البناء الأنطولوجي للأمل
يحدد بلوخ أربعة تصورات أو مفاهيمَ أنطولوجيةٍ أساسية يصفها بأنها مفاهيم «مقولاتية» أو بالأحرى مقولاتٌ واقعية، تدل على حركة الواقع الجدلي للمادة والتاريخ، وتكشف عن صيرورتها نحو تحقيق الأمل اليوتوبي. هذه المفاهيم أو اللحظات الأساسية التي توضح حركة الواقع والعالم هي «اللا» التي يبدأ منها كل شيء، واﻟ «ليس-بعد» التي تعبر عن اندفاع التاريخ نحو الكل، أو تعثره وسقوطه في «اللاشيء» أو «العدم».
هذه المفاهيم أو المقولات الأربع تمثل المصطلحات الأساسية في نسق بلوخ الجدلي وبنائه الأنطولوجي، كما ترتبط ارتباطًا حميمًا بمقولة «الإمكان» وجدل «المادة»، بقدر ارتباطها بجدل الوعي البشري وأحلامه وتوقعاته عن المستقبل.
أولًا: المفاهيم الأنطولوجية لمقولة اﻟ «ليس-بعد»
(١) مفهوم «اللا» The Not
وإذا كانت الحاجة واللاتملُّك هما أول ما يواجه الإنسان في حياته، فإن ذلك يعني أن «اللا» مغروسة فيه، وجزء لا يتجزأ من تجاربه الأولى في الحياة. فهو يشعر بأنه في الحاضر الراهن ليس ما يمكن أن يكون عليه. ويلازمه هذا الشعور طالما أحس بالافتقار إلى شيء أو آخر ينقصه. وهذا ما يجعله يحتفظ «باللا» داخل وجوده، بذلك يكون السلب قد وجد في الإنسان قبل أن يوجد في المنطق الجدلي، وتكون هذه «اللا» هي المحرك الجدلي للواقع الطبيعي والوعي على السواء.
(٢) اﻟ «ليس-بعد Not yet»
هكذا تعبر «اللا» عن السخط على الصورة التي صار إليها الشيء المفتقد، بوصفها القوة الدافعة الكامنة تحت كل صيرورة في العالم، والدافع المحرك إلى الأمام في مجرى التاريخ، ولذلك تظهر في كل تعريف يقدم للموضوع وكأن لسان حالها يقول بلهجة الإنكار: كلا ليس هذا هو المحمول الذي يحدد الموضوع تحديدًا كافيًا. ومن ثم يتبين أن «اللا» تجعل من نفسها «ليس-بعد» يوتوبية وفعالة على الدوام، وتتخذ صورة «السلب» الذي يدفع الحركة الجدلية قدمًا، وينمو خلال كل وضع قد يبدو إيجابيًّا وإن لم يكن كذلك تمامًا من منظور «الكل» الذي لا زالت تتطلع إليه، والذي يمكن عنده وحده أن تستقر «اللا» بعد تحقيق هدفها المنشود.
تلك هي أنطولوجيا اﻟ «ليس-بعد»، أي أنطولوجيا «الموجود» الذي لا يزال يتشكل خلال عملية الصيرورة المتصلة، دون أن يفقد صلته «بالوجود» الجوهري أو الكلي الذي يقوم الموجود نفسه بدور «التوسط الجدلي» على الطريق الصاعد إليه. وغني عن الذكر أن هذا التوسط يتم من خلال الجهد الذي يبذله الإنسان والعالم، أو الوعي والمادة، فكلاهما منخرط — كما رأينا — بحكم صيرورته المتصلة في اﻟ «ليس-بعد»، أي في اليوتوبي الممكن والواقعي على السواء.
