إن جوهر فلسفة بلوخ وبناءها النظري يقومان على جانبَين أساسيَّين،
أحدهما أنثروبولوجي والآخر أنطولوجي، ويعد الأول الجذر الأساسي الذي
يقوم عليه الثاني، ويرتكز الجانب الأنثروبولوجي على مقولة اﻟ «ليس-بعد»
التي يستشعرها الإنسان في وعيه بالاحتياج والافتقار إلى شيء لم يملكه
ولم يوجد بعدُ. كما يقوم الجانب الأنطولوجي المترتب عليه على مقولة
الإمكان وما تكشف عنه من إمكاناتٍ كاملة في الواقع ولم تتحقق بعدُ،
ولكن كيف يمكن التعرف على هذا الذي لم يوجد بعدُ؟ وكيف يتسنى له أن
يتحقق في الواقع حتى الآن؟ وكيف يتيسر إمكان تحقيقه تحقيقًا عينيًّا؟
إن هاتين المقولتَين «الليس-بعد والإمكان» تكمنان في الذات الإنسانية
والعالم الطبيعي معًا. فكيف يمكن التعرف عليهما؟ وكيف يتم الوعي بهما
في هذين المجالَين؟
يتضح هذا عندما نعرف أن العالم الموضوعي يتصف دائمًا بأنه عالم لم
يكتمل بعدُ. وينعكس هذا على الذات الإنسانية في صورة سخط على الواقع
ورغبة في تجاوز المعطى الذي لم يصل بعدُ إلى حد إرضاء الذات وإشباع
رغباتها. فهناك علاقةٌ جدلية بين الذات الإنسانية وذلك العالم
الموضوعي، وهذه العلاقة التي يدور حولها مبدأ الأمل، هذا المبدأ الذي
تطور عن جذرَين أساسيين أحدهما أنطولوجي والآخر أنثروبولوجي. ويتطلب
عرض البناء النظري لفلسفة بلوخ البداية بتناول البناء الأنثروبولوجي
لأنه الأساس الذي يقوم عليه البناء الأنطولوجي. ونعود الآن إلى السؤال
كيف يمكن معرفة ما لم يوجد داخل الذات البشرية؟ وكيف يكتشف ما يطلق
عليه اسم الوعي باﻟ «ليس-بعد» داخل الوعي؟
واصل بلوخ عمله حتى اكتشف في باطن الإنسان عالم «الرغبة» الذي انبثق
منه ما سماه الوعي باﻟ «ليس-بعد» أو «ما لم يصبح بعدُ»، ثم وضع يده على
الأساس الأنطولوجي لتفسيره الجدلي المادي للعالم فيما سماه بمقولة
«الإمكان» أو «ما لم يتحقق بعد».
فالرغبة، وهي الصفة التي يشترك فيها كل البشر — لم يتم بحثها، ولم
يتم الوعي بها، على الرغم من أنها تملأ وجدان الناس جميعًا، كما تملأ
أفق كل موجود. لقد عجزوا حتى الآن عن إدراك مفهومها ومعناها، هذه
المنطقة المزدهرة بالأسئلة والمشكلات لم تزل حتى الآن خرساء في تاريخ
الفلسفة. فالحلم المتجه إلى الأمام لم يتأمله أحد بصورةٍ كافية،
والقادم المنتظر بأسره قد ظل — في رأي بلوخ — حتى عهد ماركس لا يسترعي
انتباه العالم، ولا يجد له مكانًا، مع أنه يستحق أن يشغل وضع المركز
فيه.
الواقع أن الوعي الإنساني (بما في ذلك اللاوعي وما قبل الوعي)، بوصفه
تأمل المادة لنفسها، هو أول ما يعكس مجال الإمكان لما لم يوجد بعدُ.
ومظاهر الانعكاس ثلاثة عند بلوخ؛ وهي التوقع، واليوتوبيا، والفانتازيا
الموضوعية. وهذه المظاهر الثلاثة ليست مفتعلة ولا من قبيل الأوهام التي
يقع فيها أو يسترسل فيها التفكير الحالم، ولكن لها أساسها في العالم
الموضوعي — كما سيتبين بعد قليل — كما يمكن تعقب أصلها في الذات
البشرية.
ينطلق البناء الأنثروبولوجي لفلسفة الأمل من نظريةٍ هامة من نظريات
علم النفس، ألا وهي نظرية الدوافع التي يرى بلوخ أنها الأصل في السلوك
البشري، وكذلك يهتم بإبراز الوعي الذي يظهر وراء الدوافع. والجوع من
أهم هذه الدوافع، فأول ما يعيه الإنسان هو الإحساس المؤلم بالعوز
والحاجة، لأنه لا يملك ما يجب أن يملكه لكي يعيش راضيًا. وفلسفة بلوخ
تتعرف على آثار الوعي الماضي بهذا الافتقار، وتتبعه في تقدمه للأمام.
ويبدأ هذا منذ اللحظة الأولى للميلاد مع الطفل الرضيع، الذي يشعر
بالجوع فيصرخ متلهفًا على ثدي الأم لكي يسد حاجته الملحة، وكلما امتد
به العمر شعر شعورًا متجددًا بما لا يملكه، وازداد إحساسًا بأنه لم
يكتمل بعدُ.
نعود إلى السؤال الأول مرةً أخرى: كيف يستشعر الإنسان أو يدرك ما لم
يملكه بعدُ؟ لقد بدأت رحلة بلوخ من البذور الأولى لهذا الإدراك، وذلك
لكي يتحسس خطى الوعي البشري منذ بدايته الأولى، أي قبل أن يكتمل الوعي
ويتطور وينضج ويظهر للنور، كما اقتفى آثار الحلم البشري ليكتشف أن
الحلم بحياةٍ أفضل يداعب خيال الطفل منذ اللحظات الأولى للوعي
والإدراك. والحلم هنا ليس هو الحلم الذي يراه النائم أثناء الليل،
ويتناوله علماء النفس بالتحليل والتفسير، فهذا النوع من الأحلام التي
يغيب عنها الوعي والإرادة ليست من قبيل الأحلام التي تسترعي انتباه
بلوخ. بل إن ما يعنيه هو الحلم كمقولةٍ معرفية، أي الحلم الذي يتم في
وضح النهار ويعي واقعه ويتسلح بإرادة تغييره. إنه الحلم المبدع الخلاق
الذي يؤدي فيه الخيال البشري والإرادة البشرية دورًا أساسيًّا في كل
عصور التغيير، وكل الإنجازات العظيمة التي تمت في التاريخ البشري
سبقتها أحلامٌ كثيرة رسمت ملامح هذا التغيير ووضعت خطوط تلك
الإنجازات.
لقد قامت فلسفة بلوخ في جانبها الأنثروبولوجي على وصف ظواهر الوعي
الذاتي للإنسان وتجاربه الأولى وتتبع أحلامه، بوصفها إحدى مظاهر هذا
الوعي. ولفهم نسقه الفلسفي يجب الحديث أولًا عن الوعي وطبقاته ومعوقاته
التي حالت حتى الآن بين الوعي باﻟ «ليس-بعد» وبين الظهور إلى
النور.
أولًا: نشأة الوعي
يتتبع بلوخ نشأة الوعي البشري منذ بدايته الأولى عند الطفل. ففي
هذه المرحلة المبكرة من العمر تنم الأحلام والأمنيات غير الواضحة
عن تمرد الطفل على عالمه الصغير، ويتمثل هذا في تدميره لكل ما يعطى
له من ألعاب بدافع حب الاستطلاع واكتشاف حقيقتها، ثم يلقي بها
جانبًا للبحث عن المزيد. ذلك أن ما يريد الطفل اكتشافه لم يوجد
بعدُ. ويكبر الطفل ويضيق بغرفة الألعاب، ويذهب مبكرًا إلى النوم
لتأخذه الأحلام إلى ما وراء عالمه الواقعي، متجاوزًا بأحلامه
المكان والمجتمع معًا. ويستشهد بلوخ بالعديد من الحكايات الشعبية
١ — من التراث
الألماني والعالمي — التي تتجاوز كل العلاقات الزمانية والمكانية
والاجتماعية، كما تلغي قوانين المنطق الأساسية، وتستغني عن الشروط
الموضوعية للوقائع والأحداث، بحيث يصبح كل مستحيل ممكنًا على مستوى
الخيال والحلم. إن لهذه الحكايات أثرًا كبيرًا على خيال الطفل في
المراحل المبكرة من عمره، فالخيال — كملكةٍ إبداعية. له من
الإمكانيات الهائلة ما يجعله عاملًا فعالًا في صعود أو ترقي الجنس
البشري.
وفي الثالثة عشرة من عمره يبدأ الطفل في نسج الأساطير والتحدث عن
أشياء لم يجربها بعدُ، كما يبدأ في الحلم بحياةٍ أفضل من تلك التي
يوفرها له والداه. وعندما يبلغ السابعة عشرة من عمره، وهي أكثر
فترات العمر اضطرابًا، يرسم الطفل — الذي صار شابًّا — صورةً ذهنية
للمستقبل. ويشبه بلوخ الأحلام الفجة في هذه الفترة القلقة ببدايات
الأحلام البرجوازية التي لم تبلغ درجة النضج. ويمضي بلوخ في تتابع
آثار الحلم البشري بأبعاده وأنواعه المختلفة، فهناك أحلامٌ حمقاء
وأخرى مزدهرة مفعمة بالألوان. وهناك أحلام الرجل العادي — التي لا
تتعدى الترقي الوظيفي في مجال العمل أو الحلم بالمغامرات الجنسية —
وأحلام الرجل المنعزل الذي ينسج حكايات تدور حول ذاته. وهناك أحلام
الطبقة الفقيرة المحرومة التي تظهر فيها الأماني الحقيقية أكثر مما
تظهر لدى طبقة الأغنياء، لأن هذه الأخيرة ليس لديها سبب يدعوها
للثورة على الواقع السائد، ولأن كل ما تحلم به هو اختراع أشياء
تتكبر بها على الطبقات الأدنى منها.
وفي المرحلة المتأخرة من العمر تتراجع الأماني المثيرة، فبينما
يكتفي المراهق بالتمرد على المجتمع وعصيان تقاليده، نجد الرجل
الناضج يكرس قدرته لمحاربة هذا المجتمع، وأما كبار السن فيضيقون
بالعالم من حولهم، وإن كانوا لا يقفون ضده بل يبقون في حالة عويل
ونواح عليه. وأما مرحلة الشيخوخة فيسودها الشعور بوداع الفرد
للحياة، وتظهر فيها أمنيات العودة إلى الشباب والاستغاثة بذكرياته
ومحاولة التأنق والسلوك مسلك الشباب. ويشبه بلوخ هذه المرحلة من
العمر بالمجتمعات البرجوازية التي تستميت في التظاهر والتزين لتبدو
في أجمل صورة. وتعد هذه في نظره مرحلةً مرضية في تطور الفرد
والمجتمع على السواء، لأنه ينظر إلى الشيخوخة نظرةً أخرى ويضعها في
بُعدٍ هام من أبعاد التجربة الاجتماعية؛ ذلك أن الشيخوخة هي حصاد
ما يسميه بلوخ ﺑ «العقل الجليل». فالمجتمع المزدهر لا يخاف من
النظر إلى النهاية كما هو الحال مع المجتمع البرجوازي الذي يخدع
نفسه ويتزين هربًا من مواجهة النهاية المحدقة به. ويستشهد بلوخ بما
يقوله فولتير (١٦٩٤–١٧٧٨م) في هذا المعنى إذ يرى أن مرحلة الشيخوخة
أشبه بالشتاء، وهي بالنسبة للمثقف مرحلة جمع الأعناب وعصرها، ولا
يعني هذا استثناءً لمرحلة الشباب وإنما يتضمنها أيضًا بعد أن وصل
إلى مرحلة النضوج.
٢ وهكذا تكون مرحلة الشيخوخة مرحلةً اجتماعيةً جديدة،
خالية من غرور الشباب وحدته، مرحلة أكثر حكمة وقدرة على رؤية كل
هام وأصيل، ونسيان العارض والزائل.
كيف نشأ هذا الوعي وكيف تطور؟ يقدم بلوخ نظرية في نشأة الوعي،
قوامها أن الدوافع وراء نشأته، وأن التجدد المستمر للدوافع وراء
تطور الوعي على مستوى الذات البشرية والعالم الخارجي معًا.
فالدوافع هي التي تحركنا إلى الأمام، وهي تعبر عن نفسها في شكل
صراع ورغبة في تحقيق شيءٍ محدد في الخارج، وإذا أشبعت هذه الرغبة،
سرعان ما تتجدد وتتولد رغباتٌ أخرى جديدة. وتنشأ الرغبة في البداية
نشأة بيولوجية قبل أن تأخذ بعدًا تاريخيًّا، «ففي الطفولة لا يملك
الإنسان إلا جسده وثدي أمه (وهو في هذه اللحظات الأولى لا يكاد
يميز أحدهما عن الآخر). ثم يبدأ في التوجه إلى العالم من حوله
ويشرع في أخذ مكان فيه. وتكون البداية بالرغبة في امتلاك أشياءَ
مختلفة، ملكية الأم، والأب، والأخوات والإخوة، واللعب، وفي أوقاتٍ
لاحقة يشرع في تحصيل المعلومات، ثم يسعى للحصول على وظيفة، ومكانة
اجتماعية، وزوج، وأطفال، وأخيرًا يشرع في امتلاك شيء من مقتنيات ما
بعد الحياة.»
٣
ويشترك كلٌّ من الإنسان والحيوان في هذه الرغبات، وبينما تقتصر
رغبات الحيوان على كل ما هو حسي، نجد الإنسان وحده هو القادر على
رسم هدفه وتحديده، وهو أيضًا الكائن الوحيد القادر على التمني الذي
ينشأ من تخيل ما هو أفضل، وعادة ما تكون الأمنيات صورًا مزدهرة
ومفعمة بالألوان المشرقة. إن الإنسان تحركه مجموعة من الدوافع
المركبة. لكن هذه الدوافع ليس لها وجودٌ مستقل عنه، فهو دائمًا يقف
وراءها لإشباعها، وعندئذٍ تظهر دوافع ورغباتٌ أخرى إلى ما لا نهاية
له. إن الإنسان يشعر دائمًا بالافتقار كما لا يشعر به مخلوقٌ آخر،
وقد تطورت الدوافع مع تطور التاريخ وظلت على الدوام نهمة لا تشبع.
٤
إذا كان الوعي ينشأ عن الدوافع فما هي هذه الدوافع؟ هل هي تلك
التي يخضعها علم النفس للدراسة والتحليل؟ وهل هناك اختلاف بين ما
يهدف إليه بلوخ من بحثه في الدوافع، وبين ما توصل إليه علماء النفس
في نظرتهم إلى الدوافع؟ الحق أن الاختلاف لا يكمن في عدد الدوافع
أو نوعيتها، وإنما يكمن في تحديد الدافع البشرى الأساسي الأول.
والاختلاف حول هذا الموضوع لا يقتصر على بلوخ وعلماء النفس؛ إذ نجد
علماء النفس مختلفين فيما بينهم حول تحديد هذا الدافع الأول.
فالدافع الجنسي هو محور إنسان فرويد (١٨٥٦–١٩٣٩م)، وإلى جانبه توجد
دوافعُ أخرى للذات أو الأنا العليا التي تقف معارضة للقوى الجنسية،
وتنشأ العقد النفسية من كبت الأنا للدوافع الجنسية وطمسها أو قمعها
في اللاوعي بحيث تختفي من وعي الأنا. وكل ما أراده فرويد من
التحليل النفسي هو إظهار الكبت واللاوعي إلى النور للتمكن من قهر
الاضطرابات العصبية والنفسية والسيطرة عليها.
٥ وليس الهدف هنا الاستطراد في الحديث عن اللاوعي
والتحليل النفسي الفرويدي، ولكن الهدف هو بيان الاختلاف بين «لا
وعي التحليل النفسي» ووعي اﻟ «ليس-بعد».
إن التقدم الذي يحرزه علماء النفس في أبحاثهم لإظهار اللاوعي إلى
النور ورفعه إلى مستوى الوعي لا يخرج عن تفسير ما هو موجود بالفعل،
أي ما كان مكبوتًا في اللاوعي وجاء الوعي ليطلق سراحه. وبذلك يمكن
القول إنه لا جديد في الوعي الفرويدي. وها هو ذا إريك فروم يقرُّ
بأن الإنجاز الأساسي لفرويد في التحليل النفسي هو الكشف عن التعارض
بين السلوك والشخصية، بين القناع الذي ألبسه والحقيقة المختفية
وراءه. وتوصل فرويد إلى أسلوب «التداعي الحر، تحليل الأحلام،
التحويل، والمقاومة» هدفه الكشف عن الرغبات الغريزية (الجنسية
أساسًا) التي تم كبتها في الطفولة المبكرة. وحتى بعد التطورات
اللاحقة في نظريات التحليل والعلاج النفسي التي أكدت أهمية الصدمات
التي حدثت في مجال العلاقات مع الآخرين، وليس في المجال الغريزي
فحسب، فإن المبدأ ظل هو أن ما تم قمعه هو الرغبات والمخاوف الصدمية
المبكرة، والسبيل للشفاء من الأعراض والأمراض بشكلٍ عام هو الكشف
عن هذه الأمور المكبوتة، وبتعبيرٍ آخر، فإن ما جرى قمعه هو العناصر
الطفولية واللاعقلانية الفردية في التجربة.
٦
ويظهر هذا بشكلٍ أوضح عند يونج (١٨٧٥–١٩٦١م) الذي أحال مضمون
اللاوعي إلى النماذج الأولية؛ إذ يرد «علم النفس التركيبي» عنده
الاضطرابات العصبية — على حد تعبير بلوخ — إلى ليل أسلافها. وبينما
يحلل علم النفس التحليلي الرمز إلى أجزاءٍ أساسية، يقوم علم النفس
التركيبي بتكثيف الرمز إلى تعبير يمكن إدراكه وفهمه.
٧ وهكذا نرى أن اللاوعي الفرويدي فرديٌّ مملوء بمجموعة
من الدوافع المكبوتة المكتسبة بطريقةٍ فردية من الماضي القريب، في
حين أن اللاوعي اليونجي جمعي وبدائي، وكلاهما لا يتضمن شيئًا
جديدًا، وإنما يهرب من الحاضر ويدمر المستقبل. ولا يختلف الأمر عن
ذلك كثيرًا عند آدلر (١٨٧٠–١٩٣٧م) — مؤسس علم النفس الفردي — فكل
شيءٍ عنده ينشأ منذ البداية بصورةٍ فردية من خلال اللاوعي. وعلى
الرغم من أن الدافع البشري الأساسي عند آدلر قد أصبح هو إرادة
التسامي والعلاء، إلا أنه لا يعد من الدوافع الأساسية في نظر
بلوخ.
