الزمان والتاريخ والجدل
ما هو الجدل؟ وما جوهره؟
الجدل هو منطق الزمانية ومنطق الصراع والتغير في الفكر والعالم. والجدل من الناحية الموضوعية هو الرفع الذاتي لوضعٍ معين بالانتقال إلى الوضع التالي له عن طريق توسط النفي (السلب) أو التناقض خلال عملية الصيرورة. أما من الناحية الذاتية فإن الجدل هو صياغة أو تكوين التناقض كشكلٍ فكري بأن يشمل العام نفسه وضده معًا. والجدل كخطوةٍ إيقاعيةٍ ثلاثية على الصورة المعروفة عند هيجل هو الموضوع ونقيضه والمركب الذي يستوعبهما معًا. والجدل المادي يفترض المجال المفتوح الذي تخرج فيه التناقضات من الموضوع ذاته كما يتم رفعها والتغلب عليها.
ويسير الجدل مع الأحداث ويسبقها ويتقدم عليها. ولذلك فالجدل ليس منهجًا للتصور، وإنما هو منهج للتقدم، ومن ثم يتعلق تعلقًا أصيلًا بالكل الذي لم يتحقق أو لم ينتج بعدُ، أو بالكلية التامة التي ينتظر أن تظهر في آخر الزمان. ويحلل بلوخ تاريخ الفلسفة كله على أساس الفصل بين الذات والموضوع، فتارة يتم التركيز على الذات فتكون الفلسفات المثالية الوجودية، وتارة يحدث تركيز على الموضوع فتكون الفلسفات المادية والآلية الفجة التي هاجمها هجومًا شديدًا. لذلك يحاول في كل كتاباته أن يوحد بين الذات والموضوع وبين الوجود والماهية اللذين لم يتحدا بعدُ — في رأيه — وحدةً حقيقية، لأن تحقيقها مرهون بالوعي والإرادة البشرية، والنزوع الموضوعي والاتجاهات المستقبلية نحو هذه الوحدة.
أولًا: الجدل المادي عند بلوخ
وترتب على ذلك إنكار بارمنيدس للحركة، فالحركة تتطلب وجود الخلاء أو الفراغ، وهذا ما تنكره فلسفة بارمنيدس التي تقر بأن الوجود كله ملاء وليس هناك فراغ يسمح بالحركة والانتقال. وعندما سخر منه خصومه تصدى لهم زينون الذي قام جدله على التسليم بصدق قضية الخصوم ثم تفنيد آرائهم لينتهي إلى أنها تنطوي على التناقض والكذب، مما يترتب عليه إثبات صدق قضية أستاذه بارمنيدس وبذلك أقام منهجه الجدلي لإنكار الكثرة وليثبت بطلان الحركة. وقدم حججه الأربعة المعروفة لإثبات استحالة الكثرة، كما قدم أربع حجج لبيان استحالة الحركة.
(١) جدل الذات
ويتطور الجدل على يد أفلاطون — المثالي الأعظم في التاريخ — فالفلسفة الأفلاطونية — كما أسلفنا القول على لسان هيجل — كانت أول من قدم صورةً علميةً حرة عن الجدل، فضلًا عن أنها أول صورةٍ موضوعية كذلك، ولكن هل يوافق بلوخ — الذي يؤمن بأن الجدل لا بد أن يكون منهجًا للتقدم وليس التصور، وأنه يجب ألا يسير مع الأحداث فقط بل أن يسبقها ويتقدم عليها، وألا يقف على عتبة الواقع بل أن يتجاوزه ويتعلق بما لم يصبح واقعًا بعدُ — هل يوافق على منطق الجدل بالمعنى الأفلاطوني؟
(٢) جدل الموضوع
وفي أعماق عالم اسبينوزا الذي ينتهي باتحاد حب القدر أو حب الضرورة والحب العقلي للألوهية تسود تلك السكينة وذلك الانسجام الذي ينمحي فيه مد الحياة وجزرها، ورياح الفعل وعواصفه، ويسود التحقق الكامل كما في قصيدة جوته الشهيرة:
(٣) الجدل الموضوعي بين أفلاطون وهيجل
هكذا أثبت الجدل وجوده كمنهج في تاريخ الفكر الفلسفي، ولكنه لم يصبح موضوعًا للتأمل الجاد إلا في حالاتٍ نادرة. ومن المعروف أن كانط في «نقد العقل الخالص» قد حطَّ من قيمته وجعل منه مجرد «منطق للمظهر» والخداع الذي يقع فيه العقل كلما حاول أن يحلق إلى الحقائق المتعالية ويقيم البرهان عليها. لذلك عطل البداية الحقيقية الخصبة لجدل الواقع في مطلع العصر الحديث. ولهذا لم يحتفظ الوعي الفلسفي في عصر الأنساق الكبرى للمثالية الألمانية إلا بجدل المفاهيم الأفلاطوني الذي كان له أكبر الأثر على هيجل. ولا بد لأي باحث في الجدل من أن يدخل في حوار مع هيجل والتراث الأفلاطوني الذي يقوم عليه. وبقي أفلاطون وهيجل النموذجَين المعبرَين عن المنهج الجدلي بعد أن حجب تراث الجدل المادي والواقعي من العصر الوسيط وعصر النهضة حتى ليبنتز، بل إن «الانقلاب» الذي أحدثه ماركس في مفهوم الجدل قد بقي في جوهره متعلقًا بمنهج هيجل وفلسفته التي زعم (أي ماركس) أنه خلَّصها من قشرتها المثالية.
