تنوَّعت الأشكال اليوتوبية في العصر الحديث تنوعًا هائلًا،
واتخذت أشكالًا مختلفة تمثلت في الرؤى اليوتوبية التي ظهرت في
نظريات القانون الطبيعي، وفي الأفكار الاشتراكية التي صاحبت ميلاد
الحركة الاجتماعية فظهرت يوتوبياتٌ فيدرالية وأخرى مركزية. كما
ظهرت في العصر الحديث يوتوبياتٌ عنصرية ولدت مع بداية الحركات
القومية في أوروبا وتمثلت في الصهيونية العالمية التي قامت على
أساسٍ عرقي وديني. كما تبلورت النظرية الماركسية التي نظر إليها
البعض — مثل بلوخ — على أنها تمثل اليوتوبيا العينية. فإلى أي مدًى
عبرت هذه الأشكال اليوتوبية — على اختلافها — عن أمل البشرية في
حياةٍ أفضل؟ وإلى أي مدًى عبر هذا الأمل — إذا كان أملًا حقيقيًّا
— عن الممكن الواقعي والموضوعي الكامن في الواقع المادي؟
(١) اليوتوبيا والحق الطبيعي
وجد بلوخ الانعكاس الاجتماعي «للخير» المتوقَّع في تيارَين
من تيارات التراث الفكري وهما اليوتوبيات الاجتماعية التي نبعت
من خيالٍ متطلع لآفاق المستقبل، وتغلغل في آفاق الممكن ليقيم
فيها مملكته، مبتدئًا من الأوضاع القائمة وثائرًا عليها في
كثير من الأحيان، كما وجده في القانون الطبيعي.
٧٤ (وهو ابن عم اليوتوبيا كما سماه!) الذي يتقدم من
الاستنباطات العقلية إلى شروط إمكان تحقيق الوجود الإنساني
الكريم وغير المنقوص في المجتمع. وهنالك أدلةٌ عديدة على
الارتباط بين الأوضاع القانونية الطبيعية وبين الفروض التي
تطرحها اليوتوبيات الاجتماعية، فكلاهما يقف من الوضع القائم
موقف الاحتجاج، ويحرص على التخلص من الواقع السيئ، وكلاهما
يتحدث عن إمكان الإنسان أكثر مما يتحدث عن وجوده التاريخي،
لذلك تقوم اليوتوبيات الاجتماعية كما يقوم القانون الطبيعي —
بالنسبة للوعي الثوري والتاريخي — بدور الأفكار المنظَّمة التي
تقاس عليها مضامين اﻟ «ليس-بعد» (أو المضامين الواعدة بالتحقق)
الكامنة في الوضع الاجتماعي السائد. ومع ذلك فإن القانون
الطبيعي، الذي يؤدي دورًا هامًّا منذ بداية الفلسفة عند
الإغريق، يحتفظ من الناحية الأيديولوجية بطابعٍ ازدواجي،
فكثيرًا ما كانت العلاقات الطبقية تبدو فيه علاقاتٍ طبيعية
لمجرد أنها موغلة في القدم، غير أن القانون الطبيعي يكشف كذلك
عن وجهٍ آخر عندما اتجه في عصر التنوير إلى الهجوم على الأوضاع
الفاسدة بينما استغلته التوماوية الجديدة في تبرير هذه الأوضاع
وتأييدها.
ما هي — إذن — علاقة القانون الطبيعي — ذي الوظيفة المزدوجة
— باليوتوبيا الاجتماعية؟ الواقع أن هناك علاقة تربط الحقوق
الطبيعية بالمبادئ اليوتوبية، ففي بعض العصور اتحد القانون
الطبيعي مع التفكير اليوتوبي في الاحتجاج على الواقع السائد
والظروف السيئة. غير أن بلوخ يميز بين اليوتوبيا والقانون
الطبيعي من حيث إن اليوتوبيات تكون تقدمية بصورة لا تقبل الشك.