إن كل نظريات علم النفس لم تبدأ من أبسط الدوافع البشرية وأهمها
على الإطلاق، ألا وهو دافع الجوع. وهذا الدافع الذي لا بد من
إشباعه أولًا ليحفظ الفرد حيًّا — والذي استبعدته نظريات علم النفس
من أبحاثها — يسميه بلوخ دافع المحافظة على النفس
Self-Preservation إن
الدوافع الأساسية عند كلٍّ من فرويد ويونج وآدلر، هي عند بلوخ
بمثابة أوثان أو أصنامٍ مطلقة انتزعت من الجسم الإنساني الحي الذي
يحرص قبل كل شيء على حقه في البقاء، وهذه الدوافع لا تناقش الظروف
الاجتماعية والاقتصادية المتغيرة، مع أن صرخة الجوع هي الدافع
الأكثر إلحاحًا، الذي يظهر بشكلٍ عينيٍّ مباشر، والجوع دافع لا
يمكن تجنبه، ناهيك عن استحالة كبته في اللاوعي: «إن المعدة هي
المصباح الأول الذي يجب أن يُصبَّ فيه الزيت إذا أُريد لرحلة
الحياة أن تبدأ.»
٨
وتأسيسًا على النقد السابق يصف بلوخ علم النفس الفرويدي بأنه علم
نفس برجوازي، لأن الشهوة التي يعاني منها أفراد الطبقة البرجوازية
— وهم زوَّار فرويد ومرضاه — هي التي جعلته يضع الدافع الجنسي في
مقدمة الدوافع البشرية. إن هذه الطبقة لم تعانِ الفقر ولا تعرف
حقيقة الجوع، وصرخته القوية لن يعرفها سوى أفراد الطبقة الدنيا
الذين ليسوا من المترددين على فرويد ولا يخضعون لتحليله النفسي،
أضف إلى هذا أن الحافز على الصراع الذي تخوضه الطبقة الكادحة لم
يأتِ من الشهوة الجنسية كما تصور فرويد، ولا من العلو على الشعور
بالدونية وعلى قناع الشخصية الذي لا يلائمها كما تصور آدلر، ولا من
النكوص والتراجع للعصور الأولى كما تصور يونج. فليس هناك تصورٌ
جنسي للتاريخ ولا تفسير للعالم من خلال الشهوة وانحرافاتها، وإنما
يكون التفسير الصحيح للتاريخ على أساس الاقتصاد وبنائه الفوقي.
والواقع أن العامل الاقتصادي هو لب الموضوع، وإذا كنا لا نستطيع أن
نقول إنه هو العامل الوحيد، فهو العامل الأساسي الذي يعبر عن
«المصالح الأولية» التي تحرك التاريخ.
هكذا يتضح أنه ليست هناك دوافعُ مطلقة، فكلها تخضع للتغير
التاريخي بحيث تنشأ دوافعُ جديدة مع أهدافٍ جديدة لكل عصرٍ تاريخي.
ولا يمكن للإنسان أن يرتد للبدائية الأولى مرةً أخرى بعد أن
روَّضته التغيرات التاريخية. قد يتحول إلى البربرية مرةً أخرى،
لكنها بالتأكيد ليست البربرية الأولى، بل نوعٌ آخر جديد. ولو نظرنا
إلى هؤلاء البشر الذين نطلق عليهم — في أيامنا هذه — البدائيين،
لوجدنا أنهم ليسوا المخلوقات البشرية القديمة، بل يمثلون بقايا
فاسدة خلفتها حضاراتٌ كبيرة.
٩
إن الدوافع الأساسية — كما سبق القول — ليست مطلقة في كل زمان
ومكان، فكل عصرٍ تاريخي يفرض دوافعه طبقًا لمتطلباته الأساسية،
ولكنها — أي الدوافع — لا تنفصل عن الوجود الاقتصادي للبشر في أية
مرحلةٍ تاريخية. وإذا كان البشر يشتركون مع الحيوان في الإحساس
المُلحِّ بالجوع، فإن هذا يؤكد من ناحية أن العوامل والمصالح
الاقتصادية في الإطار والمرجع النهائي للدوافع، كما يؤكد من ناحيةٍ
أخرى أن هذه العوامل والمصالح تتغير تبعًا لتغير أشكالها
التاريخية، كالتغير في أساليب الإنتاج والتبادل، بل إن هذه الحاجة
الملحة نفسها — وهي الجوع — تتغير أيضًا تبعًا للأساليب التي
تلبَّى بها، كما أن الإنسان الذي يسعى من أجل البقاء على الحياة،
ويعيد بناء نفسه من خلال الغذاء وإنتاجه، هو نفسه كينونةٌ متغيرة
تاريخيًّا من خلال العمل، وليس التاريخ إلا تحولات الإنسان،
وتحولات الذات المتطورة.
١٠
وإذا كانت كل الدوافع — باستخدام لغة علم النفس — لا بد من
إشباعها، فلا بد أن يكون السؤال الآن: كيف يتم إشباع الجوع؟ كيف
يتحرك هذا الدافع — من مجرد إحساس داخلي مؤلم — فيمضي قدمًا ليبدأ
أولى خطواته في العالم الخارجي نحو الإشباع؟ عندما يزداد الجوع
يتغير شيءٌ ما فجأة، يتمرد جسد الذات ويتجه للخارج، لا بحثًا عن
الطعام فقط، بل بحثًا عن تغيير الوضع الذي سبب لمعدته الخواء.
وتعلن الذات المتمردة رفضها للوضع السيئ القائم فتقول له «لا»، كما
تقول «نعم» لحياة أفضل. هنا تتحول الحاجة إلى عاملٍ ثوري، إلى أداة
للتغيير الذي يبدأ دائمًا من الجوع، هذا الجوع الذي تحول بعد أن
ازداد خبرةً ووعيًا إلى قوةٍ مدمرة لسجن الحاجة.
١١
بهذا لا تكتفي الذات بالمحافظة على نفسها حية، ولا تقتصر على
النضال دفاعًا عن حقها في البقاء، بل تصبح قوةً مدمرة لكل ما يعوق
بقاءها. ويمتد حفظ الذات من الفناء إلى الخارج فيطيح بكل ما يقف في
طريقه. إن جوع الطبقة الدنيا وحرمانها يخرج من نطاق ذاته ويمتد
للعالم الخارجي لإزالة أسباب معاناته. وتتمثل محاولة إشباع الدافع
في العمل البشري الذي يهدف إلى إرضاء الحاجات وإشباعها. وهكذا يعرف
الإنسان خطته ويضعها بنفسه ويتوقع تحقيقها، وفي هذه اللحظة يتشكل
العنصر المفعم بالأماني في الأحاسيس المتوقعة التي تنشأ دائمًا من
الجوع. وتأتي أحلام اليقظة من الشعور بالافتقار لشيءٍ ما في العالم
الخارجي، فتكون أحلامًا بحياةٍ أفضل. ومن هذه الأحلام ما هو مليء
بالخرافات بحيث يمكن اعتباره هروبًا من الواقع، أما أحلام اليقظة
الحقيقية التي نقصدها فتمد البشر بالشجاعة والأمل، لا بالنظر
بعيدًا عن الواقع، ولكن بالغوص داخله.
وتدعو أحلام اليقظة الإنسان إلى ما يسميه بلوخ «المغامرة إلى الماوراء»،
١٢ والسير خطوة أو خطوات إلى الأمام. ويدل هذا على شيئَين
أساسيَّين: أولهما أنه لم يسقط شيء خارج الوعي، وبالتالي فليس هناك
شيءٌ مكبوت من الناحية السيكولوجية، وثانيهما أنه ليس فيها ارتداد
إلى ماضي الأسلاف والانطلاق من الإنسان البدائي.
١٣ بهذا تكون المغامرة إلى الماوراء هي البحث عن الجديد
دائمًا، ومن ثم فليس لها مكان في اللاوعي الذي هو مجرد تعرف على ما
كان موجودًا من قبلُ. والذي يدفع الذات البشرية لأن تمتد من ذاتها
إلى العالم الخارجي وتندفع إلى الأمام هو ما يسميه بلوخ باﻟ
«ليس-بعد» أي الوعي بما يفتقر إليه الإنسان ولم يوجد بعدُ في
العالم الخارجي. إنه استشراف الجديد الذي يلوح في الأفق. وهذا
الجديد ليس موجودًا في الماضي، بل هو الأمل الذي يحمله
المستقبل.
هنا يجب أن نتساءل: هل يعني هذا أن كل الأحلام لديها القدرة على
«المغامرة إلى الماوراء»، وبالتالي القدرة على التغيير؟ من المؤكد
أن تأتي الإجابة بالنفي. فلو نظرنا على سبيل المثال إلى الأحلام
التي أخضعها علم النفس للتحليل لوجدناها من نوعٍ مختلف تمامًا.
لذلك يضع بلوخ تفرقته الدقيقة بين نوعَين من الأحلام هما الأحلام
التي يراها الإنسان أثناء نومه في الليل، أي تلك التي لا يستحضرها
المرء بإرادته، والأحلام الأخرى التي يرسمها الخيال البشري في حال
يقظته، وتعي الذات حدودها، وفي هذين النوعَين من الأحلام يتم إشباع
الرغبات بصورةٍ مختلفة.
(١) الوعي في أحلام الليل
لا يكف الإنسان عن الحلم سواء في الليل أو النهار، فالنزوع
لتحسين قدرنا لا ينام حتى في نومنا، فكيف لا يكون فاعلًا في
يقظتنا؟ إن الليل هو أول ما يخطر ببالنا عند ذكر كلمة الحلم،
وكأن لهذه الكلمة أصولًا ليلية. وكلمة الحالم تفترض مسبقًا
الشخص النائم حيث ينعدم نشاط الحواس الخارجية. والنائم لا يحلم
ليستيقظ، فالحلم دليل على استغراق الحالم في نومه، الذي لا
ينهض منه قبل بداية الوعي بواسطة منبهٍ داخلي أو خارجي. وهذا
النوع من الأحلام الذي يتم في الليل يكون في الغالب إشباعًا
لرغبةٍ كامنة في اللاوعي. وربما يتضمن هذا النوع من الأحلام
بعض الصور المعبرة عن الرغبة في حياةٍ أفضل ولكنها وإن جاءت
بشكلٍ مشوش وغير متجانس، تمثل عنصرًا أساسيًّا في الوعي اليوتوبي.
١٤ ذلك أن الأحلام التي تتم في الليل تتغلب عليها
صورٌ خياليةٌ مختفية طويلًا في أعماق الأنا، بحيث إن الحلم
يكتنفه الغموض وعدم الوضوح، ويتقنع في شكل رمزٍ خفي، ولما كان
الشخص الحالم لا يفهم العنصر الرمزي الكائن فيه، لذلك كانت
مهمة التحليل النفسي هي تفسير رموز هذا النوع من الأحلام التي
تتنوع وتتباين في أشكالٍ مختلفة منها الأحلام بالسعادة،
والأحلام بإشباع الرغبات — وهي الأحلام الغالبة — فضلًا عن
أحلام القلق النفسي.
ويرجع فرويد المصدر الأساسي للقلق إلى لحظة الميلاد وانفصال
الطفل عن الأم حين يجد نفسه وحيدًا مهجورًا بلا حماية. وهذه
اللحظة في رأيه هي سبب القلق النفسي، وربما أمكن رد أصل القلق
وأحلامه إلى لحظة الميلاد. ولكن بلوخ يقدم تفسيرًا آخر للقلق
غاب عن أصحاب مدرسة التحليل النفسي، وهو تفسيرٌ يقوم في جوهره
على المعوقات الاجتماعية التي تحول دون إشباع دافع المحافظة
على النفس — الذي سبق الحديث عنه — لذلك يأخذ بلوخ على فرويد
تفسيره للقلق النفسي دون النظر إلى البيئة الاجتماعية والظروف
التي ليس لها علاقة بالشهوة الجنسية. وليس أدل على هذا من
اعتراف فرويد بهذا المعني عندما قال: «ليس الكبت هو الذي يسبب
القلق، وإنما القلق هو الذي يسبب الكبت.» ويؤكد بلوخ أن الجوع
والوضع الاقتصادي السيئ بالإضافة إلى القلق الوجودي، هي
الدوافع الإيجابية والموضوعية للقلق، وهذا القلق في رأيه لا
يكون إلا في مجتمعٍ برجوازي يقوم على أساس مبدأ المنافسة
الحرة، أي على أساس علاقات الصراع حتى داخل الطبقة الواحدة في
المجتمع. أوجد هذا الصراع بين الأفراد قلقًا متواصلًا لا يحتاج
لتفسيره إلى التذرع بالشهوة الجنسية أو بالرجوع إلى لحظة
الميلاد. إنه وضعٌ موجود في العالم الخارجي. وهناك شواهدُ
تاريخية تبرهن على صدق هذا التفسير، وكلنا يعرف ما سببته
الحربان العالميتان الأولى والثانية، والقلق الذي سببته
الفاشية والذي لا يحتاج تفسيره إلى الرجوع للحظة الميلاد
والصدمة الأولى للطفولة.
١٥
(٢) الوعي في أحلام اليقظة
إن أحلام اليقظة هي موضوع اهتمام بلوخ، وتكاد أن تكون
بالنسبة له بمثابة مقولةٍ معرفيةٍ مختلفة اختلافًا واضحًا عن
النوع الأول. إن أحلام اليقظة صورٌ فنيةٌ مختارة بحرية تنشأ عن
أمانيَّ غير متحققة. وهي لا تشبه أحلام الليل لأنها تتضمن
حافزًا محددًا ومتواصلًا نحو التحقيق الفعلي لما هو متخيَّل.
إنها تعيد تركيب الواقع بخيالٍ مبدعٍ خلاق لتجعله مقبولًا.
ولذلك يعارض بلوخ مدرسة التحليل النفسي التي تحيل كل الأحلام
إلى نوع من التنفيس عما هو مكبوت. وتتميز أحلام اليقظة بمجموعة
من الخصائص:
هناك إذن اختلافات بين نوعَي الحلم في شكل إشباع الرغبة
ومضمونها فمن ناحية الشكل يتسم حلم الليل بالنكوص، إنه في
العادة مشوش وغير متجانس. وعلى النقيض من ذلك تكمن الصورة
الخيالية لحلم اليقظة في المستقبل، ويتوسطه الممكن الموضوعي
— الذي سنتحدث عنه فيما بعدُ — أي الممكن الذي له أساس في
العالم الخارجي. أما عن مضمون حلم الليل فهو التخفي والاحتجاب،
على حين أن مضمون «فانتازيا النهار» أو حلم اليقظة مفتوح،
مبدع، وتوقعي، ويمتد المحتوى الكامن فيه من داخل الذات إلى
العالم الخارجي، متقدمًا بخطواتٍ واسعة نحو المستقبل.
إنه — بالمصطلح الهيجلي — «يتخارج» أو يأتي بنفسه خارج نفسه،
مسلحًا بإرادة تغيير الوضع الخارجي إلى ما هو أفضل، وهو في
النهاية حلمٌ عينيٌّ مرتبط بالواقع وله هدف يسعى إليه ويتجه
نحوه ليصنع التقدم.
(٣) انفعالات التوقع
والآن كيف تنتقل أحلام اليقظة من مجرد كونها أحلامًا تحلق في
سماء الخيال، إلى أرض الواقع؟ كيف تتجه من الذات الحالمة إلى
الموضوع أو العالم الخارجي، ومن الخيال إلى التحقق في
المستقبل؟ الإجابة على ذلك هي التوقع، فكل ما يتوسط هذه
الثنائيات هو التوقع، كما يسميه بلوخ، محاولًا أن يتعرف على
الأشكال التاريخية التي جسدت الوعي اليوتوبي الذي يميزه
التوقع، ومبينًا أن التوقع خاصيةٌ متميزة للوعي بالنقص أو
العوز والافتقار. وإمكان التغلب على هذا النقص يعبر عن نفسه
على جميع مستويات الوجود الإنساني باعتباره حافزًا ثم سعيًا ثم
شوقًا، إذا ارتبط بهدفٍ غير محدد سمي بحثًا، وإذا ارتبط بهدفٍ
محدد سمي دافعًا. وإذا بقي هذا الدافع بغير إشباع وظل مع ذلك
واعيًا بهدفه نشأت الرغبة ومن بعدها الإرادة. لكن الرغبة ليست
يوتوبيا، واليوتوبيا ليست رغبةً فوضوية، إنها رغبة تشكل الحلم،
ومضمونها النزوع للتحقق والامتلاء والإشباع، وهي رغبةٌ منظمة
وموجهة في بناءاتٍ مستقبليةٍ خيالية.
ويضع بلوخ تفرقة هامة بين حالة الوجود
State of being كشعورٍ عضويٍّ فيزيقي (كأن يشعر
الفرد بأنه مريض أو في صحةٍ طيبة) وبين المزاج
mood كحالةٍ نفسيةٍ مزاجية.
٢١ وتختلف حالة الوجود (أو الكينونة) عن المزاج الذي
هو عبارة عن مشاعرَ انفعالية تجربها الأنا، أو تنتاب الفرد
عندما تكون روحه المعنوية غير مستقرة. فهذه الحالة الأخيرة —
أي حالة المزاج — هي الحافز أو المثير لمجموعة خاصة من
انفعالات تجعل حلم اليقظة بمثابة حالةٍ مزاجية توسطية أو وسطٍ
مزاجي
mood-medium ويطلق بلوخ على هذا النموذج الخاص من
الانفعالات اسم الانفعالات المتوقعة أو انفعالات التوقع
Expectant emotions.
وأهم ما يميزها أنها تتجه إلى الأمام وتشير للمستقبل الوشيك
الحدوث. وهي تنقسم إلى انفعالاتٍ سلبية وأخرى إيجابية.
(أ) انفعالات التوقع السلبية
تتكون هذه المجموعة من الانفعالات السلبية من انفعالاتٍ
ثلاثة هي القلق والخوف واليأس، ومن المعروف أن هذه
الانفعالات الثلاثة موجودة عند كير كيجورد (١٨١٣–١٨٥٥م)
الذي أقام تفرقته المشهورة بين المفاهيم الثلاثة السابقة
عندما حدد الوجود بأنه خاضع للقلق، بل هو الصورة التي تميز
الوعي، وأن اليأس هو الصورة التي ينتهي إليها هذا الوعي،
لأن الوجود معناه أن نعاني اليأس والقلق حتمًا، وكل هذا
وذاك مرتبط بالواقع وبإمكان الخطأ، فالفرد مضطر إلى أن
يختار، ولكي يختار لا بد له أن يعاني اليأس ومن المحال أن
يفلت منه.
٢٢ وبذلك حدد كير كيجورد القلق تحديدًا
ميتافيزيقيًّا يتعلق بالاختيار والحرية.