يمثل هيجل قمة الجدل الموضوعي في العصر الحديث والمعاصر. والسؤال: هل هو جدلٌ ساكن أم متحرك؟ هل هو جدلٌ مغلق على مرحلةٍ تاريخية بعينها — وجدها هيجل في الدولة البروسية — أم هو جدلٌ منفتح على المستقبل؟ إن الدراسات المعاصرة قدمت تفسيراتٍ عديدة وجديدة لفلسفة هيجل، وكان بلوخ ممن ساهموا في هذه الدراسات فقدم شروحه على هيجل والتي جعل عنوانها «الذات-الموضوع». وقد سلط الأضواء في هذا الكتاب على الجوانب الحية الباقية من الجدل الهيجلي، كما بيَّن الجوانب التي تتوقف فيها حركته وانفتاحه وسيولة مفاهيمه ويركن إلى الجمود والسكون. ولما كانت فلسفة هيجل قد قدمت نموذجًا للمنهج الجدلي بمعناه الموسوعي والكوني الشامل، فلم يكن أمام الفلسفة الجدلية التي تحاول تجاوزه إلا أن تبذل ما في وسعها لتحديد العقبات والحواجز التي أقامها هيجل في وجه الانفتاح غير المحدود للجدل على «المستقبل» و«الجديد» ومحاولة إزالتها من وجهة نظرها المادية والتاريخية وأهدافها الإنسانية والثورية.
والجديد في فلسفة هيجل هو القضاء على ثنائية الفكر والوجود وإزالة الحدود الفاصلة التي وضعها الفكر الفلسفي طوال تاريخه بين المنطق والميتافيزيقا أو بين المعرفة والوجود فكانا عنده علمًا واحدًا. والمنهج الجدلي الذي انتهى عند كانط إلى النقد والسلب تحول عند هيجل إلى منهج إيجابي فكان هو حركة الواقع نفسه، وكان أساس فلسفته التاريخية، كما كان هدفه النهائي هو السيطرة على الواقع. وعلى الرغم من ذلك يقول هيجل في فلسفة «الحق»: «إن ما هو معقولٌ واقعي، وما هو واقعيٌّ معقول.» إيذانًا بتوقف الجدل عند هذه المرحلة، مرحلة ما قد أصبح واقعًا. لذلك كانت شروح بلوخ على هيجل في كتابه السالف الذكر معارضة لهذا الرأي وتأكيدًا على ضرورة التقدم المستمر إلى الأمام، ابتداءً من الآن، أي ابتداءً من الحاضر، وتأمل الماضي، لا إحيائه باعتباره قد مضى.
وانطلاقًا من هذا المفهوم نظر بلوخ إلى هيجل ليجد أن الفكرة عنده تأتي بعد أن يكون الواقع قد تم وانقضى بحيث لا يبقى إلا تذكُّره. ويبرز بلوخ ميول هيجل إلى القديم (إلى الفلسفة الإغريقية) وإلى التذكر، ومع ذلك يذكر نصوصًا مناقضة تدل على ترحيبه بالجديد، كقوله عن الثورة الفرنسية بعد قيامها بثلاثين سنة أنها شروق الشمس الرائع؛ وهذا يدل على تردد هيجل بين السكونية والحركية، بين تذكر القديم الماضي والاهتمام بالتطور الأكثر واقعية، بين عقد سلام مع الواقع ووقوفه في صف التقدم، بين التذكر والتطور.
والواقع أنه لا خلاف على ثورية هيجل ومنهجه الجدلي الذي أدخل العقل في التاريخ، لكن الخلاف ينصبُّ على رؤيته للواقع أو الحقيقة، فالسؤال هنا هو هل هذه الرؤية تتجه إلى المستقبل أم ترتد إلى الماضي وتتخذ صورة الدائرة المكتملة؟ وهنا يمكن أن نقول إن بلوخ له الفضل في تأكيد عدم مستقبلية النظرة الهيجيلية بسبب تأثرها — كما سبق القول — بالعبارة الأفلاطونية «إن العلم تذكر.» وأيضًا بسبب دائرية نسقه الفلسفي.
(٤) الجدل بين هيجل وبلوخ
إن الطريق الجدلي نفسه — حتى لو كان جدلًا مثاليًّا — يشهد بالتوجه نحو الهدف الواقعي الأخير الذي هو عند بلوخ «مملكة الحرية» الأخيرة في مجتمعٍ شيوعيٍّ واقعي يجسد في تصوره الإنسانية الحرة الكاملة، والارتباط في نفس الوقت بالواقع التاريخي المتعين، بحيث لا يكون الجدل هو مجرد الانعكاس التأملي لهذا الواقع، بل يفترض كذلك انعكاس الانعكاس، وتأمل هذا التأمل دائمًا من منظور التقدم المستمر نحو الأمل الكامن في داخل الواقع، والذي ينزع باستمرار نحو التحقق والاكتمال اليوتوبي. ومعنى هذا بتعبيرٍ آخر أن المبدأ اليوتوبي الواقعي عند بلوخ كامن في الواقع والوعي معًا. وهو ينزع باستمرار إلى تخطي معوقاتهما ليتجه باستمرار نحو الهدف الكلي الذي يتحرك نحو مبدأ الأمل، وهو تحقيق مملكة الحرية الشاملة.