أما القانون الطبيعي فيظل الغموض يحيط به من الناحية
الأيديولوجية، بحيث كان يستخدم لتبرير نظمٍ تقليدية تناهض
التطور. ولذلك يرفض بلوخ ما يمكن تسميته بالحقوق الطبيعية
الفطرية، لأن مثل هذه الحقوق هي في الواقع مكتسبة أو لا بد أن
تُكتسب من خلال النضال في سبيل الحرية، كما ينكر أن يكون حق
الملكية من الحقوق البديهية أو الطبيعية وكأنما هو شيء يمكن
استنباطه بصورةٍ عقليةٍ قبلية، ويرفض أن تشتق المعايير
القانونية من مبدأٍ غائيٍّ متعالٍ على الواقع وغير نابع منه،
لأن ذلك كله يتضمن القول بطبيعةٍ إنسانيةٍ معياريةٍ ثابتة، وهو
أمر لا يمكن تصوره إلا في إطار تفكيرٍ غير تاريخي أو متعالٍ
على التاريخ. إن العيب فيما يُسمى بالحقوق والقوانين الطبيعية
يكمن في أنها لم تستمدَّ من التطور التاريخي، بل هبطت من أعلى
أي من طبيعةٍ أولية أو قبليةٍ مزعومة وفُرضت على الواقع
باعتبارها مُثُلًا عليا.
وإذا كانت هناك علاقات تربط بين القانون الطبيعي العقلاني
التقليدي وبين اليوتوبيات الاجتماعية فهناك أيضًا فروق، وأول
فارق بينهما زمني؛ إذ كان ازدهار القانون الطبيعي الكلاسيكي
العقلاني في القرنين السابع عشر والثامن عشر، مستندًا إلى
الوعد البرجوازي التقدمي، وصاغ مطالب البرجوازية الثورية بشكلٍ
قانونيٍّ متفتح، وتوافق مع ازدهار الاقتصاد السياسي ومدرسة
الفيزيوقراطيين. بينما تقع فترة ازدهار اليوتوبيات الاجتماعية
أو الاشتراكية في عصر الثورة الصناعية (وهي يوتوبيات فورييه،
وسان سيمون وأوين) في القرن التاسع عشر.
٧٥ والفرق الثاني منهجي، إذ ارتبط القانون الطبيعي
بعصر التجريد والبناء العقلي والمنهج الاستنباطي، بينما ارتبطت
اليوتوبيات الاجتماعية بعصر الأزمات الاقتصادية وبالنزعة
التاريخية المضادة للبناء العقلي فرسمت صورًا مستقبلية لمجتمعٍ
أفضل. وهذا يرتبط بالفرق الثالث بين نظريات القانون الطبيعي
واليوتوبيات الاجتماعية وهو فرق في الأهداف أو المقاصد؛ إذ إن
أصحاب القانون الطبيعي يهدفون إلى تأكيد كرامة الإنسان وحقوقه
وضماناته، بينما تهدف اليوتوبيات إلى سعادته وإلغاء ما يسبب بؤسه.
٧٦ ولكنهما يشتركان — على الرغم من الفروق السابقة —
في أنهما نمطان للحلم بعالمٍ اجتماعيٍّ أفضل، بحيث يمكن الحديث
عن يوتوبياتٍ قانونية تقوم على تجاوز الواقع، لأن جميع
اليوتوبيات الاجتماعية على مدى تاريخها الطويل من أفلاطون
والرواقيين وأوغسطين إلى مور وكامبانيلا وبيكون تحتوي على
نظراتٍ قانونية إلى الدولة المُثلى والقانون الأمثل.
وللقانون الطبيعي كذلك تراثٌ طويل منذ العصر اليوناني، فهناك
مذهب الأبيقوريين الذي يقول بأن الدولة مدينة بوجودها لعقدٍ
مبرم بين أفراد، وإذا لم يحترم أحد المتعاقدَين (والمقصود هنا
الدولة) بنود العقد، يكون الشعب مجابهًا بحالةٍ جديدة هي
الثورة ضد من صادر حقوقه وسيادته. وأعاد ألتوسيوس (١٥٥٧–١٦٣٨م)
هذا المذهب الأبيقوري ونهض مدافعًا عن حق الشعوب، فذهب إلى أن
من حق الشعب نفسه — وليس فقط ممثليه — إسقاط السلطة إذا توقفت
عن العمل لصالح الشعب، فالدولة ليست إلا مندوبين عن الشعب،
ولذلك فإن مقاومة الأسياد غير العادلين ليست تمردًا وإنما هي
حماية لحقوق الإنسان المنتهَكة.
٧٧
ومن ألتوسيوس رائد التصور الحديث للأصل الطبيعي للحق إلى
المبدع الحقيقي لما يسمى بالحق الطبيعي، وهو جروسيوس
(١٥٨٣–١٦٤٥م) مؤلف «قانون الحرب والسلام» عام ١٦٢٥م، وفيه تظهر
لأول مرة الفكرة الأساسية وهي فكرة حقٍّ كلي أو قانونٍ كلي.
