فتاة الجبال
يا فتاة الجبال العذبة، جمالك هو غناك الوحيد: أربعة عشر ربيعًا سكبت على وجهك بهاءها فحسبك هي ثروة وجاهًا.
هذه الصخور الرمادية، وتلك الأشجار الشبيهة بستار أسفر عن نصف وجه السماء، وذياك الشلال المهمهم في أذن البحيرة المنصتة، وذيالك الخليج الصغير، وهذه الطريق الضيقة المؤدية إلى مسكنك، جميعها تخال مرسومة بخطوط الأحلام وألوانها. وأنا أباركك من أعماق قلبي، يا فتاة يبعث جمالها في هذا النور الأرضي نورًا سماويًّا.
ليكن الله في عونك حتى اليوم الأخير! أنا لا أعرفك ولا أعرف ذويك على أن العبرات تجول في عيني. سأذكرك في صلواتي بخشوع بعد ذهابي لأني لم أر حتى اليوم وجهًا كوجهك بدت فيه الرقة في حشمة واللطف في طهر تام.
تعيشين هنا بعيدًا عن البشر كبذرة قذفت بها يد الصدف، فلا ترخين أجفانك خجلًا ولا ترتدي ملامحك احمرار الحياء. على جبهتك تتجلى حرية أهل الجبال وصراحتهم، وفي ابتسامتك يبسم الجود والحنان، وعطفك يتدفق تدفق خواطرك المنعتقة من ذهنك رغم قيود جهلك وعلى قلة متاعك اللفظي. قيود تشعرين بها وتجاهدين في التغلب عليها فتجيء إشارتك مفعمة نشاطًا ولطفًا معًا. كذلك رأيت مرة أطيارًا تصفق بأجنحتها لمكافحة العاصفة.
كل يد تقطف لك الأزهار، أيتها الحسناء، فيا سعد من عاش قربك في واد صغير كثيف الشجر كثير الزهر، يلبس كملابسك ويرعى الأغنام مثلك! وهناك أمنية خير من هذه، ولكن أنت موجة من البحر الإنساني العجيب. ليت لي بعض السلطة عليك وليتني من جيرانك لأتمتع بصوتك وأهنأ بمرآك! بل ليتني أخوك الأكبر أو أبوك أو أي واحد من أقاربك!
وإني لأحمد السماء التي قادتني إلى هذا المكان المنفرد حيث عرفت السرور. سأذهب حاملًا معي الجزاء لأن للذاكرة ميزة كأنها ميزة النظر. فلماذا أكره الابتعاد؟
وها إني أفرح وأتألم في آن واحد لفراقك، يا فتاة الجبال الحلوة! وسأحفظ أبدًا في ذاكرتي هذه المشاهد البهية حية كما أراها الآن، كوخك الحقير، والبحيرة، والخليج، والشلال لا سيما أنت الروح المحيية جسم هذا الجمال.
وكانت معاني القصيدة تهبط على روحي كقطرات الندى. وإذا بصوتها العذب يتصاعد كنغمة الأرغن تنبه المصلي من تأملاته العميقة، فقالت: «هكذا أريد أن تحبني يا صديقي، وهكذا يحبني الطبيب، وعلينا أن يحب بعضنا بعضًا هذا الحب وأن يثق الواحد بالآخر هذه الثقة. وعلى قلة اختباري أظن أن العالم لا يفهم هذا الحب فجعل بنو الإنسان هذه الأرض صحراء يقطنها القحط والكآبة. لا بد أن الحال كانت على غير ما هي في غابر العصور وإلا لما حدثنا «هوميروس» عن «نوزيكا» ذات القلب الحساس؛ أحبت نوزيكا أوديسفس للنظرة الأولى فأسرت إلى صويحباتها: «حبذا الاقتران به! وليت المقام بيننا يطيب له!» ولكنها خجلت أن تسير مع غريب له هذا الجمال الباهر لئلا يقال إنها بحثت عنه. فما أبسط هذه الحكاية وأقربها إلى الواقع! وعندما قيل لها بوجوب رجوعه إلى زوجته وولده لم تتذمر ولم تشك بل امتثلت واختفت، ونحن القراء نشعر بأنها حملت أبدًا في فؤادها صورة ذلك الغريب القوي الجميل. لماذا يتجاهل شعراؤنا هذا الحب الصادق وهذا الفراق الهادئ؟ أما الشاعر العصري فيخرج من نوزيكا حبيبةً لفرتر لأن الحب لم يعد سوى مقدمة لمأساة الزواج. أهذا هو الحب دون سواه؟ هل جفت ينابيع السعادة الطاهرة؟ ألا يريد الناس أن يعرفوا من الحب غير الخمرة المسكرة ليتجاهلوا ينبوعه العذب الشافي الظمأ؟»
فأردت تعزيز كلامها واستشهدت بالشاعر الإنجليزي القائل: «ألا يحق لي أن أبكي لما فعل الإنسان بالإنسان؟!»
