حياة بلوخ ونواة تفكيره اليوتوبي
أولًا: حياة بلوخ ومؤلفاته
(١) حياته
وفي هايدلبرج أصبح بلوخ أحد رواد حلقة فيلسوف الاجتماع ماكس فيبر (١٨٦٤–١٩٢٠م) ولكن هذا الأخير ابتعد عنه لزعمه أن بلوخ يعتبر نفسه من رواد مذهب الخلاص ولتشككه في أفكاره الصوفية. وفي عام ١٩١٣م اقترن بلوخ بزوجته الأولى إليزافون شترتسكي التي كانت تعمل بفن النحت وتوفِّيت سنة ١٩٢١م، وقد كتب إلى صديقه يواخيم شوماخر في سنة ١٩٤٣م رسالة يقول فيها إن إليزا قد أحبته وآمنت بفلسفته إيمانًا مطلقًا لا يقل عن إيمانها بالكتاب المقدس، حتى لقد راحت تفسره من خلال فلسفته، كما تفسر فلسفته من خلاله. ويبدو أنها صدقت كذلك تصديقًا مطلقًا بأن له رسالةً يبلغها للبشرية، وهي رسالة التبشير بالخلاص القادم والوعد باليوتوبيا العينية التي ستحقق الأمل الذي امتلأ به قلبه الشاب في ذلك الوقت.
حظي بلوخ في مدينة توبنجن بأسمى درجات التكريم. وعلى الرغم من أن صوته لم يكن مسموعًا خارج ألمانيا — إذ لم يترجم إلى العالم الناطق بالإنجليزية إلا متأخرًا، ولم تظهر الطبعة الإنجليزية ﻟ «مبدأ الأمل» الذي يعد خلاصة نسقه الفلسفي إلا عام ١٩٨٦م — إلا أنه كان يشغل في بلده مكانةً رفيعة، حتى أصبحت صورة «الفيلسوف ذي الغليون» علامة من علامات مدينة توبنجن التي توفي فيها في يوم ٤ أغسطس من صيف عام ١٩٧٧م بعد إصابته بالعمى في سنوات عمره الأخيرة، وبعد الانتهاء من إعداد الطبعة الكاملة لأعماله.
(٢) مؤلفاته
ظهرت في هذا الكتاب المبكر فكرة بلوخ عن حركة التاريخ نحو مملكة الحرية التي تتحقق فيها هوية الإنسان مع ذاته ومع العالم الذي يعيش فيه، بحيث تصبح ذاته هي كل إمكاناته، كما يصبح العالم وطنه. وهذه الفكرة نفسها هي التي جعلت فلسفته التاريخية في تلك الفترة ذات طابعٍ ديني؛ إذ أنه وضع الكل والغاية الممكنة على شكلٍ متعالٍ يتحرك التاريخ البشري نحوه متخطيًا الهنا والآن — بلغة هيجل في ظاهريات الروح التي يكثر بلوخ من استخدامها — فكأن فكرة الخلاص كانت تمتد عنده منذ البداية إلى العالم المادي والمادة غير العضوية، كما تمتد إلى تحرير الإنسان من كل أنواع القهر والحتمية المادية الطبيعية وغير الطبيعية، بحيث يتحقق الخلاص في «الجماعة الشيوعية الحرة» التي ظلت هي هدفه من البداية إلى النهاية، أي منذ أن كان ثوريًّا عاطفيًّا في شبابه إلى أن أصبح اشتراكيًّا علميًّا إلى حدٍّ كبيرٍ في رجولته، وإن كان يُتهم بأنه ظل اشتراكيًّا إنسانيًّا حالمًا ولم يصل أبدًا إلى الاشتراكية بالمعنى العلمي.
وفي عام ١٩٢١م صدر كتاب «توماس مونتسر، لاهوتي الثورة» وهو عن زعيم الحركة الشعبية المتمردة في ألمانيا، الذي أعدم عام ١٥٢٥م بوصفه قائد الفلاحين الثائرين ضد الأمراء في منطقة التورنج. وتغلب على الكتاب فكرة الخلاص التي سيطرت على بلوخ طوال حياته، لقد صور شخصية مونتسر في هذا الكتاب وكأنه نبي من أنبياء العهد القديم. والحقيقة أن تصويره لمونتسر يمكن النظر إليه على أنه تصوير لشخصه هو نفسه، فقد استعمل بحرية لغة الكتاب المقدس، ونطق على لسانه بأسرار التراث الصوفي، وجعله ينادي بالخلاص وإن لم يكن هو الخلاص بالمعنى الديني المتعالي ولا المفارق لهذا العالم، وإنما هو «نبي الخلاص الأرضي» وهدفه هو الحرية وتحرير الإنسان.
وفي عام ١٩٣٠م نشر بلوخ كتابه «آثار» وهو من قبيل السيرة الذاتية، ويُعدُّ عملًا أدبيًّا هامًّا يتألف من مقطوعات من الشعر المنثور اقتبس بلوخ عباراتٍ عديدة منها، استهل بها افتتاحيات أقسام كتابه «مبدأ الأمل». وفي عام ١٩٣٥م ظهر في سويسرا كتابه «ميراث هذا الزمان» وهو تحليلاتٌ نقدية للوعي الزائف الذي اتسمت به البرجوازية الألمانية في فترة العشرينيات، وتتبع لنشأة النظام الفاشي الذي كمنت بذوره في الواقع المعيش بجانب نقدٍ مبكر لدعايات الحزب الشيوعي الألماني وللدعاية الفاشية، واستطاع فيه بلوخ — بحسه التاريخي المرهف ووعيه الحاد بالحاضر — أن يلمس إرهاصات العهد الآتي ويستشفَّ سماته المستقبلية، أي أنه استطاع — بنظرةٍ نقدية وعينية للحاضر — أن يكتشف الإمكانيات التي يحملها المستقبل في جوفه، وكيف مهدت حقبة العشرينيات لظهور الفاشية التي استولت على السلطة في أوائل الثلاثينيات، وكان من الطبيعي أن يصادر هذا الكتاب من قبل السلطة الحاكمة.
وفي عام ١٩٤٦م صدر كتاب «الحرية والنظام» وهو استعراض لليوتوبيات الاجتماعية منذ بداية التفكير البشري سواء أكانت في الماضي الذهبي أم في المستقبل المرجو، وقد تناول بلوخ هذه اليوتوبيات تناولًا خاصًّا؛ إذ تتبع فيها بذور الأمل في الفكر البشري، وضم هذا الكتاب فيما بعدُ إلى القسم الرابع من «مبدأ الأمل». وفي عام ١٩٥١م صدر كتابه «الذات-الموضوع شروح على هيجل» وقد ركز بلوخ في هذا الكتاب على بيان الأسس النظرية لفلسفته في التاريخ وتأكيد مدى الاختلاف بين نسقه المفتوح المندفع نحو المستقبل، وبين نسق هيجل المتكامل تكامل الدائرة المغلقة على نفسها، كما بين الطرق التي يستطيع جدل هيجل من خلالها أن ينطلق ويتسع ويخرج من نطاق الدائرة. وفي عام ١٩٥٢م صدر كتابه «ابن سينا واليسار الأرسطي» بمناسبة الذكرى الألفية لابن سينا. وقد قدم فيه تصورًا جديدًا للمادة بعد أن تتبعها منذ أرسطو وابن سينا، وابن رشد، وابن جبيرول حتى ممثلي «اليسار الأرسطي» في أواخر العصور الوسطى، ومن جوردانو برونو في عصر النهضة حتى اسبينوزا في القرن السابع عشر، إلى أن اكتملت في المادية الجدلية التاريخية عند ماركس وإنجلز.