والآن بعد أن تحولت «اللا» إلى اﻟ «ليس-بعد» وانطلقت هذه الأخيرة في التاريخ، واندفعت إلى الأمام، فإلى أين تتجه وما هو هدفها؟ إنها تتجه إلى المستقبل، وهدفها كما قلنا هو الوصول إلى الكل اليوتوبي، ولكن هل تسير اﻟ «ليس-بعد» دائمًا في المسار الصحيح، بحيث تدرك مباشرةً وبشكلٍ تلقائي هذا الكل اليوتوبي، وتبلغ بذلك قصدها وهدفها؟ أم يتعثر المسار فتصطدم «باللاشيء» أو «العدم» وفي هذه الحالة لا تبلغ اﻟ «ليس-بعد» هدفها المنشود؟
(٣) «الكل» اليوتوبي، واللاشيء أو «العدم»
•••
وأخيرًا قد تبدو الصيغة المنطقية السابقة مجردة أو غامضة أكثر مما ينبغي؛ ولذلك فهي تحتاج إلى وقفةٍ نقدية تعلق عليها وتوضحها. والواقع أننا لو رجعنا إلى تلك الصيغة أ لم تصبح بعدُ هي ب، لوجدنا أنها قد أثارت إشكالاتٍ أنطولوجيةً عديدة، فربما تبدو في ظاهرها يقينيةً واضحة، غير أنها تخفي في حقيقتها الحيرة والقلق. والفخ المنطقي والأنطولوجي الأول يكمن في كلمة «بعد»، فقد تعودنا في المنطق الصوري أو التقليدي أن نميز بين الوجود واللاوجود، وأن نفرق بين أ ولا أ بقولنا أ هي أ، والعكس كذلك صحيح — أ ليست هي لا أ. وكلتا الصيغتين تقومان على المعادلة الرياضية أ = أ وكذلك أ لا يمكن أن تساوي لا أ. كل هذا يؤكده منطق الثبات والتحديد التقليدي، لكن الأمر مع منطق الحركة والتغير مختلف؛ إذ يدخل على الصيغة والمعادلة طرفٌ جديد يهزُّ توازنها، وهذا الطرف الجديد هو كلمة «بعد» التي تغير نظرتنا إلى الموجود والوجود كله.
بهذا يدخل التناقض الجدلي في حسابنا ويصبح عنصرًا أساسيًّا من العناصر المكونة للوجود فتتغير الصورة التالية: أ لم تصبح بعدُ هي أ، أو بعبارةٍ أبسط: الموجود أ الذي ندركه ونتعامل معه في هذه اللحظة ما يزال بعيدًا عن تمثيل حقيقة أ، وربما يتاح له في المستقبل أو لا يتاح له أن يظهر مكنونه ويحقق وحدته مع ذاته. وحتى هذا التحقيق أو التوحد يحتاج أن نراه رؤيةً جدلية فنقول إنه لن يكون هو التحقيق الأخير ولا الكمال النهائي (وكلاهما يحمل معنى التوقف والتجمد والموت)، وليس الموجود إذن هو نفس الموجود، إنه شيءٌ مختلف عما هو عليه في ذاته. وستبقى أ = لا أ صحيحة ما بقي الموجود الذي يظهر لنا في الحاضر مختلفًا عما يمكن أن يكون عليه في المستقبل، ولكن ألا يعني تدمير الهوية أو الذاتية الراسخة أن يتصدع العالم، ويتفتت الموجود، ويغرق في نهر التحول الأبدي بحيث يستحيل أن نفكر فيه بأنه موجود؟ وكيف نسمي أو نتصور شيئًا يتشذر ويتغير من حال إلى حال بغير انقطاع؟
لا شك أن هذه الفكرة يمكن أن يُساء فهمها، ومن الممكن أن تضع فلسفة بلوخ في مهب الريح، وقد يقول البعض كيف يمكننا تسمية شيء بغير اسمه الصحيح بحجة أنه يمكن أن يكون صحيحًا في المستقبل؟ وقد يقول البعض كيف نجازف في هذه الحالة بإصدار حكم على الوجود على أساسٍ عاطفيٍّ هش هو الأمل أو الرجاء؟ الحق أن تبديد هذا الظن يتوقف على التمسك بالنظرة الجدلية والتعويل على إرادة الإنسان ووعيه الثوري … ولنبتعد عن الأنطولوجيا قليلًا ونضرب مثلًا من الحياة؛ فهل نسمي المجتمع الذي ينتج وسائل القهر والقمع والتعذيب وأبشع الجرائم والحروب بأنه مجتمعٌ إنساني أم بأنه لا إنساني؟! وهل نظلم الحقيقة إذا وصفنا البشر الذين يعيشون فيه، أو على الأقل المسئولين عن تلك الشرور، بأنهم ليسوا بشرًا؟ نعم إن الإنسان في مثل هذه المجتمعات يفتقر إلى هويته الإنسانية بسبب ظروفٍ مختلفة ومعقدة، ولكنه يمكن أن يتحد بهويته الجوهرية إذا تغيرت هذه الظروف، لأن اللا-إنسان الذي تزيد وحشيته أحيانًا عن الوحش لا يزال إنسانًا بحكم الطبيعة والإمكان، وإن لم يبلغ في ظل الوضع القائم مبلغ الإنسان، فإذا أضفنا كلمة «بعد» إلى العبارة المتناقضة: أ ليست هي أ، أو أ = لا أ وجعلناها أ لم تصبح بعدُ هي أ، فإن ذلك ينطوي على إضافة قيمةٍ معيارية إلى أ تعطيها فرصة التحقيق في المستقبل، على الرغم من عدم تحققها في واقع الأفراد الذين ينتمون إلى فئتها أو نمطها الكلي، ومعنى هذا — إذا شئنا أن نستخدم لغة أفلاطون — أن هنالك درجات في الاقتراب من الوجود الحق، أو من الوجود العام لكل موجود.