وبطبيعة الحال فإن هذا القلق الوجودي ليس هو المقصود في
هذا النوع من الانفعالات السلبية التي يقصدها بلوخ لأنه
ليس قلقًا منتجًا، بمعنى أنه لن يكشف للإنسان غير ذاته،
كما أنه قلق يرتبط بالخطيئة والحرية وينطوي على الخوف:
«كثيرًا ما درست طبيعة الخطيئة الأولى، لكن المقولة
الأساسية منها قد أغفلت، وهذه المقولة هي: القلق، فهو ما
يحددها بالفعل، ذلك لأن القلق هو رغبة فيما يخشاه المرء،
إنه نفور من تعاطف، القلق هو القوة الغريبة التي تمسك
بزمام الفرد ولا يستطيع منها فكاكًا، ولا هو يريد ذلك، لأن
الفرد خائف، لكن ما يخشاه المرء ينجذب نحوه، والقلق يجعل
الفرد بلا حول ولا قوة.»
٢٣
وعلى الرغم من تحليل كير كيجورد لهذه المفاهيم أو
الانفعالات الثلاثة، إلا أنه لم يضعها في إطارٍ أوسع
وأشمل، وهو الإطار الأنطولوجي، ليصوغ منها نظرية عن تركيب
الوجود كما هو الحال عند هيدجر (١٨٨٩–١٩٧٦م) فهذا الأخير
جعل القلق حالة من حالات «التوجُّد» التي ترجع الإنسان إلى
الشعور بوجوده الوحيد الملقي به هناك، كما تدفعه على
«التصميم» على تحقيق وجوده الذاتي الأصيل. ويطرح هيدجر في
كتابه «الوجود والزمان» هذه الأسئلة: «ممَّ نخاف؟ وما معنى
أن نخاف؟ ولماذا تخاف؟» والإجابة على هذه الأسئلة تكشف عن
تركيب الشعور بالموقف الأصلي،
٢٤ وهذا الموقف الأصلي عند هيدجر هو
«الوجود-هناك» والشيء المخيف كائن دائمًا داخل هذا العالم.
أما القلق فهو جزء لا يتجزأ من تركيب «الآنية» (أو
الدازاين
Da-Sein
التي يصعب ترجمتها) يقول في الوجود والزمان: «إن الظاهرة
التي تكشف عن تركيب الآنية — إذا أدركت في كليتها — هي
القلق، والواقع أن القلق يعبر عن أعمق شعور الآنية، الشعور
الذي هو مبدأ المشاعر الأخرى جميعًا ومنبعها (الإرادة،
التمني، الرغبة، الميل، الدافع) ولكنه يبقى — في العادة —
محجبًا أو كامنًا تحت مظاهر الهم.»
٢٥
وإذا كان الخوف يتعلق دائمًا بموضوعٍ محدد، هو هذا الشيء
أو ذاك، فإن القلق — على
العكس من ذلك — لا يبدو راجعًا إلى موضوعٍ محدد. إنه يفترض
وجود خطر يتهددنا، بيد أن هذا الخطر لا يوجد في أي مكان،
وعبارة عدم الوجود في أي مكان ليس معناها «لا شيء» وإنما
معناها استبعاد كل تعين في هذا الشيء أو ذلك فحسب، والواقع
أن العالم بوصفه كذلك على نحو مباشر هو الشيء الذي تقلق
أمامه الآنية. لكن ليس معنى هذا أننا ندرك في القلق دنيوية
العالم إدراكًا صريحًا باعتبار أنها الواقع الذي يهددنا،
وإنما القلق يعود بالآنية إلى «وجودها في العالم»، وهو
يعزلها أمام نفسها ويجعلها تشعر بهذه العزلة شعورًا قويًّا
إلى أقصى حد.
٢٦
لقد أرجع فرويد — كما سبق القول — انفعال القلق إلى لحظة
الميلاد، وعارض بلوخ هذه الفكرة الفرويدية معارضته لفكرة
أن القلق ينشأ من تلقاء نفسه. وقد فسر هذا الانفعال السلبي
بإرجاعه للظروف الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بالفرد،
والمسئولة قبل كل شيء عما يعانيه الإنسان؛ ولذلك كان من
الطبيعي أيضًا أن يعارض بلوخ الفيلسوف الوجودي هيدجر ويأخذ
عليه أنه جرد انفعال القلق من التوقع، بل ويتهمه بالجهل
بعلم الاجتماع مما دفعه إلى جعل العدم جزءًا لا يتجزأ من
وجود الإنسان «القلق» الذي يفترضه دائمًا ملقًى به في
العالم بشكل يتعذر تغييره.
٢٧
بهذا المعنى نظر بلوخ إلى ما أطلق عليه اسم انفعالات
التوقع السلبية الثلاثة (القلق – الخوف – اليأس) نظرةً
أكثر شمولًا من التحليل النفسي ومن فلسفات الوجود حين وضع
هذه الانفعالات في إطارٍ أنثروبولوجي ويوتوبي. ففي رأيه أن
القلق — الذي نشأ من الظروف الخارجية التي سبق الحديث عنها
— هو انفعالٌ توقعي وإن يكن لا يزال سلبيًّا غير واضح
المعالم، أي أنه توقع شيءٍ غامض وغير محدد في العالم
الخارجي، ولا يشير بعدُ إلى شيء بعينه. إنه على العكس من
الانفعال التوقعي السلبي الثاني وهو الخوف الذي ينتاب
الفرد ويتملكه من شيءٍ محدد في الخارج، ولكن المفاجأة التي
تحدث بفعل هذا الانفعال يجب ألا تجعلنا نغفل عن إدراك أنه
من نوع الانفعالات المتوقعة، إذ بدون التوقع لا يستطيع أي
تهديدٍ خارجي أن يغرس الفزع في نفوسنا. ولا شيء يجعلنا
نفقد الحس في لحظة الخوف إلا توقع الخطر. ولا يمكن أن تظهر
المفاجأة التي تصاحب الفزع بدون الاستعداد لها بالتوقع،
وأكثر حالات الخوف تطرفًا وأصعبها هي التي تظهر انفعالًا
متوقعًا سلبيًّا ومطلقًا هو اليأس. فاليأس — وليس القلق —
هو الذي يشير بحق إلى اللاشيئية أو العدم
Nothingness واليأس هو ذروة
سلسلة الانفعالات التوقعية السلبية ونهايتها.
٢٨
نخرج من هذه المقارنة بأن مفهوم القلق عند بلوخ يختلف
اختلافًا تامًّا عنه عند كير كيجورد وهيدجر — على الرغم من
فضلهما الذي لا ينكر في تأسيس مفهوم القلق من الناحية
الميتافيزيقية — ومع ذلك فإنه من الواضح أنه عند كير
كيجورد مرتبط بقلق الذات الفردية الوحيدة بسبب إخفاقها في
الوصول إلى المطلق، وهو عند هيدجر مرتبط بتصميم الآنية —
أي الموجود الملقى به في العالم — على تحقيق إمكانات
وجودها الذاتي الأصيل في مواجهة حتمية الموت ومأساويته.
أما عند بلوخ فهو وإن استفاد — بغير شك — من هذه الأفكار
الأساسية فإن منطلقه وهدفه مختلفان أتم الاختلاف. إن القلق
عنده ليس قلقًا باطنيًّا ولكنه كفاحٌ دءوب في سبيل تحقيق
الأمل الكامن في الإنسان وفي الواقع المادي، كما أنه ليس
قلق الذات الفردية المتوحدة أو الملقى بها في العالم كما
هي عند كير كيجورد أو هيدجر، وإنما هو قلق اﻟ «نحن»
المتجهة إلى الأمام والتي تناضل في سبيل «مملكة
الحرية».
(ب) انفعالات التوقع الإيجابية
إن انفعالات التوقع الإيجابية هي الهدف الذي يريد أن يصل
إليه بلوخ من بحثه في الانفعالات، ويسميها بلغته القصد
اليوتوبي. فهي التي تتوسط بين حلم اليقظة وإمكانية تحقيق
هذا الحلم في الواقع، أو التطلع إلى تحقيقه في المستقبل،
وأول انفعالات التوقع الإيجابية هو الأمل الذي يقوم بدوره
في القضاء على كل التوقعات السلبية. إن الأمل يحجب القلق
ويتخلص منه، وهو الذي يحطم الخوف ولا يسمح للإخفاق أو
اليأس أن تكون له الكلمة الأخيرة. للأمل إذن مفهومٌ قصدي،
فهو انفعال يناضل ويلقي بنفسه في العدم أو اليأس لينتزعه
منهما أو من بين براثنهما، ويتجه ناحية الضوء والحياة،
مؤكدًا أنه ما زال في الأفق بصيص إنقاذ وخلاص. ثم يأتي
الانفعال التوقعي الإيجابي الثاني وهو الثقة
Confidence في هذا الأمل،
الثقة التي تعارض اليأس وتحوله إلى انفعالٍ إيجابي، وبعد
أن كان اليأس يتحسس طريقه في اللاشيئية أو العدم، تأتي
الثقة لتتجه به إلى الكل
ALL اليوتوبي، وهكذا تمتد كل
المقاصد الموجهة للمستقبل
Future Orientated
Intentions وهي
الانفعالات والأفكار المتوقعة داخل الوعي باﻟ «ليس-بعد»،
أي داخل طبقة الوعي التي تتألف هي نفسها من انفعالاتٍ
توقعية غير متحققة ولا مشبعة كما تقول لغة علم النفس.
ومعنى هذا أن أحلام اليقظة التي تنطوي على إمكانيات
مستقبلٍ حقيقي تتقدم داخل الوعي باﻟ «ليس-بعد» أي داخل ما
لم يصر ولم يتحقق (لم يشبع) بعدُ، داخل ميدان اليوتوبيا.
٢٩
وقد نجح بلوخ في الربط ربطًا خصبًا بين الماركسية
والتحليل النفسي، على الرغم من نقده له وإلحاحه على ضرورة
أن يتجه — باعتباره نظريةً في اللاوعي — إلى البحث في
الوعي المنسي عن النزعات الدافعة إلى الأمام والجديد، كما
نجح في أن يستفيد من الماركسية التي تتميز عن غيرها من
الفلسفات بأنها لا تلتفت إلى الماضي، بل تندفع إلى
المستقبل وتؤكد ذلك نظريًّا وعمليًّا. ذلك أن مادية مارك
الجدلية لم تردَّ مادة العالم لا إلى الآلة المنضبطة ولا
إلى الذرة أو القرد، بل ردتها إلى العلاقة الاقتصادية
الاجتماعية بين البشر، وبينهم وبين الطبيعة، وأكدت
الارتباط والتشابك بين الوعي والوجود الاجتماعي، وأصرت على
أن الإنسان هو جذر الأشياء جميعًا.
وفي حقيقة الأمر لم يكن بلوخ أول من ربط بين الماركسية
والتحليل النفسي، فقد سبقه في هذا المجال كثيرون منهم عالم
النفس والفيلسوف إريك فروم (١٩٠٠–١٩٨٠م) الذي جمع بين
التحليل النفسي الفرويدي والرؤية الماركسية؛ مما جعله يأخذ
على فرويد ومدرسته تغافلهما عن الظروف الاجتماعية وما لها
من آثارٍ كبيرة على نمو الإنسان وشخصيته، فهو قد انطلق
أيضًا من نقده لنظرية الدوافع التي تضع الغرائز وخاصة
الغريزة الجنسية في مقدمة الحياة النفسية، واتخذ من الحاجة
مدخلًا لفهم النفس الإنسانية، وأخذ يحلل حاجات الإنسان
النابعة من ظروف وجوده. فإذا كان بلوخ يرى أن أول ما يواجه
الإنسان هو الحاجة والافتقار، فإن فروم حددها بخمس حاجات
هي الانتماء، والتعالي أو التجاوز، والارتباط، والهوية، ثم
الحاجة إلى إطارٍ توجيهي.
٣٠ وكلاهما — أي بلوخ وفروم — يرى ضرورة بناء
مجتمعٍ جديد يخرج الإنسان من عالم لم تكتمل فيه إنسانيته
بعدُ. والخلاصة أن نظرة فروم لهذا العالم الأفضل ظلت
محصورة في نطاق التحليل النفسي، بينما تجاوز بلوخ هذا
وانطلق إلى آفاقٍ أرحب.
ثانيًا: طبقات الوعي
يتصور بلوخ أن هناك عتبتَين للشعور أو حدَّين قصيَّين للوعي،
أحدهما خاص بالأشياء التي تم الوعي بها، ثم تضاءل هذا الوعي وسقط
في النسيان. أما الحد أو العتبة الأخرى للوعي فتقع في الجهة
المقابلة، وفيها تشرق على الوعي أمور لم تتضح بشكلٍ كامل بعدُ. وفي
الحالتين يوجد نوع من الشعور الذي يمكن — مع تركيز الانتباه وبذل
الجهد — أن يتضح شيئًا فشيئًا، سواء بالنسبة لتذكُّر ما سقط في
الأعماق، أو استشراف ما لم يحدث بعدُ.
ويحمل ما قبل الوعي معنيَين، أولهما هو اللاوعي بالمعنى
الفرويدي، أي المكبوت أو المنسي، كما يعبر عن ذلك الحلم الذي يراه
النائم أثناء الليل وما فيه من نكوص إلى الماضي وتوقف الوعي
No-Longer-Conscious.
وثانيهما هو الوعي باﻟ «ليس-بعد» الذي يعنيه بلوخ ويختلف اختلافًا
كليًّا عن اللاوعي الفرويدي. إنه الوعي بشيءٍ ما جديد لم يأتِ
بعدُ، وحلم اليقظة يشير إلى هذا التحديد الحاسم للوعي باﻟ
«ليس-بعد» أو بمعنًى آخر بالوعي بالمستقبل. فهو المجال الفعلي
لتفتح الجديد. والوعي باﻟ «ليس-بعد» هو نموذج للوعي بشيءٍ ما يرجح
حدوثه بناء على شروطٍ ذاتية وموضوعيةٍ محددة.
٣١
إن ما يقصد بما قبل الوعي أو بما لم يتم الوعي به شيءٌ مختلف
تمام الاختلاف، فهو يدور على مستوًى فلسفي (معرفي وأنطولوجي) يتصل
أوثق اتصال بفلسفة بلوخ وأفكاره المركزية عن اليوتوبيا والأمل
والمستقبل وتوقع ما لم يأتِ بعدُ وينبغي أن يأتي. بل إنه ليتعارض
تعارضًا تامًّا مع نفس المفهوم في التحليل النفسي لفرويد وفي علم
النفس التحليلي ليونج اللذين يهتمان قبل كل شيء بالماضي المترسِّب
في باطن الفرد أو باطن الجماعة. أضف إلى هذا أن الكلام عما يسبق
الوعي لا ينفصل عن الكلام عما «لم يوجد بعدُ»، وكلاهما متكامل
ومتحد مع فلسفة بلوخ الجدلية التي لا تتوقف عن استشراف آفاق
المستقبل والأمل في غدٍ أفضل.
وعلى الرغم من اختلاف مفهوم ما قبل الوعي عند بلوخ عنه عند علماء
التحليل النفسي، إلا أنه يوجد من هؤلاء العلماء — مثل إريك فروم —
من يقول بأن اللاوعي أو اللاشعور لديه معرفة يستطيع عن طريقها أن
يدرك حقائق الأمور، فكما أن لنا حواس هُيئت لنرى بها، ونسمع ونشمَّ
ونلمس، عندما نحتك بالواقع، كذلك هُيئ لنا عقل لندرك به الواقع، أي
لنبصر الحقيقة، خصوصًا الحقيقة الكامنة في النفوس، بصيرة تنفذ في
حقيقة أنفسنا وغيرنا وفي العالم من حولنا. وهذه الفكرة لها
دلالاتها في الأحلام التي تتميز ببصيرةٍ نافذة، وفي أنواعٍ عديدة
من السلوك والاستجابات.
٣٢
والواقع أن بلوخ لم يكتشف فكرة «اللاوعي» وعلاقته بالوعي ولم
يدَّعِ ذلك، لأن هذا الاكتشاف يرجع إلى سنواتٍ طويلةٍ ماضية، إلى
ما يقرب من قرنَين من الزمان. فمن المعروف في تاريخ الفلسفة أن
ليبنتز (١٦٤٦–١٧١٦م) قد سبق إلى اكتشاف منطقة اللاوعي التي تشبه
التيار التحتي الذي يسيل تحت أمواج الحالات والأحداث النفسية
الواعية. ويوجد هذا الاكتشاف في كتابه «رسائل جديدة عن العقل
الإنساني» الذي نشر لأول مرة عام ١٧٦٥م وكان في الأصل ردًّا على
كتاب جون لوك (١٦٣٢–١٧٠٤م) عن العقل الإنساني عام ١٦٩٠م. ومن
المعروف أيضًا أن ليبنتز ينتقد فيه رأي لوك بأن المعرفة كلها
مستمدة من التجربة، وفق عبارته المشهورة «لا شيء في العقل إلا وقد
سبق وجوده في الحس.» ولذلك يتساءل ليبنتز إن كانت الحقائق كلها
تعتمد على التجربة أم أن ثمة حقائق تستند إلى مصدرٍ آخر: «صحيح أن
الحواس ضرورية لكل معارفنا الحقيقية، ولكنها لا تكفي لكي تزودنا
بجميع هذه المعارف.»
٣٣
وينطلق ليبنتز — في رده على لوك — من هذه الفكرة البسيطة؛ فهناك
أشياءُ صغيرة غير ملحوظة تند عن إدراكنا، ولكنها تؤثر علينا. وهذه
الفكرة تقوم بدورها على فكرةٍ أخرى يفترضها مذهب ليبنتز الواحدي
(أو الكلي) الذي يترابط فيه كل شيء مع كل شيء. فالعالم لا يحتوي
على أي ثغرات. وإذا تصورنا في الظاهر أنها موجودة، فإن تلك الأشياء
الضئيلة غير الملحوظة تشغلها. ومن المعروف أن فكرة ليبنتز هذه تدين
في وجودها لاكتشاف حساب التفاضل (الذي توصل إليه مع نيوتن في وقتٍ
واحد تقريبًا مع فارقٍ زمنيٍّ ضئيل) بجانب اكتشاف الكائنات الدقيقة
تحت المجهر في أيامه، مما عزز مذهبه المعروف عن المونادات التي
تتألف منها الجواهر أو الموجودات جميعًا. كذلك يوجد في خلفيتها —
أي خلفية تلك الفكرة — الرأي السائد في الفيزياء بوجود دفعات
للحركة متناهية في الصغر، ومن ثم اعتقد فيلسوف الذرات الروحية
بوجود دفعاتٍ متناهية في الصغر في الحياة النفسية والعقلية هي التي
تستدعي مختلف الأفكار والإحساسات. ويقدم ليبنتز مثلًا على ذلك
بهدير البحر الذي يصل إلى أسماعنا، فلا بد لسماع هذا الهدير من
سماع أصوات الأمواج التي يتألف من مجموعها هذا الهدير. ولهذا يتحتم
أن تؤثر علينا حركة كل موجة على حدة تأثيرًا ما، كما يتحتم علينا
أن ندرك على نحو من الأنحاء كل صوت على حدة مهما يكن شديد الخفوت،
وإلا لما تأثر الواحد منا أي تأثر بمائة ألف موجة، لأن مائة ألف لا
شيء لا يمكن أن تصنع شيئًا.