وفي عامَي ١٩٥٤ و١٩٥٥م على التوالي صدر الجزء الأول والثاني من كتابه الأساسي «مبدأ الأمل»، ثم صدر في عام ١٩٥٩م الجزء الثالث من هذه الموسوعة الثقافية الكبرى التي لا يعادلها في الفكر الألماني سوى «ظاهريات الروح» لهيجل، ولا يناظرها في الأدب الألماني سوى «فاوست» جوته. وهذا العمل الضخم المكوَّن من ثلاثة أجزاء — والذي استغرقت كتابته أحد عشر عامًا — يحتوي على النسق الفلسفي الكامل لفكر بلوخ اليوتوبي ويقدم موسوعة للأمل البشري، حتى ليمكن القول بأن كل ما صدر قبل هذا الكتاب كان بمثابة إعداد وتمهيد له، وكل ما صدر بعده تنويعات أو شروح على كل تلك الأفكار الأساسية التي تضمَّنها، وهو صرحٌ فلسفيٌّ كبير سيطر فيه بلوخ على مادةٍ موسوعيةٍ هائلة ونظمها وأدارها حول فكرته الرئيسية، ألا وهي فكرة الأمل. والواقع أن البناء «السيمفوني» للكتاب يكشف عن فرط عشقه للموسيقى وولعه بها، فجاء «مبدأ الأمل» أشبه بسيمفونيةٍ كبيرة تتصاعد نغماتها تدريجيًّا في لحنٍ متدفقٍ جياش. كما يتضمن اكتشافاتٍ مشرفة لخيال البشر وآمالهم وفنونهم وثقافتهم التي يؤمن بلوخ بأنها مفاتيح لإمكاناتٍ بشرية من أجل بناء عالمٍ أفضل، وأن هذا الميراث الثقافي يتوجه نحو مجتمعٍ اشتراكي باعتبار أن هذا الأخير يحقق أحلام البشر وآمالهم.
ويعد «مبدأ الأمل» — في حد ذاته — من الأعمال الأدبية لفرط ازدحامه بالصور المجازية والرمزية والشعرية والتعبيرات ذات الدلالة اللونية، كاستخدام بلوخ المفرط لكلمات مثل الصباح، والأزرق البعيد، وساعة الزرقة … إلى آخر الكلمات التي تعكس الضوء والإشراق بحيث يمكن تسميته «فيلسوف النور». وقد امتزج هذا الأسلوب الأدبي بلغةٍ صوفيةٍ غامضة وتعبيراتٍ لاتينية ويونانيةٍ قديمة، وأقوالٍ شعبية ومأثورات جعلت صاحبه يستحق التسمية التي أُطلقت عليه بأنه ساحر المفاهيم والتصورات والكلمات. وامتزج كل هذا بلغةٍ ماركسيةٍ ماديةٍ جدلية لتصور حالات الوعي الفردي والجماعي وحالات الأمل والتحقق. وفي «مبدأ الأمل» اختار بلوخ أن يبحث في التراث السري والصوفي مما يعكس تفضيله للمفكرين والفلاسفة الذين ينظرون للعالم نظرةً صوفيةً غامضة أو من وراء حجاب، كما اختار أن يبحث في القبالة أكثر من التوراة، وفي السيمياء السحرية أكثر من الكيمياء بالمعنى العلمي الحديث، وأن يهتم بنظم الفكر المتقدمة والمنفتحة على المستقبل أكثر من النظم المطلقة. وربما لكل هذه الأسباب استُقبل الكاتب بالشك في الدوائر الماركسية الرسمية. كما أن كل هذه الأسباب أيضًا جعلت نغمات بلوخ في «مبدأ الأمل» في تصاعد مستمر، بحيث يختتم كل قسم بشكل فيه علو ونزعة تفاؤلية، ولذلك يعد الكتاب من أكثر المشروعات الفلسفية طموحًا، وفي الوقت نفسه من أكثر الكتب الفلسفية افتقارًا إلى الاتساق أو النسق الواضح؛ فقد عرض في ثلاثة أجزاءَ كبيرة لكل ما يتعلق بالحياة الإنسانية لينتهي إلى أن للأمل جذورًا في الوعي البشري وفي صيرورة العالم.
وفي عام ١٩٦١م صدر كتابه الهام «القانون الطبيعي والكرامة الإنسانية» ويعد ثمرة جهود بلوخ لفهم إخفاقات التراث الماركسي، وقد وضعه بعد تجربته المريرة مع النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية التي خرج منها مصطحبًا معه الكتاب وهو لا يزال مخطوطًا ونشر في ألمانيا الغربية وكان مؤلفه قد بلغ السادسة والسبعين من العمر. ويعد الكتاب قراءةً جديدة لتراث القانون أو الحق الطبيعي، ويعرض فيه لإمكان إعادة صياغة هذا التراث الذي حاول قراءته قراءةً جدلية ليكشف عما هو اشتراكي فيه. ذلك أن هذا الفيلسوف ذا الحس التاريخي الأصيل قد قاوم فكرة اعتبار الماضي شيئًا منتهيًا، فأخذ في استعادته أو استرجاعه كأنه كيانٌ حي، وراح ينقب فيه عن وعود الماضي غير المعلنة، وكأن وعود الماضي لها عيون تنظر للأمام. لقد فتش عن الأمل الكامن في لحظات الماضي، هذا الأمل الذي لم تُتح له الظروف الموضوعية ليشهد النور، وكان دافعه للبحث في التراث هو أن يظهر للنور ما قد خفي وكمن داخله حتى يومنا الحاضر. كما يمثل القانون الطبيعي مجالًا آخر للمضامين التي لم يتوصل إليها، فهو يرسم إطار العلاقات الاجتماعية التي يمكن أن تتحقق فيها الحرية البشرية.
ويؤكد بلوخ في هذا الكتاب أن السعادة البشرية والكرامة الإنسانية اللتين تتعلقان باليوتوبيات الاجتماعية من جانب، وبنظريات القانون الطبيعي من جانبٍ آخر، قد سارا لفترةٍ طويلة من الزمن في طريقَين مفترقَين، وأنه آن الأوان ليرتبط كلٌّ منهما بالآخر، فكلاهما يتوقع شيئًا ما أفضل من ذلك الذي تم، وكلاهما ينطلق من الأمل. ومهمة النزعة الاشتراكية أن ترث بعضًا من تراث القانون الطبيعي بعد تطهيره من السمات البرجوازية، كما أن في الماركسية قانونًا طبيعيًّا غامضًا تتضمنه عبارة ماركس «علينا أن نتجاوز الظروف التي تجعل الإنسان محتقرًا ومستعبدًا.» إن التزاوج بين الحق الطبيعي والماركسية ضروري من أجل مجتمع غير مغترب ومتكافل اجتماعيًّا، ولكي يتحقق هذا لا بد أن تقدم العوامل الإنسانية على العوامل الاقتصادية لإيجاد مجتمع يستطيع الإنسان أن يسير فيه وهو «منتصب القامة».
وفي النهاية كان كتاب «تجربة العالم» هو آخر أعمال بلوخ وأصدره عام ١٩٧٥م قبل وفاته بسنتين. هذا بالإضافة إلى العديد من المحاضرات العامة والمقالات السياسية والأدبية التي ظهرت على صفحات الجرائد والمجلات الدورية، وهي حصيلة معاركه الفكرية مع العديد من فلاسفة عصره ونقاده وأدبائه. وما سبق ذكره ليس جل مؤلفات بلوخ بل أهمها، وقد صدرت الطبعة الكاملة لمؤلفاته في ستة عشر مجلدًا، وأشرف بنفسه على مراجعتها قبل إصابته بالعمى في سنواته الأخيرة، وقبل رحيله في ٤ أغسطس عام ١٩٧٧م بمدينة توبنجن، ثم أضيف المجلد السابع عشر بعد وفاته.
ثانيًا: المؤثرات الفكرية على فلسفة بلوخ
توقَّدت شعلة المخيلة الحية التي تميز بها بلوخ مع احتكاكها بالواقع البائس الحزين الذي عاشته المدينة الصناعية الكئيبة «لودفيجز هافن» التي فتح عينَيه عليها، فانطلقت شرارة الحلم والثورة، وتوهجت بروق الوعد والأمل. وكيف لا يثير هذا الواقع الظالم خيال الحالم، بل أكبر الحالمين وأهمهم في القرن العشرين؟ وكيف لا يفكر في ضرورة «رفع» هذا الظلم أو تجاوزه نحو «مستقبل واقعي» أو عيني «تحتمه الرغبة» أو الشوق والأمل المتجذر في الإنسان وفي المادة؟ ثم ماذا يفعل ليجعل من حلمه فلسفةً وعلمًا وثورة في آنٍ واحد؟ هذا الذي نذرته الأقدار ليقتفي آثار الحلم الأكبر الذي يتخلق منذ القدم في وعي البشرية وتراثها، وفي باطن الوجود المادي وأعماقه؟
لقد كان من الضروري أن يختمر الحلم بشواهده وتجلياته اللانهائية في الوعي البشري منذ أن وجد البشر، وأن يتحد بقلب المادة وبذورها وإمكاناتها التي ما زالت تتفتح منذ أن كان العالم ووجد الوجود. أجل كان لا بد من ذلك حتى لا يبقى حلمه حلمًا ذاتيًّا أشبه بنسيج عنكبوت لا يلبث أن يتحلل أو يتبدد مع أول صدمة أو هبة ريح. إن الفتى الحالم الذي يصوب بصره لأفق الحلم الممكن البعيد قد أدرك في هذه الفترة المبكرة من حياته أن الواقع لا يفتقر إلى الحلم وإنما يطويه في أحشائه، وأن ألوانه القديمة والحديثة تتخايل أمام عينيه في قصور القياصرة والنبلاء والأشراف في مدينة «شباير» ومدينة «مانهايم» القريبة، وفي مزارع الكروم الواسعة في المنطقة، وكأن كل شيء يدعوه ألَّا يستسلم للواقع البرجوازي والرأسمالي السائد حوله.