تلك أمثلة للأسئلة والمشكلات التي يتصارع معها تفكير بلوخ اليوتوبي على كل المستويات، فالمادة لن تكف عن التفتح والإبداع، والمجتمع الخالي من الطبقات لن يتوقف بتحقيق «الجماعة الشيوعية» كما توهمت الدول الشيوعية، والفن لن يسأم الصعود على درجات الكمال، والحرية لن تفرغ أبدًا من إتمام تحررها، والهوية النهائية لن تتحقق أبدًا بصورةٍ نهائية، والإنسان لن يكف أبدًا عن تجربة الحياة من جهة السلب والنقص، ولن ينفض يدَيه أبدًا من محاولة التجاوز والعلو على ذاته. وفي كل الأحوال لن تخلو أي يوتوبيا متحققة من بقيةٍ يوتوبية، لا لأن الكمال لم يتحقق فحسب في العمل الذي تم إنجازه، بل لأنه بعيد عن الصورة التي تم تصورها قبل البدء فيه وأثناء الجهد الذي بُذل في سبيل تحقيقه … ولا يرجع ذلك لأن الإنسان مخلوقٌ ساخط بطبعه، لا يقتنع بأي هدف يحققه، بل لأن للوجود درجات، كما أن للكمال درجات. والحقيقة أن المزيد من الوضوح والتميز في تمثل الوجود والوعي به — كما عند ليبنتز في مذهبه عن المونادات — واستكمال العمل الكامل، هما خطوات على الطريق إلى تحقيق مفهوم الهوية والوصول إلى الكل.
وهكذا يفلت الوجود على الدوام، ويخترقه السلب لكي يفسح مكانًا للصيرورة ومعها التغير والتحول، والفكر وحده هو الذي يتشبث بديمومة الوجود الذي وحَّده معه بارمنيدس في عبارته المشهورة (لأن الوجود والفكر واحد)، وإلا انزلق منه كل شيء، ولم يتكون من تدفق الظواهر عالم على الإطلاق. أما الواقع الذي يواجه الفكر ويتسرب إليه في مختلف الصور، فهو حركةٌ متصلة، وكل ما هو «واحد» فيه ينطوي على «الآخر» المختلف عنه، ولولا ذلك ما كان هو الواحد ولا أخرج الوجود من داخل اللاوجود كما بين أفلاطون ذلك في محاورة «بارمنيدس» واستطاع بذلك أن يتجاوز الوجود أو أن يجعله يتجاوز نفسه.
ومهما يكن الأمر، فغني عن الذكر أن تلك الصيغة الجدلية المكثفة لا يمكن أن تتضح إلا إذا تم استخراج مضمونها الغني من ثنايا التجربة البشرية التي تجلى فيها على أنحاءٍ مختلفة، وإن تكن قد ظهرت حتى الآن في صورٍ تاريخيةٍ جزئيةٍ مشتتة وغير كافية أو محققة للأمل اليوتوبي، وبيان هذا وشرحه معناه تتبع العملية الجدلية في مجالَيها التاريخي والكوني، وهي العملية التي لا يمكن تصورها إذا كان الوجود ليس على الصورة التي ينبغي أن يكون عليها، وأنه لم يزل على الطريق إلى تحقيق ماهيته. وطبيعي أن الهدف من هذا البحث هو شرح هذه العملية الجدلية الضخمة في صورها وأبعادها المختلفة التي لم تزل في مجموعها مجرد تجلياتٍ مؤقتة للكل اليوتوبي الأخير، أو لم تزل مجرد خطوات ومراحل من الرحلة الطويلة التي تتابع طريق التجربة والخطأ، والنجاح والفشل، والأمل وخيبة الأمل، وكأن جهد العالم كله، وجهد الإنسان الذي يمثل آخر فصل فيها هو مختبر الخلاص الممكن.