إن أساس المنهج الجدلي هو واقع التناقض التاريخي، فإذا كان الجدل في رأي هيجل هو أداتنا لفهم الحركة الجدلية للواقع وترتيبها في نسق أو نظام فإن ماركس مقتنع مثل هيجل بأن الجدل هو الذي يحدد مسار التاريخ. إلا أنه لم يقصر الجدل — مثل هيجل — على فهم الواقع ووضعه في نسق، وإنما ذهب إلى أبعد من ذلك فجعله هو الأداة العلمية الوحيدة لفهم المستقبل، هذا البعد الغائب عن فلسفة هيجل. إن كلًّا من هيجل وماركس ينظر إلى المجتمع على أنه ظاهرةٌ جدلية تنطوي على التضاد، كما تنطوي على إمكان حله. لكن ماركس يعتبر التناقض ظاهرةً إنسانيةً اجتماعية تتخذ صورة تقسيم العمل وصراع الطبقات والتناقض بين قوى الإنتاج وعلاقاته، وتدفع التاريخ نحو غايته وهدفه الأخير، ألا وهو المجتمع الحر الخالي من الطبقات. ولقد انطلق ماركس من أفكار هيجل التي قدمها في «فلسفة الحق» عن جدل العمل والحاجات وإشباع الحاجات، فطوَّرها وحوَّلها إلى جدل الصراع الطبقي الذي هو أساس التاريخ البشري، بحيث لم يعد الصراع ولا التاريخ هو مجرد تقدم الوعي بالحرية على نحو ما قال هيجل.
ثانيًا: بنية الزمان التاريخي
إذا كان الجدل هو منطق الزمانية فما الزمان؟ وما ماهيته؟ هل للزمان بداية ونهاية؟ وهل هو كائن منذ الأزل وسيظل إلى الأبد، أم أنه حادثٌ مخلوق مع الطبيعة؟ هل له وجودٌ مستقل عن الظواهر الطبيعية والأحداث التاريخية؟ أسئلة شغلت بال الكثير من المفكرين طوال عمر التفكير البشري. فمشكلة الزمانية من كبرى المشكلات الفلسفية التي احتلت حيزًا هامًّا في الفكر الفلسفي قديمه ووسيطه، حديثه ومعاصره. أثيرت المشكلة على مستويين: مستوى التنظير العقلي الفلسفي، ومستوى العالم الطبيعي الفيزيائي، فلم يوجد فيلسوف ذو شأن إلا وقدم تصورًا للزمان يتفق مع نظريته الفلسفية. كما لم يوجد باحث في علم الطبيعة استطاع أن يتجاهل هذا البعد الهام للزمان.
دارت مشكلة «الزمانية» على محورَين أساسيين: محور الزمان ومحور المكان، وارتباط كلٍّ منهما بالآخر بحيث لا يمكن التفكير في الزمان بمعزل عن المكان. واختلاف وجهات النظر في هذه المشكلة يرجع إلى الاختلاف حول هذين المحورَين، فقد رد بعض الفلاسفة الأول (أي الزمان) إلى الثاني (وهو المكان)، وقال البعض الآخر بعكس هذه النظرية. وللمشكلة جذورٌ فلسفية وعلمية يشهد عليها التفكير الفلسفي من ناحية وتطور علم الطبيعة أو الفيزياء من ناحيةٍ أخرى.
(١) الزمان الدائري في الفلسفة اليونانية
(٢) الزمان المستقيم في الفلسفة الوسيطة
(٣) الزمان المطلق في العلوم الطبيعية
ثم تعقدت مشكلة الزمان وتشابكت مع تقدم العلوم الطبيعية والرياضية وتطورها في عصر النهضة، فابتعدت عن فكرة ارتباط الزمان بالمكان والحركة، أي ابتعدت عن تصور الزمان معتمدًا على حركة العالم الطبيعي، وهي الفكرة التي سادت التصور اليوناني للزمان، وسيطرت على العصور الوسطى فكان الزمان الذي لا يستشرف المستقبل بسبب غياب فكرة التطور والتقدم من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل إلى أن جاء إسحاق نيوتن (١٦٤٢–١٧٢٧م) وأقام صرح العلم الطبيعي الحديث على أساس من الحتمية العلمية، وصور العالم كآلةٍ ميكانيكيةٍ هائلة تسير وفق قوانينَ رياضيةٍ دقيقة لا تحيد عنها، وجعل الكون يتحرك في المكان والزمان المطلقَين. أعقب هذا التطور الهائل في العلوم الطبيعية، تطورٌ مماثل في الدراسات الفلسفية التي رفعت لواء العقل في عصر التنوير واستندت إلى ميكانيكا نيوتن. وربما كان أوضح مثال على هذا هي فلسفة كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م) النقدية التي جعلت المكان والزمان صورتَين قبليتَين للتجربة.
(٤) الزمان كبُعدٍ رابع في النظرية النسبية
واستمر تطور العلم الطبيعي والرياضي إلى أن جاءت نظرية النسبية لأينشتين لتنحي الفيزياء الكلاسيكية لنيوتن جانبًا، وتقول بالمتصل الزماني-المكاني، وتجعل من الزمان المندمج مع المكان بُعدًا رابعًا مضافًا إلى الأبعاد الثلاثة لفيزياء نيوتن وهي الطول والعرض والارتفاع. انهار التفسير الميكانيكي للكون، وترتب على ذلك انهيار الزمان والمكان المنفصلَين المطلقَين. ويلخص رسل الأسباب التي جعلت من الضروري إحلال عبارة متصل «المكان-الزمان» بدلًا من المكان والزمان، فالفصل القديم بين المكان والزمان يقوم على اعتقاد بأنه لا لبس هناك في أن نقول إن حادثتَين في مكانَين متباعدَين قد وقعتا في زمنٍ واحد بعينه، وبالتالي كان من المعتقد أننا نستطيع وصف «طبوغرافية» (وضع) الكون في لحظةٍ معينة بمصطلحاتٍ مكانيةٍ بحتة. ولكن بعد أن أصبحت الآنية منسوبة إلى مشاهدٍ معين، لم يعد ذلك ممكنًا. فما يعده مشاهدٌ ما وصفًا لحالة العالم في لحظةٍ معنية، هو بالنسبة لمشاهدٍ آخر سلسلة من الحوادث وقعت في أزمنةٍ مختلفة، وليست علاقاتها مكانية فحسب، بل زمانية أيضًا. ولهذا السبب نفسه، نحن معنيون بالحوادث لا بالأجسام.