(١) مؤثرات فلسفية
لا جدال في أن أي فيلسوف يستحق هذا الاسم يتأثر بفلاسفة قبله ويؤثر على آخرين بعده. ولا يمكن مثلًا أن نتصور ماركس وفلسفته المادية التاريخية وتحليلاته لرأس المال بغير نظريات الاقتصاد السياسي الكلاسيكية ومنطق هيجل الجدلي، ولا بغير الفلسفات المادية السابقة ابتداءً من ديمقريطس الذي أعد عنه رسالته في الدكتوراه. والأمر كذلك بالنسبة لبلوخ، فلا شك أن تنوع ثقافته وثراءها قد امتد من التراث الفلسفي قديمه وحديثه. فقد التقى في مكتبة مدينة مانهايم المقابلة لمسقط رأسه لود فيجز هافن — والتي كان يتردد عليها دائمًا — بأهم الكنوز الفلسفية التي أثرت على حياته فيما بعدُ. هناك استطاع أن يقرأ لعدد من الفلاسفة من ليبنتز إلى هيجل وتلاميذه، كما استطاع أن يقرأ لفشته وشيلنج في سنٍّ مبكرة. ربما يكون قد أساء فهم الكثير من نصوصهم، ولكنه أساء فهمها على طريقته الخاصة، وربما كانت كلمة سوء الفهم علامةً دالة على طريقة فهمه لتاريخ الفلسفة، فهو لم يفهم العدد الكبير من الفلاسفة من أرسطو إلى ماركس بطريقةٍ تقليدية؛ إذ كان يتوقف عند الأفكار التي تصب في تيار عصره أو تتوجه إلى المستقبل، وكان يهتم بالكثير من الخيوط الفكرية التي لم يلتفت إليها المفسرون التقليديون. لقد نظر إلى التاريخ الفلسفي كله من جهة التطلع إلى المستقبل، ورأى فيه الوجه الآخر لتاريخ الفلسفة، أي فلسفة المستقبل التي لم ينتبه إليها المؤرخون. ومن الصعب تتبع كل الفلاسفة الذين أثروا على فلسفة بلوخ، كما أن من الصعب الدخول في المقارنات عن تأثير بعض الفلاسفة عليه لأن هذه مسألةٌ خلافية، خاصة إذا لم يكن التأثير قويًّا وواضحًا، وإذا لم يكن قد دخل في جدالٍ فكري وحوار مع الفلاسفة الذين تأثر بهم، ولذلك سنكتفي بذكر بعض الفلاسفة الذين ظهر تأثيرهم عليه بشكلٍ مباشر، أو الذين دخل معهم في حوارٍ صريح مثل أرسطو وهيجل وماركس. وسوف يتعرض البحث لفلاسفةٍ آخرين من خلال عرض نسق بلوخ الفكري، وفي المواضع التي يتضح فيها تأثيرهم عليه، مثل ليبنتز وتأثير فكرته عن الوعي المسبق عليه.
(أ) أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ق.م.)
بهذا المعنى السابق فهم بلوخ أرسطو فهمًا غير تقليدي، اعتمد فيه على تفسير المعلم الأول للمادة أو بالأحرى على تفسير بلوخ الخاص لهذا التفسير. والواقع أن جذور فلسفته المادية تكمن في مفهوم أرسطو عن المادة بوصفها إمكانية وجود، كما ترتبط بفكرته المعروفة عن الموجود بالقوة والموجود بالفعل. أخذ بلوخ هذا المفهوم وأكد الطابع الحيوي الذي يميزه ثم طوَّره إلى مقولة الإمكان التي تعتبر أهم المقولات الأساسية في نسقه الفلسفي. وقد أفاض في شرح مفهوم أرسطو عن القوة والفعل وتابع تطور هذه الفكرة من بعض فلاسفة العصر الوسيط وعصر النهضة حتى العصر الحديث. ويكفي في هذا الموضوع أن نلخص المفهوم الجدلي للمادة عند بلوخ بالقول بأن الماهية الأساسية لكل موجود أنه في حركةٍ دائمة. ولكن أرسطو — كما هو معروف — هو مؤسس المنطق الصوري ونظرية المقولات، وقد يبدو هذا لأول وهلة أمرًا متناقضًا مع ما سبق قوله عن تأثر بلوخ بمفهوم المادة عنده من حيث هي إمكانٌ ذو طابعٍ حيوي، فالمنطق يدرك الموجود في حالة سكونه أو إحدى أحواله. ومن ثم فإن أي قولٍ ثابت عن موجودٍ متحرك لا يمكن أن يكون صحيحًا إلا إذا تغير هذا القول نفسه أيضًا، ومن هنا يمكن فهم نظرة بلوخ إلى المقولات التي فهمها كذلك فهمًا جدليًّا وأنطولوجيًّا في آنٍ واحدٍ كما سيتضح بعد ذلك بالتفصيل في الفصل الخاص بأنطولوجيا اﻟ «ليس-بعد».
(ب) ياكوب بوهمه Jakob Boehme (١٥٧٥–١٦٢٤م)
(ﺟ) شيلنج (١٧٧٥–١٨٥٤م)
(د) هيجل (١٧٧٠–١٨٣١م)
إن التوحيد بين هذه العناصر الفلسفية الثلاثة (الذات – الموضوع – التاريخ) بالإضافة إلى اكتشاف وتحليل النزعات والاتجاهات الكامنة في الواقع والتي تنتظر الإرادة الثورية والدراسة الواعية لدفعها نحو الوجود اليوتوبي أو نحو الأمل، هذه العوامل مجتمعة هي التي جعلت بلوخ الفيلسوف الفينومينولوجي أو الظاهراتي — بالمعنى الهيجلي — للمستقبل الإنساني والاشتراكي، كما جعلت كتابه «مبدأ الأمل» هو «ظاهريات الروح» الجديد في تاريخ الفلسفة المعاصرة. فليس هذا الكتاب في نهاية الأمر سوى رصدٍ دقيق وشامل لمراحل تطور المادة والوعي معًا — تبعًا لمقولة اﻟ «ليس-بعد» الأساسية — نحو الكل اليوتوبي الذي يتحقق فيه المجتمع الإنساني العادل، ولا حاجة للقول بأن هناك فرقًا كبيرًا بين ظاهريات ترصد التطور المعرفي نحو الوعي المطلق بالروح، وظاهريات ترصد التطور المادي والإنساني والمعرفي على السواء نحو الكل اليوتوبي أو الأمل اليوتوبي الممكن.
