ترتبط اليوتوبيات المعمارية ارتباطًا وثيقًا باليوتوبيات
الجغرافية، فمهمة العمارة هي تشكيل المكان وبناء أشكالٍ معماريةٍ
مفعمة بالأمل سواء في الواقع على أرض الوطن، أو في حدود التصور
لعالمٍ أفضل. وقد يتبادر هذا السؤال إلى الذهن: كيف يكون البناء
المعماري نوعًا من اليوتوبيا؟ وكيف يتضمن فن المعمار بأنواعه — من
مبانيَ وتكويناتٍ نحتية ورسومٍ تصورية بأشكالها المختلفة — كيف
يتضمن عنصرًا يوتوبيًّا؟ ربما تزول الدهشة عند معرفة أن فن العمارة
بدأ بإقامة أشكال لمبانيَ جميلة غير موجودة على أرض الواقع. وعند
تأمل المباني المعمارية التي وصفتها وتخيلتها الحكايات الشعبية
الخرافية، وبخاصة الحكايات التي يحفل بها التراث العربي في ألف
ليلة وليلة بنماذجها المعمارية من قصور وقلاعٍ مصنوعة من المجوهرات
والياقوت وحوائط من ذهب، ونوافذ من الزجاج الملوَّن، ومدن من
البرونز وكنوزٍ لا حصر لها، وما يمثله قصر علاء الدين من سحر
المعمار؛ مما جعله نموذجًا لما يسمى ﺑ «يوتوبيا القصر» في العصور
الوسطى الأوروبية. وقد كانت هذه النماذج في الحكايات الخرافية
العربية والشرقية بمثابة صورٍ يوتوبيةٍ معمارية انتقلت من الشرق
إلى الغرب؛ مما جعل الشرق مركزًا للإلهام الفني لعمارةٍ خيالية في
كل العصور.
ومن الطبيعي أن يفسر بلوخ اليوتوبيات المعمارية تفسيرًا يتفق مع
توجهه الاشتراكي، وأن يجعل من السياق الاجتماعي — بما يشمله من
ظروفٍ سياسية واقتصادية وتاريخية — الأساس الأول لكلٍّ من الفنون
والعمارة. وفي هذا المجال يعرض بلوخ العديد من النماذج المعمارية
والفنية التي يحفل بها تاريخ الحضارات البشرية. ولن يتسع المجال
للكمِّ الهائل من تفاصيل تلك الفنون ومبدعيها؛ إذ يحتاج دراسةً
مستقلة، ولذلك يمكن الاكتفاء هنا بعرضٍ سريع للأساس الاجتماعي
للفنون بصفةٍ عامة، والوقوف عند بعض النماذج التي يكمن فيها العنصر
اليوتوبي وتستهدف الحياة الأفضل وتعبر عن النسق المفتوح على
المستقبل.
(١) اليوتوبيا المعمارية
عبَّر فن المعمار القديم عن أحلامٍ مفعمة بالأماني، وتطور عن
رسوم وصورٍ معبرة عن الرغبات والأشواق. ونجد هذا في سور أو
جدار
بومبي
Pompeian Wall. فقد رُسمت على هذا الجدار مناظرُ جميلة
ومبانٍ مستحيلة التنفيذ على أرض الواقع، وزخارف ومناظرُ
أسطورية، وحدائق لها من السحر ما يجعلها تستوقف النظر، وقصور
وأعمدة قصيرة ذات انحناءاتٍ مستديرة ميَّزت فن المعمار
الروماني، ورسوم لمنازلَ مليئةٍ بالأركان، ومعابدَ صغيرةٍ
صاعدة إلى أعلى وكأنها تسخر من القاعدة السكونية التي ترتكز
عليها؛ مما جعل الحياة المصوَّرة على سور المدينة تبدو جميلة
في أعين المشاهدين. ومع ذلك لم ينظر أحد بعين الاعتبار لهذا
العنصر اليوتوبي بما له من قدرة على الإيحاء بالحلم بحياة
أفضلَ مقبلة، وما يتضمنه — وبخاصة في الطراز البومبي المتأخر —
من عنصر التوقع.
٦٠
وخضعت الدول الأوروبية في
العصور الوسطى لسيطرة السلطة الدينية المسيحية، فجاء المعمار
والفنون بأنواعها تعبيرًا عن هذه السيطرة في منشآتٍ دينية
كالكاتدرائيات والكنائس ورسوم وصورٍ مستوحاة من الكتاب المقدس.
وظهرت الفنون كخادم لمتطلبات العقائد المسيحية، فكان فن
المعمار الديني هو الذي يميز الفن القوطي.
٦١ (وهو الطراز السابق لفن عصر النهضة) وساد هذا
الطراز سائر أنحاء أوروبا، وتحول إلى طرازٍ قومي واجهه فن عصر
النهضة ووجد صعوبةً شديدة في بعض بلدان أوروبا — مثل فرنسا
وألمانيا — في إزاحته. وقد تميز هذا الفن بالتخطيط والأعمدة
الرشيقة والأبراج العالية والسقف ذي الأقبية المتقاطعة
المدبَّبة، والنوافذ المغطاة بالزجاج الملوَّن، وكلها عناصر
مترابطة تعطي إحساسًا قويًّا بالقيم الدينية الرقيقة.
٦٢ وتُعدُّ كنائس العصور الوسيطة كلها من الطراز
القوطي، ولعل أشهرها كنيسة نوتردام دي باري بفرنسا، وكاتدرائية
ستراسبورج بألمانيا.
في نهاية العصور الوسطى انتقل فن بومبي من الجدار الخارجي
إلى داخل القصور. وبدأت أوروبا في التمرد على سلطة الكنيسة،
كما بدأت النزعة الفردية في النمو مع بداية عصر النهضة الذي
سادته مجموعةٌ هائلة من التغيرات الاقتصادية والسياسية
والدينية التي صاحبها تحول في الفنون يعكس ما تمتعت به الطبقة
الحاكمة من ثروةٍ ضخمة وما اكتسبه أمراء المدن وكبار تجارها من
مظاهر الثروة والفخامة والعظمة، ورغبتهم في إقامة القصور
البديعة الشاهقة. وقد تفتَّحت مجالاتٌ جديدةٌ متعددة أمام رجال
العمارة نتيجة لهذه التغيرات وازدهار المدن وما احتاجت إليه من
إنشاء مبانيَ عامة وقصور للطبقات الجديدة الغنية، واقترن هذا
التغيير بتحول في البنية الاجتماعية للحياة الجديدة التي غلب
عليها الصخب والاحتفالات والمهرجانات، وتبع ذلك أيضًا تحول في
الفن المعماري ليكون أقدر على التعبير عن قوة هذه الطبقة
وإحساسها بالسعادة، فانتقل فن
بومبي — كما سبق القول — من
الجدار إلى داخل القصور؛ فكان الرسم على الموائد وصالات المآدب
حيث صورت المهرجانات والاحتفالات بشكلٍ أسطوريٍّ ساحر، ولم تعد
الموضوعات الدينية وحدها هي مجال فن العمارة، بل دخلت موضوعاتٌ
جديدة من المناظر الطبيعية ومشاهد الحياة اليومية في المدينة والريف.
٦٣ وعندما نشبت الحروب الصليبية تحوَّلت الرسوم
والنقوش إلى تصوير الحروب والانتصارات والمناظر التي تصور
القديسة التي تبارك الحرب، أي تحولت الرسوم إلى مناظر
الفروسية.
بالغ فن عصر النهضة في استعمال الزخارف التي تزين البناء،
وأسرف في استخدام الخطوط المنحنية، وازداد التعبير عن البذخ
والحيوية والوفرة وملابس المهرجانات الفاخرة والحفلات الصاخبة
ورحلات الصيد، فنشأ فن الباروك.
٦٤ الذي تميز بنزعة التكلف وإثارة الاندهاش والانبهار
المنبعث من الرسوم المفعمة بالألوان، كما تميز معماره بالفخامة
والقصور الخيالية التي أراد بها تحقيق الإعجاز في فن المعمار.
ونلمح في هذا الفن العنصر اليوتوبي وعمق النظرة إلى الأمام كما
تتمثل في استخدامه للمنظور لجعل المكان مضاعفًا أو ثلاثة أضعاف
واقعه الفعلي، وفي أسلوب الفراغ لإعطاء الإحساس بأنها مبانٍ
حقيقية وليست رسومًا، وهذا ما حققه
Giuseppe
Galli Bibiena (١٦٩٦–١٧٥٧م) عبقري العمارة
المسرحية، وفنان المناظر الأوبرالية. وقد قدم على المسرح
منظورًا جديدًا من مسافةٍ جانبية بدلًا من المنظور البسيط
للمشاهد، ورسم حوائط وأسقفًا ذات مساحاتٍ مفتوحة، وصور على
المسرح مباني مرسومة في اللامتناهي مستخدمًا أساليب الخداع
البصري والمناظير لملء الفراغ. ومما يذكر أن هذا الفنان قام
ببناء الأوبرا الشهيرة في بايرويت، والمسرح الإيطالي، وأوبرا
Dresden، والكنيسة
اليسوعية في مانهايم التي تُعدُّ إنجازًا احتفاليًّا مبهجًا بالحجارة.
٦٥
ليس بالرسوم وحدها يكون المعمار، فلا بد من جهد البناء
الفعلي طبقًا للمثل الفرنسي «ما لم يتشكل لم يوجد.» ومع هذا
التشكيل ينمو الجوهر أو المضمون اليوتوبي لفن المعمار. في
العصور الوسطى قامت اتحادات بنَّائي
الكنائس
The church mason’s guilds التي اتبعت قواعدَ سرية — مثلما فعل
المصريون القدماء — ولكنها لم تكن تعمل وفق أسسٍ رياضية بل وفق
رموزٍ بنائية لما يسمى بأساس المعمار
الحجري
basis of stone masonry وفي العصور الوسطى المتأخرة بدأت
نقابات البناء القوطي تعمل على أسسٍ رياضية بصرف النظر عن
الاحتفاظ بسر المهنة أو الإفشاء به، فلم تعد المواد الخام
والتقنية والوظيفة هي وحدها التحديدات الأساسية للبناء الفعلي،
بل أصبح الإلهام الفني أهم من المواد الخام والتقنية والوظيفة،
فهو التخيل أو الخيال، وهو أساس الكمال المعماري الكنسي.
٦٦ وقد كان الرمز الديني هو القصد لهذا الإلهام
الخلَّاق أو هذا الخيال الفني الطموح، وكان الرمز المعماري
لاتحاد بنائي كنائس العصور الوسطى هو معبد سليمان الذي كان في
نظرهم أفضل بناء على الأرض، ولاتحاد البنَّائين أسلاف هم موسى
والبنَّاءون الكهنة في مصر القديمة والكلدانيون السحرة في وادي
الرافدين القديم وحيرام
Hiram
البناء والمعماري لمعبد سليمان، وامتد هذا التسلسل حتى
أرفن فون
شتاينباخ
Erwin Von Steinbach الذي شيَّد كاتدرائية ستراسبورج.