٣٤
هنالك إذن — حسب رأي ليبنتز — تأثيرات على وعينا تعتبر في ذاتها
غير قابلة للإدراك. وهو يطلق على هذه التأثيرات — المتناهية الدقة
والضعف بحيث لا يمكن الإحساس بها — اسم الإدراكات غير الملحوظة،
ومجمل القول أن لهذه الإدراكات غير الملحوظة في العلوم العقلية أو
الروحية نفس الأهمية القصوى التي للأجسام غير الملحوظة في علم
الفيزياء. ومن الخطأ كما يقول ليبنتز نفسه في كلتا الحالتين أن
نسقطها من حسابنا، أو أن نتجاهلها بحجة أنها تقع خارج مجال حواسنا.
٣٥ ويصدق على الأفكار المنسية ما يصدق على الإدراكات غير
الملحوظة. فبفضل هذه الإدراكات تترسب في باطن الإنسان انطباعات
وآثار من أحواله وتجاربه السابقة. وهذه الآثار هي التي تقوم بوظيفة
الربط بين الأحوال السابقة وبين الحالة الراهنة، وهذه الآثار تظل
كذلك كامنة في باطن الإنسان «حتى ولو لم يلحظ هو نفسه وجودها، أي
حين لا يتذكرها بصورة واضحة.»
٣٦ والأهم مما سبق أن هذا الجانب من اللاوعي في الحياة
النفسية والعقلية لا يتعلق بالماضي وحده، وإنما الماضي والحاضر
وحدةٌ واحدة، وهذا هو الذي عبَّر عنه بوجهٍ خاص في كتابه عن
«المونادولوجيا» كما عبر عنه في كتابه «رسائل جديدة عن العقل
الإنساني» في قوله: «… بل نستطيع القول بأن الحاضر، بفضل هذه
الإدراكات الضئيلة، يحمل المستقبل في أحشائه كما يمتلئ بالماضي،
وأن كل شيء مرتبط بكل شيء.»
٣٧
ويمكن القول إن علاقة «اللاوعي» — أو بالأحرى ما لم يتم الوعي به
— بالمستقبل واستشرافه أقوى من علاقته بالماضي وإعادة تذكره،
ولهذا يصح السؤال عن السبب الذي جعل الباحثين بعد ليبنتز يصرفون
اهتمامهم إلى الماضي الذي لم يعد الإنسان يدركه أو يعيه بدلًا من
الانتباه إلى هذا الجانب المتعلق بالمستقبل. وكانت النتيجة ضياع
فكرة الكلية التي تضم الماضي والحاضر والمستقبل، وتركيز الاهتمام
على «ما لم يعد هناك وعي به»، أي بالرواسب والآثار الماضية
«المكبوتة» في اللاوعي، أكثر بكثير من الانتباه إلى أهمية «ما لم
يتم الوعي به بعدُ» أو بالوعي المسبق، أي بالرؤى والحدوس
المستقبلية التي توجه الوعي إلى الجديد اليوتوبي الذي يتخلق في
أحشاء الواقع الموضوعي، وقد حدث هذا على الرغم من تأكيد ليبنتز
المستمر في نصوصه العديدة على أن الحاضر ينطوي في ذاته على
المستقبل، وأن الله الذي يرى كل شيء يرى كذلك ما سوف يكون فيما هو
كائن، وأنه يمكن من الناحية المنطقية الخالصة أن نستنبط من المعرفة
التامة بموضوعٍ واحد المعرفة الشاملة بكل شيء، هذا فضلًا عن مبدأ
«النزوع» الكامن في كل المونادات أو الجواهر البسيطة، والذي يدفعها
على الدوام إلى المزيد من الكمال في الإدراك، أي يدفعها إلى
التغير. ولا شك أن هذه العناصر كلها قد أثرت تأثيرًا كبيرًا على
فلسفة بلوخ، سواء في ذلك فلسفته في الوعي أو فلسفته في المادة.
وإذا كان بلوخ لم يكتشف فكرة اللاوعي وعلاقته بالوعي، فيبقى له
الفضل في التوسع في مفهومها وإلقاء الضوء على العلاقة بينهما،
وتحليل دور اللاوعي السابق للوعي في تحسس المستقبل القادم والإعداد
له والتوجه نحوه.
إن ما يسبق الوعي يتعلق على الدوام بما لم يوجد بعدُ، ومعنى هذا
أنه يتعلق دائمًا بالواقع. والأمران مرتبطان ارتباطًا لا تنفصم
عراه، فالكلام عن الوعي مرتبط بالوجود والعكس أيضًا صحيح، وما قبل
الوعي هو الوجه النفسي لما «لم يوجد بعدُ» وينتظر التحقيق عن طريق
الوعي والإرادة البشرية. ولذلك لا يمكن الانتباه إلى ما قبل الوعي
ولا يتيسر الوعي به إلا إذا نضجت الظروف المادية التي تتيح ذلك.
وليست كل الحدوس والأفكار ولا كل الأعمال ممكنة في كل الأوقات،
وكثيرًا ما تتم الأعمال العظيمة التي تسبق عمرها بغير قصد واعٍ من
أصحابها، وربما تم إنجازها ثم تعجبوا بعد ذلك كيف أمكنهم إتمامها
ولم يصدقوا أنها كانت أصلًا ممكنة التحقيق. وهذا يوضح أن الإنسان
يلقي على نفسه دائمًا تبعات ومهام «يمكنه» أن يحققها في المستقبل،
كما يمكنه أيضًا أن يهملها أو يتهرب منها إذا خانته الإرادة أو
تسرع في أدائها قبل أن تتهيأ الظروف التي تساعد على نضجها.
إن ما قبل الوعي هو الوعي المسبق بوجود في طريقه إلى التحقق. وهو
يتمثل في خواطر ورؤى وحدوس تلمع كالبرق الخاطف في أحلام اليقظة
التي تحلق بصاحبها إلى آفاق المستقبل، وتكمن الصعوبة الحقيقية في
اجتياز مراحل الطريق الذي يؤدي بالإنسان إلى الوعي بما لم يتم
الوعي به وتحقيق الجديد الذي لم يوجد بعدُ، وتحقيق هذا الجديد
يستند إلى «ممكن واقعي» ألمَّ به إلمامةً خاطفة في صورة الرؤى
والحدوس التي سبق ذكرها؛ ولذلك يمكن القول إن ما لم يتم الوعي به
بعد هو الوعي المسبق بالجديد القادم، أو هو «المكان النفسي» — إذا
صح هذا التعبير — الذي تتم فيه ولادة الجديد. أما أنه لا يزال في
مرحلة الوعي المسبق، فلأنه هو نفسه ينطوي على مضمونٍ شعوري لم يظهر
له تمام الظهور، ولأن الجديد الذي يكمن في هذا المضمون لا يزال
يشبه بزوغ الفجر الذي ستنشق عنه شمس الجديد. لذلك يكون حلم اليقظة
دائمًا في حالة إحساسٍ مسبق وغير واعٍ تمام الوعي بالجديد الذي بدأ
يتخلق في الوعي وفي الواقع الموضوعي على السواء؛ مما يدل على اتجاه
الحلم إلى المستقبل. ويفترض الوعي المسبق بالجديد، أو ما يسميه
بلوخ بوعي اﻟ «ليس-بعد» تجربة الواقع والتأثر به، وهذا التأثر يشتد
عادةً في مرحلة الصبا والشباب من حياة الإنسان التي يكثر فيها
الاسترسال في أحلام اليقظة والتحليق على أجنحة الشوق
والتمني.
ويشتد الوعي باﻟ «ليس-بعد» في عصورٍ معينة يمكن أن نسميها
بالعصور الشابة التي تتطلع للتغيير والتجديد. وعصر النهضة مثالٌ
واضح على هذا التغيير الشامل في جانبه الأيديولوجي والعلمي
والثقافي على وجه الخصوص؛ إذ
صاحبه تحول المجتمع الإقطاعي إلى مجتمعٍ برجوازيٍّ حديث، أي رحيل
مجتمع وتوقع آخرَ جديد. كما اشتد الوعي باﻟ «ليس-بعد» في حركة
العصف والدفع
٣٨ الأدبية في ألمانيا في أواخر القرن الثامن عشر، وهي
حركة عبرت عن انطلاقةٍ متفجرة للعبقرية الفردية وعصر الأماني
المشرقة. «لم يعد اللاوعي متناهي الصغر ولا ضئيلًا مثل اللحميات
الصغيرة التي أشار إليها ليبنتز.»
٣٩ بل ارتفع صوته وعبر عن نفسه بحماس الشباب، ففترة
الشباب في السنوات الخضراء المليئة بالقوة والحيوية المتطلعة إلى
الحياة والحرية، وهي سنوات التغيير والحلم المتطلع إلى الأمام.
والتغيير الذي حدث في هذه الفترة ليس شعورًا فسيولوجيًّا فحسب،
ولكنه فترة جيشان مفعمة بالانفعال، يشعر فيها الشاب أنه مدعوٌّ
لشيءٍ ما يحدث داخله وكأن سحابةً راعدة تبدو حبيسة داخله وتتوق
للخروج من سجن الاطراد والسأم في العالم الخارجي الخانق. ويرى بلوخ
في جوته الشاب أعظم مثال على هذا، خاصة في مسرحية «بروميثيوس»
والنسخة الأولى من فاوست المعروفة باسم «فاوست الأولى» ورواية
«سنوات الطلب لفهلم ميستر»
٤٠ وها هو مثالٌ حي من مونولوج فاوست المشهور، الفصل
الأول، المشهد الأول الذي يتطلع فيه لتجديد شبابه ومعرفة كل ما فوق
السماء وتحت الأرض، مخاطبًا روح الأرض:
أنت، أي روح الأرض، أنت أقرب إليَّ،
وها أنا ذا أشعر كأن قواي قد نشأت،
وصرت أتوقد كما لو كنت تجرعت من خمرٍ جديدة،
وأستشعر الشجاعة على خوض غمار العالم،
وعلى تحمل متاعب الأرض وسعادة الأرض،
وعلى مغالبة العواطف، وعلى علم الفزع من تهديد تحطم السفن.
٤١
ومراحل التحول التاريخي السياسي والحضاري تتسم
بالفوران والغليان اللذين يميزان مرحلة الشباب، ويحلق في سمائها
الخيال والأمل وانتظار الجديد. هذه المراحل تمثل البعد التاريخي
الذي يظهر فيه الوعي المسبق أو الوعي باﻟ «ليس-بعد»، ويضيء ظلام
الآن بالمشروعات والأحلام في مستقبلٍ أفضل. وليست هذه المشروعات
والأحلام مجرد خيالاتٍ مقطوعة الصلة بالواقع، لأنها تستند إلى
النزعات والاتجاهات التي بدأت تظهر وتتشكل بعد أن كانت كامنة في
ثنايا الواقع نفسه ولم تساعد الظروف والعلاقات الاجتماعية
والتاريخية السائدة على نضوجها.
وينعكس الوعي المسبق بالجديد في الإنتاج العقلي والإبداع الفني
والأدبي الذي يتميز بالقدرة على استشعاره (أي الجديد) وتشكيله
وتوضيحه، بل هو دليل وبرهان عليه. ويمر الإبداع في هذه الحالة
بثلاث مراحل تتسع فيها حدود الوعي وتتضح هوامشه المظلمة. وأولى هذه
المراحل هي مرحلة الحضانة أو
الإعداد
Incubation، والثانية هي مرحلة الإلهام أو الحدس
Inspiration،
والثالثة هي مرحلة الإظهار
والشرح
Explication.
٤٢ وتكون المرحلة الأولى أشبه بحالةٍ ضبابية يغلفها
الغموض، ولا يحس الوعي فيها إلا بنوع من الاحتياج أو الافتقار الذي
وصفه من قبلُ «باللا»، مما يدفعه إلى تحسس الهدف الذي يبدو على
البعد وكأنه يتحرك في الضباب، وتتميز هذه المرحلة بأنها تقصد قصدًا
قويًّا للخروج من حالة الحضانة أو الإعداد إلى مرحلة الظهور. ومع
أنها تتسم بالتناقض إلا أنها تتسم كذلك بالنزوع القوي إلى الوضوح
والتحرر من هذا التناقض. ولأن التوقع فيها حاضر دائمًا، فإن نوع
الخطاب المناسب هو صيغ التعبير عن الاحتمال والترجيح والظن. وربما
تطول هذه المرحلة أو تقصر، ولكن مرحلةً أخرى تأتي بعدها بصورةٍ
مفاجئة، وتحمل معها النور الكاشف كالبرق الخاطف أو الإشراق المفاجئ
للنور، وهي مرحلة الحدس أو الإلهام التي يظهر فيها الحل فجأة وبغير
توسط. وتسميتها بالإلهام أو الحدس إشارة إلى هذه المفاجأة، وتسودها
حالة من الإحساس بالتحرر من فترة حضانة أو إعداد طويلة، كما
يصاحبها شعور ساحر بالنشاط والفعالية.
٤٣
والإلهام هنا لا يفسَّر بالتفسيرات البدائية السحرية أو
الرومانسية أو المتعالية، لأن المنتج المبدع ليس من المشتغلين
بعلوم السحر كما كان الحال في العصور الوسطى، ولا هو ناطق بلسان
القوى الغيبية العليا كما كان الحال في نظرية الفن منذ أفلاطون حتى
الرومانسيين، فهذا التفسير الأسطوري المتعالي للإلهام هو تفسيرٌ
غيبيٌّ عاجز وعقيم ولا يقربنا من جوهر العملية الإبداعية، أضف إلى
هذا أن النكوص إلى الماضي لا يحتل مكانًا في العملية الإبداعية.
فالواقع أن الإلهام تجربةٌ مشرقة وقابلة لأن تدرك في ذروة الوعي،
كما تتجلى عند ديكارت عندما اكتشف مبدأ الكوجيتو الذي يقول عنه:
«لقد هبط عليَّ نور اكتشاف عجيب في ١٠ نوفمبر ١٦١٩م.»
٤٤ ولكن الإلهام لا يأتي من الوعي وحده، وإلا كان ذلك
شيئًا غريبًا على فلسفة بلوخ، إنما يرجع دائمًا إلى نوع من
الالتقاء بين الذات والموضوع، أو من الحوار بين الوعي في حالته
السابقة وبين الواقع. فالوعي ينتبه لألوان النزوع الموضوعي الكامنة
في الواقع أو يحدس بها على أقل تقدير، ولا بد من وجود الشروط التي
تهيئ الظروف الملائمة لهبوط الإلهام الكاشف، وهي شروطٌ تاريخية
(اجتماعية واقتصادية) ذات طابعٍ تقدمي. فلولا بدايات الوعي الثوري
عند الطبقة العاملة في القرن التاسع عشر لما أمكن التعرف على الجدل
المادي، ولبقي مجرد فكرةٍ سطحيةٍ عاجزة عن اختراق وعي الجماهير
الكادحة. ومن الممكن الاسترسال في ذكر الأمثلة التي تبين أن بروق
الإلهام الخاطفة التي تفاجئ الفرد العبقري تنقدح شرارتها على أرض
الواقع نفسه وتستمد مادتها من مضمون هذا الواقع التاريخي الذي ينزع
إلى الجديد ويتجه نحوه، وينتظر التشكيل والتعبير الواضح عنه عند
المفكر والأديب والفنان المبدع. وكأن الزمن نفسه — حتى قبل أن
تهبَّ عواصف التحول والتغيير — هو الذي يكلفه بذلك ويترك له أمر
صياغته بما يتفق مع طاقاته ومواهبه، لسببٍ بسيط هو أنه أقدر الناس
على الاستماع لصوت الجديد ورؤية إشاراته وعلاماته.
هكذا يكمن توهج الإلهام في لقاء عبقريةٍ خاصة أو موهبةٍ خلاقة مع
عصر يحمل مضمونًا خاصًّا ومستعد للتغيير. فالإبداع «ليس سوى
استجابة لظرفٍ تاريخيٍّ محدد، وفي وضعٍ ثقافي وسياسيٍّ معين، وفي
مرحلةٍ تاريخية بعينها (…) والوعي بالموقف الحضاري الكلي الذي يوجد
فيه المبدع هو الشرط الأول للإبداع. وللموقف الحضاري أبعادٌ مختلفة
يتفاعل معها المبدع وتتفاعل هي فيه. وعادةً ما تكون هذه الأبعاد
الحضارية ثلاثة وتشير إلى جدل الزمان بين الماضي والحاضر والمستقبل.»
٤٥
لا بد إذن من توافر الشروط الذاتية والموضوعية للتعبير عن الجديد
بحيث يستطيع هذا الجديد أن ينطلق خارجًا من مرحلة الحضانة. والشروط
الموضوعية هي دائمًا ظروفٌ اجتماعية-اقتصادية تلتقي مع ذات لها
إرادةٌ مبدعة تدرك هذه الشروط وتعبر عما فيها من إمكانات. ويأتي
الإلهام من متطلبات العصر التي تعي نفسها في العبقرية الفردية. ومن
الطبيعي أن يؤكد بلوخ على ضرورة التزامن مع اللحظة التاريخية
الحاسمة كخاصيةٍ أساسية لتكوين العبقرية، أي لا بد من التقاء
الذاتي والموضوعي. وربما يكون من أوضح الأمثلة على ذلك أدباء
ومفكرو عصر التنوير السابقون على الثورة الفرنسية، والأدباء العظام
الذين جددوا الأدب الروسي الحديث قبل الثورة الروسية، وبعض أعلام
أدبنا وفكرنا العربي الحديث الذين أسهموا في تأسيس ما يسمى بالنهضة
العربية أو ما يسمى بعصر التنوير العربي.