(ﻫ) كارل ماركس (١٨١٨–١٨٨٣م)
ومن الطبيعي أيضًا — باعتبار بلوخ فيلسوفًا ماركسيًّا — أن تكون الوقفة عند ماركس أطول، وأن يكون التأثير مباشرًا بشكل لا يدع مجالًا للشك. والحق أنه يصعب تحديد الجانب أو الجوانب التي أثرت على تفكير بلوخ من فلسفة ماركس، فإذا كان العامل المشترك الذي يجمعهما بوجهٍ خاص هو الفلسفة المادية الجدلية والتوجه الثوري نحو تغيير العالم ونحو المستقبل، فإن هنالك جوانبَ تفصيليةً متعددة تكشف عن الكثير من أبعاد هذا التأثر ويشير إليها هذا البحث في موضعها. وعلى الرغم من أن بعض الباحثين الماركسيين الحرفيين قد أنكروا أن يكون هناك أي شيءٍ مشترك بين ماركس وبلوخ، كما زعموا وزعم غيرهم أن ماركسية بلوخ هي ماركسية وجودية أو صوفية أو رومانسية ولم يبقَ فيها شيء من ماركس الحقيقي والعلمي … إلى آخر هذه الاتهامات التي استندت — فيما استندت إليه — إلى نقد بلوخ للماركسية السوفيتية، وإلى تأكيده للدور اليوتوبي للماركسية، على الرغم من هذا كله فإن وجوه التطابق بين الفيلسوفَين الماديَّين الجدليين أكثر من أن تحصى. ويمكن الاكتفاء في هذا الموضع بجانبٍ واحد لعله أن يكون من أهم الجوانب التي لا يمكن إنكارها بجانب إشارات بلوخ الكثيرة إلى اسم ماركس وأعماله وأفكاره الأساسية في مؤلفاته، ويتعلق هذا الجانب «بأصول» الاغتراب بين الذات والموضوع أو الوعي والطبيعة أو الوجود والماهية.
نكتفي بهذا القدر من تحليلات ماركس لجانبٍ واحد من جوانب نظريته عن القيمة لنسأل عن تأثيره على تفكير بلوخ وعن العنصر المشترك الذي تم الإشارة إليه بين الفيلسوفَين. لقد اتضح من العرض السابق أن الانفصال بين الذات والموضوع أو الفكر والوجود هو في نظر ماركس مسألة تطورٍ تاريخي وليس حقيقةً ثابتة، وأن عملية التبادل السلعي هي المسئولية عن استقلال المنتجات عن منتجيها ومن ثم عن إمكان معرفة «الموضوع» معرفةً نظرية عن طريق الذات المقابلة له. هنا أيضًا يمكن أن نقول إن بداية تاريخ الفلسفة قد اقترنت بوجود التفكير في ناحية والوجود في ناحيةٍ أخرى. وقد تطور هذا التصور مع تطور الفلسفة فأصبح الفكر الخالص في جهة والمادة في جهةٍ أخرى، كما انقسمت الاتجاهات الفلسفية إلى اتجاهات تؤكد الذات على حساب الموضوع أو تؤكد الموضوع على حساب الذات، ومن ثم تكرس الاتجاهات والمذاهب العقلية أو الذاتية في جانب، والمادية أو الموضوعية أو الوضعية أو التجريبية في الجانب المقابل، مع وجود استثناءات تخرج عن هذا التعميم بطبيعة الحال.
وقد سبق القول إن بلوخ ينقد التراث الفلسفي القديم (الكلاسيكي) والحديث ويحاكمه من هذه النقطة بوجهٍ خاص، أي من جهة الفصل بين الفكر والوجود. ومع أن الفلسفة المثالية (التي يغلب فيها الفكر على الوجود) والفلسفة المادية (التي يغلب فيها الوجود على الفكر) قد حاولتا كلٌّ على طريقتها أن تقربا بين طرفَي الفكر والوجود وأن تقهرا هذه الثنائية العقيمة، فقد بين بلوخ في قراءته لتاريخ الفلسفة ولبعض الفلاسفة الذين اهتم بهم أن الانفصال بين الفكر والوجود ظل هو الطابع الغالب عليهم، كما حاول جهده أن يوحد بين العناصر الإيجابية في الاتجاهين الرئيسيين لتاريخ الفلسفة (أي المثالية والمادية) دون أن ينضم صراحة إلى أحدهما بصورةٍ مطلقة. وسوف يتضح من خلال البحث أن ماديته التي يصر عليها ليست مادية بالمعنى التقليدي الشائع لهذه الكلمة، وإنما هي ماديةٌ صوفية ودينية أو مثالية ورومانسية.
ليس هذا العرض السابق — كما تمت الإشارة في البداية — سوى مجرد محاولة لتفسير جانبٍ هام من جوانب تأثر بلوخ بفلسفة ماركس أو على الأقل بجانبٍ واحد منها. أما عن تأثره بالفلسفة الماركسية في مجموعها فهو شيءٌ واضح يفصح عنه قبل كل شيء توجهه الثوري إلى المستقبل. ويمكن القول إن ماركس مهد الطريق أمام بلوخ — الذي تجاوز الماركسية بدوره بل وجعلها تنضوي تحت لواء نسقه الفلسفي — ليقيم «علم الأمل» الذي شيد بناءه على أساسٍ مادي وملأه بمضمونٍ فلسفي بحيث ارتفع هذا الأمل من مستوى العاطفة الذاتية أو الفضيلة الأخلاقية إلى شروطٍ موضوعيةٍ محددة، ويحركها وعيٌ ثوري يضمن تحقيق الخلاص في ظل «الجماعة الإنسانية» الحقة التي ستنعم في نهاية المطاف بالسعادة والعدالة والحرية والكرامة والإخاء.
(٢) مؤثرات فكرية وأدبية
لم تقتصر العوامل الثقافية التي أثرت على بلوخ على الفلاسفة الكلاسيكيين والمحدثين من أرسطو إلى ماركس، وإنما أثر عليه مجموعة من الأدباء والمفكرين المعاصرين الذين ربطته بهم عرى الصداقة، ومن هؤلاء الناقد الأدبي فالتر بنيامين، والفيلسوف أدورنو، والكاتب المسرحي برشت، والمؤلف الموسيقى كورت فايل وغيرهم. ولكن أهم هذه الصداقات — كما سبق القول — هي التي جمعته خصوصًا في سنوات شبابه بالفيلسوف المجري جورج لوكاتش (١٨٨٥–١٩٧١م) ولما كان المقام لا يتسع للحديث عن التفصيلات الدقيقة لهذه العلاقات بين بلوخ وبين هؤلاء الأدباء والمفكرين والفنانين — وغيرهم كثير — فسوف نكتفي بإلقاء الضوء على بعضها بالقدر الذي يسمح به سياق الكلام عن أبرز المؤثرات على حياته وتكوينه الفكري، بادئين بأقرب أصدقائه إلى قلبه — على الأقل في سنوات الشباب — وهو لوكاتش.
(أ) لوكاتش
تقابلا للمرة الأولى في إحدى قاعات البحث التي كان يقيمها فيلسوف الحياة جورج زيميل في برلين، ثم كانت إقامتهما ورحلاتهما معًا من عام ١٩١٢ حتى عام ١٩١٤م في هايدلبرج، واشتراكهما في الحلقات الدراسية التي أقامها ماكس فيبر في هذه المدينة الأخيرة. وقد روى بلوخ أنهما كانا على اتفاقٍ تام في ذلك الوقت، وأنهما حتى عندما كانا يلتقيان بعد أسابيعَ طويلة كانا يستأنفان الحوار وكأنه لم ينقطع، وكان لا بد في هذه المرحلة من أن يحددا — على حد تعبيره — منطقةً خضراء تبين الفروق بينهما حتى لا يتصور الناس أنهما يتكلمان بفمٍ واحد.
وقد جمعهما تأثرهما الشديد «بظاهريات الروح» لهيجل واتفاقهما في فهمها فهمًا ثوريًّا، وخاصة في تناولها للموضوعات الأساسية التي تم الإشارة إليها سلفًا وهي «الذات – الموضوع – التاريخ». كانت هذه المشكلات حاضرة في ذهن بلوخ عندما بدأ في كتابة مؤلفاته الأولى وهي «روح اليوتوبيا» عام ١٩١٨م، وكتابه توماس مونتسر عام ١٩٢١م، كما أن هذه الموضوعات نفسها شغلت لوكاتش في كتابه «التاريخ والوعي الطبقي» عام ١٩٢٣م؛ مما يدل على أنهما انطلقا من نفس المشكلات المعرفية والنظرية، وإن كان الاختلاف على البعد اليوتوبي قد فرق بينهما بعد ذلك. فقد ظل الصديقان على وفاق حتى اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى فتوجَّه لوكاتش إلى المجر والتحق بعد الحرب بالحزب الشيوعي المجري وعمل منظرًا للماركسية طوال العشرينيات، بينما توجه بلوخ إلى سويسرا، وعلى العكس من لوكاتش، لم يلتحق بالحزب الشيوعي الألماني، وقد كان لروسيا عشية الثورة فعل السحر على كل منهما، وعندما استولت النازية على السلطة رحل لوكاتش إلى روسيا، ورحل بلوخ إلى براغ، ومن هنا بدأ المسار الفلسفي للرجلين يزداد تباعدًا خاصة عندما قام لوكاتش بتبرير الرعب الذي يمارسه الحزب الشيوعي في بسط هيمنته، لقناعته أن الرعب والقهر إجراءان ضروريان لإقامة المجتمع الاشتراكي، بينما تمسك بلوخ — إلى حد الجنون أحيانًا! — بالحق والكرامة الإنسانية والحرية الفردية التي يجب ألا يقهرها أي فكرٍ عقائدي. واحتدمت الخلافات بينهما، وكان من رأي بلوخ أن صديقه لوكاتش لم يفهم فكرته عن اليوتوبيا، كما أنه — أي بلوخ — اختلف معه بشدة حول مفهوم الواقعية في الأدب الذي كان لوكاتش يدافع عنه بشدة لأن مثل هذه الواقعية تفتقر إلى البعد اليوتوبي. وتبلور خلافهما على صفحات الصحف والمجلات الثقافية في شكل معاركَ حادة حول الحركة التعبيرية التي هاجمها لوكاتش بقسوة ودافع عنها بلوخ حتى النهاية، وشكلت هذه المناظرة الفكرية بينهما في عام ١٩٣٨م أحد الأحداث الهامة في الفكر والأدب الألماني الحديث.