(٥) الزمان الذاتي في الفكر المعاصر
كانت مشكلة الزمان النفسي محور فلسفات عددٍ كبير من فلاسفة القرن العشرين، من أهمهم برجسون وهوسرل وهيدجر. تناول كلٌّ منهم زمان الذاتية الفردية، وميزوا بين زمن الساعة والنتيجة المطرد — الذي لا يمكننا من فهم المشكلة الفلسفية الزمانية — وبين زمن التجربة الحية.
هكذا نجد أن كلًّا من هوسرل وهيدجر قد حصرا نفسيهما في الزمان الذاتي للفرد، ولم يختلفا كثيرًا عن برجسون. فالفلاسفة الثلاثة قصروا تحليلاتهم على ما يمكن أن نسميه زمان الذاتية الفردية. أما مشكلة الزمان التاريخي فلم تحظَ باهتمام أيٍّ من الفلاسفة السابقين الذين تناولوا مشكلة الزمان. وعلى مدى تاريخ الفكر البشري سادت دائمًا فكرة أن هناك زمانَين: زمان الطبيعة الكمي، وزمان الوجدان الكيفي. وفي عرضنا لمشكلة الزمانية وجدنا كيف فرق الفلاسفة بين الزمانَين تفرقةً حاسمة وقاطعة، وأن كل من أخذ بأحد الزمانين كان لا بد له من إنكار الزمان الآخر. ففريق يقول بالزمان الكمي، وفريقٌ آخر ينكره لحساب الزمان الكيفي. كان لا بد من الاختيار، هذا، أو ذاك! أما التداخل بين الزمان الكمي والزمان الكيفي فلم نجده إلا عند بلوخ.
لقد أدرك هيدجر — كما أشرنا من قبلُ — العلاقة بين الزمان والإمكان، ولكن من منظور الزمان الذاتي. وإذا انتقلنا الآن إلى بلوخ، فيلسوف الإمكان، فكيف ارتبط الزمان عنده بمقولة الإمكان، وهي أهم المقولات في فلسفته اليوتوبية؟ الحق أن واقعية مقولة الإمكان تتعلق بالزمان، فليس هناك معنى للحديث عن الإمكان إلا حيث يكون هناك مستقبل، كما أن كل حديث عن المستقبل هو بالضرورة حديث عن الإمكان، لأن كل ما هو ممكن ولم يتحقق بعدُ في الواقع لا بد أن يصبح في المستقبل واقعًا، وإلا لم يكن ممكنًا بل مجرد شيءٍ غير واقعي. فالمستقبل بحسب طبيعته وماهيته ليس إلا الوجه الزمني للإمكان. كما أن الإمكان ليس إلا جهة ذلك الامتداد الزمني الذي نسميه المستقبل.
(٦) الزمان التاريخي عند بلوخ
إن مشكلة الزمان التاريخي الذي تتفاوت سرعته وكثافته (من ناحية الامتلاء بالمضمون) لم يلتفت إليها أحد ممن عالجوا مشكلة الزمانية. فالزمان يتفاوت ويختلف سواء نظرنا إليه من جهة الماضي الذي تحرك في مراحل تطور مديدة وبطيئة أو في مراحلَ ثوريةٍ متوثبة وغير متجانسة، أو نظرنا إليه من زاوية المستقبل الذي تلحُّ عليه الإمكانات المتلاحقة وتتميز بعض لحظاته المنتظرة بشدة الإحساس بالتوقع — ويتغلغل الزمن في الأحوال الثلاثة ويفقد طابعه «التاريخي» أو الزمني الخالص — فقد توجد فيه «مناطق» تركيز مكثفة تتسم بالقرارات الجادة والحاسمة، بجانب مناطقَ أخرى مسطحة ورتيبة إلى حدٍّ كبير. كل هذا يؤكد أن مشكلة بناء الزمان أو بنيته يجب أن تبحث في علاقتها الوثيقة بالإمكان الجديد.
هكذا قدم بلوخ تصورًا لمشكلة الزمان يتفق مع رؤيته الجدلية لكل ما يدور على المستوى الإنساني والكوني. فإذا كان المكان والزمان بُعدَين هامَّين لتحديد الوجود، فلا بد من فهمهما فهمًا غير تقليدي، وإذا كان الوجود متغيرًا وغير ساكن، فلا بد أيضًا أن يكون ما يحدد هذا الوجود متغيرًا متحركًا وغير ساكن. وقد استطاع بلوخ أن يربط جدل الزمان — كأحد بُعدي الوجود — بمقولة الإمكان، فالآن الذي يوجد فيه «ما لم يوجد بعدُ» ليس هو الحاضر تمامًا، لأن الآن يتضمن الماضي والمستقبل معًا. يصدق هذا — من وجهة النظر الجدلية — على كل أشكال الوجود التي يمكن التعرف على صيرورتها وتفانيها، كما يستحيل أن ينفصل فيها الجانب المنطقي عن الجانب التاريخي. وهذا ما عبَّر عنه مفهوم بلوخ عن الزمان، وهو مفهوم تأثر إلى حدٍّ كبير بأهم أفكار النظرية الماركسية ألا وهي فكرة المقايضة، وإن كان قد تجاوز النظرية إلى آفاقٍ أرحبَ وأوسع بكثير، فتفرقته بين زمن الساعة، المتواتر أو المتجانس في مقاييسه الكمية تنبع — في رأينا — من فكرة المقايضة أو القيمة المتبادلة للسلع، وهي التي تسوي تسويةً كمية من ناحية السعر بين أشياءَ مختلفة فيما بينها اختلافًا شديدًا من الناحية الكيفية. إن الزمان لا تتتابع فيه الأحداث واحدًا بعد الآخر كما لو كان قناة أو أنبوبةً طويلة تتلاحق فيها أحداث التاريخ بالتدريج، وليس الزمان مخططًا مجردًا للتغير، وإنما هو المجال العيني المرن لهذا التغير.