ثانيًا: مقولة الإمكان
(١) طبقات مقولة الإمكان
(أ) الممكن الصوري أو الشكلي The Formally possible
(ب) الإمكان الموضوعي من الناحية المعرفية The factually objectively
وطبيعي أن يدخل البحث في مشكلة الإمكان الموضوعي الذي يعبر عنه الحكم الإشكالي الصحيح في مشكلاتٍ أخرى متعلقة بمنهجية البحث العلمي وبمدى قدرة المنهج «الاستقرائي» على إثباته أو نفيه من خلال قدرته على معرفة جميع شروطه أو معظمها، وربما يتعلق الأمر بمشكلة التعميمات الاستقرائية التي يبدو أنها لم تجد الحل اليقيني النهائي حتى الآن، وإن أقصى ما يمكن قوله عنها إنها فروض عمل تحتوي على أكبر قدر أمكن التوصل إليه من درجات الاحتمال أو الإمكان الموضوعي؛ ولذلك نكتفي بما قلناه عن الإمكان الموضوعي من الناحية المعرفية وننتقل إلى الإمكان الموضوعي من ناحية الموضوع نفسه.
(ﺟ) الإمكان الموضوعي من جهة الموضوع نفسه The fact-based object-suited possible
(د) الإمكان الواقعي في الواقع نفسه The Objectively-Real possible
هكذا نظر الفلاسفة السابقون إلى الإمكان الواقعي نظرةً واقعية، واستخلصوا من ذلك — حسب تفسير بلوخ — النتيجة التي استهدفها منذ البداية من نظرته الحيوية والمستقبلية إلى المادة التي تشمل في رأيه الحياة والعقل وتمثل الرحم الخصب على الدوام والنزوع المستمر لإنجاب الصور والأشكال القابلة للتحقق في الواقع.
لم يعد من الممكن إذن أن تستقر المادة — أو على الأصح الإمكان الواقعي — في الأنطولوجيا السكونية المغلقة للوجود بما هو موجود، فقد اهتدت، بعد عناء البحث الطويل، إلى وطنها الحقيقي في أنطولوجيا جديدة تحتاج باستمرار إلى تأسيسٍ جديد من جهة الزمان والمكان معًا، وأعني بها «أنطولوجيا الوجود» الذي لم يوجد بعدُ، والذي يكتشفه «الوعي بالمستقبل» في الماضي نفسه وفي تاريخ الطبيعة بأسرها، كما يصبح المكان هو «بُعد الأمام» أو التقدم المستمر لحركة المادة الجدلية التي تطبق عليها مقولة الإمكان الواقعي وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك بعد أن نظرنا إلى المادة وخصائصها نظرةً مستقبلية؟ وهل يستقيم تصورنا للواقع والواقعية إن جردناهما من بعد الانفتاح على المغاير والجديد؟ ولكن كيف نفهم هذا «الجديد» و«الكلي» الذي يكمن في بذور الإمكان الواقعي ويتفتح باستمرار على المستقبل؟ وإلى أين تندفع إمكانات المستقبل المفتوح على الطفرات اللانهائية لعملية الصيرورة الجدلية الدائبة؟
والملاحظ أن بلوخ يظل هنا أسير عقيدته الماركسية المتزمتة على الأقل من ناحية الهدف لا من ناحية السبل والطرق الموصلة إليه. فهو يصوغ هذا الأمل البعيد في تحقيق الماهية الكلية في الصيغ الماركسية المعروفة مثل «تطبيع الإنسان وأنسنة الطبيعة»، والقضاء على اغتراب الإنسان عن الطبيعة والعكس، «والتصالح بين الموضوع والذات والضرورة والحرية». ولن يتحقق الأمل في هذا الإمكان الواقعي إلا بتوسط الجدل الفعال والتفاؤل المناضل بعالمٍ أفضل.
(٢) مقولة الإمكان وموقف بعض المناطقة والفلاسفة منها
بيد أن كانط يفسح مجالًا للإمكان في فلسفته العملية بعد أن استبعده من فلسفته النظرية كما سبق القول، ففي ذلك المجال الذي يتعلق بمعرفة التجربة الأخلاقية عن طريق العقل العملي لا النظري، نجده يضع المثل والمبادئ أو المسلمات الأخلاقية التي يمكن أن تلزم الإنسان الذي يتجاوز ثنائية عالم الظواهر وعالم الحقائق المعروفة التي احتفظ بها في فلسفته النظرية، أي الإنسان الذي يعلو على الطبيعة والمنفعة، ويطيع أمر «الواجب المطلق» باعتباره كائنًا أخلاقيًّا ينتمي انتماءً أساسيًّا لعالم الحقائق الذي تسكنه «إمكانات» عليه — بحكم القانون الأخلاقي الصوري الصارم — أن يحققها في الواقع.