أثرت الحركة التعبيرية تأثيرًا كبيرًا على بلوخ، وانعكس هذا التأثير على كل إنتاجه الفكري، الفلسفي منه والأدبي، فقد أخذ بلوخ من التعبيريين حماسهم وأسلوبهم المتوهج في الكتابة، والتعبير عن الأفكار بلغة الشعر والأسطورة والحكم والأمثال، والاستخدام المفرط للصور المجازية التي تصل إلى حد الغموض في أحيانٍ كثيرة، وهو ما تلمحه بسهولة عين القارئ لمبدأ الأمل؛ إذ كان للنزعة التعبيرية أكبر الأثر على عرض النص الفلسفي من حيث شكل التعبير والأسلوب الزاخر بالرموز والصور الشعرية؛ مما زاد من صعوبة قراءة بلوخ واستخلاص جوهر نسقه الفلسفي. ولعل النزعة الإنسانية للتعبيريين وحلمهم بمجتمعٍ إنساني جديد يتحقق فيه العدل والكرامة الإنسانية — الذي كان منذ البداية هو الهدف والغاية عند بلوخ — هو ما جذبه إليهم، فظل متمسكًا بأفكارهم ومدافعًا عنهم، وخاض من أجلهم أكبر معاركه الفكرية مع لوكاتش صديق عمره، حتى بعد أن قضى على هذه الحركة تمامًا ولزم أصحابها الصمت أو انزووا في المنفى أو السجن أو سكتوا إلى الأبد تحت التراب.
(ب) برشت (١٨٩٨–١٩٥٦م)
(٣) مؤثرات الحركة النقدية
لم يكن بلوخ فيلسوفًا أكاديميًّا فحسب؛ إذ لم تبدأ مرحلته الأكاديمية إلا بعد أن تجاوز الستين من عمره، بل كان مفكرًا لا يمكن فصله عن الجو الثقافي والعلمي المحيط به، كما لا يمكن الفصل بين الفكر أو الفلسفة من ناحية وبين الروح الثقافية للعصر من أدب وشعر وعمارة وموسيقى وفنون مختلفة من ناحيةٍ أخرى، وقد استوعب بلوخ كل هذه العناصر الثقافية في عصره وعبر عنها في نسقٍ متكامل، كما جاء هذا النسق معبرًا عن عصر مخاض وحلم وثوراتٍ اشتراكية وأحزابٍ فاشية، واتسم بالديناميكية كما اتسم بالاضطراب والقلق. إنه عصر شهد فيه الفكر الفلسفي الألماني تغيراتٍ كثيرةً وحاسمة، وبداية بحث فلسفي على أسسٍ منهجيةٍ جديدة، وإعادة إحياء التراث الماركسي باعتباره فهمًا نقديًّا تحليليًّا للواقع، وقد اجتاحت فيه الفكر الألماني حركةٌ نقديةٌ واسعة النطاق ذاع صيتها باسم «مدرسة فرانكفورت»، نظم أعضاؤها حلقات بحث حول الماركسية، وركزوا على أفكار ومؤلفات ماركس الشاب وليس الاقتصادي، وأثاروا عاصفةً نقدية على كثير من القيم السائدة والنظم المستقرة.
لم يكن بلوخ أحد أعضاء مدرسة فرانكفورت، ولا يمكن القول إن لهذه المدرسة تأثيرًا واضح المعالم على فكره، بل يمكن القول إن تأثيره كان كبيرًا وهامًّا على أعضائها فيما اكتسبوه من حدة الوعي الثاقب في تفتيت بنية الواقع، وحسن استخدامهم للمنهج الهيجلي والماركسي في تحليلهم النقدي للأوضاع الاجتماعية. وليس من المبالغة أن نقول إن تعامله النقدي مع التراث الماركسي على وجه التحديد كان مقدمة لخلق نظريةٍ نقدية أكثر اتساعًا وشمولًا عند أصحاب هذه المدرسة.
(أ) أدورنو (١٩٠٣–١٩٦٩م)
(٤) مؤثرات دينية
ولم يكن من المستغرب أن يلجأ بلوخ للتعبيرات الدينية أو شبه الدينية التي امتلأ بها «مبدأ الأمل» خلال حديثه المجازي عن الهدف النهائي أو بالأحرى «اليوتوبي» لعالم المادة وعالم الإنسان. ذلك أن الغاية النهائية أو الخير الأقصى والأسمى، قد وصفا منذ القدم باسم الجلالة «الله». وإذا كان بلوخ — شأنه في هذا شأن الماديين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم — قد تحاشى هذه التسمية، وآثر شيئًا يمكن أن يوصف بالقدر أو المشيئة العارضة التي تحدث الجديد وغير المنتظر وتظهرهما في «الهُنا والآن»، فقد تسرب هذان المفهومان إلى فلسفته من الموروث الديني، وأجرى عليهما نوعًا من التجريد من الروح الأسطورية أو التخلص من سحر الأسطورة الذي يميز كل ألوان الحداثة في عصرنا، وبذلك شدهما إلى عجلة الصيرورة الدائرة في عالمنا ودنيانا «هنا والآن». ولكن نزعة التجرد من التفكير الأسطوري — التي اتجهت منذ عهد فويرباخ وماركس إلى نقد الأيديولوجيات وكشف القناع عن المضامين الدينية بوصفها من خلق البشر وافتراضهم وصنع خيالهم — لم تستطع القضاء على الإشكالات الدينية، فبقيت عالقة بفكر بلوخ المادي والدنيوي، وظلت ماثلة في الأسلوب المجازي الذي يميز لغته التعبيرية، وفي الثنائية الجدلية التي نجدها واضحةً عنده في تأكيد الضرورة والعرضية في حياة البشر وتاريخهم، وافتراض «الكل» الكوني اللانهائي مع القول بعدم تحقيقه لهويته أو ذاتيته تحقيقًا نهائيًّا.
وهنا يمكن أن نضيف أن التراث اليهودي كان له تأثيرٌ كبير على فلسفة بلوخ، فهذا التراث الذي ظل طويلًا في حالة اشتياق للخلاص من أجل مستقبل أكثر أمنًا وإشراقًا هو الذي صاغه في فلسفةٍ حقيقية للأمل واليوتوبيا، وربما جاز القول بأنه كتب فلسفة للتاريخ من روح «الخروج»، أي الخروج من تاريخ الظلم والاضطهاد والاغتراب إلى «مملكة الحرية»، كما أن التراث اليهودي الصوفي الطويل — الذي شكَّل جزءًا كبيرًا من حياة بلوخ وفكره — قد أثر أيضًا في توهج الصور المجازية والشعرية والرمزية التي ميزت كل كتاباته، ولكن يمكن القول أيضًا إنه تجاوز الحلم اليهودي بمفهومه الضيق وحلَّق به في آفاقٍ أكثر اتساعًا حتى وصل الحلم إلى قمته في اليوتوبيا التي يجب أن تحرر الإنسان من الاغتراب، وهذه اليوتوبيا التي حلم بها بلوخ هي ما أطلق عليه اسم «الوطن»، أو الجماعة الإنسانية الحرة العادلة.