ولما كان الزمان يتغير وفق نوع التغير وطريقته ومضمونه، أي أنه هو الزمان المتغير بحسب المضامين التي يملأ بها، ولما كان بلوخ يتصور زمان العمل بأنه هو الذي يقاس بحسب الإنتاج الذي يتحقق فيه، فإن هذا التصور يمثل أيضًا — في رأينا — أثر الفلسفة الماركسية عليه في فكرة من أهم أفكارها وهي «القيمة»، فالقيمة الحقيقية للسلعة تعادل كمية العمل المتحقق فيها، وتقدر هذه القيمة تبعًا للزمان المخصص لإنتاج السلعة، وربما كان هذا سببًا في أنه لم ينظر إلى المكان — وليس الزمان فقط — نظرةً تقليدية. فلم يتصور المكان — كما فعل أرسطو مثلًا — وكأنه وعاءٌ هائل أو حقيبةٌ كبيرة تحتوي الأشياء والأحداث التاريخية، بل تصور المكان الذي يتشكل فيه الوجود تصورًا غير تقليدي، أي في إطار ما يسمى بمكان «ريمان» ذي الأربعة أبعاد الذي قامت عليه نظرية النسبية العامة لأينشتين، وهو مكانٌ طيع بالنسبة للأحداث المادية التي تتفاعل فيه، ومن ثم تختلف مقاييس هذا المكان ولا تتحدد بمقياسٍ واحد، لأنه يعتمد اعتمادًا كليًّا — أو سببيًّا — على المادة ويتغير بتغيرها. كذلك فإن الزمان عند بلوخ أسلوب وجود مفتوح على المضامين المادية، فهذه المضامين هي التي يتحقق فيها اتحاد الذات والموضوع تحققًا جزئيًّا، وهي التي تمتلئ بها لحظاتٌ متميزة في التاريخ بما تحويه من تغير وجدة وإبداع. فما هي إذن هذه اللحظات، وإلى أي مدًى امتلأت بالخير الأسمى؟ وهل كانت لحظاتٍ ممتلئة بحق، أم كانت إعدادًا للحظات أو بالأحرى للحظةٍ أخرى بذاتها يقصدها بلوخ، وما هي هذه اللحظة المقصودة؟
ثالثًا: اللحظة الممتلئة
يسعى بلوخ للوصول إلى اللحظة الممتلئة؛ تلك اللحظة التي يتَّحد فيها الذات والموضوع، ويتحقق فيها الوجود الأسمى. وهو يفتش عن هذه اللحظة في معنًى أو مغزى الأعمال الأدبية في التراث الأدبي العالمي، وفي البناء السيمفوني للموسيقى التي يعدها أهم الفنون التي يتحقق فيها الوجود الأسمى، كما يتتبع الحضارات البشرية القديمة والحديثة التي وجدتها في لحظة الموت، والحضارات التي وجدتها في الدين، وأخيرًا يلتمس اللحظة الممتلئة في الخير الأسمى. لكن إلى أين انتهي بلوخ بعد رحلته الطويلة في تاريخ الفكر والحضارات البشرية المختلفة؟ أين وجد اللحظة الممتلئة؟ وكيف يتحقق فيها الوجود الأسمى؟
(١) اللحظة الممتلئة في المغزى الأدبي
يستعرض بلوخ بالدراسة والتحليل العديد من الأعمال الأدبية التي تجعل من اللحظة محورًا لها، ساعيةً بذلك إلى تحقيق الوجود الأسمى أو الاقتراب منه. أهم هذه الأعمال وأكثرها قربًا من عقل بلوخ ووجدانه ومن لحظته الممتلئة التي تنشد هذا الوجود الأسمى، قصيدة جوته الدرامية الكبرى «فاوست»، ثم يقارن البحث بين اللحظة التي جربها فاوست وبين اللحظة في عملٍ أدبي آخر وهو «دون كيشوت» لسرفانتيس، وأخيرًا يتتبع تطور الوعي اليوتوبي في فاوست بالمقارنة مع تتبع مراحل الوعي في ظاهريات الروح لهيجل.
(أ) اللحظة بين فاوست ودون كيشوت
تناول بلوخ العديد من الأعمال الأدبية الشهيرة التي تسعى شخصياتها للبحث عن مغزى الوجود في اللحظة، وتملك إرادة الفعل في اللحظة، تلك اللحظة التي تتوافق فيها العوامل أو الشروط الداخلية مع العوامل أو الشروط الخارجية لتكون لحظةً ممتلئة أو لحظة يتحقق فيها الوجود الأسمى للإنسان. ودون كيشوت من أهم الشخصيات الأدبية — بعد فاوست — التي سعت لهذه اللحظة. ويعقد بلوخ مقارنة بين نوع اللحظة في كل من «فاوست» و«دون كيشوت»، فكلٌّ منهما يحلم بالوصول إلى اللحظة التي يحقق فيها وجوده الأسمى. وكلٌّ منهما يملك الإرادة لتحقيق هذا الحلم، لكن أي نوع من الإرادة تلك التي تسلح بها كلٌّ منهما؟ إن إرادة فاوست هي الإرادة الثائرة التي انطلقت ثوريتها من داخل فاوست إلى العالم الخارجي، وتوسطت هذا العالم واستوعبت ظروفه وشروطه الموضوعية، وتمرست بتجربته، وظلت في حالة انتقال من تجربة إلى أخرى ومن لحظة إلى أخرى. وهذه الإرادة الثائرة هي التي جعلت صاحبها يأتي بأفعال شجاعة ويسعى سعيًا لا هوادة فيه لتحقيق الحلم.