وقد حدد جروسيوس مذهب ألتوسيوس عن العقد الاجتماعي الذي يعد
أساس حق الشعوب، وهو المذهب الذي ينطلق من فكرة نقل الحقوق
الفردية إلى مجتمعٍ منظم. ويؤكد جروسيوس أن مهمة الدولة هي أن
تلبي على نحوٍ منظم متطلبات الإنسان الاجتماعية. فالحق الطبيعي
يعني حقوق البشر التي اؤتمنت الدولة عليها بموجب عقد ووفق
إرادة المتعاقدين لإقامة مجتمعٍ منظم، ويصبح هذا العقد باطلًا
إذا لم تحترم الدولة شروطه. ولكن الشيء الجوهري في القانون أو
الحق الطبيعي لم يكن هو العقد الاجتماعي، بل البناء العقلي
الاستنباطي القائم على قانون عدم التناقض. ولذلك كانت الرياضة
هي نموذجه الأمثل، وظل التأثير الثوري للحق الطبيعي محدودًا من
الناحية التاريخية، ولم يمتد إلى المستقبل الذي قامت عليه
اليوتوبيات. ولهذا لا يتبقى من العقد الاجتماعي لجروسيوس —
ممثل الأرستقراطية في رأي بلوخ — سوى نقطةٍ هامة وهي أنه لا
ينتمي للميدان التاريخي، بل لنبضةٍ وهمية أفسحت المجال لعقدٍ
غير تاريخي ووهمي.
٧٨ وربما يكون ذلك بسب افتقار نظريات القانون الطبيعي
الكلاسيكي إلى الحس التاريخي.
(أ) نظرية العقد الاجتماعي
يبرز توماس هوبز (١٥٨٨–١٦٧٩م) على رأس المنظِّرين لفلسفة
الحق أو الحق الطبيعي، والمعروف عن فلسفة هوبز أنها تقوم
على مقولةٍ أساسية عنده وهي أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان،
وأن الطبيعة الذئبية للإنسان هي حالة الطبيعة الأولى. لذلك
فالعقد عنده ليس من قبيل التحالف بين الدولة والأفراد، بل
هو خضوعٌ مطلق من قبل الطرف الثاني للطرف الأول، فرضته
طبيعة الإنسان الفاسدة وجعلته ضروريًّا. تلك هي نقطة
انطلاق نظريته عن العقد الاجتماعي أو الحق الطبيعي. ويتميز
هوبز عن ألتوسيوس وجروسيوس بواقعيته، فالغريزة الأساسية
التي تحرك الأجسام البشرية هي الأنانية: «الإنسان ذئب
للإنسان homo homini lupus est» والمجتمع الأول ليس مدفوعًا
بالغريزة الاجتماعية، بل هو مقحَم في «حرب الجميع»، وهذه
هي النار الراقدة تحت الرماد في كل المجتمعات، و«الحالة
الطبيعية» التي تهدد في كل لحظة بأن تستيقظ وتسود.
لقد أسقط هوبز صراع الطبقات الذي بدأ في عصره وأهوال
المجتمع الرأسمالي الإنجليزي على مرحلة ما قبل التاريخ، أي
على المجتمع البدائي فأقرَّ بأنه مجتمع ذئاب. وتتشارك
الذئاب كي تضع نفسها في مأمن من شر بعضها البعض، تاركة
ذئبًا واحدًا فقط هو ذئب الذئاب للدفاع عن المجتمع.
٧٩ بمعنًى آخر يتنازل الشعب باختياره عن إرادته
للحاكم بموجب عقد، وبمجرد إبرامه يصبح للحاكم سلطة وضع
القوانين وصياغة الأحكام والحقوق والواجبات، وعلى أفراد
الشعب الطاعة المطلقة، فهذا الحاكم الذي يسمى المونارك أو
الملك هو فوق القانون وتلك هي أيديولوجية الحكم المطلق.
فالذئب الأعلى لا يقدم حسابات، وما يقوله لا يمكن أن يوضع
موضع مساءلة، لأن السلطة وليس العقل هي التي تضع القانون.
٨٠
يوجد عند هوبز الرجعية والتقدم، أيديولوجية البرجوازية
الصاعدة وسلطة الدولة التي لا ترحم ولا جدوى من مقاومتها.
ما لم يجد الذئب نفسه مجابهًا بذئاب أقوى منه.