هذا التحديد الأنطولوجي للغاية النهائية عند هيجل لا يخلو كما نرى من مضمونٍ ديني، وبغض النظر عن التفسيرات المختلفة للنسق الهيجلي (دينية كانت أو منطقية أو أنطولوجية واحدية … إلخ) التي تخرج عن موضوع هذا الحديث، فإن كلام بلوخ السابق يمكن أن ينطبق على «نسقه المفتوح» نفسه. فاليوتوبيا عنده لا تقتصر على تحقيق المجتمع «الإنساني» الخالي من الطبقات وابتداء حقبةٍ جديدة كل الجدة في التاريخ البشري، وإنما تضع في حسابها كذلك «الشكل النهائي» الذي ستتمخض عنه صيرورة المادة أو مسيرتها الجدلية، أي أنها تنتهي بصورة من الصور إلى «نهاية» ربما لا تختلف كثيرًا عن النهاية التي يصفها النص السابق في كلامه عن الروح الهيجلي المطلق. صحيح أن تفكير بلوخ اليوتوبي يحرص على أن يبقى دنيويًّا وداخل إطار العالمين الطبيعي والتاريخي، ولكنه مضطر للاتجاه إلى أفقٍ «متعالٍ» يمكن أن يحدد تحديدات دينية في جوهرها مهما حاول أن يبتعد صراحة عن كل تحديد أو تعريفٍ نهائي لهذا الأفق المتعالي أو لهدفه اليوتوبي النهائي والأخير. ولعل «النزعة الأخروية» — بالمعنى الدنيوي أو العالمي بطبيعة الحال — التي نجدها واضحة عنده ولا يمكن تجريدها من مضمونٍ ديني، لعلها هي التي تشجع على هذا التفسير «الديني» لفلسفته، على الرغم من حرصه على إنكار أمثال هذا التفسير وحرصه على السخرية اللاذعة منه، بيد أن الفجوة واسعة بين النية والعمل، وبين ظاهر الكلام ومضمونه.
ولا بد في النهاية من الاعتراف بأهمية «النواة الأنطولوجية» لتفكير هذا الفيلسوف والإشادة باكتشافه لمقولات الوعي الذي يأمل ويتوقع، ومعادلاتها الموضوعية في تاريخ البشر وسعيهم المتصل لبلوغ «اليوتوبي» بأشكاله التاريخية المتعددة، وتأكيد دور «الذات» الإنسانية في تحقيق الأمل على المستوى الطبيعي والبشري على السواء. وإذا كنا قد أشرنا إلى المضامين الدينية والتفسيرات الدينية الممكنة لتفكيره، فإن هذا لا يجعل فلسفته نوعًا من ظاهريات الدين أو الحنين الديني، وإلا كان هذا تبسيطًا مخلًّا وتحريفًا شديدًا لها، لأنها ستبقى فلسفة الوعي الثائر والثوري، مهما احتفظ هذا «الدنيوي» بشيء من الحنين الديني والأشواق الصوفية والمثالية الشعرية. وإذا كان بلوخ قد صور لنا التاريخ الطبيعي والتاريخ البشري في صورةٍ يوتوبية، فلم يكن اهتمامه بالأنطولوجيا المادية والفلسفة الطبيعية تشتيتًا للأنظار عن التاريخ الإنساني الذي لا يزال في حاجة إلى التشكيل، لأن الأول يقدم الأساس أو المعدل الموضوعي الذي يقوم عليه الثاني ولا ينفصل عنه في غمرة الصراع المستمر بين الإنسان والطبيعة، كما لا ينفصل عن الصراع من أجل السيطرة على الطبيعة لكي نكون في النهاية — كما تقول عبارة ديكارت الشهيرة — سادةً عليها ومالكين لها.
أخيرًا فعلى الرغم من تعدد المصادر وتنوع المؤثرات التي ترددت أصداؤها في فلسفة بلوخ فقد امتزجت وشكلت نسقًا فلسفيًّا مستقلًّا له بناؤه الأنثروبولوجي والأنطولوجي. وعلينا الآن أن نمهد لهذا النسق ونبين أهم معالمه ومقولاته قبل أن نتناول كلًّا منها بالشرح والتفصيل.
ثالثًا: مدخل إلى فلسفة بلوخ ومفاهيمها الأساسية
قبل البدء في عرض فلسفة بلوخ يتعين طرح الأفكار والمقولات الأساسية التي تعد مفتاح فلسفته اليوتوبية ونسقها المفتوح، والتي يصعب فهمها قبل إلقاء الضوء عليها وتناولها بالشرح بالقدر الذي يجعلها واضحةً وميسورة الفهم حين يرد ذكرها في موضعها من هذا البحث. وينبغي التنويه في البداية أن مقولات بلوخ تختلف اختلافًا أساسيًّا عن المقولات التقليدية في التراث الفلسفي. إنها ترتبط بالأفكار الرئيسية في فلسفته الجدلية المتفتحة على الجديد، وبالوجود الذي لم يكتمل بعدُ، وبالنزوع الموضوعي — الكامن في الموضوع والذات على السواء — الذي تحاول الإمساك به وبلورته بطريقةٍ تصورية. وقد أدرك بلوخ أن المقولات التقليدية عاجزة عن أن تقول شيئًا عن عملية الصيرورة الشاملة، وأن المقولات التي تلائم فلسفته لا يمكن أن تكون سكونية ولا معتمدة على التجربة، ولا مجرد قوالب توضع فيها مادة هذه التجربة، وإنما يجب أن تكون مطابقة لتدفق الصيرورة الواقعية. ولذلك لا يُستغرب منه أن يؤكد باستمرار أن مقولات الصيرورة لا بد أن تكون هي نفسها في صيرورة، وأن الثابت الوحيد هو أنها تعبر عن العلاقات التي تربط الموجود بالماهية، وأنها تقوم في مجموعها على المقولة الأصيلة المعبرة عن العلاقة السابقة بين الوجود وبين الماهية في داخل الوجود الواقعي وفي داخل هذا العالم.
إن المقولة هي حكم عام على الخاص، أو هي حكم على الخاص المتكثر كثرة لا نهائية من خلال العام المشترك، وهي — أي المقولات — تعبر على المستوى الفكري عن أعم التصورات العلاقية. وبذلك تعكس أعم أشكال الوجود المتحرك وأنحائه. وإذا كان من الممكن قيام علاقة بين الوجود والماهية، فإن هذه العلاقة نفسها هي المقولة الأساسية وسائر المقولات تفريعات لها. والمهم في هذا كله أن المقولة الأساسية هي التي تعبر عن العلاقة بين الوجود القائم الذي لم يكتمل، وبين الماهية أو الجوهر الذي سيتحقق أو في طريقه إلى التحقق في المستقبل. فما هي إذن طبيعة هذه المقولة؟ وماذا يعني بها بلوخ؟
(١) اﻟ «ليس-بعد» Not-yet
إن اﻟ «ليس-بعد» من أهم المقولات المحورية في فلسفة بلوخ. وإن كانت تنطوي على إشكالاتٍ أنطولوجية تصدم الفكر العادي وتحيره. وتتلخص هذه المقولة على المستوى الإنساني في هذه الصيغة: إننا لم نكن أو «لم نوجد بعدُ»، ولذلك «فسوف نكون أو نوجد». كما تتمثل على المستوى الطبيعي في أن العالم المادي «لم يكتمل بعدُ».
لقد تصور بلوخ أن مقولة اﻟ «ليس-بعد» لا تحتاج إلى برهان أو دليل لأننا جميعًا نشعر بهذا الذي لم يوجد بعدُ «شعورًا مباشرًا»، وكل ما يحتاج إليه هو أن نصفه، وإنه — كمبدأٍ فلسفي — يقيني يقين الكوجيتو الديكارتي، بحيث يمكن تسميته — على طريقة ديكارت — «بداهة ما ليس-بعدُ»، بل إن اﻟ «ليس-بعد» متضمن في الكوجيتو «الديكارتي» نفسه (أي الأنا موجود)، لأنه بداهةٌ إنسانية خالصة يضاف إليها الفكر والمعرفة فيما بعدُ.