وظل معبد سليمان وراء تاريخ العمارة المسيحية بأكملها على
الرغم من تدميره من آلاف السنين، كما ظلت الطوائف الحرفية التي
عملت في كنائس العصور الوسطى تنظر إليه باعتباره النموذج السري.
٦٧ وتعد كنيسة
Würzburg نموذجًا لعمارة
سليمان بأعمدتها المطابقة في أوصافها للكتاب المقدس: «على رأس
العمودَين صيغة السوسن فكمل عمل العمودين.»
٦٨ لقد شدت اتحاد البنائين المسيحيين عاطفةٌ سحرية
إلى هيكل سليمان، وبقي الهيكل في اكتماله اليوتوبي نموذجًا لكل
النظم المعمارية، كما بقيت أحلام الفن المعماري المفعمة
بالأماني حتى القرن التاسع عشر مرتبطة بإعادة بناء هيكل
سليمان.
إن الإلهام أو الخيال الفني يعبر عن يوتوبيا تهدف لتحقيق
الانسجام مع المكان بشكل أكثر كمالًا. فالعمارة اليونانية —
التي لم تكن سرية ولا متعالية كالعمارة المصرية القديمة أو
القوطية — قائمة على محاكاة جسد الإنسان كما يتضح في النحت على
وجه الخصوص، أي أن القصد اليوتوبي للعمارة اليونانية كان قصدًا
إنسانيًّا. بينما كانت الهندسة المتعالية أو السكونية هي الرمز
للفن المصري القديم، والحيوية والوفرة هي الرمز المعماري للفن
القوطي الوسيط. فكلٌّ من هذين النموذجَين يتضمن عنصرًا
يوتوبيًّا للكمال، كما أن رموزهما المعمارية المشار إليها تعبر
عن إمكانياتٍ جماليةٍ حقيقية طالما كانت نموذجًا يُحتذى في
تاريخ فن العمارة، وإن كان أحدهما يمثل البلُّورة أو السكون،
ويمثل الآخر الحيوية أو الوفرة.
يقدم كلٌّ من الفن المصري القديم والفن القوطي نظامًا فريدًا
في فن العمارة، وكلاهما ارتبط ارتباطًا وثيقًا بعقيدته
الدينية، فكان الدين هو البناء الفوقي لكلٍّ منهما على الرغم
من اختلاف الرمز والإرادة المعمارية، وقد قدم كلٌّ منهما
يوتوبيا معماريةً مناقضة للآخر؛ فالحضارة المصرية القديمة قدمت
— في زعم بلوخ — البلُّورة التي ترمز لسكون الموت، إنها حضارة
تتميز بالصرامة التي لا تنطبق على فن المعمار وحده بل تنعكس
أيضًا على الحياة الاجتماعية، والحضارة التي ترى كمالها في
الموت لا يمكن أن تبنى بمادةٍ حية، فتماثيل الملوك ذات الأجسام
المنتظمة تمثل الجسد الميت وليس الجسد الحي. ولكنها أضافت
شيئًا جديدًا على فن المعمار، إذ اتخذت من المثلث نموذجًا
لبناء الهرم، وهو بناء له غرضٌ عمليٌّ مباشر ويمثل غرفة الدفن
أو مقبرة فرعون، وهو بجانب ذلك يمثل الشكل الكوني كما قال
بلوتارك «هكذا تصور المصريون طبيعة الكون في صورة مثلثٍ كبيرٍ
جميل.» وعلى الرغم من أن عصر الأهرامات بدأ بهرم سقارة السداسي
الشكل، وعلى الرغم أيضًا من وجود أشكالٍ أخرى للأهرامات، إلا
أن المثلث بقياسه الرياضي أثبت انتصاره وانسجامه مع دائرية
الأرض، ويظل الهرم واقفًا صامتًا كالبلُّورة بعيدًا عن الحياة
وكأنه أسطورةٌ نجمية لكهنة الشرق القديم.
٦٩
أما عن الفن القوطي فهو على النقيض من سابقه يكسر الصرامة
ويعبر عن الحياة التي يمكن أن تعيد نفسها من جديد، ليست
الهندسة هي نموذجه، بل بعث المسيح من القبر أو قيامة المسيح،
ولذلك فإن رمزه المعماري هو الابتهاج والنصر والفرح التي تعد
في الفن المصري خروجًا عن القياس. إن الفن القوطي محاكاةٌ
ديناميكية للكون، ولبعث المسيح من القبر، أي محاكاة لإعادة
الحياة. وإذا كان الفن المصري هو بلُّورة الموت باعتبار أن هذا
الأخير هو الكمال المتوقع، فإن الفن القوطي ضد الموت، إنه فن
الزخرفة إلى حد الإسراف أو هو شجرة الحياة باعتبار أن هذه
الأخيرة كمالٌ متوقَّع ومتجدد. تلك هي السمات الأساسية للأشكال
المعمارية لكلٍّ من الهرم في النوع الأول، والكاتدرائية في
النوع الثاني، وكلاهما محاولة لتشكيل المكان في شكلٍ أكثر
كمالًا، في صمت الموت أو في شجرة الحياة والمجتمع.
٧٠
إن الهدف من تشكيل
المكان لا يقتصر على إرضاء حاجاتنا المعيشية، ولا هو مجرد
مكانٍ مبهجٍ سارٍّ، فقد ارتبطت العمارة دائمًا بالظروف
الاجتماعية، لا ببنائها الفوقي فحسب، إنها فنٌّ موضوعيٌّ ملتزم
بالعالم المرئي، والبنَّاء يعيد تشكيل العالم المرئي بشكلٍ
ماديٍّ تجريبيٍّ ملموس. ولكن ماذا يعني العالم المرئي بالنسبة
لفن العمارة؟ إنه يتخذ من الأشكال الطبيعية نموذجًا يُحتذى،
ويستمد المعماري من العالم الطبيعي أدق تفاصيله مثل البيضة أو
العش كنموذج للمنزل، وهناك أمثلةٌ عديدة على استخدام فن
المعمار للأشياء الطبيعية في الزخرفة مثل اللوتس والمحارة، إلا
أن الفنان المعماري لا يقلد هذه الأشياء ولا يحاكيها، بل هو
يكتشفها ويخترعها إذا لم توجد في العالم الخارجي بشكلٍ
مرئي.
وهناك أنساقٌ معماريةٌ قديمة تُعدُّ صورًا موجهة لتاريخ فن
العمارة، فكل النماذج التي اتبعت الشكل الهندسي في المعمار
تنتسب للنسق المعماري المصري الذي انتقل إلى أوروبا عن طريق
أكثر محاورات أفلاطون تأثرًا بالحضارة المصرية وهي طيماوس التي
تتسم بالانسجام والنسب الهندسية. في حين أن السماء الهائلة هي
الصورة الموجهة للمعمار الروماني وأن البانثينون انعكاس للكون
كله، وللقبة والنجوم والكواكب السبعة، فهو يمثل آخر بناءٍ نجمي
لأن قبة العالم اختفت من العالم المسيحي بعد ذلك.
إن صورة بَنَّاء
العالم
World-builder أو نحَّات العالم
World sculpter صورةٌ مصرية ترجع للإله
الفنان «إله النحت» في ممفيس، وهو الإله المصري الذي يُعد
النموذج البدائي لخلق العالم. ولم يكن هذا موجودًا في الأساطير
الوثنية عن خلق العالم ولا في الميثولوجيا البابلية التي قدمت
الإله باعتباره منظِّم العالم وليس صانعه أو خالقه، لأن العالم
مكتمل منذ البداية، والمعروف أنها ميثولوجيا بدون عالمٍ آخر،
ولذلك لم تحتج إلى بناء عالمٍ آخر غير هذا العالم الذي افترضت
كماله منذ البداية. وصورة بابل التي كان لها دائمًا صداها في
الكتاب المقدس لم تكن صورةً موجهة لأشكالٍ معماريةٍ أخرى في
العالم الخارجي، بل جاءت هذه الصور من أرض الخروج، من مصر. وقد
نسبت كل أعمال «بتاح» إلى يهوه إله الخروج، بحيث أصبح الإله
المصري صورةً موجهة لكل أساطير خلق العالم بما في ذلك قصة
الخلق المعروفة في الكتاب المقدس. جاء إذن فن العالم من أرض الخروج.
٧١ وشعر يهوه شعورًا غريبًا تجاه العالم القائم أو
الموجود والكون المنتهي بالفعل، فكانت السماء الجديدة والأرض
الجديدة: «لأني ها أنا ذا خالق سمواتٍ جديدة وأرضٍ جديدة فلا
تذكر الأولى ولا تخطر على بال.»
٧٢
إن النسب الهندسية السرية لمعبد سليمان مأخوذة من الهرم
والمعبد المصري، فقد تحول قصر أو معبد بتاح إلى معبد للخروج،
وارتبط الحلم المعماري بعالمٍ أفضل إلى حدٍّ بعيد بتاريخ
العقيدة التي امتدت من عبادة الشمس عند المصريين القدماء إلى
نبوءه الخروج في الكتاب المقدس، حتى إن موسى بن ميمون يفسر
وقوف إبراهيم على الجانب الغربي من جبل مورايا
Moria بأنه نوع من المعارضة
للديانة المصرية والبابلية القديمة التي اتجهت لعبادة الشمس،
ولذلك أدار إبراهيم وجهه عن مشرق الشمس ليتجه ناحية الغرب.
وهذه هي الأسطورة النجمية الموجهة للعمارة المسيحية التي سعت
لبناء عمارةٍ جديدةٍ باعثة على الأمل فكانت شجرة الحياة في
الفن القوطي، وتوقع أرضٍ جديدة وسماءٍ جديدة.
٧٣
إذا كان للعمارة القديمة — بعد استبعاد أيديولوجيتها الدينية
— وظيفة، فما هي وظيفة فن المعمار في العصر الحديث بعد أن
اتخذت الأشكال المعمارية شكلًا مختلفًا أشد الاختلاف، فبدت
المباني كما لو كانت متأهبة للرحيل، وظهرت في شكل السفينة أو
الصندوق. وعلى الرغم من أنها — أي العمارة الحديثة — اتجهت
للانفتاح على ضوء الشمس، وفتحت مساحاتٍ كبيرة لاستقبال ضوء
الشمس من خلال نوافذَ زجاجية، إلا أن هذا الضوء لم يبعث على
السعادة، لأن الأماكن والنوافذ والأبواب المفتوحة التي اتجهت
إليها العمارة الحديثة تحتاج إلى الحرية والأمن الذي لم تستطيع
تحقيقه في ظل النظم الاستبدادية (فاشية ونارية) لذلك عاد الحلم
المعماري مرةً أخرى إلى منازلَ على هيئة كهوف وقلاع.