٨١ ولكن وسط هذا القهر والخضوع في دولة هوبز يوجد
نوع من الديمقراطية عندما يجتمع أفراد الشعب جميعًا بقصد
إنشاء دولة، كما أن السلطة المطلقة للدولة التي وصفها هوبز
بالتنين، تسقط الفروق بين الشعب والطبقة الاجتماعية لأن كل
الناس متساوون، ولأن كل شيء في مقابل الحاكم. أضف إلى هذا
أن هوبز لم يقل بملكيةٍ مطلقة للدولة ومن الممكن أن تتمثل
هذه السلطة في شكل الحكم الجمهوري وليس بالضرورة في شكل
حكمٍ ملكي.
٨٢
تتحول الطبيعة الذئبية عند هوبز إلى طبيعةٍ خيرة
واجتماعية عند جان جاك روسو (١٧١٢–١٧٧٨م) فالإنسان عنده
خيِّر في الحالة الطبيعية أو حالة الفطرة، وهو لا يكتسب
الشر إلا من خلال المدنية والدولة الشريرة غير العادلة
التي يسودها نظام متعدد الطبقات وتنتشر فيها اللامساواة في
الملكية التي ينتج عنها الأنانية الاجتماعية. والمبدأ الذي
يقوم عليه الحق الطبيعي عند روسو هو الحرية الفردية (التي
طمسها هوبز)، وهي حرية أناسٍ خيرين بفطرتهم، وليست حرية الذئاب.
٨٣ ولذلك يسخر روسو من الأمة الإنجليزية قائلًا:
«إن الشعب البريطاني يعتقد أنه حر، غير أن هذه الحرية لا
توجد إلا في لحظة الانتخاب فقط، وعندما تنتهي هذه اللحظة
يصبح عبدًا بل ولا شيء على الإطلاق.»
٨٤ ومن الضروري أن تكون الحرية هي الهدف الحقيقي
للدولة. ولهذا يسأل متعجبًا كيف تنشأ دولة ليس بها فردٌ
واحد يتمتع بالحرية؟ إن الحرية التي تسلمها الدولة للفرد
في لحظة الانتخاب (وهي اللحظة الوحيدة التي يكون الفرد
فيها مجبرًا على أن يكون حرًّا) تعود فتستردها مرةً أخرى
عندما يتنازل الفرد للدولة عن كامل حريته عند إتمام
العقد.
ذهب روسو إلى العكس من هوبز عندما جعل العقد الاجتماعي —
الذي أصدره عام ١٧٦٢م — مجرد وسيلة لحماية هذه الحرية
الفردية. بذلك تحول القانون الطبيعي لأول مرة إلى سيادة
الشعب. وما يميز العقد الاجتماعي هو أن الفرد يدخل بإرادته
في علاقةٍ مباشرة مع المجتمع، بمعنى أنه لا يسلم حريته لأي
نوع من التمثيل سواء كان ملكًا أو أميرًا أو حتى تمثيلًا برلمانيًّا.
٨٥ لذلك طالب روسو الفرد أن يشارك مشاركةً مباشرة
في أعمال الحكومة بالمساعدة في صنع القوانين، وبأن يكون
حرًّا في انتقادها واقتراح بدائل لها. ولا يعني هذا أن
تتمادى الفردية في غيِّها، وإنما هي بحاجة إلى الانضباط.
وقد أكد العقد الاجتماعي تأكيدًا شديدًا على أداء الواجب
إلى جانب الحقوق. فالانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة
التحضر المدني تُحدِث تغيرًا ملحوظًا في الإنسان لأنها
تستعيض عن «الحرية الطبيعية» المرتبطة بقوة الفرد «بالحرية
الحضارية» المقيدة بالإرادة العامة، وبحريةٍ أخلاقيةٍ
جديدة تكبح جماح شهواته.
٨٦ بحيث يمكن القول بأنه إذا استُبعد من الميثاق
الاجتماعي ما ليس من جوهره لتقلص إلى العبارات التالية:
«يسهم كلٌّ منا في المجتمع بشخصه وبكل قدرته تحت إدارة
الإدارة العامة العليا، وفي المقابل نسترد كل عضو باعتباره
جزءًا لا يتجزأ من الكل.»
٨٧ فالذات لا تغترب عن حريتها، منذ أن أصبحت
جزءًا متساويًا من الإرادة العامة أي أن الأساس
الأيديولوجي لفلسفة روسو يكمن في مبدأ الحرية الفردية
وقوَّتها الكلية التي تتخلل الإرادة العامة للمجتمع.