والواقع أن مشكلة هذه المقولة تكمن في هذه الكلمة الصغيرة «ليس-بعد»، إذ كيف يستطيع الفكر العادي أن يقبل وجود شيء لم يوجد بعدُ — أي لا وجود له من الناحية الأنطولوجية الدقيقة — في باطن الموجود نفسه حتى لو كان ذلك على سبيل الإمكان، غير أن المشكلة الحقيقية تكمن في هذا السؤال البسيط: هل نفكر في الوجود من خلال المنطق التقليدي أم من خلال المنطق الجدلي؟ إننا لو فكرنا تفكيرًا جدليًّا لوجدنا أن المسألة أقدم مما نظن، فهي ترجع إلى فلسفة أفلاطون المتأخرة، وبخاصة في محاورتيه بروتاجوراس وبارمنيدس، حيث ناقش مشكلة احتواء الواحد على الكثير وخروج اللاوجود عن الوجود، كما يمكن أن نجد لها تأثيرًا على ميتافيزيقا ليبنتز وآرائه شبه الجدلية عن تحقيق إمكانٍ معين من إمكاناتٍ بديلة عديدة، ثم إنها ماثلة في شروح هيجل على مثلثه الجدلي الأول بمقولاته الثلاث عن الوجود والعدم والصيرورة.
ولكن هل حلت المشكلة بجعل المقولات جدلية؟ إن بلوخ يضيف ملمحًا جدليًّا جديدًا يضع فلسفته في إشكالاتٍ غير هينة. فهو يزعم أن ذلك الذي لم تتحقق شروط وجوده بصورةٍ كافية، موجود بالفعل على نحوٍ «ما». وفي كل معرفةٍ واعية إشارات أو دلالات على معرفةٍ أخرى لم يستوعبها الوعي بعدُ، ولكن يمكنها في المستقبل أن ترتفع إلى مستوى الوعي، وكأننا نملك هذه المعرفة الأخيرة بالفعل وإن لم يتم استيعابها بصورةٍ واعية. ويتمثل الإشكال هنا في أن ثمة — من ناحية الموضوع — وجودًا لم يوجد بعدُ تتجه إليه هذه المعرفة الأخيرة أو تستشعره، وإن لم يتسنَّ لها في الحقيقة أن تعرف عنه شيئًا بعدُ.
مهما يكن من شيء فسوف نتعرض لشرح المقولات بالتفصيل فيما بعدُ، ويكفي الآن القول بأن كتاب «مبدأ الأمل» منجمٌ زاخر بمحاولات بلوخ وتجاربه التي لا تنتهي لإثبات الوجود الفعلي لأحلام وأفكار واستشعارات تموج بها أشكال الوعي ومضامينه التي لا نهاية لها أيضا. ولذلك نراه ينطلق كالنحلة الدءوب ليلتقط أشكال الرغبة والشوق والحلم والتوقع والخيال والدوافع التي حركت وعي البشر في شتى الظروف والعصور والديانات والحضارات، محاولًا أن يجد لها تفسيرًا أنطولوجيا تقوم على أساسه، وأن يشرحها على ضوء العالم الأفضل الذي وجه تلك الأحلام والأشواق للتعبير عنه والسعي إلى بيان معالمه. وقد كان هدفه من كل هذه المحاولات هو أن يثبت وجود تلك المعرفة التي لم تصل إلى درجة الوعي، وأن يبحث عن أمثلتها ونماذجها التاريخية مؤكدًا بذلك أن للتفكير «اليوتوبي» مضامينه الواقعية، وأن توقع ما لم يوجد بعدُ كان عاملًا أنطولوجيًّا وأنثروبولوجيًّا حاسمًا في توجيه مسيرة المادة والإنسان على السواء نحو الهوية المبتغاة على مستوى العقل والخيال. وعلى مستوى الوجود والماهية.
وينبغي أن تُفهم الهوية هنا بطريقةٍ مختلفة عن طريقة فهم مبدأ الهوية في المنطق التقليدي أو الصوري. فليس المقصود بالهوية أن يصبح الذات والموضوع في هوية مع نفسهما من نفس الجهة، وعلى النحو الذي يوجدان عليه، وإنما المقصود أنهما يتغيران تغيرًا مستمرًّا، وكل ما يمكن فعله والتفكير فيه هو محاولة تحقيق الهوية بينهما والتوحيد بين الوجود والماهية. وبعبارةٍ أوضح فإن مبدأ الهوية يجب أن يفهم جدليًّا على أنه يحيل إلى هوية ستتحقق في المستقبل، أي إلى الأفق الذي يصبح فيه تحقيق الهوية في آخر المطاف أمرًا ممكنًا، وتتم فيه — بصورة يوتوبية واقعية — علاقة الوجود بالماهية.
لقد قدم بلوخ فينومينولوجيا ﻟ «ليس-بعد» تماثل فينومينولوجيا الروح لهيجل. وإذا كانت هذه الأخيرة تدور في الحاضر الأبدي، فإن فينومينولوجيا بلوخ تدور في الواقع الفعلي، أي في اﻟ «ليس-بعد» الموجود في جذور الواقع الفعلي الممتد إلى المستقبل.
(٢) الإمكان Possibility
(٣) ما قبل الظهور pre-appearance
هكذا نجد أن المقولة «الأنطولوجية» المتعلقة بما لم يوجد بعدُ، تناظرها مقولةٌ «وجدانية» في الوعي والشعور. وقد أطلق بلوخ على هذه المقولة تسمية تصعب ترجمتها وإن كان يمكن أن نطلق عليها اسم «ما قبل-الظهور» فكل الأعمال الفنية الكبيرة (كالهرم الأكبر أو لحن الهاليلويا لهيندل …) تدل بوجودها نفسه في عالمنا الأرضي دلالةً مسبقة على وجودٍ آخر لم يتم ولم يستوعبه الوعي بعدُ (على الخلود وراء الموت في الحالة الأولى وعلى مملكة الرب في الحالة الثانية، وكلاهما في الحقيقة «شفرة» لها دلالتها على النعيم المأمول والسعادة المرتقبة). وفي هذا دليل على أن الفن والدين يتخطيان الحاجز الذي يفصل الإنسان عما لم يتحقق في الوعي، فهما (أي الدين والفن) مظهران سابقان للمتحقق أو هما بمثابة الفجر الذي يبشر ببزوغ الصباح.
ولولا العامل الذاتي لاستحال تغيير العالم أو تغيير الواقع على أساس الخطط والأهداف والمحاولة والخطأ، ولولاه لسقط العالم أو الواقع صريع الصدفة والعرضية. والفن هو الشاهد الحي على هذه الوحدة التي تؤلف بين الذات والموضوع؛ إذ «تموضع» الذات نفسها في مواقف وأشكال وأفعال، كما يصبح الموضوع ذاتيًّا بفضل الخيال الخلاق (سواء في الحزن أو الفرح أو التعبير عنهما)، وفي هذه الوحدة التي يتلاحمان فيها يتجلى لنا العمل الفني الكامل أو المتكامل الذي «يظهرنا» على الأفق الجدلي الشاسع لعملية الإبداع الفني التي يكتسي فيها ثوبه الجمالي الذي يظهر به أمامنا، كما يدل على إمكاناتٍ أخرى كامنة يمكن أن تظهر في المستقبل (بصورةٍ مختلفة كل الاختلاف عن ظهور المعطى الحسي المباشر أو الحدث التاريخي أو الموجود الطبيعي) وهو بهذا لا يحدد المستقبل بقدر ما يدل على الأفق اليوتوبي الذي يمكن — بإرادة البشر وتصميمهم ورغبتهم وإبداعهم — أن يتحقق فيه على مستوى الوجود والوعي على السواء.
بهذا المعنى يمكننا أن نبرر وصفنا للعمل الفني بأنه عالمٌ كليٌّ متكامل، ارتفع فيه الواقعي العارض إلى صعيد الضرورة، ودلَّ فيه الخاص على العام، ولو تأملنا بعض الأعمال الخالدة في الفنون المختلفة والعصور المتتابعة (مثل الأهرام في مصر، ومعابد البانثيون في روما، والأكربوليس الأثيني، أو كوميديا دانتي الإلهية، أو هاملت شكسبير، وموناليزا دافنشي، أو عذراء جوتو … إلخ) لاقتنعنا بأن الجمال وجودٌ كامل في ذاته، وأن العمل الفني الذي يتحقق فيه الكمال يقف وسط الموجودات الأخرى وقفة «الموجود الكامل»، كما يدلنا دلالةً مسبقة على الوجود الإنساني الذي يمكن أن يحقق وحدته أو هويته مع ذاته. وبهذا المعنى أيضًا تصدق عليه الكلمة التي تعذر علينا إيجاد المقابل العربي الواضح لها، وهي «ما قبل-الظهور» التي نرجو أن يكون الشرح السابق قد بين دلالتها «اليوتوبية» على إمكان تحول الواقع المعيش — بكل شروره ونواقصه واغترابه — إلى يوتوبيا تجسد الأمل الدائم في تحقيق الهوية والكمال والحرية.