(٣) تحقيق الإمكان
الإنسان كائن ينتظره الكثير ولم يزل أمامه الكثير. وهو ما زال يتشكل بصورٍ مختلفة من خلال عمله، ويجد نفسه على الدوام وجهًا لوجه أمام الحدود التي يدرك أنها لم تعد حدودًا ثابتة، وأن عليه أن يتخطاها لما وراءها. إن «الشيء الحقيقي» — في نفسه وفي العالم — لم يتحقق بعدُ، ولم يزل معرضًا للتلف والضياع، أو منتظرًا على أمل النجاح. ذلك أن «الممكن» يمكن أن يؤدي للوجود، كما يمكن أن يفضي إلى العدم. ومعرفتنا بشروط تحقيقه الفعلية أو شعورنا بنضج هذه الشروط شعورًا يبلغ حد اليقين أو على الأقل أقصى حدود الاحتمال هو الذي يجعل منه ذلك الإمكان الواقعي الذي تحدثنا عنه. وإذا لم تتدخل مبادرة الإنسان وشجاعته في «اللحظة الممتلئة» المناسبة، فسوف يبقى هو والإمكان في حالة تأرجح بين الخوف والرجاء. فهل فطن الرواقيون إلى ذلك عندما نصحوا الإنسان بأن يبتعد عن الأوضاع التي لا يمكنه السيطرة عليها، أم كان هذا نوعًا من الحكمة المتعالية التي تمسكوا بها في أصعب المواقف والظروف وكانت — برغم شجاعتها — حكمةً سلبيةً يائسة؟
أما عن هذا المستقبل الواقعي الذي ينتهي فيه اغتراب تلك الذات العاملة والواعية ويقضي على اغترابها واستغلالها واستعبادها، كما ينتهي كذلك اغتراب العالم والطبيعة الخارجية التي لا تصنعها هذه الذات، وإن كانت تؤثر عليها «وتُؤَنسنُها» بتوسطها، فإن معالمه ستتضح عند الكلام عن «اليوتوبيا الواقعية» التي رسم ماركس ملامحها، وجاء بلوخ فعمق هذه الملامح بحيث أصبحت هي «وطن» الحرية والإخاء البشري الذي يسكنه؛ على حد تعبير جوته في نهاية فاوست: «شعب حر يعيش على أرض حرة.» ويحقق الإمكان الذي يقبل التحقق كما يتحتم أن يتحقق.
والآن ماذا أضافت مقولة الإمكان — التي اتهم بلوخ الفلاسفة بإهمالها طوال التفكير الفلسفي — بطبقاتها أو مستوياتها المتعددة إلى الفكر الفلسفي من ناحية، وما أهميتها في فلسفة بلوخ السياسية من ناحيةٍ أخرى؟ يمكن القول بأن الانفتاح الهائل لمقولة الإمكان على المستقبل جعل مهمة التفكير المقولاتي لا تقتصر على المعرفة، وإنما تتدخل بشكلٍ إيجابي في مسيرة العملية الكونية، ولذلك يمكن القول بأنها أنطولوجية وعملية أو سياسية، بقدر ما هي منطقية ومعرفية. ولو وقف بلوخ عند هذا الجانب النظري الأخير لكان متناقضًا مع روح فلسفته الثورية ومقاصدها العملية والسياسية. ولذلك يكون من الطبيعي أن يحاول رفع التناقض بين النظرية والتطبيق، وبين الفكر والوجود، لأن العمل والنجاح فيه هما اللذان يتجه إليها في نهاية الأمر أي تفكيرٍ صحيح وصادق. ولذلك فإن التفكير يملك الكلمة الأولى في التعبير عن منطق العصر، ولكنه من ناحية المهمة التي ينبغي الالتزام بها لا يملك الكلمة الأخيرة، لأن هذه ملك الفعل والتغيير. بيد أن الفعل أو العمل مستحيل بغير التصور أو المفهوم، وهذا الأخير هو قائد التحول الثوري ورائد الوصول إلى الهدف الصحيح.
والمهم في النهاية أن النظر في تفاعلٍ مستمر مع العمل، وأن العلِّية هنا متبادلة وليست من طرفٍ واحد. فالعمل أو التطبيق العملي مرتبط بالنزوع الموضوعي الكامن في الوجود الواقعي، والنزوع الموضوعي يمكن معرفته عن طريق دراسة التطور التدريجي لإمكانات ذلك الوجود. ومن ثم يكون العمل أو التطبيق العملي هادفًا باستمرار، كما يكون العمل أو الفعل متطابقًا مع النزوع المدروس بدقة وعناية لتمييزه عن أي نزوع كان أو غير ناضج. وهكذا نجد أن نجاح العمل لا يتوقف فحسب على التحديد الفكري أو المقولاتي، وإنما يعتمد كذلك على إمكان التحقيق العملي لإحداث التغيير الحقيقي. وكل هذا مترتب بالضرورة على كون الماهية الكامنة في الوجود الفعلي لم تصبح واقعًا حقيقيًّا بعدُ، وأنها تظل في حاجة إلى التحديد الفكري والمعرفي بقدر حاجتها إلى التحقيق العملي والواقعي. إنها الماهية التي تتطلب باستمرار الظهور والتحديد بصورة تقترب من الكمال بقدر الإمكان، كما تنتبه على الدوام إلى الإمكانات الواقعية والموضوعية التي تنزع إلى التحقق وتدعو الإرادة والعقل إلى تحقيقها في الواقع بعد تحديدها في المفهوم والتصور. ولا بد هنا من تدخل العامل الذاتي في إطار العملية التاريخية ووفق خطةٍ اقتصادية واجتماعيةٍ محددة لإبراز الممكن العيني إلى حيز التحقيق.