٨٨
ومذهب الإرادة العامة عند روسو لا يلغي الحقوق الطبيعية
للفرد بل يتَّجه لتحقيق المساواة في الملكية الخاصة. ومن
خلال أيديولوجيته في الملكية الخاصة لمس جوهر الشيوعية في
كل اليوتوبيات الاجتماعية: «إن قوة السلطة ليس لها أي حق
في المساس بملكية فرد أو جملة أفراد، ولكن لديها كل الحق
شرعًا في الاستيلاء على أملاك الجميع بلا استثناء.»
٨٩ وإذا لم يكن روسو هو أول من نادى بهذا المبدأ
— أي مبدأ مصادرة الملكية — إلا أن مذهبه من المذاهب
القليلة في نظريات القانون الطبيعي التي نادت بهذا المبدأ
الأساسي عند كل روَّاد النزعات اليوتوبية الاشتراكية الذين
قالوا بالمساواة في الحياة الاقتصادية. ولكن قوة الحق
الطبيعي الكلاسيكي لا تكمن في التمرد الاقتصادي وحده؛ إذ
إنها امتدت أيضًا إلى المجال السياسي وأقامت ما يسمى
بالحقوق الأساسية للفرد وهي: الحرية، والملكية، والأمن،
ومقاومة الظلم. وقد كانت هذه الحقوق — التي تمثل البناء
الفوقي القانوني — كانت هي المبادئ الأساسية للبرجوازية المتأخرة.
٩٠
والآن ما حقيقة العلاقة بين الحق الطبيعي — بما ينشده من
عدل وتأكيد للكرامة الإنسانية — واليوتوبيات الاجتماعية —
بما تنشده من سعادة البشرية؟ لقد اتضح في بداية الحديث عن
القانون الطبيعي أوجه الاختلاف والاتفاق بينه وبين
اليوتوبيات الاجتماعية. فهل اجتمعا لخلق مجتمعٍ أفضل يسوده
الحق والعدل وتعمُّه السعادة والمساواة؟ أم سار كلٌّ منهما
في طريقٍ موازٍ للآخر؛ مما جعل من الصعب أن يلتقيا في أي
مرحلةٍ تاريخية؟ وأيهما كان أكثر من غيره تأثيرًا في
المجتمع؟ يمكن القول إنه في مرحلة الصراع البرجوازي كاد
الحق الطبيعي أن يسيطر سيطرةً كاملة، بل وجاء معبرًا عن
آمال الطبقة البرجوازية حتى بدا أنه من الممكن أن يحلَّ
محل اليوتوبيات الاجتماعية. ولا بد من الإشارة إلى أن
الفترة التاريخية التي ازدهر فيها الحق الطبيعي كانت
الطبيعة هي المرشد الموجه لكل الاتجاهات الفكرية في
المجتمع، فازدهر الدين الطبيعي والعلم الطبيعي والمنهج
الرياضي ممثلًا في ديكارت وليبنتز.
وقد كان لسيطرة الحق الطبيعي تأثيرها على مواد ونصوص
الحقوق الدولية، فاستعان المشرِّعون للقانون الدولي
بنظريات جروسيوس وغيره، كما استعانت الثورة الفرنسية
بنظرية العقد الاجتماعي لروسو وبخاصة المادة التي تنص على
أن القانون يعبر عن الإرادة العامة. كذلك استعان القانون
البروسي بنظريات القانون الطبيعي، في حين لم يكن
لليوتوبيات الاجتماعية تأثير يُذكَر في المجتمع، لا سيما
في القرن الثامن عشر الذي لم تظهر فيه أي يوتوبيات أصيلة،
فمنذ توماس مور وكامبانيلا في القرن السابع عشر لم تظهر
يوتوبياتٌ حقيقية إلا في القرن التاسع عشر مع أوين وفورييه
وسان سيمون.
٩١
وعلى الرغم من سيطرة نظريات القانون الطبيعي في القرن
الثامن عشر وغياب اليوتوبيا بالمعنى الحقيقي، إلا أن الحق
الطبيعي كان له صدًى يوتوبيٌّ في كل العصور، كما أن الحق
الطبيعي ليس إلا يوتوبيا قانونية، فنظم اليوتوبيات
الاجتماعية التي تنشد تحقيق السعادة للإنسان لا تريد جنة
لحيوانات غير مسئولة، كما أن مذاهب القانون الطبيعي التي
تنشد الكرامة الإنسانية لا تقف في وجه الحياة الخيِّرة،
وكلاهما يؤمن بأن الوجود الحاضر يجب دفعه للأمام لكي يتحرر
من كل الظروف التي تعوق فتح الطريق لحياةٍ أفضل.