(ب) الجدل بين فاوست و«ظاهريات الروح»
إن المقارنة التي عقدها بلوخ بين فاوست وظاهريات الروح، على الرغم من أنها تبدو موفقة إلى حدٍّ كبير، وخاصة في عرضها للتدرج المعرفي الذي يبدأ من المعرفة الحسية لينتقل إلى المعرفة العقلية أو إلى التأمل الخالص، إلا أنها — أي هذه المقارنة — تكشف عن تناقضٍ يكمن في فلسفة بلوخ فيما يتصل بآرائه عن الفلسفة الهيجلية. فقد سبق له — كما رأينا — أن اتهم هذه الأخيرة بالابتعاد عن البعد اليوتوبي الأصيل، بسبب اعتمادها على الفكرة الأفلاطونية التي تقول: إن العلم تذكُّر، كما اتهم الجدل الهيجلي — على الرغم من اعترافه بأن بعض النصوص توحي بانفتاحه على المستقبل — في مواضعَ عديدة بأنه جدلٌ مكتمل اكتمال الدائرة ولا يسمح بالجديد الآتي. ولكنه يعود ليوازن ظاهريات الروح بفاوست لينتهي من هذه الموازنة إلى توحيد النهاية في كلٍّ منهما، على الرغم من الاختلاف الهائل الذي ينتهي به كلا العملين. فإذا كان كلاهما رمزًا للوصول، فإن الهدف الأخير الذي وصل إليه فاوست — كما يقول بلوخ نفسه — يظل رمزًا مفتوحًا، والفعل في نهايتها هو رمز للحظة الممتلئة فحسب، وليس اللحظة الممتلئة ذاتها.
وهذه النهاية تتفق تمامًا مع هدف وغاية النسق الفلسفي لبلوخ نفسه، ولكنها لا تتشابه ولا تتفق مع هدف الفلسفة الهيجلية بصفةٍ عامة أو نهاية الظاهريات بصفةٍ خاصة، ولا مع تلك العبارة السالفة الذكر التي أوردها بلوخ من نهاية ظاهريات الروح، فهذه العبارة لا تتفق بأي حال من الأحوال مع نهاية فاوست، ولا تتشابه معها في مضمون الهدف، لأن الفعل في هذه الأخيرة — أي فاوست — ليس هو الفعل الأخير، أما العلم في عبارة هيجل فهو ذلك النسق الذي اكتمل في شكل دائرة. والدائرة المكتملة — كما هو معروف — هي أكمل الأشكال، وهي التي لا تسمح بدخول شيءٍ آخر يكملها أو يستكملها. إذن فالهدف في نهاية فاوست مفتوح على المستقبل، أما ظاهريات الروح فقد بلغت الهدف والغاية، وهو وصول الروح المطلق أو الفكرة العينية الشاملة إلى ذاتها. وعلى الرغم من تشابه التدرج المعرفي، وتشابه الرحلة الجدلية في كلٍّ منهما إلا أنه لا يمكن الاتفاق مع بلوخ على تشابه النهاية التي وصل إليها كلا العملين.
(٢) اللحظة والخير الأسمى
ظل بلوخ — كما تقدم — تحت تأثير الفلسفة الماركسية في تفسيره للقيمة تفسيرًا اقتصاديًّا، إذ تحولت القيمة من مجرد تقييم لأفعال الإنسان وسلوكه إلى نشاط وفاعليةٍ اقتصادية، أصبح العمل هو منتج القيم، كما لا تعدو هذه الأخيرة أن تكون تلبية للحاجات البشرية. وعلى الرغم من ذلك فقد تجاوز بلوخ هذا المفهوم الماركسي، ووضع فكرة القيمة في إطارٍ أوسع لقد رفض أن يكون للقيم عالمٌ موضوعيٌّ مستقل عن عقل الإنسان وإرادته وكأنها مجموعة من المعطيات السابقة والجاهزة التي تُفرَض على الذات البشرية من الخارج، بحيث تلغي جهد البشر وإرادتهم وحريتهم في الثورة على القيم السائدة حينًا، أو إيجاد واكتشاف قيمٍ أخرى جديدة حينًا آخر، ووضعها (أي فكرة القيمة) في إطار من الفاعلية بين الذات البشرية وإرادتها من ناحية، والعالم الموضوعي من ناحيةٍ أخرى، بل إنه استطاع أن يوظف هذه الفكرة في إطار فلسفته الخاصة بأن جعل القيمة في أعلى طبقات مقولة الإمكان وهي طبقة الممكن الواقعي الذي يتفاعل فيه الذات والموضوع من خلال عمليةٍ جدليةٍ تبادلية، بحيث تصبح مشكلة الخير الأسمى هي لحظة توحيد الذاتية والموضوعية.