٧٤
لقد قامت العمارة القديمة
التي حددها
Vitruvius على
ثلاثة مبادئ هي المنفعة
Utilitas والصلابة
Firmit والخيال
Venustas الذي زخرفه وزيَّن
البناء في كليته وتفاصيله، وعندما دُمِّر العنصر أو الشكل
الوظيفي أصبح البناء بشعًا
monstrous كرسوم الفنانين
التعبيريين، وسعى المعماريون لإيجاد الفراغ، والبناء على مكانٍ أجوف.
٧٥
وعندما تطورت حركة المعمار وأصبحت المباني تحتاج إلى مدن
وميادين، كان لا بد من التصميم للمدى البعيد، أي للمستقبل.
واتجه المجتمع البرجوازي والرأسمالي القائم على الربح لبناء
مدنٍ صناعية بلا فكر ولا تخطيط، مدن لا يجمعها سوى الكآبة
والشوارع المكشوفة في فراغ، على العكس من المدن التي نشأت في
مجتمعات ما قبل الرأسمالية ولم تنشأ بطريقةٍ عشوائية. إن تخطيط
المدن لم يقتصر على العصور الحديثة بل له جذورٌ تاريخيةٌ
بعيدة. وقد انحدرت إلينا تصميمات المدن من عصر ما قبل
الإسكندر — وهو المؤسس
الكبير للمدن — وأشار أرسطو — في كتابه السياسة
II فصل ٨ — إلى المعماري
هيبو داموس
Hippodamos
الذي اخترع تقسيم المدن وكان في نفس الوقت أول رجل وضع دستورًا
سياسيًّا، وقد قام بتخطيط مؤسساتٍ سياسية وأبنيةٍ خاصة
بالمنفعة العامة، وشرع في إقامة المدن على أساسٍ اجتماعي، بل
إن عملية التخطيط نفسها كانت تقوم على دراسةٍ دقيقة ومنهجٍ
واضح، وكان تخطيط المدن معروفًا أيضًا في زمن الإمبراطورية
الرومانية عندما حوَّل أوغسطس مباني روما من الآجر إلى الرخام،
وعندما أعاد قسطنطين بناء بيزنطة وجعلها عاصمةً ملكية. وقد كان
نصف هذا التخطيط يوضع على أساس اعتباراتٍ هندسية ونصفه الآخر
على اعتباراتٍ نجمية.
٧٦
ثم جاء معمار النهضة ليدخل في حسابه النسب الرياضية؛
فتحوَّلت العمارة إلى عالمٍ آليٍّ ميكانيكي ساد في عصر الباروك
— على الرغم من الإسراف في الزخرفة والنحت — وبقي التصميم
الهندسي لفن الباروك نموذجًا للمدن البرجوازية.
٧٧ وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر سادت الفوضى
المعمارية، فاختفى التخطيط عندما سيطر اقتصاد الربح في
المجتمعات الرأسمالية، على الرغم من وجود بعض الاستثناءات في
بعض الشوارع المنحنية والفيلات أو القصور الفخمة، ثم جاء دور
الهندسة المدنية في تصميم وتخطيط الفوضى المعمارية بغرض إيجاد
مدنٍ مثالية وتحقيق التناسق والانسجام في فن المعمار، وهذا ما
فعله المهندس الفرنسي
Ledoux
(١٧٣٦–١٨٠٦م) عندما صمم مدينةً مثالية مخططةً بغرض الإقامة
الدائمة، وتحتوي على نماذجَ مختلفة للبناء طبقًا لاحتياجات
السكان، ومراكز العمل ومساحاتٌ خضراء في كل مكان. ويشبه بلوخ
هذا المعمار بما جاء به كامبانيلا في يوتوبياه التي قامت على
النظام الصارم وعلم التنجيم؛ إذ كانت عمارة
Ledoux تدور في نظامٍ فلكي
لأنه كان يعتقد أن البَنَّاء
builder هو المنافس للإله، ومن ثم يسعى
لتشكيل المكان على نمط النظام الكوني الذي يفترض كماله منذ
البداية وإن هندسته أيضًا مكتملة. وهكذا جاءت يوتوبياه
المعمارية «بلورة» مصرية أي يوتوبيا ساكنة هدفها المعماري هو
تحقيق الانسجام مع الكون.
٧٨
إن العمارة في العصر الحديث — مثلها مثل التقنية — عمارةٌ
مجردة، ومدنها مدن بلا حياة، مغتربة عن الإنسان الذي يشعر
نحوها بالاغتراب. إنها عمارة تعكس برودة العالم الآلي، والمكان
المعماري فيها «إنشاءاتٌ مجردة» يبقى العنصر السكوني فيها
مسيطرًا على فن العمارة التي لم تتصل بالعالم المادي، على
الرغم من أن هدفها هو الانسجام مع الكون. والسؤال الآن: كيف
يمكن أن يمتزج النظام السكوني للعمارة بشجرة الحياة الحقيقية؟
وكيف يمكن التأليف بين النموذجَين المعماريَّين المصري
والقوطي؟ لا شك أن هذا أمرٌ مستحيل بدون عنصرٍ ثالثٍ أصيل
بتوسط بينهما ويجده بلوخ في الماركسية التي تتوسط بشكلٍ منتج
وعيني من خلال اتجاهها إلى «تطبيع» الإنسان وإلى «أنسنة»
الطبيعة.
إن العمارة هي محاولة إنتاج وطنٍ إنسانيٍّ جديد في العالم
القائم بشكلٍ أكثر جمالًا وانسجامًا. واليوتوبيا المعمارية
تمثل بداية ونهاية اليوتوبيا الجغرافية نفسها، وكأنما تقصد إلى
تحقيق أحلام الجنة الأرضية، وإيجاد «أركاديا» في المكان وفي
حدود عالمٍ أفضل في بناءٍ فعلي يبدو أكثر جمالًا ويضم كل ما
يُرسَم ويُصوَّر ويُنحَت ويُنقَش. والعمارة الحقيقية هي
استشراف مكان أكثر ملاءمة للإنسان يقوم على مزج النظامين
السكوني والحيوي، فالسكون هو الذات والعالم الخارجي هو
الموضوع، وعملية التوسط بينهما طبقًا للجدل الهيجلي تأتي على
يد الماركسية التي «أنسنت» الطبيعة و«طبَّعت» الإنسان.
يتهم بلوخ الفن المصري القديم بالسكون والثبات الذي يعبر عن
الجسد الميت أكثر مما يعبر عن الجسد الحي، ويصفه بأنه كالبلورة
التي ترمز لسكون الموت في مقابل الفن القوطي الذي يرمز لشجرة
الحياة. والحقيقة أن هذا الحكم لا يعدو أن يكون مجرد ترديد
لأقوال بعض الدارسين الغربيين عن الفن المصري القديم، كما
يخالف الطابع العام الذي يميز تفسير بلوخ لتاريخ الفلسفة
تفسيرًا غير تقليدي، ولا يتفق مع توجهه الماركسي الذي يحتم
عليه الاهتمام بالأساس الاجتماعي للفن. وإذا كان الأمر كذلك
فلا بد أن يوضع في الاعتبار أن المجتمع المصري القديم انقسم
إلى فئتَين اجتماعيتَين، طبقة الحكام أو الملوك الفراعنة،
وطبقة عامة الشعب، وهذا التقسيم الطبقي انعكس على الفن المصري
القديم الذي يمكن النظر إليه على مستويَين: الفن الذي يصور بل
ويخلد حياة الملوك، والفن الذي يصور حياة العامة من الناس. وإن
التماثيل أو الرسوم التي يصفها بلوخ بالسكون والثبات إنما تعبر
عن طبقة الملوك التي كانت تقاليدها تحتم عليها الوقار الذي
يفرضه الطابع الرسمي لفئة الملوك بصفةٍ عامة، بالإضافة إلى
الجلال الذي يفرضه الاعتقاد الديني السائد في هذا المجتمع
والذي يؤلِّه هؤلاء الملوك. وربما كانت هذه هي الأسباب التي
دعت بلوخ — وغيره ممن يتهمون الفن المصري القديم بالجمود — إلى
إطلاق مثل هذه الأحكام العامة على هذا النوع من الفن. لكن كل
هذه الاتهامات أغفلت ما يمكن أن نسميه بالمستوى الآخر من الفن
المصري القديم الذي يصور عامة المصريين وتفاصيل حياتهم اليومية
وعملهم في الحقول واحتفالاتهم في الأعياد والمهرجانات كأعياد
الحصاد ووفاء النيل وأعمال الحرث والغرس وما اتسمت به هذه
الرسوم من حركة الأشخاص وانحنائهم، وإيقاع الرقص المصري الذي
نلمسه في حركة الفنانين المصورة على جدران المعابد. وتتضح
الحركة وتزداد الرسوم التي تعبر عن الفعل في تلك الرسوم الخاصة
بتصوير المعارك الحربية المفعمة بالحيوية، بالإضافة إلى
الألوان الزاهية والمشرقة التي تتسم بها كل الرسوم المصرية
القديمة والتي لا يمكن وصفها بأنها ترمز للموت، وإنما هي موحية
بالحياة وبالصراع مع الموت ومقاومته.
(٢) فن التصوير
التصوير الفني هو الشعور أو الصوت الداخلي للفنان، وعندما
يتحرك هذا الصوت للتعبير عن نفسه تعبيرًا خارجيًّا يمر هذا
الشعور عبر اليد الموهوبة المبدعة للفنان، فالصورة الفنية لا
تُرى فقط بل تُسمع أيضًا، إنها تروي — بقدر ما لديها من تأثيرٍ
مبهج — ما نراه فيها بأسلوبٍ مفعم بالألوان المشرقة. وليس
مهمًّا أن تكون هذه الألوان مطابقة للعالم الخارجي أو الواقعي،
فغالبًا ما تجذبنا الصور الفنية إلى عالمٍ بعيد عن الواقع،
وإنما المهم أن يكون لديها القدرة — من خلال الأضواء والظلال
والتكوينات والأبعاد والزوايا — على استشراف المستقبل وإلقاء
الضوء على شيء أو أشياء لم توجد بعدُ في عالم الواقع. ولقد مر
التصوير — شأنه شأن سائر الفنون الأخرى — بمراحل تطور مختلفة
كشف في كل مرحلة منها عن بُعد من أبعاده اليوتوبية الكامنة في
داخله.
وبالابتعاد عن المرحلة الزمنية التي كان الفن فيها خادمًا
للدين ومُكرِّسًا لتصوير موضوعاته، والاتجاه إلى المرحلة التي
عبر فيها عن الحياة اليومية؛ يتضح أن هولندا من أكثر البلاد
التي شهدت نهضةً فنيةً كبيرة في هذا المجال، وظهر بها مصوِّرون
عظام عبروا عن الموضوعات الدنيوية التي أصبح لها استقلالٌ
مطلق، وأخذت تعبر عن موقف من الحياة لا ترفُّع فيه، مبني على
التجربة اليومية، موقف لا يترفع عن الواقع وإنما يعده شيئًا تم
الانتصار عليه وبالتالي أصبح مألوفًا، وكأن هذا الواقع قد
اكتشف، وامتلك، وتم الاستقرار فيه للمرة الأولى.