فقالت: «ما أسعد الشعراء! كلماتهم تنطق العواطف الخرساء في ألوف القلوب وتنشد الأصوات أناشيدهم لإظهار أسرار الجنان. فؤادهم يخفق في صدر الغني والفقير على السواء فيطرب معهم السعداء ويبكي التعساء لبكائهم. غير أن وردسورث أحبهم إلي، من أصدقائي من ينفي عنه الشاعرية. أما أنا فأحب منه إعراضه عن الاستعارات العادية، وتجنبه الغلو والمبالغة وما يسمونه «الطيرة الشعرية». هو صادقٌ وأي ميزة توازي هذه؟ هو يفتح عيوننا على الجمال المنثور تحت أقدامنا نثر زهرات الأقحوان في الرياض والمروج، ويسمي الأشياء بأسمائها، ولا يحاول إذهالنا وتغريرنا بل يرغب في إظهار الموجودات يزينها جمال الطبيعة قبل أن تشوهها يد الإنسان. أليست قطرة الندى على الحشيش الأخضر أتم بهاءً وأوفى ثناءً من لؤلؤة ثمينة صيغت في قالب الذهب؟ أو ليس الينبوع المتدفق من صدر الأرض أجل وأبدع من مياه فرساي الاصطناعية على الإطلاق؟ أليست قصيدة «فتاة الجبال» ألطف وأصدق من «هيلانة» جوتي و«هايدي» بيرون؟ إني آسفة لعدم وجود من يماثل وردسورث في جلاء الفكر وسذاجة التعبير بين شعرائنا. قد كان يشبهه «شلر» لو أنه استوحى خفايا نفسه بمثلما استوحى تاريخ اليونان والرومان، كذلك «روكرت» قد كان يداينه لولا أنه آثر عيشة الرغد والرخاء بين ورود الشرق على سكنى وطننا الفقير. قل الجريء من الشعراء الراضي بنفسه، المقدم على إظهارها مجردة من الزوائد؛ وردسورث ذلك الشاعر. وكما نستمع برضى إلى أعاظم النوابغ حتى عندما لا يكونون أعاظم أملًا في مشاركتهم في الشعاع الساطع المنزل إليهم من شمس اللانهاية كما شاركناهم في أفكارهم العادية المألوفة، كذلك أحب وردسورث نفسه حتى في القصائد التي لم تضمن فكرة مستحدثة. لا بد لكبار الشعراء من نوبة راحة يغيب فيها عنهم الوحي والبيان الخلاب؛ فقد نقرأ عند هوميروس عشرات الأبيات لا تزينها لمحة جمال، وكذلك دانتي. بينا بندرس الذي يستفز إعجابكم جميعًا يضعف احتمالي وينفد صبري بدوام ذهوله وافتتانه. إني لأضحي أثمن ما لدي لأتمكن من الاصطياف على شاطئ البحيرات حيث يقيم وردسورث فأزور معه الأمكنة التي أحب ووصف، وأحيي الأشجار التي حماها من ضرب الفئوس، وأرقب قربه غياب الشمس الذي أبدع في تصويره بالألفاظ إبداع مصورنا «ترنر» في تمثيله بالألوان.»
لم يكن صوتها ليهبط شأن الأصوات الأخرى في نهاية الخطاب بل كان يرتفع ويقف على نبرة استفهام، كأنها الطفل القائل: «أليس كذلك يا أبي؟» كان ذلك الصوت يصعد نحو مخاطبها بدلًا من أن يهوي عليه، تمازجه أَنّة توسل تجعل مخالفتها أمرًا عسيرًا.