(٣) اللحظة الممتلئة في الديانات
«الكمال» هو ما تنشده جميع الديانات على اختلاف أشكالها وتنوعها، وقد اختلفت المحاولات التي انتهجتها هذه الديانات ظنًّا منها أنها السبيل لتحقيق الوجود الأسمى للإنسان، كمحاولة للاقتراب من الموجود الكامل أو الله. وقد نظر بلوخ في كل هذه المحاولات بحثًا عن اللحظة الممتلئة في كل ديانات العالم، ويتعذر بطبيعة الحال العرض التفصيلي في صفحاتٍ قليلة للديانات السماوية وغير السماوية في تاريخ الحضارة البشرية، لذلك سيكون العرض لهذه الديانات من الجانب الذي يخدم موضوع البحث فقط، بحيث يكون التركيز على اللحظة الخالدة أو اللحظة الأسمى في هذه الديانات. ولتكن البداية ببعض الديانات الوثنية سواء في الشرق أو الغرب وهي التي تركت بصمات وعلاماتٍ هامة على الطريق.
(أ) ديانات الحضارات القديمة
(ب) الديانات السماوية
على الرغم من المعرفة الموسوعية الكبرى التي تميز بلوخ، إلا أنه ليس لديه فكرةٌ واضحة ولا متكاملة عن الحضارة الإسلامية من ناحية ولا عن بعض الحضارات الشرقية من ناحيةٍ أخرى؛ مما جعل أحكامه على هذه الحضارات تتسم أحيانًا بالسطحية والعمومية الشديدة، ويجانبه الصواب في معظم الأحوال. والواقع أنه لا يمكن أن يُلتمَس له العذر في هذا، لأنه عاش فترةً زمنية — تجاوزت ثلاثة أرباع القرن العشرين — اكتملت فيها الأبحاث والدراسات والشروح الممكنة لهذه الحضارات البشرية. وعلى الرغم من اتساع أفقه وتبنِّيه للنزعة الإنسانية الخالصة فلا نستبعد أن يكون «للمركزية الأوروبية» دور في إساءة تفسيره للحضارات والديانات الشرقية، وقد اختزل مفهومه عن الديانة الإسلامية — شأنه في ذلك شأن العديد من الغربيين — في عبارة النار والسيف.
(ﺟ) اللحظة في أنثروبولوجيا الدين
(د) اللحظة في التجربة الصوفية
بعد تحليل بلوخ لديانات العالم الكبرى محاولًا إيجاد اللحظة اليوتوبية التي تبحث عنها والتي يتحقق فيها الوجود الأسمى للإنسان، انتهى من رحلته إلى حقيقةٍ هامة وهي ابتعاد الديانات الوثنية والسماوية على السواء عن تلك اللحظة المنشودة التي وجدتها الديانات الأولى في لحظات السكون والثبات، ووجدتها الثانية في السماء المتعالية وفيما وراء العالم الأرضي. وإذا كان ينظر إلى المسيح على أنه يمثل شخصيةً يوتوبية ثارت على الأوضاع القائمة وأرادت أن تحرر البشرية من عبودية سلطة «يهوه» وأن يقيم «مملكته» في هذا العالم الدنيوي، وإذا كان هذا التفسير يختلف قلبًا وقالبًا عن التفسير التقليدي لشخص المسيح، فإنه يتفق مع طريقة بلوخ في فهمه غير التقليدي لتاريخ الفلسفة برمَّته.
أضف إلى هذا أن اللحظة التي يقصدها بلوخ ليست في التصوف، أي لحظة اتحاد الذات الفردية بالذات الإلهية، فهذه اللحظة أيضًا — على الرغم مما فيها من ذوبان الذات في الموضوع، والأنا في اللا-أنا — هي لحظةٌ متعالية بطبيعتها عن هذا العالم الأرضي وبعيدة عن الواقع الفعلي؛ وبالتالي لم ترفع الاغتراب القائم بين الإنسان والطبيعة ولا بين الذات والموضوع. وربما كان المفهوم الأنثروبولوجي للدين كما هو عند فيورباخ هو أصلح إطار يمكن أن تتحقق فيه اللحظة الممتلئة كما يتصورها بلوخ ويمكن أن تقنع عقله ووجدانه.
وإذا كان هدف جميع الديانات السماوية هو الوصول إلى الأرض التي يسودها اللبن والعسل على نحوٍ واقعي ورمزي على السواء، فإن هدف الديانة الإنسانية التي يؤمن بها بلوخ هو على وجه الدقة نفس الهدف السابق — أي الوصول إلى عالم أكثر كمالًا — أو حسب تعبيره إلى يوتوبيا الكمال التي وضعها الدين في السماء. غير أن بلوخ استعاض عن الإله بالممكن الذي لم يكشف الأستار عن وجهه بعدُ، وبالخلاص الذي لم يزل كامنًا في الأرض وفي تاريخ البشر.
(٤) اللحظة الممتلئة في الموت
قد توجد مفارقة في هذا العنوان؛ فكيف يكون الموت — وهو لحظة انطفاء الوعي — لحظةً ممتلئة؛ وهي اللحظة التي ينبغي أن يشعر الإنسان حيالها بالكمال والسعادة؟ بمعنى آخر: كيف يُنظر للموت — وهو سلب الوجود ووأد كل لحظةٍ ممتلئةٍ سعيدة — نظرةً يوتوبية بما تنطوي عليه اليوتوبيا من سعيٍ دائم لحياةٍ أفضل؟ وكيف يكون الموت — وهو الفك الذي يطحن كل شيء ويلتهم كل غاية — هو لحظة تحقيق الوجود الأسمى؟ ربما تبدو الحياة مقيتة ولا نعيشها كما نتمنى، ومع ذلك فهناك دائمًا أمل لتحسينها في المستقبل، ولكن من غير الممكن أن نأمل في أي نوع من التحسن في لحظة الموت نفسها. كما أن هناك شعورًا طبيعيًّا بالفزع والرعب من فكرة الموت، ومهما حقق الإنسان من أهداف وأمنيات في الحياة فهو لا يموت وهو مشبع بها، فدائمًا ما يفاجأ المرء بالموت قبل أن يحقق كل آماله في المستقبل. فكيف يكون الموت إذن نوعًا من اليوتوبيا؟
قد يزول هذا التناقض عند معرفة الصور الخيالية المفعمة بالأماني التي رسمتها الأديان لحياة ما بعد الموت، والتي لا تعني العدم أو الفناء الشامل بل تتصور الموت على أنه نهاية للحياة على هذه الأرض وبداية حياةٍ أخرى في عالمٍ آخر.