٧٩
أبدع الفنانون الهولنديون في تصوير الحياة العائلية المتمتعة
بالدفء والهدوء والسكينة والحياة الآمنة المطمئنة التي لا
يعتريها أية تغيراتٍ فجائية، كالزوجة التي تقرأ الخطاب، والأم
التي تراقب الأطفال وهم يلعبون في الساحة، والسيدة العجوز التي
تتنزه في الشارع بينما تتخلل أشعة الشمس المنظر الصامت،
والعديد من اللوحات التي تعبر عن الهدوء واللامتناهي، والضوء
الساقط من زوايا مختلفة ومن إطار النافذة والباب المفتوح،
ولمبات الحائط المعلقة، والكراسي ذات المساند، إلى آخر هذه
الأشياء التي تعبر عن الراحة البرجوازية وأسلوب الحياة اليومية
المنتظمة والمألوفة داخل الغرف الضيقة. وعندما يلقي الفنان
الضوء على العالم الخارجي من خلال النافذة، فإن المنظر لا يمتد
لأكثر من مائة متر أو مائتين كما في بعض لوحات بيتر دي هوخ
Hooch (١٦٢٩–بعد ١٦٨٤م)
الذي تعبر لوحاته عن حياة الطبقة البرجوازية المتوسطة.
٨٠
في نهاية العصور الوسطى أصبح للبعد الثالث مكان في الصور
المرسومة، واتجه الفنانون إلى تصوير المنظر المفتوح المفعم
بالأمل، وظهرت في الصورة أبعادٌ مفتوحة على العالم الطبيعي
للإيحاء بالامتداد الهائل لعالمٍ لا متناه. صار هذا البعد
جزءًا لا يتجزأ من تصميم الصورة وكأن المُشاهِد لها ينظر من
خلال نافذةٍ كبيرة ليمتد النظر إلى ما وراء الأفق، كما يتضح في
لوحة الفنان الهولندي جان فان
إيك
Jan Van Eyck.
٨١ (١٣٩٠–١٤٤١م) «مادونا» حيث وظف المنظور في خدمة
المنظر الموضوع داخل إطار من العمارة، ويظهر المنظر الطبيعي
نفسه بوصفه نافذة للمنزل، وأصبحت خلفية الصورة هي المدينة
وأبراجها وكاتدرائيتها، والنهر الذي تجري فيه السفن والجسر
المزدحم، وتلالًا خضراء صاعدة في الأفق وجبالًا مغطاة بالثلوج.
وهكذا أعطى المنظور من خلال إطار الصورة أرضًا مفعمة بالحلم
وواقعًا آخر متعدد الطبقات.
٨٢
ولا يوجد فنان اهتم بالمنظور وأبدع فيه مثلما فعل ليوناردو
دافنشي (١٤٥٢–١٥١٩م) في لوحته «عذراء الصخور»؛ إذ لا تبدو
الصخور منفصلةً عن الأشخاص الذين يبدون كأنهم طافون في هذا
الجو الشاعري الغامض المغلَّف بالظلال. ولقد صارت الظلال منذ
اكتشاف دافنشي لأهميتها عنصرًا أساسيًّا في اللوحة ونبذت طريقة
الاهتمام بتأثير الألوان الزاهية.
٨٣ وتميز دافنشي برسم أشخاصٍ ذات أبعاد ثلاثة
باستخدام الضوء والظل دون تحديد لمعالمهما كما في لوحته التي
طبقت شهرتها الآفاق «الموناليزا»، هذه اللوحة التي جاءت بعنصرٍ
ثوري في تطور مفهوم النهضة لفن البورتريه حيث أتت بعلاقةٍ
جديدة بين الوجه
Figure
وخلفية الصورة؛ مما جعل من «الموناليزا» لحظة تنوير كلية،
٨٤ بابتساماتها الغامضة ونظراتها التي تلاحق المشاهد
من كل الزوايا، وخلفيتها الضبابية. وتميز دافنشي برسم أشخاصه
داخل تكوينٍ هرمي بطريقةٍ مبتكرة لم تكن معروفة من قبلُ، وخفف
من التأثير الجاف للشكل الهندسي بأساليب علمية.
٨٥
إن الحلم الذي جسدته لوحة «الموناليزا» في الخلفية، تكرر في
الموناليزا نفسها، أي تكرر شكل المنظر الطبيعي في تموُّجات
ثوبها وجفون عينَيها الهادئتَين، وفي ابتسامتها الغامضة،
فالمنظر الطبيعي الذي تصوره خلفية الصورة لا يقل أهمية عن وجه
الموناليزا نفسها؛ مما جعل اللوحة تعكس فلسفة دافنشي ومفهومه
عن العالم «فكل جزء ينزع للاتحاد مع الكل مرةً أخرى ليهرب من
النقص، وهذا النزوع هو الخلاصة والجوهر، وصداقة الطبيعة
والإنسان هي نموذج العالم كله.»
٨٦ إن الامتزاج بين المنظر الطبيعي، بجباله وأضوائه
الخافتة وبحيراته وحقوله الشاحبة اللون، وبين الموناليزا، التي
تحدق في كل الزوايا مع الغموض الذي يحيط بها والأرض الضاربة في
الخضرة والضوء المفعم بالدخان حولها، إنما يعبر عن وحدةٍ كلية
رسمها الفنان بالأضواء والظلال. وهذا أيضًا هو الذي عبَّرت عنه
لوحة «القديسة آن» التي أوضحت قدرة دافنشي على مزج الجمال
الأنثوي بجمال الطبيعة.
وتتحول الخلفية المنفتحة على اللامتناهي عند دافنشي إلى
خلفيةٍ مظلمة عند الفنان الهولندي رمبرانت
Rembrandt (١٦٠٦–١٦٦٩م) الذي
تميز بدقة التعبير عن الوجه الإنساني فيما يعرف بفن البورتريه،
واهتم اهتمامًا خاصًّا بتوزيع الضوء في لوحاته توزيعًا
متفردًا: كانبعاث الضوء القوي من أحد جوانب اللوحة، أو تدفقه
من جهةٍ واحدة، أو سقوط الضوء الساطع خارج اللوحة على خلفيةٍ
مظلمة. ويتضح هذا في اللوحات العديدة التي رسمها الفنان لزوجته
ساسكيا
Saskia. كما يتضح
في لوحته الشهيرة «نوبة الحراسة الليلية» حيث يسطع الضوء من
الخوذة الذهبية التي يضعها قائد الحراسة الليلية على رأسه،
وهذا البريق المتجمع للضوء يلقي بظلاله على خلفيةٍ مظلمة
تتداخل فيها الألوان البُنِّية والذهبية ويعمل النور داخل
الظلام، وتخفي الظلال معظم جنود الحراسة الليلية وإن كانت لا
تخفي حركاتهم الخافتة. ويصدق على هذا أيضًا مجموعة لوحات
العذاب
Passion، وهي
اللوحات التي تصور عذاب المسيح حيث يقف الأشخاص وحتى الأشياء
في خلفيةٍ ممتدة منعزلة ومظلمة، وتظهر الألوان من انعكاس الضوء
الذي ينبعث من مركز الصورة وإن كان لا يصدر من أشعة الشمس، ولا
من ضوءٍ صناعي، وإنما يشرق من لحظة انطفاء حياة المسيح على
الصليب. هذه المفارقة في استخدام رمبرانت للضوء تعبر عما يمكن
تسميته منظور
نور الأمل
Perspective light of hope فقد استبدل بالمنظور الكوني
المفتوح عند دافنشي مكانًا مظلمًا، وظِلَّ الضوء الذي يتعارض
كلٌّ منهما في طريقة استخدامه يرسم حقيقة الأمل والإشراق.
٨٧
ويتحول التصوير إلى رسم مناظرَ يوتوبيةٍ واضحة حتى في
عنوانها كما في لوحة أنطوان واتو
Antoine, J. Watteau٨٨ (١٦٨٤–١٧٢١م) «الإبحار إلى جزيرة كيثيرا».
٨٩ وهي تصور مجموعة من الشبان والشابات يقفون في
أحضان الطبيعة في انتظار السفينة التي ستُبحر بهم إلى جزيرة
الحب. وقد صورت هذه اللوحة ثلاث مرات، وتعتمد النسخة الأولى
منها على المرحلة الانطباعية التي يبدو فيها ترتيب الأشكال
مألوفا وتعد مجرد رحلةٍ رومانسية. وفي النسخة الثانية (في
باريس) ظهرت تشكيلات في المنظور واتضح الحلم في منظرٍ طبيعيٍّ
ساحر يحيط بالأزواج الذين ينتظرون سفينة الحب على الماء الفضي،
وليل الجزيرة المأمولة غير مرئي ولكنه ينعكس بشكلٍ مباشر على
الحركة والسعادة التي تنبعث من الصورة بخلفيتها اليوتوبية
الواضحة. أما النسخة الثالثة (في برلين) فتبدو فيها الخلفية
أكثر زينة، والسفينة التي تحوم الملائكة حولها على أهبة
الاستعداد للرحيل، وثمة تجاور مباشر في استعمال اللون الأحمر
الوردي والأزرق السماوي يرف حول منظر الإبحار؛ مما يوحي بأنه
وعدٌ مرسل من جزيرة الحب بسعادةٍ متوقعة.
٩٠
عبَّر التصوير عن الرحيل إلى عالمٍ أفضل كهروب من الكدح
اليومي وأمل في تحقيق السعادة في عطلة يوم الأحد الخالد، وقد
تحول يوم الراحة في العصور الوسطى إلى عالم آخر يتحقق فيه
السلام والخير في اللحظة الساكنة وراء هذا العالم. ولذلك ظلت
صور حكايات الكتاب المقدس والحكايات الدينية هي الشكل الرئيسي
للفن في البلدان الكاثوليكية، وفي تلك التي يحكمها ملوكٌ ذوو
سلطةٍ مطلقة … ولم تكن موضوعات الحياة اليومية والمناظر
الطبيعية والطبيعة الصامتة سوى عناصرَ مساعدةٍ في التكوينات
المستمدة من الكتاب المقدس ومن التاريخ والأساطير.
٩١ وفي هذه الفترة لم يكن المنظور مألوفًا، وربما
يرجع هذا إلى طبيعة الموضوع الديني الذي تتناوله هذه الرسوم.
وجاء جيوتو
Giotto
(١٢٦٦–١٣٣٧م) في نهاية العصور الوسطى ليعبر عن التراتب في
الفكر الديني، فكل شيء في لوحاته يأخذ مكانه المحدَّد له طبقًا
لنظامه أو وضعه الديني، حتى الملائكة تطير في الأماكن المحددة
لها فلا تزحم اللوحة ولا يأتي وجودها مصادفة، وتوزيع الأشكال
على الأماكن على أساس قيمتها الروحية.