وأخيرًا تأتي المرحلة الثالثة من مراحل الإنتاج والإبداع، وهي
مرحلة العرض أو الشرح. فمن الطبيعي أن الإلهام (أو الحدس) المفاجئ
لا يكفي لإتمام عملٍ فني أو فكري، لأنه مجرد بداية ونقطة انطلاق
على طريق البناء والجهد الشاق الذي تستلزمه الصياغة والتشكيل
والتفصيل … إلخ، حتى يصبح العمل واقعيًّا حيًّا يمكن أن يؤثر على
الواقع. وقد عبر كثير من المبدعين عن عجز الإلهام وحده عن إقامة
عملٍ متكامل، وبينوا أن الفكرة المحورية التي هبطت عليهم بما يشبه
الكشف المفاجئ قد استلزمت منهم بعد ذلك جهد عمرٍ كامل لتوضيحها
وتفصيلها وعرضها في بناءٍ متكامل. فيجب ألا يكون هناك فجوة بين
الرؤيا والعمل، وذلك على نحو ما يعبر فان جوخ بقوله: «إن الشعاع
الأول للانطباع لا بد أن يشارك في عملية الرسم.» والعبقرية كما
يقول شوبنهور تشبه شخصًا يصيب الهدف البعيد الذي لا يملك الآخرون
القدرة على رؤيته. فالعبقرية هي إظهار درجةٍ عالية من الوعي باﻟ
«ليس-بعد» في الذات وفي العالم، بمعنى أنها وجود يتوسط ما قبل
الوعي وما ظهر أخيرًا وتشكل في العالم، وينطبق هذا على كل من
العبقرية العلمية والأدبية، لأن ما يميز كلًّا منهما هو تشكيل ما
لم يتشكل بعدُ. فالعبقرية كوعيٍ متقدم تنطوي على حساسيةٍ عالية
لإمكانات لحظة التغيير الحاسمة في العصر. ويكمن الوعي
باﻟ «ليس-بعد» في التوقع العيني، فكل عملٍ أدبي يظل مدفوعًا تجاه
الجانب الآخر الخفي أي تجاه تصوره للمستقبل الذي لم يظهر بعدُ في
عصره، ولهذا السبب وحده تتضمن الأعمال الكبرى شيئًا ما تقوله لكل
المراحل التاريخية. والأعمال العبقرية لا تعبر عن يومها وإنما تلقي
الضوء على وجه المستقبل. فالعمل الفني الناجح ينطلق من الإلهامات
والحدوس المنبئة بالجديد ليصورها في صور وأفكار ورموز ومواقف وصيغٍ
حية. والأعمال الفنية في حقيقتها بناءاتٌ نموذجيةٌ قلقة للحقيقة
التي لم تزل غائبة. وأخيرًا فإن العملية الإبداعية هي قمة الوعي،
وهي اللون الأزرق فوق هذه القمة لأنه اللون المضاد للظلام، ولأن
الذي لم يصبح بعدُ يشير إلى التقدم للأمام، إلى شروق فجرٍ جديد.
٤٦
في النهاية يمكن القول إن الوعي المسبق بالجديد القادم أو ما
يسميه بلوخ الوعي باﻟ «ليس-بعد» حاضر في وعي البشر على الرغم من
عدم شعورهم به في معظم الأحيان، ولكنه يظهر في أحلام اليقظة وفي
النشاط المبدع. ويمكن القول أيضًا إن بلوخ نفسه من خير الأمثلة على
استشعار الوعي باﻟ «ليس-بعد»، وإن الفكرة المحورية في فلسفته (التي
سبق الحديث عنها والتي تهبط على المبدعين بما يشبه الكشف المفاجئ
وتستلزم منهم بعد ذلك جهد عمرٍ كامل لتوضيحها وتفصيلها وعرضها في
بناء كامل) هذه الفكرة المحورية — وهي فكرة الأمل اليوتوبي — بدأت
تراوده في مرحلة الصبا بما يشبه الوعي المسبق أو الوعي الذي لم يتم
الوعي به بعدُ. وقد استطاع في مرحلة الشباب أن يشرحها شرحًا مفصلًا
ومفعمًا بالحيوية والقوة والجيشان في كتابه الأول «روح اليوتوبيا»،
ثم تتابعت أعماله التالية كالدوائر التي تحيط بنقطة المركز وتمتد
لآفاقٍ أوسع وأبعد، دون أن تغيب عنه تلك الفكرة المحورية التي
استشعرها لأول مرة بصورةٍ غير واعية فيما وصفه هو نفسه بالوعي
المسبق أو الوعي الذي لم يتم الوعي به أو الوعي باﻟ «ليس-بعد». ولم
يتوقف بعد ذلك طوال حياته الطويلة عن إلقاء أضواء الوعي الواضح
عليها وتجميع خيوطها وعناصرها في نسقٍ حيٍّ شامل.
ثالثًا: معوقات الوعي باﻟ «ليس-بعد»
يجد هذا الوعي مقاومةً شديدة في محاولة الظهور إلى النور، كما
يختلف نوع هذه المقاومة وأسلوبها؛ فالموضوعات أو الرغبات المكبوتة
— بلغة علم النفس التحليلي — لا تجد طريقها إلى الوعي، لأن ثمة
مقاومةً تدفعها دائمًا إلى ما تحت الوعي، وما يتسرب منها يأتي في
شكل أحلامٍ ليلية. ويجتهد التحليل النفسي في تفسير هذه المقاومة
وتحديدها لرفع موضوعات ما تحت الوعي إلى مستوى الوعي. ولما كانت
هناك مقاومة للاوعي فهناك كذلك مقاومة للوعي باﻟ «ليس-بعد». ولكنها
ليست مقاومةً داخلية، كما هو الحال في طبقة الوعي الباطن، بل ليست
موجودة في الذات الإنسانية على الإطلاق. إن ما يعوق الوعي باﻟ
«ليس-بعد» عوائقُ خارجية، إذ تعيش الأفكار في تجانس وتوافق طالما
بقيت في نطاق الأفكار والخطط، ولكنها لا تكاد تخطو خطوةً واحدة في
اتجاه الواقع حتى تبدأ الصعوبة؛ صعوبة الإقدام على الجديد.
٤٧
ويرى بلوخ أن النواة الناصعة للوعي تحيط بها هوامشُ معتمة لا
تمتد إلى الماضي فحسب، وإنما تمتد كذلك إلى المستقبل، وبينما يهبط
اللاوعي عند فرويد إلى الأعماق المظلمة تحت «عتبة الوعي»، فإن
اللاوعي الذي يقصده بلوخ ويسميه ما قبل الوعي يعلن عن نفسه —
كتباشير الفجر — في أعلى الهامش المظلم المحيط بالوعي، ويفاجئ
الإنسان ويستحوذ على انتباهه في أحلام اليقظة على وجه الخصوص، وهذا
الذي يسبق الوعي — من هواجس ورؤًى وخواطر — لا يجد الاهتمام
الكافي، وربما يلقى مقاومةً شديدة. ولكن هذه المقاومة تختلف تمام
الاختلاف عن المقاومة التي تقابل بها الرواسب والعقد «المكبوتة» من
قبل الوعي وما فوق الوعي في التحليل النفسي، كما أنها — أي هذه
المقاومة — تتم أصلًا على مستوًى غير سيكولوجي، فالمريض النفسي أو
العصابي يهرب من الوعي الواضح بالمكبوت في لاوعيه الباطن بحيث يكون
العلاج في هذه الحالة هو الارتفاع به إلى مستوى الوعي الذاتي
الواضح، أما المقاومة التي يلقاها ما قبل الوعي فمن نوعٍ آخر ولها
أسبابٌ أخرى.
من أهم العوائق التي تحول دون ظهور الوعي باﻟ «ليس-بعد» العائق
التاريخي أو بالأحرى العائق الاجتماعي والاقتصادي الذي يسلم بوجود
التام والكامل منذ البداية، الأمر الذي يجهض كل محاولة للتقدم نحو
الجديد. فهناك توقعاتٌ كثيرة ورؤًي جسورة دخلت الوعي واستنارت بوعي
اﻟ «ليس-بعد»، ولكن العائق الاجتماعي والاقتصادي حال دون تحقيقها.
ويعتقد بلوخ أن المجتمعات التي أخذت بفكرة اللامتناهي — مثل
المجتمع الإغريقي — قد سادتها أفكارٌ استاتيكية أو سكونية، لأن
المعرفة في هذا المجتمع كانت معرفةً تأمليةً استنباطية ولم تكن
بطبيعتها معرفةً عملية وفعالة، فحساب الكم اللامتناهي في الصغر لم
يعرفه اليونان ولم يكن من الممكن أن يعرفوه على الرغم من أن زينون
قد اقترب منه. ذلك لأن أصغر كم في هذا الحساب لا يتصور على أنه
سكون، بل على أنه حركةٌ متناهية في الصغر، ولذلك بقيت فكرة العمل
غريبة على هذا المجتمع القائم على طبقتَي السادة والعبيد، حيث
يتفرغ المادة للتفكير والتأمل، أما العمل فهو مهنة العبيد والأسرى.
٤٨ ويحاول بلوخ تفسير غياب فكرة العمل عن المجتمع
اليوناني بالرجوع إلى الإبستمولوجيا أو النظرية المعرفية السائدة
في هذا المجتمع والتي اهتمت بفكرة الكيف والماهية والغاية … إلخ،
ويتضح هذا في تفوق المجتمع اليوناني في العلوم النظرية، وتقليله من
شأن العلوم القائمة على العمل والتجريب. وهكذا كانت كل محاولة
للاقتراب من الجديد تصطدم بهذه المعرفة التأملية السكونية.
كانت النزعة الرومانسية أيضًا من أهم العوائق التي واجهت الوعي
باﻟ «ليس-بعد»، فقد استعبدها الماضي، حين اعتبرت أن الكمال كله كان
في الماضي، في القديم، في الأصل والمنبع، وهي المسئولة عن الارتداد
الشديد نحو الماضي الذي راحت تتغنى به بدلًا من الاتجاه نحو
المستقبل. وعلى الرغم من الاعتراف بثورية الحركة الرومانسية على
مستوى الإبداع المعتمد على الأعماق المظلمة الدفينة، فلا شك أن
الحنين إلى الماضي الضائعتلك هي العناصر التي يقوم — وهو من أهم
سماتها العامة — قد شل حركتها الثورية والاجتماعية والسياسية، وعطل
اندفاعها إلى الأمام نحو آفاق المستقبل. ولهذا سقط الأديب
الرومانسي — الذي لا ينكر أحد تقدميته وثوريته على المستوى
الإبداعي — سقط في قبضة الماضي الذي تصور أنه هو العصر الذهبي وغنى
له أعذب أغانيه المفعمة بالأسى والشجن.
٤٩ وحتى التوقع الذي يميز النزعة الرومانسية فقد طريقه في
شعاب الماضي القديم والوسيط والأسطورة ووضع الماضي في مقابل
المستقبل؛ لهذا لم تكن مفاجأة أن فترة الإنتاج والإبداع العقلي
والفني في النزعة الرومانسية قد حركت الوعي باﻟ «ليس-بعد» في
الاتجاه المعاكس، أي الاتجاه لقيمة الأسلاف؛ ومن ثم لم يكن
للمستقبل هنا مكان. ويعارض بلوخ هذا الاتجاه مؤكدًا أن الأنبياء
أنفسهم لم يسلموا بأن العالم كامل منذ البداية، ولم يقولوا إن كل
شيء كان طيبًا في الماضي، بل بشروا بالسماء الجديدة والأرض
الجديدة. ويأتي رفض بلوخ لبعض جوانب الحركة الرومانسية من منطلق
رفضه لفكرة التذكر التي سادت العلم من أفلاطون حتى هيجل، وإيمانه
بأن هذه الفكرة من أكبر المعوقات التي حجبت الوعي باﻟ «ليس-بعد» عن
النور طوال التاريخ الفلسفي.
٥٠
وهناك بالإضافة إلى ما سبق معوقاتٌ أخرى عديدة، فالتحليل النفسي
— على سبيل المثال — هو أحد هذه المعوقات، إذ تطور في طبقة أحيلت
للتقاعد، وهي الطبقة البرجوازية التي كانت موضع دراسة فرويد.
والمجتمع البرجوازي لا يهتم بالتفكير في الغد، إنه مجتمع بدون
مستقبل، يفتقر للباعث المادي الذي يجعله يفصل الوعي باﻟ «ليس-بعد»
عن الوعي الذي لم يعد يُعى. كما يعارض بلوخ فكرة العودة للمراحل
البدائية عند يونج، لأن اللاوعي البدائي يهدد المستقبل، وما يظهر
منه إلى النور هو نوع من النكوص، فعلم النفس البرجوازي — كما يسميه
بلوخ — لم ينتبه إلى الجديد بوصفه أهم سمات الوعي باﻟ
«ليس-بعد».
كانت اليوتوبيات الاجتماعية أيضًا من معوقات الوعي باﻟ
«ليس-بعد»، بما في ذلك اليوتوبيات التي غلب عليها التوقع — مثل
يوتوبيات مور وكامبانيلا وبيكون — فكلها لم تكن قادرة على التطور
بسبب النزعة السكونية التي سادتها، والأصل البرجوازي الذي صدرت
عنه، وعدم معرفة أصحابها بالممكن الواقعي الذي كان ماثلًا على
أيامهم في العالم المادي والاجتماعي. لقد تسبب هذا كله في عدم ظهور
مفهوم الجديد، كما أدت هذه الروح السكونية إلى قمع النظرة التقدمية
في مذهب ليبنتز، وفي فلسفات الصيرورة والتقدم مثل فلسفة هيجل
الجدلية. ويستشهد بلوخ على هذا بنصٍّ شهير لهيجل من الظاهريات يعكس
تأثره — أي هيجل – الواضح بالثورة الفرنسية، ويوحي في ظاهره بأن
الجدل الهيجلي يفسح مجالًا للجديد المقبل، وإن كان في واقع الأمر
يدور في دائرة التذكر والرجوع إلى الواحد المطلق: «وكما أن النفس
الأول الذي يلتقطه الطفل — بعد فترةٍ طويلة من التغذي في صمت —
يكسر استمرار النمو المتصل، مما يعد وثبة أو طفرةً كيفية مرتبطة
بميلاد الطفل، كذلك فإن العقل المتطور ينضج ببطء وفي صمت نحو شكلٍ
جديد ويُفكِّك بنية عالمه السابق بحيث تدل أعراضه المنعزلة على
الاهتزاز الذي أصابه من تلك التفاهة والملل الذي يتسرب إلى العقلية
السائدة، مع الشعور الغامض بأن ثمة شيئًا مجهولًا يوشك أن يقع بما
يعلن عن وجود شيء سيتحقق في المستقبل القريب. هذا التصدع والانهيار
التدريجي الذي لم يغير شيئًا من ملامح الكل يقطعه انفتاحٌ مفاجئ
أشبه ما يكون بسطوع بناءٍ جديد لعالمٍ جديد.»
٥١
وثمة نصٌّ آخر من مقدمة الظاهريات أيضًا يبين كيف أن مشروع الجدل
الهيجلى العظيم قد ظل محاصرًا بطوق الحقيقة المطلقة الساكنة أو
الثابتة: «إن الظاهرة هي النشوء والزوال الذي لا يمكن أن يقال عنه
إنه ينشأ ويزول، وإنما يكون في ذاته ويؤلف واقع حياة الحقيقة
وحركتها، والمختزن في هذه الحركة الكلية المتصوَّرة بوصفها سكونًا،
وذلك الذي يميز نفسه في داخلها ويهب الوجود الخاص، هو ذلك الذي
يتذكر، ووجوده هو معرفته بذاته.»
٥٢
ويقف بلوخ وقفةً قصيرة — من بين الفلسفات المعاصرة — عند فلسفة
برجسون التي يجد فيها أحد عوائق الاندفاع إلى الجديد، لأنها خالية
من التوقع، ولأن الاندفاع الحيوي عند برجسون هو تغيير الاتجاه
بشكلٍ مستمر كما في المنحنى في دورةٍ مستمرة يبقى فيها الجديد هو
نفس القديم، وما يسمى بالحدس يدخل في ديمومةٍ مستمرة حيث كل شيء
يجب أن يكون جديدًا دائمًا ومع ذلك لا يحقق الجديد الفعلي بسبب
فكرة اللانهائية الشاملة التي تحيط به من كل الأنحاء مجردة عن أي
هدفٍ محدد تسعى إليه. لذلك يبقى كل شيء في الواقع مرتبًا ومعدًّا
من قبلُ؛ فليس ثمة ميلادٍ حقيقي جديد ولا مغامرة إلى الماوراء، بل
إن برجسون ليعارض فكرة التقدم نحو الهدف؛ ولهذا لا يختلف التجدد
لديه كثيرًا عن التذكر، فهو دائمًا موجود، ودائمًا ما يعود لكنه في
الواقع يصطدم بالثبات المحيط به.
حالت كل هذه المعوقات التي أشرنا إليها دون ظهور الوعي باﻟ
«ليس-بعد» للنور، فظل هذا الوعي مجهولًا حتى الآن ولم يُكتشف بعدُ.
وقد سبق أن رأينا أن المقابل له في العالم المادي هو «ما لم يصبح
بعدُ» وكلاهما مرتبط بمقولاتٍ حقيقية هي: الأمام والجديد والممكن
الموضوعي هذه المقولات — التي يتعذَّر أن تندرج تحت نظرية التذكر —
لم يكن لها وجودٌ فعلي قبل ماركس. فالماركسية — في رأي بلوخ — هي
أول من وضع مفهوم المعرفة داخل العالم، وأول من وضع المستقبل داخل
قبضتنا العملية والنظرية. ومعنى هذا أن الوعي باﻟ «ليس-بعد» ظل
مجهولًا، لأنه لا يأتي عن طريق التذكر وإنما يأتي عن طريق الحدس.
ولهذا يمكن القول إن عصرنا الحاضر فقط هو الذي يملك الشروط
الاجتماعية والاقتصادية لنظرية الوعي باﻟ «ليس-بعد» وما يرتبط بها
في العالم المادي وهو الذي يسميه ما لم يصبح بعدُ.
٥٣ وقد يبدو في كلام بلوخ عن الماركسية الكثير من الشطط
والمبالغة. ولكن المهم أنه لم يبقَ مجرد كلام ولا مجرد مزاعمَ
طموحة، وإنما هي أفكار حاول أن يضع لها أساسًا أنطولوجيًّا متينًا
تقوم عليه، وهذا بطبيعة الحال هو الجانب النسقي الذي يستحق
الانتباه.
