي.» فأقامت هذه الكلمات تحوم حول شفتي وكلما بالغت في ازدجارها بالغت هي في إثبات معناها.
فعلام الازدجار وقد يكون حل المقدور؟ ألم يقل الطبيب إنها ضعيفة القلب وإنه يتوقع أن تفارق الحياة من إلى يوم؟ فهل أغتفر لنفسي تهاونها إذا غادرت صديقتي الدنيا دون أن أودعها وأبوح لها بحبي ولو في الساعة الأخيرة؟ ألا يتحتم عليّ البحث عنها الآن لأستمع منها كلمات الحب والغفران؟ لماذا يتردد الناس في قضاء الشئون ويؤجلون مخيرين غبطة تتيسر في الحال ناسين أن كل دقيقة قد تكون الأخيرة وأن ما فقد من الزمن فَقَدْ فُقِدَ من الأبدية؟
فكرت في اجتماعي والطبيب قبيل السفر فأدركت أني لم أرحل إلا لأثبت له أني قوي صلب الإرادة وقد عز عليّ الاعتراف بضعفي وباحتياجي إلى صديقتي، فاتضح لي الواجب في الحال وهو العودة إليها على استعداد لقبول ما تبعث به إلينا السماء من فرح وترح، وذكرت قول الطبيب بقرب ذهابها إلى البرية وقولها لي قبلئذ أنها اعتادت الاصطياف في قصرها في التيرول. أتكون إذن على مقربة مني لا يفصل بيننا سوى سفر ساعات قلائل؟ ما كاد يتضح الفكر حتى عاجلته بالتنفيذ، فغادرت المكان عند انبثاق الفجر ووجدني الغروب أمام قصرها.
وكان المساء هادئًا جميلًا وقد ضرب مجد الغروب فوق قمم الجبال رواقًا عسجديًّا فسبحت الهضاب في زرقة وردية، وتصاعد من الأودية ضباب رمادي فجعل يستحيل لامعًا بملامسة الهواء المنير، ثم اتجه نحو أعالي الجو كبحر ضياء متحرك. وتعدد تلك الألوان وألاعيب هاتيك الأنوار كان يعكس على صفحة البحيرة المضطربة فتبدو فيها ذرى الجبال مراقصة رءوس الأشجار وسطح الكنيسة المستدير، وكأن تلك الرسوم في الماء كانت هي بعينها الحد الفاصل بين عالمي المحسوس والخيال.
استقرت عيناي على القصر القديم حيث أرجو الاجتماع بها، ولم يكن في النوافذ نور ولا حول الجدران صوت يقلق سكون المساء. إن قلبي ليحدثني بلقياها، أيكذبني اليوم قلبي ويخونني الرجاء؟ مشيت متمهلًا فاجتزت الباب الخارجي ووجدتني في ساحة القصر حيث يسير الجندي الحارس ذهابًا وإيابًا. بادرته بالسؤال عن الكونتس فأجاب إنها في القصر. فقرعت جرس الدخول وانتظرت، وفي تلك اللحظة دهشت لما أنا فاعل إذ قد يكون بين الخدم من يعرفني، ولا أنا أجرأ على ذكر اسمي لأني قضيت الأسابيع الماضية تائهًا في الجبال وقد أهملت أمر لباسي وهندامي حتى صرت أشبه بالمتسولين، فماذا أقول، وعمن أسأل؟ لم يطل هجسي لأن الباب فتح وظهر منه البواب في زي خدم الأمراء وحدق فيَّ مبهوتًا.
سألت عن السيدة الإنجليزية وصيفة الكونتس فقال إنها هناك. فطلبت قرطاسًا وقلمًا وكتبت إليها: إني قدمت للاستعلام عن صحة الكونتس.