٩٢ وتظهر الطبيعة على حافة هذا النظام.
٩٣ وعلى الرغم من أن جيوتو يُعد مؤسس الواقعية في
الغرب وصاحب ثورةٍ كبيرة في تاريخ فن التصوير؛ حيث يعتبر
أسلوبه الحد الفاصل بين التقاليد الجامدة وتقاليد فن النهضة
الحديثة ونهاية فترة في فن التصوير كانت تسيطر عليها فكرة
تصوير المقدسات فقط وبداية فترة تهتم بالإنسانيات،
٩٤ كما يعده البعض أيضًا من أعظم فناني النزعة
الكلاسيكية البرجوازية التي حققت توازنًا كاملًا بين العناصر
الطبيعية والعناصر الشكلية في التصوير. على الرغم من كل ذلك
إلا أن فن جيوتو يتطابق مع صورة العالم كما حددها توما
الأكويني، وكان فيها الإيمان بالتراتبية هو المقدمة المنطقية
الوحيدة للبرهان الأنطولوجي على وجود الله. إن الله هو الوجود
الحقيقي لأنه كلي وكامل، لذلك رسم جيوتو لوحاته من بُعدين،
وأضاف تراتبية المكان إلى تراتبية الوجود. وتحولت اليوتوبيا
المميزة لعالم جيوتو إلى مجرد ميثولوجيا وانتفت عنها نزعة
التفاؤل، كما تحطم بناؤه مع نهاية الثيوقراطية-الإقطاعية في
العصور الوسطى.
٩٥ وغلب على يوتوبياه طابع السكون الذي يعلو على
الحركة، أي أنها يوتوبيا مكانيةٌ ساكنة وليست زمنيةً لا
نهائية.
ثم تحرر التصوير من أسر السلطة الدينية في نموذج الفن
الهولندي وتصويره للحياة المنزلية. ولكن هذا النوع من التصوير
لم يُرضِ أيضًا الذات البشرية التواقة للرحيل إلى عالم أفضل من
جدران المنزل وحجراته، إلى عالم يخرج بها عن نطاق الحياة
اليومية الرتيبة، فتحول الرسم إلى تصوير الحياة خارج المنزل
بحدوده الضيقة إلى أماكنَ طبيعية أكثر اتساعًا وانفتاحًا في
الهواء الطلق. وقد صوَّر العديدُ من الفنانين عطلة يوم الأحد
أو يوم الراحة، مثل الفنان الهولندي بروجيل Brueghel (١٥٢٥–١٥٦٩م) في
لوحته «أرض الكوكايين» التي تصور حشدًا من الفقراء الحالمين
بالطعام والشراب في يوم الأحد، منهم الفارس والعالِم والفلاح،
وقد نام بعضهم بعد إشباع جوعه، وبقي العالِم مفتوح الفم
والعينَين يحلم بمشويات ليس لها أثر في الأوعية الخاوية حوله،
وربما يحلم بلحم الخنزير الذي يظهر بالفعل في خلفية المنظر
الطبيعي للصورة، حيث يشرق النور من الخلف ليُسلَّط على الخنزير
الذي ربما يكون موضوع الحلم ورمز إشباع المعدة الخاوية.
وتعبر أيضًا لوحة الفنان الإيطالي جيور جيوني
Giorgione (١٤٧٨–١٥١٠م)
«حفل موسيقي في الهواء الطلق» عن يوتوبيا يوم الأحد، فهي تصور
رجالًا يستمعون للموسيقى في يوم العطلة في صحبة سيداتٍ عاريات،
وفي أحضان الطبيعة الساحرة، وقد كانت هذه اللوحة نموذجًا لصورة
الفنان الانطباعي الفرنسي مانيه
Manet (١٨٣٢–١٨٨٣م) «غداء على العشب» الذي
أعاد هذا المنظر بدون موسيقى، وصور حديقة أبيقورية يسطع عليها
ضوءٌ خافت يسقط من بين الأشجار ويحيط بالأزواج، وتتميز اللوحة
بالبساطة والحضور والاستمتاع الحسي بعطلة يوم الأحد وما فيه من
إمكانٍ فعلي للطبقة الوسطى الصغيرة،
٩٦ وقد أثارت هذه اللوحة ثائرة النقاد الذين اعتبروها
سخريةً قاسية من بعض طبقات المجتمع وخاصة الطبقة
البرجوازية.
ثم تأتي لوحة الفنان الفرنسي جورج سورا
Seurat (١٨٥٩–١٨٩١م) «نزهة على نهر السين»
لتعبر عن المعنى السلبي ﻟ «غداء على العشب» حيث يصور الطبقة
البرجوازية الحقيقية بوجوهٍ فارغةٍ مسترخية، ونهرًا شاحبًا
وقواربَ مبحرة بتراخٍ في المؤخرة، كما تبدو الشمس وكأنها
العالم السفلي هاديس. وتعد هذه اللوحة نموذجًا لما يسمى بالكسل
الحلو وانعدام الوعي اليوتوبي. وتحول التصوير مع سيزان
(١٨٣٩–١٩٠٦م) إلى تبسيط للموضوعات، فقدم صورةً إيجابية ليوم
أحد الطبقة البرجوازية، وأصبحت اللوحات تعبيرًا عن ممكنٍ ساكن
في طبيعةٍ ريفيةٍ بسيطة، وأصبح هدوء يوم الأحد عينيًّا ملموسًا
في حاله من الطمأنينة والرضا المتمثل في قطف التفاح والبرتقال
والليمون بعيدًا عن صراعات الحياة المدنية التي سادت القرنين
التاسع عشر والعشرين. ثم هجرت يوتوبيا يوم الأحد أوروبا كما في
لوحات الفنان الفرنسي جوجان
Gauguin (١٨٤٨–١٩٠٣م) إلى عالمٍ آخرَ بعيد
وبدائي، إلى تاهيتي التي اكتُشفت عام ١٦٠٦م، ونظر لها
الأوروبيون كأنها قطعة من الفردوس حتى دخلت في رسوم يوم الأحد
التي طغت عليها السعادة.
٩٧
والآن، كيف يُحكم على العمل الفني بالأصالة أو الزيف؟ وكيف
يتم تقييم الظاهرة الجمالية، فيُحكم عليها بأنها حقيقةٌ أصيلة
أو وهميةٌ مزيفة؟ إن مثل هذا السؤال يعبر عن أحد الإشكالات
الهامة في علم الجمال. ولا يمكن بطبيعة الحال الاستفاضة في عرض
هذه المشكلة التي تخرج عن حدود هذا البحث، ولذلك يمكن الاكتفاء
بعرض وجهة نظر بلوخ في هذا الموضوع إذ يؤكد أن الحكم على العمل
الفني وتقديمه لا بد أن يكون في حدود ما يحمل هذا العمل من
بُعدٍ يوتوبي، أي بقدر ما يعبر مضمونه عن الأمل الكامن
فيه.
إن الاستطيقا الكلاسيكية تعبر عن استطيقا خالصة للتأمل كما
هي عند كانط الذي قصر موضوع الجميل على التأمل الخالص. فالفن
عند كانط عمل يقصد من ورائه المتعة الجمالية الخالصة، بمعنى
أنه حرٌّ منزه عن كل غرض سوى المتعة الفنية ذاتها.
٩٨ بذلك يكون الموضوع الجمالي مقصورًا على الحاضر
وبعيدًا عن الوجود في المستقبل، وكأن الفن يبرر العالم كظاهرةٍ
جمالية بتعبيراته الشكلية ومن خلال الكمال الشكلي، ومن هنا
تنظر الاستطيقا الكلاسيكية إلى الموضوع الجمالي من ناحية مظهره
فقط فيتحول إلى نوع من المتعة الجمالية، كما تصبح الاستطيقا
ميتافيزيقية عند شوبنهور تُحرِّر الإنسان من إرادة الحياة.
٩٩ إن الفنان في نظره — أي شوبنهور — هو في لحظة
الإبداع إنسانٌ متأملٌ هادئ استطاع أن يحطم قيود الرغبة،
ويتحرر من أسوار الفردية، فهو أشبه ما يكون بالمتصوف الغارق في
سكون النظر العقلي المحض، السابح في فيض من السكينة الروحية
الخالصة … لقد قال شوبنهور باستطيقا سلبية تقوم على النظر
والتأمل، وتعتبر أن مهمة الفن لا تكاد تتعدى معرفة المثل أو الماهيات.
١٠٠ وكذلك فعل هيجل على الرغم من نزعته التاريخية
واهتمامه بالمضمون ومعارضته للشكلية لأن الاستطيقا عنده تنحصر
أيضًا في نطاق الفن الساكن المتأمل.
أما عن الاستطيقا الماركسية كما هي عند لوكاتش على سبيل
المثال الذي يعبر عن النزعة الواقعية، فحتى من وجهة نظر هذه
الواقعية — التي يتهمها بلوخ بأنها واقعيةٌ فجة — وحتى لو بدت
الأعمال الفنية التي تعبر عنها مكتملة من الناحية الشكلية
البحتة، فهي لا بد أن تكون غنية في مضمونها معبرة عن الواقع
الذي هو عملية صيرورةٍ متفتحة على آفاقٍ مستقبلية. فالعمل
الفني ليس مجرد شيءٍ محسوس يظل دائمًا على ما هو عليه، بل هو
حقيقةٌ حية يطرأ عليها الكثير من التغير، بفعل تلك الصيرورة
الحضارية التي لا بد لكل عملٍ فني من أن يندمج فيها ويتأثر بها.
١٠١
ويدل هذا على أن الفن بالمفهوم الجدلي يعبر عن صيرورةٍ
واقعية وليست مزعومة، فهو من ناحية مضمونه ومن الناحية النظرية
لا بد أن يكون فنًّا متفتحًا وغير منتهٍ، لأنه يصور النزوعات
والإمكانات الكامنة في الموضوعات. إن العمل الفني يصور الجميل
على أنه جدل الوجود في مرحلةٍ سابقة على المظهر الذي يبدو
عليه. والفن بمفهومه الجدلي عمل لم يكتمل بعدُ شأنه شأن الواقع
نفسه، فكلاهما منخرط في العملية الجدلية، وكلاهما مسيرةٌ
مفتوحة نحو كمالٍ لم يتحقق بعدُ. وهذا على العكس من معالجة
المثالية التي اقتربت مما يسمى امتلاء أو
تحقيق كمال الواقع
fullness of perfection of the real، وكأن العالم الذي هو
متغير في كل وظائفه الثقافية الأخرى قد بلغ الغاية من روعته
وكماله، مع أن الفن هو النزوع لهذا الكمال الرائع، والإمكان
الواقعي الموضوعي لهذا الكمال.