أمكن تمييز الوعي باﻟ «ليس-بعد» عن اللاوعي، والتعرف على
المعوقات الفكرية والاجتماعية التي حالت دون ظهوره إلى النور. فكيف
يمكن اكتشاف هذا اﻟ «ليس-بعد» في أنفسنا وفي العالم الخارجي؟
يُكتشَف الوعي باﻟ «ليس-بعد» عن طريق الحدس لا عن طريق التذكر،
ولكن كيف يمكن اكتشاف هذا الحدس؟ يرى بلوخ أن الوعي باﻟ «ليس-بعد»
هو وظيفة يوتوبية وهو يُكتشف بالتوقع، لأن التوقع هو ما يميز
النظرة إلى
الإمام
Forward glance وهو يفرق بين نوعَين من التوقع
Expectation: توقعٌ مرضي، كما في
الحالات التي يصاحبها اضطراباتٌ عصبية وتقلصات مثل حدة الإدراك
(الاستبصار) التي توصف بأنها توقع، وإن لم تكن في الواقع سوى نتيجة
اضطراباتٍ عصبية ونفسية، ومثل هذا النوع المرضي له تاريخٌ طويل
تمتد جذوره في العصور القديمة والوسيطة، كما يرتبط بالشعوذة
والخرافة والمعجزة، وذلك قبل أن يبدأ في الخضوع للدراسة العلمية
المنظمة فيما يسمى اليوم ﺑ «ما
وراء علم النفس»
Parapsychology. وهناك ظواهرُ عديدة تعتمد على
استنتاج أشياء حدثت مراتٍ عديدة في الماضي ويمكن أن تتكرر في
المستقبل. وهذا النوع من التوقع لا يحمل جديدًا ويسميه بلوخ التوقع
التراجعي الذي يكون المستقبل فيه كاذبًا أو خادعًا. وهناك توقعٌ
منتج: وهو ضرب من الحدس، يختلف اختلافًا كاملًا عن الغريزة، وهذا
النوع من التوقع يبدأ مع مرحلة الشباب التي تتصف بالنزوع للتغيير
والتمرد على الواقع القائم، كما تتميز بالإبداع العقلي. إنه توقعٌ
واعٍ نفسه ومنفتح على العالم الخارجي، كما أنه يحدث للإنسان وهو في
كامل وعيه ويقظته، ويضرب بلوخ أمثلةً على ذلك من ثورة الفلاحين في
ألمانيا عام ١٥٢٥م، ومن جماهير الثورتين الفرنسية والروسية الذين
امتلأت نفوسهم بصور وأخيلة حفزتهم على الثورة
driving images واستنارت
بالمستقبل الحقيقي، أي بمملكة الحرية. ويعارض بلوخ المستقبل الذي
يزعمه البعض عن طريق النبوءات الغيبية، فبيكون — على سبيل المثال —
لم يكن نبيًّا، وإنما هو يوتوبي على درجةٍ عالية من الفطنة، ولذلك
أدرك الإمكانات الموضوعية الكامنة في واقع عصره فكانت «أطلنطا
الجديدة»، التي لم تقم على نبوءاتٍ غيبية وإنما استشرفت الإمكانات
العلمية والتكنولوجية التي كانت بذورها كامنةً في عصره.
٥٤
إن النظرة إلى الأمام التي تميز الوعي باﻟ «ليس-بعد» — كما سبق
القول — تسعى لإظهار الحلم إلى النور، وعندئذٍ يكون التوقع صريحًا.
ويبدأ الأمل في الازدهار ويصبح هذا الأمل نفسه وظيفةً يوتوبية. ولا
يكون مضمون الحلم في هذه الحالة أفكارًا خياليةً مصطنعة مثل فكرة
«الجبل الذهبي»، وإنما يكون أفكارًا تنزع إلى التحقق، وتضع مادتها
الخام في مستقبلٍ أفضل ومختلف تمام الاختلاف عن الواقع القائم. هذه
الأفكار الخيالية التي تحدد الوظيفة اليوتوبية تتوقع الممكن الواقعي
a real possible وبذلك لا
تكون الوظيفة اليوتوبية مجرد تفكير مفعم بالأماني
Wishful thinking، لأن هذا النوع من التفكير
قد أساء لليوتوبيات لقرونٍ عدة. فاليوتوبيا المجردة مضللة أو هي
تحقق وظيفةً يوتوبيةً فجة وغير ناضجة وغير متطورة، ولا تقوم على
أساس صلب. وفضلًا عن ذلك فليس لها علاقة بالممكن الواقعي، ولا تتجه
اتجاهًا حقيقيًّا إلى الأمام أو إلى ما هو أفضل.
٥٥ والكفاح الحقيقي ضد الفجاجة والتجريد هو الإخلاص
للوظيفة اليوتوبية التي تضع عينها على الواقع الفعلي وعلى الإمكان
الحقيقي الموضوعي. وهذا هو نضوج الوظيفة اليوتوبية الذي لا يضلل أبدًا.
٥٦ فمما لا شك فيه أن خيال الإنسان وإرادته المبدعة لهما
وظيفةٌ هامة في صيرورة التاريخ.
إن نقطة الاتصال بين الأحلام والواقع هي ارتباط الوظيفة
اليوتوبية ﻟ «ليس-بعد» بالممكن الواقعي، ويرى بلوخ أن الماركسية هي
التي دفعت الأحلام إلى الأمام وشددت على ارتباطها بالواقع العيني،
وأدركت الأمل على ضوء جدلٍ ماديٍّ متعالٍ. وهذا يؤكد أيضًا أن
الوظيفة اليوتوبية متعالية بدون علو لأن اليوتوبيا بطبيعتها
متعالية، ولكنه ليس تعاليًا بالمعنى الديني أو الصوفي أو المثالي
المألوف، وإنما تعلو على الواقع الحاضر نحو واقعٍ آخرَ أفضل،
ويدعمها التقدم ويلازمها، بحيث تكون دائمًا في حالة أمل وتوقعٍ
موضوعي لما لم يصبح بعدُ بشكل أفضل. يضاف إلى هذا أنها نوع من
الفعالية الحية يمكنها إدراك الأمل المتوقع الذي يتحقق بالتخطيط
الإرادي، إذ لا بد أن تكون الإرادة والإصرار وراء الأمل. وعلى هذا
فإن مضمون الأمل المستنير الواعي، والوظيفة اليوتوبية الإيجابية؛
هو مضمونٌ تاريخي وثقافةٌ إنسانية تجسد الفكر اليوتوبي
العيني.
ومن هنا يعارض بلوخ النزعة المثالية الألمانية المتعالية عند
كلٍّ من كانط وفشته، تلك النزعة التي أعلت من شأن العقل والأنا
وقوتهما المطلقة، فعالم المعرفة المثالية ليس عالمًا يوتوبيًّا
بأية صورة من الصور وقد ارتبطت البرجوازية الألمانية بالذات
المثالية. وعلى الرغم من أن العامل الذاتي له دورٌ إيجابي في
الوظيفة اليوتوبية، إلا أنه لا يكفي وحده، ولا بد أن يكمله العامل
الموضوعي لكي يكون التوجه اليوتوبي إلى الممكن الواقعي أمرًا
ممكنًا. صحيح أن خيالات الأمل وصوره الذاتية لها أساسها في الواقع
الموضوعي، ولكن التوقع والأمل والقصد المتجه إلى إمكان لم يتحقق
بعدُ ليست هي وحدها السمات الأساسية للوعي الإنساني. إن هذا الوعي
— إذا فهمناه فهمًا عينيًّا صحيحًا — هو تحديدٌ أساسي في إطار
الواقع الموضوعي في مجموعه، وكما أن التوقع الذاتي يتخلله اﻟ
«ليس-بعد» فكذلك يصدق نفس الشيء على الواقع الموضوعي.
٥٧
هكذا نرى أن العامل الذاتي لا يمكن أن يتخطى القوانين الاقتصادية
والاجتماعية الموضوعية بل إن هناك تفاعلًا جدليًّا بين التناقضات
الموضوعية والتناقض الذاتي. ولكن ما علاقة الوعي باﻟ «ليس-بعد»
ووظيفته اليوتوبية ببعض النزعات أو المذاهب التي حاولت أن تطوع هذا
الوعي لمصلحتها الخاصة فوجهت الوظيفة اليوتوبية للاتجاه المضاد؛
مما أدى إلى نشأة الوعي الزائف ووظيفته اليوتوبية المضللة؟ لا بد
للإجابة على هذا السؤال من النظر في بعض المذاهب والنزعات (أو
الاتجاهات) التي زيفت الوعي اليوتوبي نتيجة علاقتها الفاسدة باﻟ
«ليس-بعد».
(١) علاقة الوظيفة اليوتوبية بمذهب المصلحة
حاول أصحاب مذهب المصلحة أو المنفعة أمثال ما ندفيل
(١٦٧٠–١٧٣٣م) وآدم سميث (١٧٢٣–١٧٩٠م) الربط بين الوظيفة
اليوتوبية ومصلحة الطبقة البرجوازية، وهي محاولةٌ يائسة لإظهار
رجل الاقتصاد الرأسمالي كما لو كان يوتوبيًّا، طبقًا للمبدأ
الذي روج له آدم سميت وزعم فيه أن المصلحة الخاصة تحقق في
النهاية المصلحة العامة. فمن المعروف أن آدم سميت قدم في كتابه
«ثروة الأمم» مذهبًا في الاقتصاد السياسي يقوم على الاقتصاد
الحر الذي يخضع لحرية العرض والطلب ويحكمه قانونٌ خفي يطلق
عليه اسم المنفعة أو المصلحة، ومفاده أن مصالح الأفراد الخاصة
— ويعني بالأفراد الطبقة الرأسمالية أو طبقة أصحاب الأعمال —
تتوافق في نهاية المطاف مع المصلحة العامة للشعب. وقد ترتب على
هذا المذهب اهتمام القلة الرأسمالية بعامل الربح وإهدارها
لحقوق الأغلبية من العمال، وكأن الصورة المفعمة بالأماني في
هذا المذهب هي حرية الربح التي ليس لها حدود، وتحقيق الثروة عن
طريق ما يسمى بفائض القيمة — طبقًا للتحليل الماركسي لرأس
المال — الذي ينتزع من العمال بحيث يتحول جهدهم وعملهم إلى
سلعة تخضع للعرض والطلب، وتصبح الكائنات البشرية ذاتها سلعًا
تباع وتشتري ولا شك أن المذهب — الذي لا يراعي الحد الأدنى
لحقوق العمال — لا يقوم على أية نزعةٍ إنسانية، وإنما يقوم على
خداعٍ زائف وسافر لما يدعيه من تطابق المصلحة الخاصة مع
المصلحة العامة. وكان من الطبيعي أن يرفض بلوخ هذه العلاقة
ويدين مذهب آدم سميت في الاقتصاد وينكر أية علاقة لهذا المذهب
الذي تحكمه الأنانية بالوظيفة اليوتوبية، ويؤكد في النهاية أن
الوعي الناتج من هذه العلاقة لا بد أن يكون نوعًا من الوعي الزائف.
٥٨
(٢) علاقة الوظيفة اليوتوبية بالأيديولوجيا
اختلفت الآراء حول علاقة اليوتوبيا بالأيديولوجيا، فالأولى
تنطوي على رفض الواقع الفعلي والرغبة في تجاوز النظام القائم
إلى آخرَ أفضل منه، بينما تنطوي الثانية — الأيديولوجيا، كما
يدل تاريخ الكلمة — على معانيَ متعددة اختلفت من عصرٍ لآخر.
فهي عند كارل مانهايم لها معنيان متميزان وقابلان للانفصال،
وهما المعنى الجزئي والمعنى الكلي. «فالمعنى الجزئي يكون هو
المقصود ضمنًا عندما تدل الكلمة على أننا نتخذ موقفًا متشككًا
تجاه الأفكار والتصورات التي يتقدم بها خصمنا؛ إذ نعتبرها
تمويهاتٍ واعية تخفي الطبيعة الحقيقية لوضع لن يكون الاعتراف
بحقيقته متفقًا مع مصالح هذا الخصم. أما التصور الكلي الأكثر
شمولًا للفظة الأيديولوجية فيشير إلى أيديولوجيا عصرٍ ما أو
أيديولوجيا جماعةٍ تاريخية-اجتماعيةٍ محددة، كأيديولوجيا طبقة
مثلًا، عندما يكون هدفنا هو توضيح سمات وتركيب البناء الكلي
لعقلية ذلك العصر أو هذه الجماعة.»
٥٩ وفي رأي مانهايم أيضًا: «إن الماركسية هي أول من
جمع بين التصور الجزئي والكلي للأيديولوجيا، كما كانت أول من
منح التأكيد المناسب لدور مركز الطبقات واهتماماتها في تطور
الفكر، ولأن جذور الماركسية موجودة في الفلسفة الهيجيلية، فقد
استطاعت الماركسية أن تتجاوز المستوى السيكولوجي في التحليل
وأن تضع المشكلة في سياقٍ فلسفيٍّ أشمل.»
٦٠
وعلى الرغم من التاريخ الطويل للفظة الأيديولوجيا ومعناها
والذي يسبق الماركسية سبقًا تاريخيًّا، إلا أنه استقر في أذهان
معظم الناس المعنى الذي أضفته الماركسية على الكلمة، وهي أنها
تبرير وإقرار لوضعٍ قائم بالفعل لصالح الطبقة الحاكمة. بهذا
المعنى يُعد كلا المفهومَين — أي اليوتوبيا والأيديولوجيا —
على النقيض من الآخر. أحدهما
— اليوتوبيا — ينشد الثورة على الأوضاع القائمة ويلتحم بحركة
التاريخ المتغيرة وينغمس في صيرورته.
والآخر — الأيديولوجيا — ينشد السكون ويقرُّ أوضاعًا ثابتة، بل
ويصوغ لها منظومة من الأفكار التي تضمن استمرارها
وثباتها.
ويتبنى بلوخ وجهة النظر الماركسية التي تقول إن الأيديولوجيا
نشأت نتيجة لمبدأ تقسيم العمل والفصل بين العمل الذهني والعمل
اليدوي مما نتج عنه الوعي الزائف (…) ولم تقم الأيديولوجيا إلا
لتكون لسان حال الطبقة الحاكمة، ولتختلق من المبررات ما يخدم
مصالح تلك الطبقة ويضفي الشرعية على كل ما تتمتع به من
امتيازات، بل ولتبرر أيضًا الظروف الاجتماعية القائمة وتتجاهل
الظروف الاقتصادية التي سببت معاناة الطبقة العاملة،
٦١ وتلك هي العناصر التي يقوم عليها مجتمع الطبقة.
ويري بلوخ أن الأيديولوجيا — بهذا المعنى — قد شوهت وحرفت
الوظيفة اليوتوبية للوعي باﻟ «ليس-بعد». فالأيديولوجيا بوصفها
منظومة للأفكار والمعتقدات التي تبرر الأوضاع الاجتماعية
والاقتصادية القائمة لمصلحة الطبقة الحاكمة تتعارض وظيفتها مع
الوظيفة اليوتوبية التي هي تطلعٌ للمستقبل، وقدرة على اكتشاف
إمكانات لم توجد بعدُ على أرض الواقع. فاليوتوبيا عند بلوخ
ليست مرادفة للواقع المعطى، وهو لا يقسم الوجود إلى قسمَين:
واحدٌ فعليٌّ واقعيٌّ، والآخر يوتوبيٌّ، وإنما الحقيقة هي
تجسدهما معًا، لذلك فأي نسق عنده يجب أن يظل مفتوحًا ويتيح
مكانًا لما لم يتم ولم ينتهِ وما يزال كامنًا وهو اليوتوبي
الذي يسعى دائمًا لتقويض وهدم ما هو زائف، وبذلك ينتج واقعًا
قادمًا مختلفًا. لقد بقيت فكرة «اليوتوبيا الواقعية أو
العينية» هي مركز تفكير بلوخ في فلسفة التاريخ حتى تمكن من
تدعيمها على أسسٍ أنطولوجية ومعرفية وأنثروبولوجيةٍ خالصة
جعلها محور نسقه المفتوح.
وعلى الرغم من التعارض السابق بين كل من المفهومَين
(الأيديولوجيا واليوتوبيا)، فهناك — كما يقول مانهايم — علاقةٌ
جدلية بين اليوتوبيا والنظام الموجود: «والمقصود بهذا أن كل
عصر ينجب في فئاتٍ اجتماعيةٍ مختلفة المواقع تلك الأفكار
والقيم التي تحتوي بشكل مكثف على الميول غير المتحققة والرغبات
غير المشبعة التي تمثل احتياجات ذلك العصر، حينذاك تصبح هذه
العناصر الفكرية هي المادة المتفجرة لتحطيم حدود النظام
الموجود. وهكذا ينجب النظام الموجود يوتوبيات، وهذه بدورها
تحطم حدود النظام القائم وتجعله حرًّا في التطور باتجاه نظام
الوجود التالي.»
٦٢ أما عن علاقة الأيديولوجيا بالوظيفة اليوتوبية عند
بلوخ، فقد أسفرت عن ظاهرةٍ حقيقية وهامة، هي ما يطلق عليه اسم
الفائض الثقافي،
٦٣ لأن خلود بعض الأعمال الكبرى في الفن والعلم
والفلسفة عبر الحضارات المختلفة يدل على بقاء شيءٍ ما يسمو على
الوعي الزائف الذي طالما حاول استغلال هذه الأعمال لتبرير
أوضاع وعلاقات السلطة السائدة في مجتمعٍ معين. إن أمثال هذه
الأعمال موجهة إلى المستقبل، ومن الممكن نقلها من تربتها
التاريخية والاجتماعية الأولى واستيعابها في تربةٍ ثقافيةٍ
أخرى.
ويضرب بلوخ أمثلةً كثيرة على ذلك مثل الأكروبولس وهو الأثر
اليوناني الهام الذي ينتمي إلى مجتمع السادة والعبيد،
وكاتدرائية استراسبورج التي تمثل المجتمع الإقطاعي. ومع ذلك
فلا هذه ولا ذاك قد اختفيا مع اختفاء الأساس الاجتماعي الذي
ينتميان إليه. كذلك الأعمال الفلسفية الكبرى التي تتميز
بارتفاع درجة الوعي فيها. إنها تسمح بنظرةٍ أبعد داخل
المستقبل، فكل هذه الأعمال تتسم بالشباب الدائم وتنطوي دائمًا
على منظورٍ جديد.
٦٤ وإذا كانت الأعمال الفنية تعكس أيديولوجية عصرها،
فإنها تحتوي على «فائضٍ يوتوبي» يزيد عن هذه الأيديولوجية
ويتجاوزها وينتقد الوعي السائد فيها — وهو غالبًا ما يكون
وعيًا زائفًا يهدف إلى تدعيم الوجود الاجتماعي القائم — لصالح
وعيٍ يوتوبي يتخطى العصر الواقع. فالفنان يرسم النموذج الذي
يفتقده في عصره ويحاول أن يعبر عنه تعبيرًا ينفذ إلى الوعي
ويؤثر على الواقع أو يشق صدره على حد قول بلوخ. ولن يتم له ذلك
حتى يكون نموذجًا يوتوبيًّا يصور الجديد القادم الذي ولد — كما
سلف القول — في منطقة الوعي المسبق أو: الوعي باﻟ «ليس-بعد» ثم
نما واكتمل في منطقة الوعي.
وبالتالي فإن الأيديولوجيا التي ينظر إليها من هذا الجانب لا
يمكن أن توصف بأنها وعيٌ زائف. والخلاصة أن الأيديولوجية
الثورية الاشتراكية — فيما يرى بلوخ — هي وحدها التي تملك
الوعي الحقيقي الذي يضع عينَيه على الواقع الحاضر والمستقبل
معًا. فكما يقول ماركس في خطابه إلى روجا عام ١٨٤٣م: «إن
شعارنا يجب أن يكون إصلاح
الوعي، لا عن طريق المعتقدات
القاطعة
dogmas، بل عن طريق تحليل الوعي الغامض الذي
ما زال غير واضح لنفسه. عندئذٍ يتضح أن العالم قد ظلَّ وقتًا
طويلًا يمتلك حلم
المادة
dream of matter وقد أصبح الواجب الوحيد عليه أن يمتلك
الوعي بها لكي يمتلكها هي نفسها امتلاكًا واقعيًّا، وسوف يتضح
أيضًا أن المسألة ليست مسألة انقطاعٍ فكري بين الماضي
والمستقبل بل مسألة استمرار ومواصلة أفكار الماضي، فحتى
الأيديولوجيات المرتبطة بالمجتمعات الطبقية لديها جانب يتجاوز
وعيها الزائف ويفوقه، وهذا الجانب هو الفائض الثقافي.»