ثالثًا: أنطولوجيا المادة
يقود الحديث عن مقولة الإمكان، وهي أهم مقولات أنطولوجيا اﻟ «ليس-بعد»، إلى مشكلةٍ هامة في فلسفة بلوخ، ألا وهي مشكلة المادة. لقد كانت المادة هي مبدأ الشر والباطل والمظهر الخداع في فلسفاتٍ سابقة مثل الأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة والغنوصية؛ إذ كانت هي ذلك الجزء من الوجود الذي ينبغي تجاوزه، وكان العالم المادي في فلسفاتٍ أخرى هو عالم اللاحرية والحتمية والتبعية، وكلما نسب إلى العالم المادي قدر من الواقعية كانت النتيجة هي ثنائية المادة والروح، وكلما سلبت المادة من واقعيتها وأصبحت مجرد مظهرٍ خداع كانت النتيجة هي الواحدية الروحية. وفي الحالين كان يُنظَر للعالم الطبيعي نظرة احتقار، وكأن ماهية الوجود لا مكان لها إلا في عالمٍ آخرَ مختلفٍ تمامًا عن العالم الطبيعي المادي. لذلك لم يكن تاريخ الخلاص تاريخًا للعالم، بل كان هروبًا من العالم ومن الواقع العيني داخل العالم فكان — كما هو الحال عند أوغسطين — نوعًا من الفرار من «المدينة الأرضية» إلى «مدينة الله». وبالمثل كانت كل اليوتوبيات الدينية روحانية، ولو أمكن أن نجعل مضمونها جزءًا من العالم نفسه بحيث يكون هو أفضل شكلٍ ممكن للمجتمع البشري يقضي فيه على الظلم والحاجة، عندئذٍ يصبح التفكير اليوتوبي تفكيرًا واقعيًّا، ويكون السؤال عن الشروط المادية اللازمة لقيام «مملكة الحرية» التي هي القصد والهدف البعيد لفلسفة بلوخ اليوتوبية.
(١) مفهوم المادة عند بلوخ
تتركز الفكرة المحورية لبلوخ عن المادة في أنها الرحم الخصب الذي تتولد عنه كل الأشكال الممكنة، وتخرج منه دائمًا مختلف أنواع الواقع المتجدد. ويبدأ بلوخ بتعريف المادة بمحاولة الاقتراب منها عن طريق التعرف السلبي، أي بتجريدها من المفاهيم غير الجدلية. فليست المادة كتلةً ميتة، تحرك بالضغط والدفع وتبقى هي هي بلا تغيير. وحتى إذا فهمت علاقتها الصرورية بالحركة، فليست هي المادة التي ترجع دائمًا إلى نفس الصور والأشكال القديمة التي خرجت منها؛ إذ لا يصدق هذا إلا على المادية الآلية التي رفع عصر التنوير من شأنها، وتصور أن مفهومه عنها مفهومٌ ثوري، ثم أصبحت بعد ذلك هي المادية الساذجة أو المادية الشعبية. وليست هي المادية التي ينظر إليها المثاليون ورجال الدين نظرة التعالي والازدراء، ويسلبونها حق الميلاد الذي أعطى لها منذ الفلاسفة قبل سقراط وأرسطو و«اليسار» الأرسطي من ابن سينا وابن رشد إلى عصر النهضة، حتى أصبحت هي الطبيعة الطابعة عند جوردانو برونو ثم اسبينوزا من بعده، ومنذ أن تغنى بها الشاعر الروماني لوكريتس (من حوالي ٩٦ إلى حوالي ٥٥ق.م.) في مطلع قصيدته «الأبيقورية» عن «طبيعة الأشياء».