١٠٢ إن المعالجة المثالية للموضوع الجمالي، تصنع وهمًا
جماليًّا منفصلًا عن الحياة، أما الفن الذي يتناول الإمكانيات
الكامنة وراء المظهر أو المظهر البادي من الواقع الممكن فهو
وحده الذي يستحق اسم الفن، لأنه يضع نفسه في أفق الواقع الذي
لم يزل في سبيله إلى التحقق. والمضمون الفني يجب أن يُنظر إليه
نظرةً يوتوبيةً واقعية لا نظرةً وهميةً مجردة تصور المظهر كأنه
لعبةٌ مكتملة. وهكذا يقاس الفن بمقياس موضوعاته ذات الدلالة
اليوتوبية، لأنه يخلق علاقةً معرفية بالأمل لا مجرد متعةٍ
جماليةٍ سطحية.
وهذا هو الذي أدركه الفن الكلاسيكي أيضًا وإن كان قد أدركه
بشكلٍ مثالي-موضوعي كما تؤكد عبارة شيللر «الجمال هو الحرية في
المظهر.» ويقول كانط في «نقد ملكة الحكم»: «إن القدرة على
إدراك الجليل تدل على قدرة في العقل تتخطى كل مقاييس الحواس …
والجليل يجلب معه فكرة اللانهاية، ولهذا فإن الجليل يكون طبيعة
في أحد مظاهره التي يجلب تأملها فكرة اللانهاية.» وليست
اللانهاية هنا إلا ما يجلب معه الشعور بحريتنا في المستقبل.
١٠٣ تقوم الاستطيقا القديمة إذن على فكرة الجليل التي
يصفها كانط بأنها سعادةٌ مبرأة من كل غرض أو مصلحة، تمامًا مثل
الفن الإغريقي الذي يقوم على مقولة الجليل، والذي ينسب عادة
لموضوعاتٍ دينية ويتميز برجفة الدهشة التي قال عنها جوته إنها
أفضل ما في الجنس البشري.
إن مملكة الإمكان أو الممكن الواقعي هو الشرط الأساسي للفن
الذي يجب أن يمتد لعالمٍ لم يوجد بعدُ. والنزعة الواقعية للفن
يجب ألا تكون وصفية بمعنى تفسير الواقع أو وصفه، وإنما يجب أن
تكون مرآة للتوقع الباطن داخل العمل الفني. إنها نزعةٌ واقعية
ذات دلالةٍ يوتوبية. ويخلص بلوخ من هذا كله إلى أن الإرادة
الفنية يجب أن تتحرر من النزعة الشكلية التي تحمل سمات مجتمعٍ
برجوازي كل ما يميزه هو السعادة الشكلية والمظهرية، أي أن يخرج
من نطاق الشكلية ومن نطاق التأمل. فلا يكفي في العمل الفني أن
ننظر إلى العالم نظرةً جديدة، بل يجب أن نخلقه خلقًا جديدًا.
فالفنان ليس مجرد صانع، وإنما هو خالق — كما أطلق عليه المعمار
الفرنسي
Ledoux — يذيع أسرار
الآلهة، إذ يصرح لنا بتلك المعاني الخفية والعلاقات المطوية
والقيم المستترة التي أودعتها الآلهة صدر المخلوقات. بل إن
الفنان قد يزعم لنفسه الحق في إعادة خلق هذا الكون، لكي يبين
للآلهة كيف كان يمكن أن تجيء الخليقة أفضل، أعني أكثر إثارة
وأخصب وجدانًا وأعمق معنًى وأوقع أثرًا.
١٠٤ وحتى الاستطيقا الكلاسيكية التي اهتمت بالنزعة
الشكلية والكمال الشكلي لم تغفل هذا الجانب اليوتوبي المشرق
على الرغم من أنها تناولته تناولًا مثاليًّا — موضوعيًّا — لا
بد للفن إذن أن تكون له غاية يحققها من خلال أساليبه
الاستعارية والرمزية، وأن يعبر عن نزوع الواقع ونزوع الذات
البشرية نحو أمل لم يتحقق بعدُ. ومع الماركسية لم يعد الفن —
كما يرى بلوخ — تأملًا فحسب، بل أصبح فيه إمكانٌ كامن وراء
المظهر أي ممكنٌ إيجابي يملك القدرة على التحقق.
يدين بلوخ كل الفنون التي تبعث في النفس السكينة والاطمئنان
أو تلك التي تركن إلى الراحة أو السعادة، ويطلق عليها المقولة
الماركسية التي تزعم أنها تعبِّر عن الفكر البرجوازي. إنه يبحث
في اللوحات الفنية عن تلك التي تعبر عن الممكن الواقعي
الموضوعي أو التي توحي بعالم لم يوجد بعدُ، وتبعًا لذلك يهاجم
كل الأعمال الفنية التي تقترب من تحقيق الكمال على المستوى
الاستطيقي، ويزعم أنه ليس سوى كمالٍ شكلي يشابه إلى حدٍّ كبير
ما في المجتمعات البرجوازية التي لا ترى من إمكانات الواقع سوى
تلك السعادة الشكلية، بينما الفن عنده ينبغي أن يعكس الواقع
المتدفق في صيرورةٍ دائمة. لذلك كان تقييمه للعمل الفني بقدر
ما يحمل من أمل، وبقدر ما فيه من نزوع يوتوبي نحو اكتشاف
إمكاناتٍ واقعيةٍ موضوعية. ومن هنا قدم تحليلًا للأعمال الفنية
أبرز فيه ما تحمله من أملٍ كامن في أعماق الصور، فتحليله
لتوزيع الأضواء والظلال في اللوحات الفنية وكيفية استخدام
الأبعاد والزوايا والمنظور استخدامًا يكشف عن الجديد القادم،
كان محاولة لإبراز هذا الجديد بصورةٍ عينية، أو لجعل «الجديد»
— الذي يسعى جاهدًا لالتماسه في هذه
الأعمال — مرئيًّا.
ويمكن القول إنه على قدر ما في تحليلات بلوخ للأعمال الفنية
من عمق النظرة التي كشفت عن تمتع صاحبها بحسٍّ جمالي على
مستوًى عالٍ من ناحية، وألقت الضوء على الجوانب الخفية لهذه
الأعمال من ناحيةٍ أخرى، وقدمت تفسيراتٍ مبدعة وخلَّاقة تتفق
مع نظرته للموروث الثقافي الذي يُعاد تشكيله وخلقه من جديد
بشكلٍ مستمر؛ أقول إنه على قدر ما في هذه التحليلات من عمق
النظرة، إلا أنها انحصرت في التفسيرات الماركسية التي تربط
الفن بالظروف التاريخية والاجتماعية. وعلى الرغم من أن بلوخ
تجاوز في مواضعَ كثيرة الرؤية الماركسية التي نجح في أن
يُطوِّعها للإطار العام لفلسفته، إلا أنه التزم ببعض مقولاتها
في تحليله للظاهرة الجمالية، ربما لأنها تساعده أكثر من غيرها
في التعبير عن فلسفته الخاصة وتطويع هذه الفنون وتفسيرها بما
يتفق مع نسقه الفلسفي العام الذي لا يهتم بالوصول إلى الهدف
بقدر اهتمامه بالسعي إليه. لذلك كانت نظرته إلى تلك الأعمال
الفنية التي تصور الواقع على أنه مكتمل هي نفس نظرته للفلسفة
المثالية التأملية، لأن الواقع الفعلي لم يبلغ كماله بعدُ، ولن
يبلغه على الإطلاق وفقًا لفلسفة بلوخ نفسه، أي وفقًا لنسقه
المفتوح على المستقبل اللانهائي. ومن هنا كانت وظيفة الفن عنده
وظيفةً يوتوبية، وكانت الأعمال الفنية التي استأثرت باهتمامه
هي تلك التي تبعث في نفس من يشاهدها مشاعر أو انفعالات التوقع
بعالم أو بشيء لم يأتِ ولم يتحقق بعدُ، أي هي تلك التي تعبر عن
النزوع إلى الكمال وليس الوصول للكمال عينه.
وإذا كان صحيحًا أن الفن يعبر عن واقع الحضارة والثقافة التي
نشأ بين أحضانها، وإذا كان صحيحًا أيضًا أن للأحداث التاريخية
آثارها على العمل الفني، فإن هذا لا يجعلنا ننظر إليه من
الزاوية التاريخية فقط لأنها نظرةٌ أحادية الجانب تفقده
الطبيعة الخاصة به والتي تميزه عن غيره. فالعمل الفني باعتباره
نشاطًا إبداعيًّا حرًّا يختلف بطبيعة الحال عن الأعمال
الإبداعية الأخرى للنشاط البشري لما له من فردية وخصوصيةٍ
متفردة. والظاهرة الجمالية ليست كسائر الظواهر العلمية الأخرى
التي تُحدِث في جميع النفوس نفس النتائج، ولكنها ظاهرةٌ
إبداعيةٌ حرة تثير في الذوات مشاعر وانفعالاتٍ متباينة أشد
التباين.
إن هذه الظاهرة الجمالية، حتى في ثوبها المثالي، منخرطة —
بحكم طبيعتها — في العملية الجدلية نفسها، وهذا أمر ظاهر حتى
بدون أن يجهد بلوخ نفسه في البحث عن عملية التوسط في الفن
وبدون الاستعانة بمقولاتٍ ماركسية لتفسيره. إن مشاهدة العمل
الفني تنطوي على علاقةٍ جدلية بين الذات المشاهدة والموضوع
المشاهد، والعمل الفني ينطوي على علاقةٍ جدلية بين الذات
المشاهدة والموضوع المشاهد، والعمل الفني كرؤيةٍ إبداعيةٍ حرة
إنما يعكس هذا الإبداع على المشاهد نفسه، الذي يبدع بدوره في
تحليل وتفسير العمل موضوع المشاهدة، فالتفاعل مع موضوع اللوحة
يثير في كل فرد إيحاءاتٍ حرةٍ متباينة من فرد لآخر. ولذلك فإن
الاستطيقا الكلاسيكية، التي يراها بلوخ مجرد استطيقا تأملية
فقط، لا تخلو من هذه العلاقة الجدلية، لأنه على الرغم من أن
للعمل الفني وجوده الموضوعي، إلا أنه وجود لا ينفصل عن الذات
المشاهِدة له، لأن هذه الموضوعية لا يمكن أن تنكشف إلا للذات
وعن طريقها.
ويمكن أن ننتهي إلى القول بأن العمل الفني تجربة تعلو على
الظروف التاريخية والاجتماعية، وذلك بنفس القدر الذي يمكن معه
القول بأنه مرتبط كذلك بالظروف التاريخية والاجتماعية، ولعل
هذا أن يكون أحد وجوه المفارقة الجدلية التي تميز العمل الفني
وتجعله نقطة التقاء الزمني والأبدي، والنسبي والمطلق، والجزئي
والكلي، والخاص والعام.