(أ) الموت في الديانة المصرية القديمة
(ب) الموت في الكتب المقدسة
(ﺟ) النرفانا ولحظة الفناء
(د) الرومانسية ولحظة نعيم الموت
إن الموت هو الحدث الأخير في حياة الإنسان؛ لأنه — أي الموت — ليس سوى درجة من درجات التحول الدائم كما يقول جوته في قصيدته «حنين مبارك»:
(ﻫ) لحظة الخلود في العمل
إن هيلدرلن في هذه الأبيات لا يخشى أن تهبط روحه إلى العالم السفلي إذا استطاع أن يحقق واجبه الإلهي القريب إلى قلبه، أي إذا استطاع أن يتم قصيدته، عندئذٍ سيرحب كما يقول في نهاية هذه القصيدة بالهبوط إلى عالم الصمت والظلال:
إن إرادة هيلدرلن في هذه القصيدة تثبت أن الخلود في العمل وفي الإبداع، وإذا كانت الذات البشرية لا تشارك بشخصها في هذا الخلود، فإن الأمل في إنقاذ ذلك الجزء النبيل في الإنسان من التدهور، أي العقل البشري، يظل باقيًا. لقد اختفت الصورة الخيالية القديمة للخلود وحلَّت محلها يوتوبيا الخلود التي تنتج نفسها من جديد، وتعبر عن الوجود المستمر للإنتاج العقلي البشري وليس العقل الإلهي.
وجد بلوخ إذن — مع فاوست جوته — اللحظة الممتلئة في العمل. ولكن كيف تتجلى هذه اللحظة في الزمان؟ لقد تجلت في اليوتوبيات الاجتماعية التي ظهرت منذ بدايات التفكير اليوتوبي القديم والوسيط والحديث، فمنها ما كان أفكارًا مجردة، ومنها ما حلَّق في آفاق الحلم وهجر الواقع. لكن لحظة الفعل الحقيقية لا بد أن تتجلى في مجتمعٍ إنساني ما زال يتصوره بلوخ؛ مجتمعٍ شيوعي أطلق عليه اسم «الوطن» أو «المجتمع الإنساني».
وإذا انتقلنا إلى الفكر العربي وجدنا رأيًا آخر يتفق مع تفسير ماركيوز، وهي المحاولة التي قام بها الدكتور إمام عبد الفتاح في كتابه «دراسات هيجلية» لإظهار المثالية الهيجلية في ثوبٍ تقدمي: «إن المثالية الهيجلية بالذات تقوم على فكرةٍ ثورية تمامًا؛ وبالتالي فهي تدفع بالفكر خطواتٍ سريعة إلى الأمام.» ويستند هذا الرأي إلى الفكرة الأساسية عند هيجل وهي: إن الفكر هو اللامتناهي الحقيقي وهو الحقيقة النهائية لكل شيء. وبالتالي ما يضاد الفكر — كالمادة مثلًا — ليس بالحقيقة وهو متناهٍ. وعلى ذلك فإن الأشياء التي يزخر بها العالم الخارجي لا تمثل الوجود الحقيقي ولا هي بالحقيقة النهائية؛ ومن ثم فالوصول إلى الحقيقة لا بد من تجاوزها للانتقال إلى مرحلةٍ أعلى. ولكن متى يتم الوصول إلى النهاية؟ حين تصل الروح إلى النهاية، إلى خاتمة المطاف. ولما كانت الروح هي التي تقوم بهذا السعي، ولما كانت هي نفسها لا متناهية، فإن ذلك يعني أن الروح تسعى إلى الوصول إلى ذاتها، أي إلى التعرف على نفسها، أو تسعى — بلغة هيجل — للوصول إلى مرحلة الوعي الذاتي: أن تكون هي الذات الساعية وهي الموضوع الذي تسعى إليه في آنٍ معًا (انظر د. إمام عبد الفتاح إمام، دراسات هيجيلية، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ١٩٨٥م، ص١٢-١٣، ١٥). ونستطيع ردًّا على هذا الرأي أن نقول إن خاتمة المطاف التي انتهت إليها الروح هي «التعرف على نفسها»، وإن كلمة التعرف في حد ذاتها لا تحمل الجديد في مضمونها، لأنها تعرف على شيءٍ معروف سلفًا. والجدل الهيجلي وإن كان بطبيعته جدلًا ثوريًّا، إلا أنه انتهى وتوقف على يدي هيجل في مرحلةٍ معينة، ولم يحمل في طياته بُعد المستقبل، ولم يبشر بالجديد القادم. والحق أن الطبيعة الثورية لجدل هيجل — والتي لم يفجرها هيجل نفسه — انطلقت على يدي فلاسفةٍ آخرين بعد هيجل، اكتشفوا ثورية الجدل وفجروا ما فيه من طاقاتٍ إبداعية لم يتوصل إليها هيجل نفسه. وربما يرجع السبب الأساسي في ذلك كما سبق القول إلى اعتماد هيجل على الفكرة الأفلاطونية وهي أن العلم تذكُّر.