فبعث البواب بالرسالة مع خادم سمعت وقع خطواته المتباعدة في أبهاء القصر وممراته، وما تلاشت تلك الخطوات حتى صار موقفي لا يحتمل، فأخذت أنظر إلى ما علق على الجدران من صور أفراد الأسرة الراحلين: فرسان تدججوا بالسلاح، وسيدات ارتدين الزي القديم وفي وسطهن راهبة بثوب ناصع البياض وعلى صدرها صليب أحمر. لقد رأيت هذه الصور قبل اليوم في أحوال مختلفة ولم أفكر قط أن قلوبًا خفقت في هذه الصدور. وها إن ملامح هذه الوجوه تظهر اليوم كتبًا ملأى بالمعاني وكأنها تقول جميعًا: «لقد عشنا نحن أيضًا وتألمنا مثلك.» نعم، نعم تحت هذه الأسلحة دفنت أسرار كالتي تفطر الآن حشاشتي، وفي صدر الراهبة ذات الثوب الأبيض والصليب الأحمر جاشت العواطف المتلاطمة الآن في صدري. خيل إلي أن العيون تطل عليّ من الرسوم مشفقة. ثم اختفت الشفقة وحل الكبرياء مكانها وقالت الصور وأهلها: «أنت لست مناَ» وكانت تمر الدقائق فينمو وجلي إلى أن سمعت وقع أقدام خفيفة. وإذا بالسيدة الإنجليزية تشير إليّ بدخول إحدى الغرف، فنظرت إليها مستفسرًا لأقف على ما تعرف مما جرى ولكن ملامحها بقيت هادئة لا يبدو عليها دهشة أو تعجب أو أي اهتمام خاص. وقالت بصوت رزين إن صحة الكونتس في تحسن وإنها ستقابلني بعد نصف ساعة.
مثلما يأمل الغريق بالنجاة بعد يأس الموت إذ يرى نفسه آمنًا على الشاطئ عقب أن تقاذفته اللجج، كذلك كان وقع هذه الكلمات في نفسي. ها أنذا أدنو إذن من حقيقة جديدة وما آلامي الماضية سوى أضغاث أحلام. قليلة هي هذه اللمحات، لمحات الغبطة المتناهية، في حياة الإنسان وألوف ألوف من البشر لا يتذوقون هناءها. إنما الأم التي تناغي رضيعها لأول مرة، والوالد الذي يذهب لاستقبال وحيده عائدًا من الحرب وقد أثقلت جبهته أكاليل المجد والنصر، والشاعر الذي تعترف له أمته بالعبقرية وتحييه بالهتاف والثناء، والشاب الذي يشعر بأن يد فتاته تسيل حبًّا في يده، أولئك وحدهم يدركون لذة الأحلام إذا هي انقلبت حقائق.
مضى الوقت المعين فجاء الخادم وسار بي خلال غرف كثيرة ثم فتح بابًا فلمحت في نور الشفق الضئيل شبحًا أبيض أمام نافذة عالية أطلت على البحيرة والجبال المتلظية الساطعة.
– «ما أعجب تلاقى البشر بعد الفراق الطويل!» سمعت صوتها العذب يلفظ هذه الكلمات فكانت كل منها بردًا على قلبي وسلامًا.
فرددت كلماتها قائلًا: «ما أعجب التلاقي وما أعجب الفراق!» وأمسكت بيدها فأدركت أننا معًا وعلى مقربةٍ الواحد من الآخر.
فقالت: «إذا هم افترقوا فما الذنب إلا ذنبهم.» قالت ذلك وصوتها المنسجم النبرات عادةً كموسيقى سماوية، يتهدج قليلًا.