(٣) الأعمال الأدبية
إذا كنا نستطيع أن نلمس العنصر اليوتوبي في الفنون المرئية،
فكيف نستشعر هذا البُعد في الفنون المكتوبة والمسموعة؟ ربما
يكون الاهتداء إلى بُعد الأمل في الآداب المكتوبة من الأمور
التي لا يصعب على الإنسان أن يستخلصها إذا استطاع أن يفضَّ
غلاف الاستعارات والرموز الفنية في العمل الأدبي ويضع يديه على
المعنى العميق والهدف البعيد الذي تشير إليه الكلمات. وقد حاول
بلوخ أن يفض هذا الغلاف عن عملَين كبيرَين ليكشف عن بُعد الأمل
في كليهما، وهما الكوميديا الإلهية لشاعر إيطاليا الكبير دانتي
(١٢٦٥–١٣٢١م) وفاوست لشاعر ألمانيا الأكبر جوته. ولم يكن
اختيار بلوخ لهذين الشاعرين اختيارًا عشوائيًّا، بل لأن كلًّا
منهما قدم ملحمةً أدبيةً يوتوبية تختلف عند أحدهما عنها عند
الآخر اختلاف الضد عن ضده.
كانت الكوميديا الإلهية صدًى لمؤثرَين كبيرَين، فقد وقع
دانتي من ناحية تحت تأثير جغرافيا بطليموس فجاءت يوتوبيا
مكانية ومطابقة لمركزية الأرض، كما كانت الكوميديا الإلهية من
ناحيةٍ أخرى تعبيرًا شعريًّا عن فلسفة توما الأكويني التي قدمت
يوتوبيا تراتبية بمستويات الوجود الاجتماعية وقامت على المجتمع
الإقطاعي. وقد رسم دانتي صورًا خيالية لفردوسٍ سماوي في شكلٍ
رمزي هو الوردة. لكن يجب ألَّا تفهم الوردة بالمعنى الدنيوي
المعروف، لأنها رمزٌ مكاني للكمال. وهي تشبيه استُعمل في عصر
دانتي كرمز للسماء يوحي بالشكل الدائري الذي كان يُعدُّ منذ
عهد الإغريق أكمل الأشكال. وقد نشر بيترو دا مورا
Pietro da Mora
كاردينال
capua، رسالة عن
الوردة الكاملة بمراحلها الثلاث، مرحلة جوقة الشهداء، ومرحلة
عذراء العذارى، ومرحلة المسيح وسيط الإله والبشر.
١٠٥ وقد جاءت رمزية الكوميديا الإلهية في ثلاثة أقسامٍ
رئيسية تتفق مع هذه المراحل؛ الجحيم، المطهر، الجنة، فكانت
الوردة أو الدائرة هي الإطار لعمل دانتي. ولم تقدم يوتوبياه
جنة في السماء فقط، بل أشارت إلى الجنة الأرضية التي ليست سوى
مكان لعبور الأرواح الصالحة إلى الجنة السماوية. وظلت سماء
دانتي سماءً كاثوليكية، رمزًا للسكون المركزي الأبدي الثابت،
وكأن هذه السماء لا تتضمن أي هدف على الإطلاق، أو على الأصح لا
تتضمن إلا هدفًا واحدًا هو التعبير عن كمال الوجود في ذاته ومن
أجل ذاته. إن المكان أو الفضاء عند دانتي في يوتوبياه السماوية
يعكس في تجلِّيه الأسمى فلك الشمس ولكنه يعبر عن نفسه في شكلٍ
رمزيٍّ خاص وغير فلكي بالمرة. فحيثما توجد وردة السماء يكون
النور الخالص كما تقول هذه الأبيات:
(١) ربما تتوهج شمس الظهيرة وهي بعيدة عنا بستة آلاف
ميل،
وتكاد تأخذ الدنيا تميل بظلها إلى مهادها
المستوى،
(٤) حينما تأخذ في التحول ساحة السماء التي تعلو من
فوقنا شاهقة،
حتى تحتجب بعض النجوم عن الرؤية في هذه
الآفاق،
(٣٧) استأنفت بهمة الدليل المقدام وصوته: «لقد خرجنا
من أعظم
الدوائر إلى السماء التي هي النور الخالص.»
(٤٠) إنه نورٌ روحانيٌّ مفعم بالمحبة، بمحبة الخير
الحق المليء
بالبهجة؛ بالبهجة التي تسمو على العذوبة.
(٤٦) وكبرقٍ خاطف يزيغ من قوى الإبصار، حتى ليحرم
العينَين
من قدرتهما على رؤية أكثر الأجسام ضياءً.
١٠٦
نخلص من هذا إلى أن يوتوبيا دانتي هي نوع من
اليوتوبيا المكانية التي تنتهي فيها كل الأشكال بالدائرة
المكتملة، أي أنها يوتوبيا وصلت لنهايتها وليس لها مستقبل.
وعلى الرغم من ذلك فحتى عالم الجحيم الذي كُتب على بابه «أيها
الداخلون اطرحوا عنكم كل أمل.»
١٠٧ هذا العالم الأبدي السكوني الذي يستمر فيه العذاب
إلى الأبد قد لا يخلو من أمل، لقد استسلم الملعونون لمصيرهم
وفقدوا كل إحساس بالرغبة أو الندم فقد تصالحوا مع قَدَرهم
وسلموا بالعناية الإلهية ورضوا بالعقاب الإلهي. ومن هنا تأتي
عبارة هيجل الجريئة التي تصدق على دانتي: «حتى الملعونون في
جحيم دانتي لا يزال لهم حظهم من النعمة الأبدية لقد كتبت على
أبواب الجحيم عبارة «أنا باقٍ إلى الأبد.» فالملعونون قد فقدوا
كل إحساس بالألم أو الندم، وهم لا يتكلمون عمَّا يقاسونه من
عذاب لكنهم يتذكرون فقط أفكارهم وأعمالهم في الدنيا دون أن
يشكوا من شيء أو يشتاقوا إلى شيء.»
١٠٨
أما عن فاوست جوته فقد سبق الحديث عن أبعاده اليوتوبية في
الجزء الخاص باللحظة الممتلئة، وتجنُّبًا للتكرار سنذكر فقط
النقاط التي تخدم المقارنة مع دانتي. وقد نشأت يوتوبيا فاوست —
على العكس من يوتوبيا دانتي — في جوٍّ بروتستانتي، لا
كاثوليكي، وخلفيتها الاجتماعية مجتمعٌ رأسمالي، لا أقطاعي، وقد
قدم جوته كذلك صورًا خيالية للسماء، إلا أن سماء فاوست ليست في
السماء المتعالية التي وجدناها عند دانتي، بل هي سماءٌ منظور
إليها من العالم الأرضي، أي أنها ما زالت في هذا العالم. وإذا
كان إطار كوميديا دانتي هو الدائرة، فإن إطار فاوست جوته هي
السماء المتعالية التي ترتفع في تصاعدٍ لا نهائي إلى السماء،
حيث الهدف البعيد الذي تسعى الذات سعيًا دءوبًا للوصول إليه،
على العكس من سماء دانتي الخاوية من الهدف. ويمكن القول إن
يوتوبيا جوته متحركة، أي أنه كلما تحقق فيها هدف تولَّد آخر
ليبتعد إلى مسافةٍ لا نهائية حتى تسعى الذات مرةً أخرى وراءه
من أجل أن يتحقق، بحيث يوجد في فاوست الوعي بمضمون الهدف الذي
لم يتحقق بعدُ. وإذا لم يكن الفن — كما يقول مالرو — سوى
انتقال من دائرة القدر إلى دائرة الوعي والحرية، فإن هذا على
خلاف يوتوبيا دانتي التي تؤمن بالهدف القادر على التحقق
النهائي. والنتيجة التي أراد بلوخ أن ينتهي إليها هي أن
يوتوبيا دانتي مكانيةٌ ساكنة تنشد الراحة السماوية وتهدف
للوصول للنهاية التي توقف عندها الزمان ولم يبقَ من أبعاده سوى
بُعد الماضي الأزلي، بحيث يمكن القول إنها يوتوبيا مغلقة لا
تسمح بالصعود، ومثلها الأعلى هو الوردة أو الدائرة رمز الكمال
المتحقق بالفعل. أما يوتوبيا فاوست جوته فهي زمانيةٌ متحركة،
تنبض بالوعي الحي وتبذل الجهد الإرادي لمقاومة العالم الواقعي
غير المكتمل. إنها تؤمن بلا نهائية الهدف المتجدد دومًا، وتصعد
معه إلى الجبال العالية الممتدة في الأفق الأزرق، في يوتوبيا
دانتي ينتهي اللغز إلى الحل الموجود، أما في يوتوبيا جوته فإن
الحل هو اللغز الباقي.
١٠٩
وشهد العصر الحديث تطورًا كبيرًا في التفكير اليوتوبي فظهر
عددٌ وفير من الأعمال الفنية التي اتخذت شكلًا يوتوبيًّا أكثر
صراحة ووضوحًا، وتجلت أشكالٌ يوتوبيةٌ جديدة في صورة أعمالٍ
روائيةٍ أدبية وأخرى علمية وهي المعروفة باسم روايات الخيال
العلمي، والأعمال التي وضعها أدباء في شكلٍ روائي ويمكن وصف
بعضها بأنها يوتوبيات والبعض الآخر بوصفه يوتوبيات مضادة. ومن
هؤلاء الأدباء كان كارليل Carlyle (١٧٩٥–١٨٨١م) الذي وقف معارضًا
للعالم الصناعي والنزعة الرأسمالية والليبرالية على السواء
وتعاطف مع ضحايا العصر الصناعي معتبرًا إياه جذر الشر ومؤيدًا
للنزعة الفردية والبطولية التي عُرفت عنه. فالفكرة الأساسية
عنده هي أن الفرد البطل هو صانع التاريخ. وقد صور في رواياته
بؤس الطبقة العاملة الإنجليزية وقبح عصرها الصناعي، ذلك العصر
الذي تمثل الثورة الفرنسية انطلاقة له. ولكنه لم يقف عند
سلبيات هذه الثورة كغيره من الكتاب، وإنما أدرك أيضًا
إيجابياتها وانتصارها على السلطة البالية الفاسدة. وقد دعا
كارليل إلى فكرة «الزعيم الصناعي» أي إلى حكم الفرد البطل
حكمًا مطلقًا مستنيرًا، وإن كان سان سيمون قد سبقه في الدعوة
لسيطرة رجال الصناعة على حكم الدولة. وإذا كان هذا شيئًا
مقبولًا في تلك الأيام نظرًا لضعف الطبقة العاملة في عصر سان
سيمون، فكيف يكون ذلك مقبولًا في أيام كارليل، وهو الذي عاش
وشهد الصراع الاشتراكي والوعي البروليتاري في منتصف القرن
التاسع عشر؟
لقد ظلت كلمة يوتوبي مرادفة لكلمة اشتراكي حتى أواخر القرن
التاسع عشر، الأمر الذي أدى إلى زيادة تأثير الأفكار اليوتوبية
على الحياة السياسية والاقتصادية، كما تجلَّى هذا في يوتوبيا
«التطلع للوراء» لإدوارد بيلامي (١٨٥٠–١٨٩٨م) وهي نظرة إلى
المستقبل من خلال روايةٍ أدبية تم تنويم بطلها تنويمًا
مغناطيسيًّا ليستيقظ عام ٢٠٠٠م في ولاية بوسطن الأمريكية ليجد
دولةً مثالية لا يتم التعامل فيها بالنقود بل بالبضائع التي
توزع بالبطاقات، وهي دولة تسودها المساواة في الربح بين كل
المواطنين الذين لا يتنافسون على الأجور بل على خدمة الدولة.