إن من حق الطبيعة العضوية واللاعضوية — في رأي بلوخ — أن تحتل مكانها في التاريخ البشري، وأن تحيط به كذلك إحاطةً كونيةً شاملة. ومن الواجب على التاريخ الحضاري — كما حدث في عصر النهضة — أن يضع نفسه داخل الطبيعة المادية، دون أن يضطر لدفعها بالآلية أو لوضع شاهدٍ مثالي على قبرها — على حد تعبير بلوخ — ودون أن يضطر كذلك للفرار الرومانسي إليها في الرسم والشعر (الذي يكسوها بأثواب الجمال والجلال ويغفل عن جوهرها الجدلي الحي) أو الزعم بأن العلم الطبيعي-الرياضي ونتائجه التقنية قد تحكمت فيها وأحاطت بكل إمكاناتها الكامنة.
كان من الطبيعي أن يرجع بلوخ إلى مفهوم المادة عند أرسطو بوصفها «الموجود بالقوة أو الإمكان» وأن يتتبع فكرتها كإمكانٍ غير محدود منذ أرسطو إلى أن بلغت ذروتها وتفتحها عند ابن سينا، ثم تابعت نموها عند عددٍ كبير من مفكري العصر الوسيط وعصر النهضة، أمثال ابن رشد وابن جبيرول وابن ميمون حتى باراسلس وجوردانو برونو إلى أن وصلت إلى مفهوم الطبيعة الطابعة عند اسبينوزا والمونادة الحية عند ليبنتز، ثم إلى تصورها الكيفي والعضوي الحي عند شيلنج وجوته، حتى اكتملت في المادية الجدلية عند ماركس وإنجلز.
(٢) تطور مفهوم المادة لدى اليسار الأرسطي
والواقع أن الفلسفة المادية الجدلية لم تزل تعاني من اتساع الفجوة بين جدلها التاريخي بقوانينه ومبادئه الضرورية والقبلية من ناحية، وبين الجدل التجريبي للطبيعة من ناحيةٍ أخرى، وهي فجوة لم تستطع الفلسفة الماركسية حتى الآن أن تتخطاها أو تقرب بين طرفَيها المتباعدَين بصورةٍ مقنعة. ومن الواضح أن أي فلسفة تعجز عن تفسير العالم الطبيعي والتاريخي ابتداء من مبدأٍ نسقي ومنهجيٍّ شامل لا بد أن تبقى فلسفةً قاصرة، وإذا كان الذي لاحظناه في تصور بلوخ «غير العلمي» للمادة يرجع في الحقيقة إلى قصور النظرية المادية نفسها، فإن هذا لا يقلل في شيء من الجهد الفلسفي الذي حاول به تأسيس «أنطولوجيا جدلية للتاريخ الإنساني» ولمضامين الوعي الذي يتأمله، على أنطولوجيا أعم عن المادة وتفتحها الجدلي في الطبيعة، مهما أُخذ عليه الابتعاد عن طريق الفلسفة العلمية الحقيقة واللجوء إلى التصوير الفني والخيالي والحيوي بلمساته الشعرية والصوفية الواضحة للعيان. ذلك أن تصوير العالم في صورة كلٍّ حي لا يمكن أن يتم إلا عن طريق تشبيهه بالعمل الفني الحي المتكامل، وإن كان من الضروري أن نستدرك هنا فنقول إن كليهما (أي العالم والعمل الفني) يظل في حالة صيرورة ولا يكتسب هويته أو ماهيته النهائية إلا في المستقبل البعيد، وكل ما «ليس-بعد»، أي كل ما هو على الطريق فهو كذلك على الطريق إلى «يوتوبياه» التي ستكتمل مع غيرها في أحضان «اليوتوبيا الكلية» المأمولة، ولا نقول النهائية حتى لا نخرق قوانين الجدل التاريخي أو المادي. ومجمل القول أن مفهوم المادة ومن ثم الطبيعة لا يخلو عند بلوخ من إشكالات، إن لم نقل من مفارقات وتناقضات، فإذا قلنا إنها تتخذ صورة «الطبيعة الطابعة» — كما نجدها عند اسبينوزا في نسقه الواحدي أو في وحدة وجوده المعروفة — فهي إذن الخالق (الذي يواصل فعل الخلق والحفظ المستمر على حد تعبير الأشاعرة وديكارت) والمخلوق (الذي تتواصل عملية خلقه بلا توقف)، وهي كذلك المحرك الأول — بلغة أرسطو — وعلة ذاتها — بلغة العصر الوسيط واسبينوزا — التي لم تحقق ذاتها بعد، وإن كانت في سبيلها إلى تحقيقها. وهنا تكون المادة بمثابة الرحم الذي خرجت منه كل الأشكال الموجودة والأشكال التي ما زالت في طريقها إلى الوجود، بالإضافة إلى أنها تضمن تحقيق الوحدة التي تضم التنوع اللامتناهي الهائل للتاريخ الطبيعي. وهنا يبدو هذا السؤال: هل تكمن جميع الإمكانات التي تحققت بالفعل، فضلًا عن تلك التي لم تتحقق منذ البداية في داخل المادة التي لم تتطور على الإطلاق؟ وهل هذه الإمكانات بمثابة رصيدٍ مدخر من الماهيات الممكنة، على نحو ما تصورتها الميتافيزيقا الوسيطة بوصفها «أفكار الله الخالدة»؟ إذا صح هذا يكون قد تم افتراض وجود عالمٍ كامل وثابت للإمكانيات على غرار عالم المثل الأفلاطونية بجانب عالم الواقع أو على الأصح وراءه، ويصبح عالم الواقع في هذه الحالة هو عالم الظواهر أو عالم الظلال الأفلاطونية لتلك الإمكانيات الأبدية.