٦٥
يأخذ بلوخ إذن من الأيديولوجيا هذا الموروث الثقافي الذي لم
يوجد في مجتمعه ولمجتمعه فقط، وإنما وجد ليعاد إنتاجه وقراءته
في ظل مجتمعات وعصور وحضاراتٍ أخرى. وهكذا يبقى من
الأيديولوجيا مشكلة الموروث الثقافي، وكيف أن الأعمال المتميزة
الباقية من البناء الفوقي تعيد إنتاج نفسها بشكل تقدمي في وعيٍ
ثقافي جديد حتى بعد انتهاء أساسها الاجتماعي، وكل ثقافة كبرى
لديها فائض ثقافي علاوة على أيديولوجيتها في الزمان والمكان
المحددَين. والوظيفة اليوتوبية هي التي تُعيد إنتاج هذا الفائض
في إبداعات وتفسيرات وقراءاتٍ جديدة. لكن هذه الوظيفة
اليوتوبية ليست ساكنة ولا ثابتة، بل لا بد لها أن تكون متغيرة
ومتحولة في التاريخ لتواكب صيرورة الواقع الفعلي، وتلحق
بالتغيرات التاريخية، حتى لا يفرز العنصر اليوتوبي عالمًا
خاليًّا من أي جديد، عالما لا يكون المستقبل فيه سوى تكرار
للماضي. وإذا كان سقوط الأيديولوجية — كما يقول مانهايم — يمثل
أزمة لطبقةٍ معينة فقط، فإن زوال العنصر اليوتوبي زوالًا
تامًّا من الفكر والفعل البشريَّين سوف يعني أن الطبيعة
البشرية والتطور الإنساني سيتخذان طابعًا جديدًا كل الجدة. إن
اختفاء اليوتوبيا سيخلق وضعًا ساكنًا جامدًا لا يكون الإنسان
فيه أكثر من شيءٍ ساكنٍ جامد، وستواجهنا حينذاك أكبر ظاهرةٍ
متناقضة تخطر على البال أو في الخيال: وهي أن الإنسان الذي فاز
بأكبر سيطرة على الوجود، يصبح — حين يترك بلا مُثلٍ عليا —
مجرد مخلوقٍ عشوائي، وإذا تخلى عن اليوتوبيات فإنه يضيع إرادته
في صنع التاريخ، ويضيع معها قدرته على فهم التاريخ.
٦٦
(٣) علاقة الوظيفة اليوتوبية بالنماذج الأولية٦٧
تتميز الوظيفة اليوتوبية للوعي باﻟ «ليس-بعد» بالثنائية
شأنها في ذلك شأن كل شيءٍ آخر، فنحن نرى التقدم والتخلف في
حركة متزامنة. ويستشهد بلوخ بفاوست جوته عندما يقول الشيطان
مفيستو لفاوست: «إذن فاهبط إلى الأعماق! أو يمكنني أن أقول
ارتفع، فالأمر سيان.» وهو يذكر هذه العبارة ليزداد اقتناعًا
بأن المبدأ اليوتوبي هو مبدأٌ جدليٌّ موجود منذ القدم في كل
أشكال الحضارة ومظاهرها وفي كل فروعها، ولذلك فهو يتتبع هذا
المبدأ في كل شيء ويبحث عن الأمل المغمور في النماذج الأولية
التي تتضمن عناصرَ يوتوبيةً لم تتحقق بعدُ.
٦٨ وينتقد بلوخ النماذج الأولية عند يونج الذي تصورها
ثابتة وساكنة مع أنها في حقيقة الأمر متحركة غير ثابتة، وإنما
تتخذ في كل عصرٍ تاريخي أشكالًا متجددة ذات معنًى يوتوبيٍّ دال
على مضامين العصر ومتجاوز لها إلى الأمام والمستقبل.
٦٩
ويعود بلوخ لفاوست جوته مرة أخرى، عندما يرى هيلين في كل
امرأة:
ينبغي لك أن تشاهد نموذج النساء جميعًا،
بهذا الشراب في جوفك ستشاهد
هيلانة في كل امرأة تراها.
٧٠
والمعروف أن هيلين هي النموذج الأصلي للجمال،
ويتحرك هذا النموذج الذي كان قد هبط إلى غياهب الماضي،
واستحضره الشيطان من مكمنه ليرتفع به إلى أعلى في عصر فاوست
المختلف عن عصره؛ مما يدل على أن من الممكن أن تصبح المادة
اليوتوبية عينية في النماذج الأولية، وهذا المظهر اليوتوبي يجب
أن ننظر إليه نظرةً لا تعود به إلى الخلف ولكن تدفعه وتقوده
إلى الأمام، إلى المستقبل.
ويتوقف بلوخ عند النماذج الأولية للنزعة الرومانسية التي
جعلتها تركن إلى الماضي وتتسم بالحنين الدائم إليه، وترتدي
قناعه فحسب، ولم تتخذ منه قوةً دافعة للمستقبل، بل ارتبطت إلى
حدٍّ كبير بنظرية المثل الأفلاطونية — على الرغم من الاختلاف
بينهما — حيث استعارت الأولى من هذه الأخيرة فكرة إعادة
التذكر. فالمثل عند أفلاطون سماوية متعالية، أما في الرومانسية
فهي نكوص لعصورٍ سابقة، ولهذا تحولت العلاقة بين الوظيفة
اليوتوبية والنماذج الأولية إلى علاقةٍ تراجعية أو رجعية
Reactionary،
تتميز بالنظر إلى الوراء. وتحول الانتباه عن الحاضر الفعلي
وقوته الدافعة إلى الأمام إلى الماضي فمنع انفتاح الحاضر
والماضي معًا على المستقبل.
٧١
ويعتبر بلوخ أن هذا سوء فهم من الرومانسيين للنماذج الأولية،
لأن البعد اليوتوبي في هذه النماذج لا يمكن تحقيقه من خلال
العناصر الأصلية، وإنما يتحول خلال التاريخ ويمضي في مساره
بعيدًا عن الأصل. وتحتاج كل النماذج الأولية إلى معالجةٍ
يوتوبية، وبذلك يظهر نموذجٌ جديدٌ بعيد عن الأصول الأولية
ويدخل في مضمونٍ جديد بالكامل. إن النماذج الأولية موجودة في
كل الأعمال الأدبية والأساطير والديانات والمأثورات الشعبية،
فرائعة جوته «فاوست» — على سبيل المثال — مليئة بهذه النماذج،
خاصة في الجزء الثاني. ولكنها ليست نسخًا من التجربة الأولى.
وكل عصر يستخدم المضمون ويعيد توظيفه من جديد ويفضُّ الغلاف
الذي يحيط بالأمل الكامن في هذه النماذج وربما يتضح هذا في
السيمفونية السابعة لبتهوفن، وفي أوبرا «الناي السحري»
لموتسارت وغيرها من الأوبرات التي تناولت موضوعاتٍ قديمة
برؤيةٍ جديدة مثل «أوديب» و«أنتيجون» و«أليكترا» حيث استخدمت
المجازات والرموز الأولية وسيلة للتنوير.
٧٢
الوظيفة اليوتوبية إذن، أو وظيفة الوعي باﻟ «ليس-بعد»، هي
رسم ما قد كان وما يزال جديرًا بأن يبقى في المستقبل. وهي تفصح
عما لم يتكشف في الماضي، ولا تكشف فقط عن الفائض الثقافي، بل
ترجع أيضًا للخلف — بالمعنى الثنائي السابق — لتكشف عن توقعٍ
قديم لوعي اﻟ «ليس-بعد»، بوصفه مادة لم تتحقق بعدُ. إن المرساة
التي تغرق أسفل القاع هي نفسها مرساة الأمل، وما يغرق للأعماق
يملك ما ينهض به إلى أعلى. وهذه الطبيعة الثنائية للوظيفة
اليوتوبية تثبت قيمتها عندما تحول النماذج الأولية إلى علاماتٍ
حقيقية أو رموزٍ واقعية تنتزع هذا الجزء من الماضي ومن
الأسطورة وتعيد توظيفه في مسار التاريخ.
(٤) علاقة الوظيفة اليوتوبية بالمُثل العليا
يحدد بلوخ المثل الأعلى بأنه هدف يتطلع إلى الكمال ولا يرضى
عنه بديلًا. وإذا كان في حياتنا اليومية العديد من الأهداف،
فإن المثل الأعلى يختلف عنها جميعًا بطموحه إلى الكمال. ولأن
كل هدف هو في البداية هدفٌ متخيَّل في العقل، فإن ذلك يتطلب من
الإرادة البشرية الكفاح والنضال من أجل تحقيقه. فالمثل العليا
ليست أهدافًا جاهزة للتحصيل وإنما هي من ذلك النوع الذي لا
يمكن الوصول إليه إلا بقرارٍ حاسم من إرادة الإنسان، وبرغبة
منه في السعي الدائم والنضال من أجل تحقيقها أو الوصول إليها.
٧٣
وتكشف الوظيفة اليوتوبية عن نفسها في المثل العليا، لارتباط
هذه الأخيرة ارتباطًا وثيقا بمضمون الأمل الموضوعي. فالمثل
العليا تفوق كلًّا من الأيديولوجيات والنماذج الأولية في
قابليتها للفهم، كما تفوقهما في وضوحها وغناها بالمضمون.
والمثل العليا أكثر ارتباطًا بالواقع المادي، كما أن التوقع
فيها واضح ومكشوف مما يجعلها قابلة للمعالجة اليوتوبية. وتكشف
المثل العليا منذ البداية عن الأمل الكامن فيها، بينما تتضمن
النماذج الأولية عنصرًا توقعيًّا غير واضح، وتهبط بالأمل إلى
أعماقٍ سحيقة القدم. هذا فضلًا عن أنه لا يوجد حتى الآن تصنيفٌ
متفق عليه للنماذج الأولية، بينما يوجد العديد من المثل
العليا.
وترتبط المثل العليا دائمًا بما هو أسمى، أي بالعالم الممكن
باعتباره وسيلة لتحقيق غايتها. وغاية بلوخ هي الوصول إلى الشكل
الأسمى للخير الأسمى في المجال السياسي والاجتماعي، وهو
المجتمع الخالي من الطبقات. لذلك تصبح مُثل الحرية والمساواة
والإخاء البشري وسائل لتحقيق هذه الغاية. ومن ثم أخذ بلوخ على
الفلسفة المثالية الألمانية أن المثل العليا فيها — عند كانط
وهيجل خاصة — متعالية على الواقع المادي ويتعذر الوصول إليها.
ولذلك بقيت المثل الأخلاقية معلقة في السماء، كما بقيت المثل
العليا الجمالية مجرد متعةٍ جمالية يُستمتع بروعتها
فحسب.
ويتتبع بلوخ المبدأ اليوتوبي في المثل العليا عند كلٍّ من
كانط وهيجل. فالمثل العليا عند كانط ظهرت في القانون الأخلاقي
كسلطةٍ مباشرةٍ نهائية تتصارع مع الدوافع الطبيعية، وفهمنا
للقانون الأخلاقي اضطرنا إلى افتراض كائنٍ أسمى يضمن قيام
علاقةٍ متكافئة بين الفضيلة والسعادة، ولكن فكرة هذا الكائن
الأسمى نبعت من الأخلاق نفسها دون أن تكون هي الأصل في ظهور الأخلاق.
٧٤ وظهرت المثل العليا مرةً أخرى كأمل وغايةٍ منشودة
في هذا الثالوث: الحرية، الخلود، الله. وهنا يظهر المثل الأعلى
كأمل أو خيرٍ أسمى للعقل العملي، ومع ذلك يبقى الثالوث عقائد
تستند إلى الإيمان العملي دون أن تستحيل إلى موضوعات تقوم على
المعرفة العلمية، أي أن ما سلم به العقل النظري باعتباره مجرد
إمكانية أو مثل أعلى قد استحال على يد العقل العملي إلى عقيدة
تدعمها الحاجات المشتركة لكل إرادةٍ عاقلة.
٧٥
ظهرت المثل العليا مرةً أخرى في استطيقا كانط في صورة كمالٍ
طبيعي — بدون الخير الأسمى — أي في صورةٍ مناقضة للمثل العليا
الأخلاقية التي ابتعد عنها كانط في الفن لأنه يرى أن الإلزام
الأخلاقي في الفن سخفٌ شديد.
٧٦ ومعنى هذا أن البعد اليوتوبي عند كانط لا يتمثل
إلا في الفن الذي هو نشاطٌ بشريٌّ تلقائيٌّ حرٌّ منزَّه عن
الغرض أو الغاية، وخالٍ من الصراع مع الدوافع الطبيعية كما هو
الحال في المجال الأخلاقي. وبهذا يتجسد الكمال عنده — أي عند
كانط — في أشكالٍ عديدة كأمل للمستقبل، ولكن هذا الأمل مقصور
على الجمال الفني وحده ومقطوع الصلة بالواقع السياسي
الاجتماعي. وهكذا تنتهي المثل العليا عند كانط إلى أن تكون
مجرد مُثلٍ فنية خالصة لا تتصل من بعيد أو قريب بالواقع
الاجتماعي والسياسي.
أما عن هيجل فإن المثل العليا بوجهٍ عام تكمن في الفن وحده
لا في بقية جوانب الواقع الاجتماعي والسياسي. فما دامت الفكرة
عنده هي الحقيقة المطلقة، فإنه ينتج من ذلك اتحاد الحق والجمال
لأن كلًّا منهما هو الفكرة. ولكنهما متمايزان أيضًا، فالجمال
هو الفكرة حين تدرك في إطارٍ حسي وحين تدرك بالحواس سواء أكان
ذلك في الفن أم في الطبيعة. أما الحقيقة فهي الفكرة حين تدرك
في ذاتها أي بوصفها فكرةً خالصة، وهي لا تدرك بما هي كذلك عن
طريق الحواس بل عن طريق الفكر الخالص أي عن طريق الفلسفة.
٧٧ إن المثل العليا عند هيجل تكاد تكون توهمات كمالٍ
خيالي لا سبيل إلى تحقيقه، حيث إن الفن كبناءٍ تأملي يقوم
بصورةٍ مطلقة على المثل سواء أكانت شرقيةً رمزية أو إغريقيةً
كلاسيكية أو غربيةً رومانتيكية (كالشرف والحب والوفاء
والمخاطرة والإيمان).
٧٨ فكل مرحلة من مراحل الروح هي مرحلة من مراحل
الفكرة، وتسمى الفكرة في المرحلة الحالية باسم: المثل الأعلى.
والمثل الأعلى هو تلك الصورة الخاصة للفكرة التي تدرك فيها
بطريقةٍ حسية، إنه الفكرة لا في ذاتها بل كما تتجلى في عالم الحس.
٧٩
ويستشهد بلوخ بنص من هيجل يبين أن المثل العليا بوجهٍ عام لا
وجود لها إلا في الفن لا في بقية جوانب الواقع، لا سيما الواقع
السياسي والاجتماعي، إذ تبقى المثل في الميدان الأخير مجرد
توهماتٍ خيالية لكمالٍ خيالي. ولهذا تذكرنا التجليات الجمالية
للمثل العليا عند هيجل بالأنتيليخيا أو الكمال الأول عند
أرسطو: «ولهذا ينبغي ألا تكون حقيقة الفن مجرد مطابقةٍ تامة
كما هو الحال في الفن الذي يحصر نفسه في محاكاة الطبيعة، وإنما
ينبغي أن يتجانس الخارج مع الداخل الذي يتجانس مع ذاته وعن
طريق هذا وحده يمكنه أن يكشف عن ذاته بما هي ذاته في الخارج.
وعن طريق إرجاع كل شيء شابته العرضية والخارجية في سائر جوانب
الوجود إلى هذا التجانس بمفهومه الحق، فإن الفن يستبعد من
الظاهرة كل ما لا يتطابق مع هذا المفهوم، ومن ثم يبرز الفن
المثل الأعلى عن طريق التطهير وحدة.»
٨٠
ومن الواضح أن هيجل لا ينظر هنا إلى المثل الأعلى للفن وكأنه
مقطوع الصلة بالواقع في مجموعه، وإنما يقصد درجةً عالية من
الواقع بلغت حد الكمال النسبي في داخل الظواهر. ولا شك أن
البعد اليوتوبي هنا غائب لأنه لا يقصد الواقع الذي لم يتحقق
بعدُ أو الواقع الذي لا يزال في سبيله إلى الكمال الذي سيتحقق
بصورةٍ واقعية. وعلى الرغم من وجود التوقع عند هيجل بشكلٍ أكثر
أصالة مما سنجده عند كل من فرويد وآدلر، فإننا ومع ذلك نفتقد
عنده البعد اليوتوبي، إذ إن الوظيفة اليوتوبية للمثل العليا
الفنية تقتصر على التصحيح والمطابقة للفكرة لا على التفتح
ناحية المستقبل من خلال توسيط الواقع لتحقيق الكمال في هذا العالم.
٨١
وكثيرًا ما يتدخل الوعي الكاذب في تكوين المثل العليا، ويظهر
هذا على سبيل المثال في حالة الكبت التي يتناولها فرويد
بالتحليل النفسي حيث الأنا العليا هي مصدر تكوين المثل التي
تمارس رقابة الأنا العليا الأخلاقية على الأنا؛ لهذا لا نجد
أثرًا لأشكال المثل العليا المستقبلية المشرقة عند فرويد.
وعندما يتناول آدلر هذه الأشكال المشرقة نجده يقع في نفس الخطأ
ويتجه أيضًا إلى الماضي وينظر بعين الاعتبار للمثل الأعلى الموجه
Guiding-Ideal
لمحاولة تغيير القناع الشخصي بآخرَ مثالي واكتساب الشعور
بالسمو — وهو ما يسمى بعقدة النقص ونظرية التعويض عن النقص
بالعلاء والتسامي — وتبعًا لهذه النظرية تحدد كل المثل العليا
طبقًا لما هو أخلاقي، ولذلك فإن أكثر المثل الموضوعية والفنية
مفتقدة هنا. وتتدخل السلطة المستبدة — التي تتمثل في سلطة
الأنا العليا — في تشكيل المثل العليا عند فرويد وآدلر، ولذلك
يبقى كلاهما في مجال الإلزام. غير أن الإرادة التي تتطلع
دائمًا إلى الأمام لا بد أن تكون إرادةً حرة، أي إرادة تتجه
إلى الجانب المشرق والمضيء وأحلام اليقظة الحرة تكشف عن هذا
الجانب المشرق، وحتى إذا ظلت المثل العليا مجرد صور في خيالنا
فهي دائمًا تنشد الوصول للغاية أي تنشد الكمال.