لقد رسم بيلامي ملامحَ اشتراكية تحوَّلت من تجمعاتٍ صغيرة إلى
مجتمعٍ واحدٍ كبير لتكون يوتوبيا مركزية.
١١٠ واعتمدت الحركات الاشتراكية في الولايات المتحدة
الأمريكية على هذه اليوتوبيا، كما كان لها رد فعل مضاد في
اليوتوبيات الأوروبية.
وإذا كان بيلامي قد صور الدولة عام ٢٠٠٠م، فإن وليم موريس
(١٨٣٤–١٨٩٦م) رسم ملامح مدينته المثالية بعد عام ألفين فكتب
روايته «أنباء من لا مكان» التي صور فيها أحلام الإنسانية
وأمانيها، وقدم نموذجًا غير مألوف من اشتراكية يمكن أن نطلق
عليها وصف الاشتراكية الشعبية. ولم يقف موريس — باعتباره
فنانًا وصاحب حرفةٍ يدوية — ضد يوتوبيا بيلامي فقط بل عارض
أيضًا كل اليوتوبيات الآلية أو الميكانيكية، وقدم نظرةً جديدة
للعمل بوصفه متعة: «لقد بثثنا في العمل لذةً تُغري الناس به،
وليس ذلك بعجيب؛ إذ الفنان الحق يستمتع بما يؤديه، وعمالنا
يأخذون العمل على أنه فنٌّ جميل، كلٌّ يختار ما يستمتع به.»
١١١ ولا شك أن هذا تطور في فكرة العمل، ولكن العمل
المقصود هنا هو الحرفة الفنية وليس العمل الصناعي الذي يقتل
الجمال ويعوق سعادة الجنس البشري الذي تنبأ موريس بأنه سيثور
عليه ثورة تدمر المصانع وتقضي على النزعة الصناعية غير
الطبيعية من وجهة نظره، فتموت الرأسمالية ومعها كل بلاء
المدنية وتعود الحرف المهنية مرةً أخرى.
وتوالت أحلام اليوتوبيين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل
العشرين، وتنوعت ما بين يوتوبياتٍ علمية تفاءلت بالمستقبل ورأت
إمكانية التغلب على المرض والموت والفقر والجهل والفوضى
بأساليبَ علميةٍ حديثة ومتطورة، وبين أخرى تصور
اليوتوبيات-المضادة التي رسمت صورةً قاتمة للمستقبل وتنبأت
بكوارث التقدم العلمي وتدمير البيئة بتأثير عوامل التلوث،
إبادة البشرية بفعل أسلحة الدمار الشامل، من أشهر هذه
اليوتوبيات «العالم الطريف الشجاع» للكاتب الإنجليزي هكسلي
(١٨٩٤–١٩١٩م) الثائر على عالم التقنية وعلى ازدياد نفوذ العلم
في الحياة، وفي هذه الرواية يتخيل أن الإنسان سوف يتناسل في
المستقبل لا عن طريق الحب والتقاء الرجل بالمرأة، ولكن عن طريق
العلم وتكوين الأطفال بطريقةٍ علميةٍ داخل القوارير.
١١٢ وهكذا يصور لنا هكسلي العلم في صورة تشمئز منها
النفوس وتقشعر الأبدان، ويعبر عن خوفه من سيطرة العلم على حياة
الناس، بتصوير مدينة العلماء الفاضلة بكل ما فيها من مساوئ،
ورأى في عالم التقنية الجديد؛ عالم العقاقير والآلات الذي
انتفت منه العاطفة والشعر والدين والجمال: «في هذا العالم
الجديد كل شيءٍ آليٌّ، وكل شيءٍ مرسومٌ أو محفوظ في قارورة،
والصفة الإنسانية تكاد تنعدم.»
١١٣
وكتب صمويل بتلر أيضًا «إرون» أي البلد الذي لا وجود له،
وإرون هي قلب لكلمة
No where.
والكتاب تهكمٌ مرير على نظام المجتمع ورجال الدين وعلى العلم
وأصحابه. وما كتبه بتلر عن الآلات هو تهكمٌ لاذع على نظرية
دارون، إذ يحاول أن يطبق أصول نظرية دارون في التطور على
الآلات، فلا يرى من المستحيل أن تتطور الآلة وتسبق الإنسان في
تنازع البقاء كما سبق الإنسان صنوف الحيوان، وهو بذلك يريد أن
يؤيد وجهة نظره بأن أساس التطور هو محاولة الوصول إلى غايةٍ
معينة وليس الصدفة البحتة كما قال دارون
١١٤ يقول بتلر: «إما أن نعترف بأن للأشياء إدراكًا،
وبذلك نعترف ضمنًا أن للآلات إدراكًا لا نفهمه، وإما أن نقول
إن الإنسان وحده يتمتع بالإدراك ولكنه هبط من أصولٍ لا إدراك
لها فتكون النتيجة المنطقية أن تتطور الآلات إلى شيءٍ جديد له
فوق ما للإنسان من إدراك وفكر. وإذن فيا بني آدم سارعوا بتحطيم
الآلات خشية أن تسبقكم بعد قليل في مضمار الحياة (…) إني لأري
الإنسان يعمل بنفسه على خلق خلفه في سيادة الأرض! إنه ما يفتأ
يزيد من دقة الآلة ونظامها وقوَّتها، ولست أشك في أن الأمر
سينتهي بالآلة إلى ذكاءٍ خارقٍ وعندئذٍ تعلو في سلم الكائنات وتسود.»
١١٥
إن اليوتوبيات-المضادة التي بدأت في الظهور في أواخر القرن
التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وقفت في المقام الأول ضد
التقدم العلمي والتقني وكشفت ما يمكن أن ينتج عنه من أهوال
وبشاعة. وقد ظلت الشيوعية هدفًا لكل اليوتوبيات السابقة إلى أن
ظهرت رواية «العالم سنة ١٩٨٤م» لجورج أورول.
١١٦ (١٩٠٣–١٩٥٠م) التي تصور نظام الحزب الشيوعي وما
يجري داخله. وقد كشفت هذه الرواية عما يحدث في المجتمعات
الاشتراكية من دعاوى حزبية رتيبة، شملت كل شيء وتدخلت في كل
شيء؛ دعاوى قضت على أولى مبادئ الحرية، كما قضت بجرة قلم على
الماضي والحاضر والمستقبل لأن الحزب يهيمن على كل شيء، حتى على
مجرد تفكير الإنسان. وقد استعان الكاتب بقوى شيطانية وبجهاز
استطلاع دقيقٍ مخيف أطلق عليه اسم «بوليس الفكر» يستشف أفكار
الناس حتى في خلوتهم، وعاشت الطبقة العاملة في هلع وفزع؛ الكل
يرقب ويتلصَّص، حتى الطفل يرقب والديه ليشي بهما.
١١٧ والكتاب يصف الصورة القاتمة — التي كانت تتمثل في
ذهن المؤلف — لنظام الحزب الاشتراكي وما يجري داخله من أعمال
الإرهاب والتعذيب والتسلط: «إن السلطة ليست وسيلة ولكنها غاية،
والإنسان لا يمكن أن يُنشئ ديكتاتورية لحماية ثورة، وإنما يثير
الإنسان ثورة لإنشاء ديكتاتورية.»
١١٨ «إن الهدف من الاضطهاد هو الاضطهاد، والهدف من
التعذيب هو التعذيب، ومن ثَم فإن الهدف من السلطة هو السلطة.»
١١٩ كما يقول أورول أيضًا على لسان أوبرين؛ إحدى
شخصيات روايته: «إن السلطة هي ممارسة السلطة فوق بني الإنسان،
فوق أجسامهم بل وفوق عقولهم قبل كل شيء.»
١٢٠ ولا شك أن الأهوال التي رسمها المؤلف لنظم الحكم
الشمولية كان أغلبها صحيحًا، وهذا ما كشفت عنه الأحداث الأخيرة
بعد انهيار الحكم الشيوعي في الاتحاد السوفيتي وأوروبا
الشرقية.
بعد أن كشف بلوخ النقاب عما في اليوتوبيات التاريخية من أمل
وتأرجح بعضها بين السكون والحركة، وانغلاق بعضها على الماضي،
وانفتاح البعض الآخر على المستقبل، اكتفى من يوتوبيات القرن
التاسع عشر، والقرن العشرين على السواء بتلك اليوتوبيات التي
كتبها أصحابها في شكل أعمالٍ أديبةٍ روائية ترسم ملامح
مجتمعاتٍ اشتراكيةٍ مثالية؛ مما يوحي بطبيعة الحال بتفضيله
لذلك النوع من اليوتوبيا التي قامت على أسسٍ اشتراكية. وربما
يبدو هذا متسقًا ومتماشيًا مع إيمانه — حتى آخر لحظات حياته —
بالنزعة الماركسية التي وجد فيها وحدها الحل الذي يُنهي كل
الظروف التي سببت شقاء الإنسان وبؤسه.
وربما كان هذا الهدف نفسه هو ما جعله يهمل أو يتجاهل نوعًا
آخر من اليوتوبيات التي صنفت تحت اسم اليوتوبيا-المضادة، وهي
تلك التي تعرضت بالسخرية حينًا وبالتحليل حينًا آخر لمساوئ
النظم الاشتراكية (أورويل، ١٩٨٤م)، أو لمخاطر التطبيقات غير
الإنسانية لمنجزات العلم والتقنية (هكسلي، عالم طريف شجاع).
وعلى الرغم من خطورة العديد من المساوئ التي وردت في هذه
اليوتوبيات المضادة، وعلى الرغم من أن بلوخ نفسه عاصر العديد
من مفاسد تلك الأنظمة وعاش تجربتها المريرة، وعلى الرغم من
إيمانه باللاحتمية التاريخية التي تتفق مع نسقه الجدلي المفتوح
وتتعارض تعارضًا أساسيًّا مع الفكرة الماركسية عن حتمية التطور
التاريخي؛ على الرغم من كل هذا فقد ظل إيمانه بالماركسية
الإنسانية باقيًا، وسيطر عليه حتى النهاية حلمه بمجتمعٍ
شيوعيٍّ إنساني؛ مما جعله ينسى أو يتناسى عن عمد تلك
اليوتوبيات-المضادة.