(٤) الأمل Hope
ينطلق بلوخ من السمة الجوهرية للحاضر وهي عدم الاكتمال والقلق الذي يميزه ويطلق على كل ما هو مدفوع للأمام وكامن في كل لحظة اسم «الأمل». ولكنه ليس بالأمل الذي يقتصر على مجرد التمني والرجاء، بل الأمل الذي يؤكد وجود الإنسان الذي «لم يتحقق بعدُ» ويثبت افتقاره المستمر إلى أن يملك ذاته وهويته ويتغلب على اغترابه، وهو ينبع من خطةٍ مدروسة ترتبط بالمعرفة الدقيقة بالواقع وتستهدف الممكن الأفضل الوشيك التحقق. هذا الأمل المدرك بشكلٍ عيني وعملي هو عماد هذه الفلسفة الطموحة المتفائلة. وهو يقف في «الطليعة» من تقدم العالم بوصفه مادةً مفتوحة على وجودٍ يوتوبيٍّ ممكن. ثم إنه هو المبدأ النسقي اليوتوبي الذي يقصده بلوخ للكشف عن حقيقة التاريخ الذي يتجه نحو المستقبل وإطلاق ما فيه من إمكاناتٍ كامنة لم تظهر بعدُ.
أخيرًا يمكن القول إن الأمل عند بلوخ هو اليوتوبيا، وإن مبدأ الأمل هو مبدأٌ يوتوبي، وهو المبدأ الوحيد الذي يعتقد بلوخ أنه يتحكم في كل التغيرات. ومع اختلاف صور التعبير عنه من مرحلةٍ تاريخية إلى أخرى، فإنه يظل في رأيه مبدأً واحدًا يسميه بلوخ بأسماء عديدة مثل الجديد، الأقصى، الكل اليوتوبي، الماهية، وهو في النهاية الوطن. وإذا كان الأمل عنده يدور في فلك الماركسية، فإنها ماركسية يجب النظر إليها نظرةً خاصة مختلفة عن الفلسفة الماركسية الرسمية، أو تلك التي تحولت أثناء تطبيقها في التاريخ والواقع إلى فلسفةٍ رسمية. وهذه الماركسية التي يدور الأمل في فلكها متحركة وليست ثابتة ولا تنتهي عند هدفٍ محدد. إنها مفتوحة على آفاق الممكن اللانهائي؛ لذلك نجد مقولاتٍ أخرى مثل الأمام والأقصى ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمقولة الأمل وتندفع معه نحو مستقبلٍ مفتوح.
(٥) الأمام Front
يسير العالم في عمليةٍ جدلية يضع لها بلوخ ثلاث مقولات: الأمام والجديد والأقصى. وهذه المقولات مرتبطة ﺑ «اللا» واﻟ «ليس-بعد» ارتباطها بأساس العملية الجدلية (الصيرورة) وقوامها وهي المادة. فاللا — التي تمثل الاحتياج والافتقار والقوة الدافعة في داخل الآن — هي التي تمثل «الأمام». واﻟ «ليس-بعد» — وهي زمانية بطبيعتها وتعبر عن المستقبل الذي ينمو ويتبرعم ثم يزدهر في التاريخ — تتمثل دائمًا في «الجديد» الذي يمكن أن يتفتح في المستقبل ويتجه إلى «الأقصى» الذي هو غاية العملية الجدلية.
(٦) الجديد Novum
(٧) الأقصى Ultimum
لقد كاد الحدث اليوتوبي الهائل — الذي لا يزال يتم في العالم — أن يبقى بلا ضوء يسلط عليه. وها هو ذا الرحالة الحالم يندفع بكل ما لديه من طاقة وما ادخر من زاد المعرفة ليجوب أرجاء الأرض المجهولة من أقصاها إلى أقصاها، لا ليحدد خطوط العرض والطول، بل ليتحسس أبرز المعالم ويرسم لها لوحاتٍ غنية بالألوان والدلالات التي تدخل في إطار النسق المرن المفتوح، وتسري فيها الأفكار المحورية التي تلخصها كلماتٌ مثل التوقع، والأمل، والقصد والإمكان الذي لم يتحقق بعدُ.
لا بد في نهاية هذا الفصل من التنويه بأن هذه المقولات لم يعرفها بلوخ بشكلٍ مستقل وتفصيلي، باستثناء مقولتي اﻟ «ليس-بعد» و«الإمكان». وقد تناول الأولى في إطار البناء الأنثروبولوجي لفلسفة الأمل الذي يقوم على مقولة اﻟ «ليس-بعد»، وتتبعها منذ نشأتها الأولى في الوعي الذاتي حتى تطورها واشتقاق البناء الأنطولوجي منها، وهو البناء الذي يقوم على مقولة الإمكان. وقد خصص بلوخ لهذه الأخيرة فصلًا مستقلًّا في «مبدأ الأمل» وشرحها شرحًا مستفيضًا، وتناول أبعادها القديمة والحديثة، وقسمها تقسيماتٍ دقيقة. أما باقي المقولات فلم يتناولها بمثل هذا التفصيل، على الرغم من استخدامه لها في كل صفحات «مبدأ الأمل» بطريقة تكشف عن أن هذه المقولات ما هي إلا توابع للمقولتَين الأساسيتَين، أو بمعنًى آخر أنها — أي المقولات — هي الهدف الذي تتجه إليه هاتان المقولتان، لأن ما لم يوجد في الوعي أو الذات البشرية، وما لم يتحقق بعدُ من إمكاناتٍ كامنة وقابلة للتطور في الواقع المادي لا بد أن يسكن في «الأمام» — بالمعنى الآني الذي تم التعريف به — وأن يتجسد في «الجديد» المقبل والقابع في المستقبل، وأن تكون المادة في الوعاء الذي يحوي كل هذه الإمكانات ويضمن تحقيقها، وأن يتجه كل هذا ناحية الأقصى أو الهدف النهائي للأمل وهو «الكل اليوتوبي».
ولا يمكن أيضًا حصر عدد المقولات التي تضمنها نسق بلوخ الفلسفي على النحو الدقيق الذي نجده عند فلاسفة مثل أرسطو أو كانط أو هيجل أو غيرهم. فباستثناء مقولتي اﻟ «ليس-بعد» و«الإمكان» لم يقدم دراسةً منهجية دقيقة عن باقي المقولات، ولم يحصر عددها، ولذلك توجد اختلافات كثيرة بين الباحثين حول هذه المقولات سواء في عددها أو أسمائها.
وأخيرًا لا بد من التنويه إلى أنه لا يمكننا أن نتفهم مقولات بلوخ إلا إذا تصورناها متعلقة بالوجود في حالة الصيرورة، وفي هذه الحالة وحدها — أي في حالة تعلقها بالوجود الواقعي المتحول — يمكن أن تعبر عن نماذجَ موضوعية، وذلك بانخراطها في خضم العملية الجدلية التي تتكون فيها أشكال الوجود، وبتقدمها عليها. وهي لا تكتفي في بحثها عن هذه الأشكال الموضوعية بأن تعبر عن شيء أو تعكسه، وإنما تقوم كذلك بتكوين أو تشكيل نفسها بصفةٍ مستمرة كأشكالٍ موضوعية لعالم الصيرورة التاريخية في مجموعها المتكامل. بهذا المعنى وحده يمكن أن نتلافى سوء الفهم الذي يمكن أن نقع فيه عندما نتصور أن المقولات أشكالٌ ثابتة أو ساكنة، فكلما فهمناها فهمًا جدليًّا أمكننا كذلك أن نتصور غناها بالمضمون وقدرتها على أن تقول لنا الشيء الكثير عن نفسها وعن الوجود المتحرك نحو الجديد اليوتوبي.
Moscow, progress publishers, 1965. Vol. I. p. 71-72.