فقالت: «ولكن هناك سرًّا يشترك في كتمانه وإذاعته معًا جميع الشعراء وجميع الفنانين وجميع أبطال العالم سواء أكانوا فرسًا أو هنودًا أو رومان أو ألمان وأكاد لا أدري كيف أصفه: هو فكرة اللانهاية المنبسطة أمامهم ونراها نحن خلال كلامهم وآثارهم. هم يقرءون ما لا نقرأ في كتاب الأبدية ويؤلهون الأشياء التي نزعمها صغيرة زائلة. أما سمعت غوتي ذلك الوثني الصميم منشدًا كيف يؤله «السلام العذب النازل من السماء» حيث يقول:
عندما نسمع أو نقرأ هذا ألا ترى أشجار الصنوبر ووراءها المسافة الفيحاء انتشرت فيها راحة لا تستطيع الأرض أن تنيلنا إياها؟ فكرة اللانهاية تجدها أبدًا في قصائد وردسورث، وذلك السر الكامن وراء الألفاظ والأسجاع والأوزان هو هو الذي يحرك القلب دون غيره. من ذا الذي فهم الجمال الأرضي أكثر من مايكل أنجلو الطلياني؟ ولكنه فهمه لأنه علم أنه انعكاس الجمال السماوي. ألا تذكر موشحه لحبيبته فيتوريا كولونا:
•••
•••
بدت عليها آثار التعب فأحجمت عن الكلام فاحترمت سكوتها. إن قلوب الناس تميل إلى الصمت بعد تبادل الأفكار القيمة، ويخيل أن الملائكة ترفرف فوق رءوسهم. نعم خيل إليّ أن أجنحة ملائكة الحب والسلام تخيم في تلك الغرفة. نظرت إليها فبدت بثوبها الأبيض كالرؤيا تتجلى في الشفق العابس وإنما يدها المستسلمة في يدي أثبتت لي حضورها الحسي. وأرسل الغروب المودع على محياها شعاعًا باهتًا ففتحت عينيها وحدقت فيَّ مدهوشة مستفسرة، فسطع نور عينيها العجيبتين كبرق خاطف بين أجفانها الوطفاء. وإذا بالبدر صاعدًا بين الجبلين المقابلين يسكب ابتساماته على القرية الصغيرة والبحيرة الهادئة. لم أر حياتي مساء أبهى من ذلك المساء ووجهًا أجمل من ذلك الوجه؛ وجه الحبيبة كما كان في تلك الساعة، فشعرت بموجة حب تطفو فوق قلبي فقلت ثملًا: «ماري! دعيني أعترف لك بحبي وأنا بهذا الفتون! ألا تشعرين معي بقربنا الآن من السماء؟ ألا فلتتحد نفسانا بقوة لا تسطو عليها قوة! دعيني أفضِ إليك بحبي. إني أحبك يا ماري كائنًا الحب ما كان، وأشعر بأنك لي لأني لك.»
جثوت قربها ولم أجرأ على النظر إلى عينيها، فسحبت يدها من يدي متمهلة مترددة في البدء وبالتالي مسرعة مصممة، فرفعت طرفي إلى وجهها فرأيت عليه أمارات الألم. وبعد سكوت طويل تململت وزفرت زفرة عميقة وقالت: «كفى؛ لقد آلمتني، على أن الذنب ذنبي والتبعة علي. أقفل النافذة لأني أحس ببرد قارس كأن يدًا غريبة لمستني. ابق معي، لكن لا، اذهب. وداعًا، ونم نومًا هادئًا وابتهل إلى الله أن يشملنا برعايته. سنجتمع مساء غد، أليس كذلك؟»
أواه، أين ذهب الهناء وكيف ولت الطمأنينة؟ خرجت من الغرفة وبعثت بالسيدة الإنجليزية إليها وهمت في الظلام. مشيت طويلًا على شط البحيرة وعيناي يرقبان نافذة الغرفة التي ضمتني وإياها منذ حين. أخيرًا خبت جميع أنوار القصر وتوسط القمر كبد السماء وسقطت أشعته عاموديًّا على الأرض فبدت خطوط الشرفات والجدران من ذلك القصر كأنها أضيئت بفانوس سحري. وبقيت وحدي في الليل الأدهم: أفكاري موجعة، وقلبي سقيم، ونفسي منفردة لا يحبها ولا يريدها في العالم أحد. شمت الأرض نعشًا والسماء كفنًا يدور حولي، ولم أدر أحي أنا أم ميت قضى منذ زمن بعيد.
وإذ أطلت النظر إلى النجوم ذات المقل اللامعات، وهي تتم دورتها بانتظام حسبتها منثورة في الفضاء لتنير القلوب المظلمة وتعزي النفوس الآيسة. إذ ذاك فكرت في نجمين سماويين أشرقا من عيني الكونتس ماري على أفقي الحالك السواد وسجدت في فؤادي عاطفة الشكر والحنان لفتاتي العذبة وملكي الحارس الأمين.