فأجبت: «صحيح. ولكن قولي لي أولًا كيف أنت؟ هل نستطيع التكلم؟»
فقالت باسمة: «يا صديقي العزيز، أنت تعلم أن صحتي غير جيدة؛ فإذا زعمتها متحسنة فعلت حبًّا بطبيبي الذي أنا مدينة لعلمه وعطفه بحياتي منذ حداثتي القصوى. وقد وقفت حركة قلبي في إحدى الليالي قبل مغادرتي المدينة فعانيت ألمًا شديدًا وحسبت تلك الحركة واقفة دوامًا فراعه ذلك ولكنه أمر مضى فلماذا نذكره؟ شيء واحد يؤلمني: كنت أرجو أن يعانقني الموت بلا وجع والآن أعلم أن الأوجاع ستعذبني ساعة الرحيل وتفعم تلك الساعة مرارة.» ثم وضعت يدها على قلبها، وتابعت: «ولكن، قل أين هذه الغيبة الطويلة؟ ولماذا قطعت عني أخبارك؟ لقد أورد لي الطبيب جملة أسباب لسفرك الفجائي، فصارحته القول أني لا أصدقه في واحد منها. فذكرني أخيرًا سببًا هو أدنى تلك الأسباب إلى الغرابة. أتعلم ما هو؟»
فقاطعتها خوفًا من أن أسمع كلمة تؤلمني وقلت: «قد يخال السبب وهميًّا وهو ليس بوهمي. وهذا مضى أيضًا فلماذا نذكره؟»
قالت: «لماذا مضى يا صديقي؟ عندما ذكر السبب الأخير قلت له إني لا أفهم ما تعنيان؟ أنا فتاة عليلة بائسة وحياة جسدي موت بطيء، وقد أرسلت السماء صديقين يرثيان لحالي أو يحبانني — على زعم الدكتور — فأي شيء في ذلك يقلق راحتي أو راحتهما؟ كنت أقرأ قصائد شاعري المحبوب «وردسورث» قبيل محادثة الطبيب فقلت له: «يا طبيبي العزيز إن الأفكار كثيرة متنوعة والكلام المعبر عنها قليل فنرغم على تصديق ما لا نقصد ولا يفهم الآخرون ماذا نريد باستعمال كلمة واحدة فيؤلونها ما شاء الوهم والخيال. فلو سمع من يجهلنا أنني أحب صديقي الفتى وإنه هو الآخر يحبني لخالنا شبيهين بروميو وجولييت، ولو كان الأمر كذلك لوافقتك على وجوب ملاشاته. ولكن أليس إنك تحبني أنت أيضًا يا طبيبي الشيخ كما أحبك؟ ولقد أحببتك أعوامًا طوالًا ولا أدري هل بحت لك بذلك قبل الآن، فما أنا بيائسة ولا أنا بشقية. وأقول لك إنك خصصتني بمودة شديدة وإنك تغار من صديقي الفتى. ألا تأتيني كل صباح متفقدًا حالي وأنت تعلم أنه لم يجد شيء؟ ألا تقدم لي أجمل أزهار حديقتك؟ ألم تحملني على إهداء صورتي إليك؟ وهناك أمر آخر قد يحسن كتمانه، ألم تدخل علي يوم الأحد الماضي فجلست قربي وأنت تحسبني مستغرقة في النوم، وحدقت فيَّ طويلًا فكانت نظراتك كأشعة الشمس تلثم وجهي. ثم بكيت وأخفيت وجهك براحتيك وقلت بصوت يقطعه الشهيق «ماري! ماري»! آه، يا طبيبي العزيز! صديقنا الفتى لم يأت أمرًا كهذا فلماذا أقصيته عني؟» قلت ذلك بلهجة جمعت بين الجد والمزاح كما اعتدت مخاطبته فتورد وجهه خجلًا وأسفت لإيلام عواطفه. ثم أخذت كتاب وردسورث وقلت: «هذا رجل آخر أحبه بكل قلبي، أفهمه ويفهمني مع أني لم أره في حياتي. وأريد أن أتلو على مسامعك إحدى قصائده لتعلم كيف يحب البشر ويحبون وإن الحب بركة إلهية ينزلها المحب على المحبوب فيفرش طريقه بالورد والرياحين.» ثم قرأت له قصيدة «فتاة الجبال». والآن يا صديقي الصغير، أدنِ السراج واتل لي هذه القصيدة ذات المعاني المنعشة. إن روح الجمال الخفية تلامسها كما يلامس احمرار الشفق رءوس الجبال المكللة بالثلوج البيضاء.»
تكلمت فصارت عواطفي هادئة رضية جليلة. انتهت العاصفة وانعكس طيف البنية كصفحة البدر على بحيرة حبي، بل على بحر الحب الشامل الذي يدعيه كلٌّ لنفسه بينا هو ينتشر في كل مكان لأن منه حياة بني الإنسان. الحب بحر الحياة الهادئ الثائر معًا في كل قلب، المفرق بين القلوب والجامع بينها بعاطفة واحدة ووله واحد. وددت أن ألزم الصمت كالطبيعة المنبسطة أمامنا. غير أن الكونتس دفعت إلي الكتاب فقرأت.