٨٢
ويهاجم بلوخ المثل البرجوازية في القرن التاسع عشر والمتمثلة
في الحق والخير والجمال. وعلى الرغم من أن روايات هذا العصر
عبرت عن رفضها لهذه القيم مثلما فعل كلٌّ من الأديب الألماني
والكاتب الروائي تيودور فونتانه (١٨١٩–١٨٩٨م)، والكاتب المسرحي
النرويجي هنريك إبسن (١٨٢٨–١٩٠٦م)، فإن كليهما — في رأي بلوخ —
لا يقدم لنا عالمًا جديدًا بدلًا من العالم القديم المتهم.
ويهاجم بلوخ أيضًا كل المثل الشكلية التي تتسم بالتجريد
والسكون. فالمثل العليا لا بد أن تكون ذات فعالية، ولا بد أن
تتجه إلى الواقع. ومع النزعة الاشتراكية فقط أصبحت المثل
عينية، وصار المثال السياسي الأسمى هو «مملكة الحرية» كمملكةٍ
عينية وفصلٍ أخير في تاريخ العالم. إن الماركسية ترفض المثل
العليا كما عبر عن ذلك ماركس في قوله إن الطبقة العاملة ليس
لها مثل عليا تنشد تحقيقها ويفسر بلوخ هذه العبارة (التي تبدو
غريبة) بقوله إنها لا تتعارض مع نزوع هذه الطبقة لتحقيق أهدافٍ
عينية، وإنما تتعارض فحسب مع الأهداف المجردة ومع المثل العليا
التي لا تمت بصلة للتاريخ ومساره الجدلي. ومن ثم أصبحت
الاشتراكية نفسها على يد ماركس مثلًا أعلى عينيًّا يسعى للتحقق
في كل مرحلة من مراحل التطور. ولهذا فإن طموحها لا يرضى بغير
تحقيق المثل الأعلى الذي كان مجردًا من قبلُ.
٨٣ وطبيعي أن يكون هذا المثل الأعلى سياسيًّا، وأن
يتجسد في مملكة الحرية باعتبارها تمثل الخير الأسمى أو الأقصى
الذي يُعد غاية التاريخ.
(٥) علاقة الوظيفة اليوتوبية بالمجاز والرمز
تجد الوظيفة اليوتوبية أساسها الأعمق في طبيعة الوعي الذي
تكوِّنه اللغة وتساهم في تحديده. فاللغة — حتى على مستوى
التواصل والإخبار العادي — لا تقتصر على الإشارة إلى المعطى
الذي تحيل إليه العبارة، وإنما تجاوزه على الدوام إلى معانيَ
ومضامين أخرى لا تسميها تلك العبارة بشكلٍ محدد، ولا تعنيها
بصورةٍ مباشرة. والمعروف أن اللغة بوجهٍ عام هي مجال التفاهم
بين البشر، وهي إذ تحقق هذا التفاهم أو التواصل إنما تكون
كبنيةٍ موضوعية تحددها الكلمات بدلالاتها المصطلح عليها
وتثبتها قواعد النحو بحيث يتخذ التفاهم أو التواصل صورته
الموضوعية، ويستحيل توصيل أي تجربة إلا عن طريق اللغة.
ومع ذلك فاللغة تعرف مستويين على أقل تقدير، أحدهما المستوى
العام الذي يتحد بالكلمة المنطوقة والبنية النحوية في اللغة،
ويمكن أن يفهمه كل من يفهم هذه اللغة. هذا المستوى هو الأساس
الأول لكل لغة، غير أن هنالك مستوًى آخر يقع تحت المستوى
السابق ويرتبط به على الدوام، وهو يتعلق بالمعاني التي يفهمها
كل فرد على حدة من خلال تجاربه الخاصة، بحيث يصبح للمعنى
الواحد معانٍ أو دلالاتٌ مختلفة من مستمع إلى ثانٍ وثالث ورابع
… إلخ. ومن هنا جاءت أهمية التفسير أو التأويل ووظائفه الخلاقة
التي تدور حولها اليوم فلسفات التأويل (الهيرمينوطيقا)
ومناهجها الخصبة التي تكشف عن مدى تعدد دلالات النص الواحد
بتعدد قراءاته وقرائه.
وتكمن الدلالة بصورةٍ أساسية في «القصد» اللغوي الذي يتجه
فيه متكلم إلى مستمع لإبلاغه بشيء له معنًى، وقد حدد عالم
اللغة «كارل بيلر» هذا المعنى من خلال تحديده لبنية اللغة التي
تقوم في رأيه على علاقةٍ دلالية (أو سيمانطيقية) ثلاثية،
فالعلاقة اللغوية تكون رمزًا بفضل إحالتها إلى موضوعات أو
حقائقَ موضوعيةٍ معينة، وتكون شاهدًا بفضل اعتمادها على المرسل
الذي تعبر عن دخيلته، كما تكون علامة بفضل تأثيرها على السامع
وتغييرها لمسلكه الخارجي أو الداخلي.
٨٤ وعندما نضع ما نتكلم عنه في سياق العبارة ونقوم
بتوصيله إلى المخاطب أو السامع، فإننا نوصل إليه معنًى عامًّا
ومفهومًا يمكن بدوره أن يدخل في سياق عباراتٍ أخرى تكمله وتضيف
إليه، أو تعدله وتغير منه. بذلك تكون اللغة — في مستوى الدلالة
الأعم الذي أشرنا إليه — نظامًا مفتوحًا على دلالاتٍ أخرى
متنوعة، وبذلك أيضًا يكون العالم الذي يتكون في اللغة وبها
أشبه بنسيجٍ طيِّعٍ مرن، يمكن أن تضاف إليه خيوطٌ جديدة
باستمرار ويكون ما سميناه «بما لم يتم الوعي به» ماثلًا فيها
على الدوام، لأن العبارة من حيث هي بنيةٌ موضوعية أشبه بالبؤرة
أو النواة التي تطلق المعاني من داخلها كما تستوعبها من
الخارج. ويترتب على هذا أن العبارة بعلاقتها الدلالية الثلاثية
لا تقبل أن تحدد بصورةٍ نهائية، ولا تكون أبدًا ذات معنًى واحد
ثابت، وإنما تظل عبارةً مفتوحةً متعددة المعاني، أو تظل على
الطريق إلى ذاتها لم تتوحد معها بعدُ، وقد تتوحد معها من خلال
عملية التفسير أو التأويل التي لا تتوقف. هكذا يمكن القول إن
البنية الدلالية للغة تعمل في الوقت نفسه على تكوين البنية
الأنطولوجية لما «لم يوجد بعدُ»؛ ومن ثم تصبح الأنطولوجيا
«الصورية» فرعًا من فلسفة اللغة، تملأ إطارها الأنطولوجيا
«المادية» بمضامين العالم الطبيعي والعالم التاريخي.
٨٥
وإذا كانت اللغة في ذاتها ولذاتها دلالية، فإن الموجود الذي
يخرج من وجوده الأخرس (الذي يوصف منذ هيجل بأنه وجود في ذاته)
ليصبح بالنسبة إلينا حاملًا لدلالة، لا بد أن يكون له طابعٌ
مجازي فهو يدل على ذاته كما يدل في الوقت نفسه على شيءٍ آخر
أكثر منه وعلى شيءٍ آخر غيره: «فمن خلال تعبير التشبيه عن
الشيء الواحد عن طريق شيء مختلف — مع العلم بأن هذا الشيء
المختلف يمكن أن تتسع وجوه اختلافه وتتعدد تعددًا كبيرًا —
فإنه (أي التشبيه) يوصف بأنه مجازي. وإن «شرف» المجاز وتماسكه
الداخلي يكمن على وجه التحديد في هذا التعدد الدلالي الدال
بذاته، وفي هذا الشيء غير المحدد بالضرورة الذي ما يزال
التشبيه ينطوي عليه ثم في السلسلة المتصلة من الإحالات إلى كل
ما يمكن أن «يطابق» فعل الدلالة، بل إلى كل أشكال هذا التطابق
في العالم.»
٨٦
تعتمد المقولة التي سميناها في الفصل السابق «ما قبل الظهور»
على هذه الدلالات المختلفة التي يمكن أن يوحي بها الشيء
الواحد، خصوصًا خلال التعبير المجازي؛ فهي تحاول أن تظهرنا على
شيء لم يوجد بعدُ ومن ثم يعبر عنه — عن طريق التشبيه
والاستعارة مثلًا — بشيءٍ آخر. ولما كان ذلك الذي «لم يوجد
بعدُ» أمرًا لم يثبت ولم تتحدد الصورة التي سيكون عليها في
المستقبل، فلا بد أن يكون تعدد دلالاته في هذه الحالة شيئًا
طبيعيًّا، لأنه يجعل مجال الفهم والواقع المنتظر مفتوحًا،
ويسمح — إذا جاز هذا التشبيه — بإعادة ترتيب الأحجار التي
يتكون منها بناء العالم. ومن هنا يظل عالم الأشياء — وهو في
ذاته عالمٌ أخرس — حافلًا بالألغاز والأسرار في نظر العقل. ولا
بد للعقل أن يتحسس المعاني المختلفة التي يمكن أن تحل له
مغاليق اللغز أو تفتح خزائن أسراره. ولا بد أيضًا أن تتعدد
الحلول والمفاتيح بحسب السياقات التي توضع فيها الأشياء
والموجودات، بل إن كل حل يوجِد معه سياقًا جديدًا ويوحي بحلٍّ جنيد.
٨٧
ويفرق بلوخ تفرقةً دقيقة بين المجاز والرمز. فالمجاز هو
المتعدد المعاني الذي ينطوي على الشبيه والمخالف في نفس الوقت،
أما الرمز فهو الذي يقوم بعملية التوحيد تحت معنًى واحد. ولا
بد من الشعور فيها جميعًا بالمضامين اليوتوبية ورفعها إلى
مستوى الوعي الواضح، وتلك هي الوظيفة اليوتوبية التي تتحقق في
الأعمال الفنية الكبرى والأصيلة: «إن التشبيه هو علامة على شيء
ما يزال بالنسبة لنفسه علامة، أي بعبارةٍ أوضح هو علاقة ما لم
يتكشف لنفسه في الموضوعات ذاتها، وما لم يتَّحد مع نفسه تمامًا
ولم يتحقق في العالم تحققًا واقعيًّا كاملًا، وطالما بقي
العالم على هذا النحو في حالة عدم اكتمال، أي في حالة تجربةٍ
مستمرة لماهيته التي لم تتحقق تمامًا أو لم تبرز إلى الوجود
بصورةٍ واقعية، فإن المجازات والرموز ستظل تشارك هنا وهناك،
بدلالاتها على صيرورة العالم أو على هدفه وغايته في كل أحوال
العالم وأشكاله؛ بهذا يمكن القول بأن هذه الأشكال نفسها تحتوي
على مجازات ورموز، أعني أنها تحتوي على مجازاتٍ واقعية ورموزٍ واقعية.»
٨٨
هكذا تتعدد معاني العالم ودلالاته. فكل شيء يمكن أن يعبر عن
شيءٍ آخر غيره. وإذا كان هذا يصدم مبدأ الهوية (أو الذاتية)
ويمحو الفروق التي تميز الموجودات عن بعضها ويضيع معالمها
المحددة، فلا بد أن نسلم من وجهة النظر الجدلية بأن الهوية
النهائية لا وجود لها، وأن كل شيء يمكن أن يكون غيره. وفي هذه
الحالة يكون التعبير المجازي (كالتشبيه والاستعارة) وظيفةً
يوتوبية أو علامة على علامةٍ أخرى، أي على شيء لم يكشف بعد عن
حقيقته، ولم يتحد بذاته، ولم يصبح واقعًا متحققًا. ومن ثم يكون
العالم في وضعه القائم عالمًا ناقصًا ولم يبلغ تمامه، لأنه لم
يزل في حالة تجربةٍ مستمرة ولم يزل في سبيله إلى تحقيق ماهيته
بصورةٍ واقعية. ولهذا السبب أيضًا تشارك التعبيرات المجازية
بدلالاتها المتعددة في التعبير عن صيرورته المتصلة وتحولاته
وأشكاله التي لا تتوقف، بل من الجائز أن نصف أشياءه وموضوعاته
«الواقعية» بأنها في حد ذاتها مجازاتٌ واقعية أو رموزٌ موضوعية
٨٩ وذلك مصداقًا للبيت الشهير الذي يرد في خاتمة
«فاوست» جوته:
كل فانٍ هو رمز فحسب،
وكل ما لا يمكن الوصول إليه سيصير هنا حادثًا.
٩٠
فكل ما يراه في الواقع رموز على الأبدي الفعال
في الكون، وكل ما في الكون مجازٌ حيٌّ واقعي. ولأن العالم ناقص
ولم يكتمل في صورته النهائية، ولأن كل شيء فيه متصل بكل شيء
فإن وجوده ذاته يمكن أن يوصف بأنه دلالة، وحتى لو تصورناه أخرس
لا ينطق وساكنًا لا يتحرك، فإنه سيكون «علامة» تنطق وتعبر عن
حالة. ولكننا نعلم أنه ليس أخرس ولا هو ساكن، وأن كل شيء فيه
«يدل» على هويته التي لم تتحقق بعدُ، وهي الهوية التي يمكن أن
نصفها بأنها «كلية العالم» أو «وحدته الكلية»، كما يمكن أن
نقول إن كل شيء مفرد فيه هو «شفرة» تشير إلى كل شيء عداه
«وتدل» عليه، وأن هذه الكثرة المجازية التي لا نهاية لها تعبر
عن وحدة ظواهره المتنوعة وتماسكها.
بعد عرض علاقة الوظيفة اليوتوبية ببعض المذاهب المختلفة —
التي حاولت أن توظفها بشكل أبعدها عن هدفها الحقيقي — نكون قد
ألقينا الضوء على التحديد الأنثروبولوجي الذي اشتق منه بلوخ
التحديدات الأنطولوجية التي مفادها أن في وجودنا «لا» يتحتم
رفعها أو إلغاؤها، ونشعر أيضًا أن ثمة مستقبلًا تبدعه المخيلة،
ولكن من المهم أن تكون صورة هذا المستقبل صورةً واقعية وأن
نتخيلها تخيلًا موضوعيًّا، ونتكلم عنها في زمن
المستقبل.
وعلى الرغم من اتساع أفق بلوخ الفكري الذي تجاوز الرؤية
الماركسية، وعلى الرغم أيضًا من أنه يتمتع بدرجةٍ عالية من
الحس التاريخي، إلا أنه يظل أسيرًا لبعض الأفكار الماركسية
التي لا تخلو من التزمُّتية. وربما يتضح هذا من موقفه من
الأيديولوجيا، وتبنيه لوجهة النظر الماركسية التي ترى أن
الأيديولوجية هي منظومةٌ فكرية لم ينتج عنها سوى الوعي الزائف،
وإنها بهذا المعنى ضللت الوظيفة اليوتوبية وعوَّقت اكتشاف
الوعي باﻟ «ليس-بعد». لقد تغافل عن أن كل عصر له أيديولوجيته،
وأن لكل عصر منظومته الفكرية بالمعنى الكلي للفظ الأيديولوجيا
عند كارل مانهايم، الذي يحتفظ كذلك بمعنًى يوتوبي يتراكم مع
الزمن، أن الماركسية نفسها لم تخرج في النهاية عن النطاق
الأيديولوجي، كما بقيت في التحليل الأخير يوتوبيا تحاول أن
تتحقق بشكلٍ عيني، وآمنت إيمانًا جازمًا بحتمية التطور
التاريخي نحو مجتمعٍ شيوعيٍّ يوتوبي، وبهذا المعنى يكون
للأيديولوجيا نصيب في كل نسقٍ فكري، وتكون لها وظيفةٌ اجتماعية
— ربما لا تقل أهمية عن الوظيفة اليوتوبية المتضمنة فيها
بصورةٍ غير مباشرة كما تقدم — تتمثل في القدرة على تفسير
العلاقات الاجتماعية، وإدراك العلاقات بين الأشياء. والمهم أن
هذه الوظيفة ليست ثابتة وإنما هي متغيرة في كل عصرٍ تاريخي ولا
يمكن التغافل عنها بأي حال من الأحوال.
ويتهم بلوخ كل المثل العليا في تاريخ الفلسفة بأنها مجردة
وتأملية، وأنها مقطوعة الصلة بالواقع الفعلي، وأن الماركسية
وحدها هي التي استطاعت أن «توسط» هذا الواقع لتحقيق مثلها
الأعلى — أي الاشتراكية — التي هي بطبيعة الحال في رأي بلوخ
والماركسيين هدفٌ عيني. إلا أن هذا الاتهام للمثل العليا طوال
تاريخ الفكر الفلسفي هو في مجمله نوع من المبالغة — على الرغم
من استشهاده بالعديد من المذاهب الفلسفية وإثباته بالبراهين ما
يدعم به مدى التجريد الكامن فيها — بل ويمكن اعتباره نوعًا من
التعميم الذي يجب ألا يقع فيه فيلسوف يتحرى الدقة العلمية في
أحكامه على الأشياء، كما أنه نوع من المبالغة في قدرات النظرية
الماركسية التي أثبت التاريخ عجزها عن التوسط مع الواقع
الفعلي، ناهيك عن إخفاقها في تحقيق أيٍّ من أهدافها، بل ويمكن
القول إنها لا تختلف كثيرًا — على الأقل في جانبها التطبيقي —
عن الأنساق الفلسفية السابقة التي قامت لانتقادها. ويبدو أن
بلوخ نفسه قد تناسى أن طبيعة المثل العليا تفترض أن تكون من
النوع المفارق أو المتجاوز للواقع، وكم أكد هو نفسه في أكثر من
موضع أن الفكر بطبيعته متجاوز! وأخيرًا فربما كانت الوظيفة
اليوتوبية للدلالات اللغوية التي توحي بها المجازات والرموز
أكثر وضوحًا من غيرها، لأن هذه الدلالات تتضمن في طياتها
صيرورةً متصلة، وتحولات تتخذ أشكالًا مختلفة، وإن كان هذا لا
يتضح بشكلٍ جلي إلا في الأعمال الفنية الكبرى والأصيلة. فهل
الواقع هو صورةٌ مماثلة للعمل الفني؟ وهذه المجازات والرموز
التي استطاعت — عن طريق فض قشرتها اللغوية — أن تكشف عن هوية
العمل الفني، هل ستستطيع — أي المجازات والرموز — أن تكشف عن
الهوية الحقيقية الكامنة في الواقع الفعلي بعد فض قشرته؟ إنه
سؤالٌ مفتوح، والهدف منه هو تأكيد أن هذا الجانب من أكثر
الجوانب الدالة على أصالة بلوخ.