ومع أنه من المستبعد أن يكون هذا «الحل» قد خطر على بال بلوخ، فقد كان عليه — لكي يكون متسقًا مع فكره — أن يقول بإمكانيات لم توجد داخل المادة منذ البداية، إمكانات تضاف مع الزمن إلى مسيرة التاريخ الطبيعي والبشري، أي أن يقول «بجديد» من ناحية التحقق الفعلي ومن ناحية القوة والإمكان على السواء. ولكن كيف يستطيع في هذه الحالة أن يفكر في إمكانات لم تكن ممكنة على الدوام ومنذ البداية؟ ألا يكون عليه أيضًا في حالة القول بالإمكانات الجديدة أن يبين الشروط والأسباب التي حلت محل الظروف السابقة التي أبطلت الإمكانات القديمة؟ بعبارةٍ أوضح: أليس من الضروري — إذا أراد أن يفهم الوجود في سياقٍ مترابط يخضع فيه كل موجود لقوانين طبيعية دقيقة — أليس من الضروري في هذه الحالة أن تكون كل الإمكانات قد نشأت عن سلسلةٍ مترابطة ولا متناهية من السياقات العلِّية التي تمكننا من تتبع تلك الإمكانات منذ بدايتها بحيث نقول عنها إنها وجدت وكانت «ممكنة» على الدوام؟ وإذا لم نفترض هذا ليكون تصورنا علميًّا بقدر الطاقة، فسوف يكون البديل — الذي يرجح أن يكون لينتز قد لجأ إليه عند حديثه عن عوالم الإمكان والأسباب المنطقية والغائية التي تكمن وراء اختيار أحدها للتحقق الفعلي — سيكون هو افتراض عالم الإمكانات الشبيه بنسق المثل الأفلاطونية، أو التسليم بتدخل فعل الخلق الإلهي لتبرير ظهور الإمكانات الجديدة بغير سبب علِّي كافٍ. ومن الواضح أن مثل هذا التدخل الإلهي لا يمكن تصوُّره في عالمٍ مادي أو طبيعي يفترض صاحبه أنه يخضع لقوانينَ ضرورية.
هكذا تقع فلسفة بلوخ الطبيعية في أسئلة وإشكالات يبدو أنها لن تجد الإجابة عنها إلا في الحلول اللاهوتية، فالفلسفة التي تقوم على افتراض نسقٍ مفتوح للتاريخ البشري داخل هذا العالم لا بد أن يؤدي تطبيقها على التاريخ الطبيعي وعلى العالم المادي في مجموعه: إما إلى مفارقة «الحدوث» المطلق لهذا العالم (مع ضرورة التسليم بوجود الإله الخالق على العكس مما يريد الفيلسوف)، وإما إلى افتراض عالمٍ «أفلاطوني» مستقل من الإمكانات الأبدية التي ستبدو جدتها وتفتحها مجرد انعكاس للانهائي على الوعي النهائي والبشري المحدود. ومعنى هذا أن فكرة بلوخ المحورية عن المادة من حيث هي وجودٌ ممكن أو وجود لم يتحقق بعدُ ستنطوي في الحالَين على صعوبات وإشكالات لم يحلها بلوخ أو لم يستطع أن يصل إلى الحل الذي يتسق مع فلسفته ولا مع التطور العلمي لمفهوم المادة التي أصبحت — على حد تعبير رسل وغيره — سلسلةً من الأحداث المحايدة. وربما يرجع السبب العميق في ذلك إلى عجز المادية الجدلية عن إقامة فلسفة طبيعية متسقة مع مبادئها المنطقية والقبلية من ناحية، ومع الرؤية العلمية المعاصرة للمادة والعالم من ناحيةٍ أخرى.