واليوتوبيات بتاريخها الطويل لا تخلو من القانون الطبيعي،
بدليل أن الرواقية قد طورت يوتوبياها عن الدولة العالمية
من خلال القانون الطبيعي، ولم تخلُ أية يوتوبيا — من
الرواقية وجروسيوس حتى سان سيمون وأتباعه ومعاصريه الذين
كانوا رغم عدم تعاصرهم رواقيين بهذا المعنى، بمعنى إيمانهم
بالحقوق الطبيعية — من لمحات عن الحق الطبيعي. كما ارتبطت
نظريات القانون الطبيعي في القرنين السابع عشر والثامن عشر
باليوتوبيات الاجتماعية عن طريق القاسم المشترك بينهما وهو
القصد الطيب الذي وجههما معًا ودفع بهما إلى التطور
انطلاقًا من الطبيعة البشرية والظروف السيئة التي تعيشها.
وهذا القصد الطيب يُفهَم بمعنًى سلبي: ففي الحالتَين نجد
إهمالًا للظروف السيئة في العالم الواقعي، وفي الحالتَين
يوجد تطورٌ هادئ يبدأ من الطبيعة البشرية ويخدم هذه
الطبيعة، واتجاهٌ بطيء نحو هدفٍ إنساني بوسائل تَفضُل
الوسائل التي استخدمت من قبلُ. ولكن هناك أيضًا معنًى
إيجابي يجب أن يُفهَم من خلاله هذا القصد الطيب، وهو أنه
يوجد في الحالتَين كيانٌ سياسي يُشكَّل تشكيلًا جديدًا على
ضوء مفهوم الغاية والهدف، فالنظرية اليوتوبية عند توماس
مور تقوم على أساس الفكرة الرئيسية في القانون الطبيعي وهي
الحرية الطبيعية للفرد، بينما يقوم القانون الطبيعي عند
جروسيوس على أساس الليبرالية اليوتوبية (تحرير المصالح
الفردية)، كذلك هناك نوع من الارتباط بين يوتوبيا
كامبانيلا ذات النظام الصارم وبين نسق القانون الطبيعي ذي
النزعة المطلقة عند هوبز. وفي مشروع كانط عن السلام الدائم
نجد أن أحد موضوعات القانون الطبيعي — وهي فكرة القانون
الدولي والدولة العالمية التي تترتب عليه — نجد أن هذا
الموضوع يتحول إلى المستقبل كما يرتبط ارتباطًا وثيقًا حسب
لغة كانط بالحلم اليوتوبي بنظامٍ عالمي.
٩٢
إن اليوتوبيات السابقة تحلم باقتصاد يرضي حاجات الشعوب
ويعبر عن نزعةٍ شيوعية تنشد السعادة. ولكن البناء العقلي
لنظريات القانون الطبيعي الكلاسيكي القائم على العلاقات
والاستنباطات الرياضية كان سببًا في بعض الضربات التي
وُجِّهت إليه، فكان نقد كانط للعقل بمثابة الضربة الأولى
لهذا البناء، ثم جاء الجدل الهيجلي ليوجه الضربة الثانية.
وأخيرًا جاء ماركس ليستبعد العلاقات الزائفة القائمة على
الاستنتاج العقلي الرياضي التي عاقت هذا التراث عن التعامل
مع الواقع.
٩٣ ومع ازدهار اليوتوبيات الاشتراكية في القرن
التاسع عشر نظر الماركسيون باستياءٍ شديد إلى نظريات
القانون الطبيعي واعتبروه مجردًا ولا يعبر إلا عن الطبقة
البرجوازية التي نشأ في ظلها. وربما يعود ذلك إلى الطبيعة
المزدوجة التي تميز بها هذا التراث، ولذلك لم يقدره بعض
الماركسيين حق قدره، ولم ينظروا للجانب الثوري فيه.
٩٤ ولكن الماركسية لا تستطيع أن تستبعده أو
تتجاهله بسبب ما فيه من جوانبَ إنسانية لا تستغني عنها
المجتمعات الاشتراكية، ولا بد من التمييز الدقيق لمضمون
هذا التراث وتأكيد الجانب الإنساني فيه. كما أن القانون
الدولي في أمسِّ الحاجة إلى قوانين ومعاييرَ موضوعيةٍ تنظم
حقوق الإنسان وأسس السلام العالمي، الأمر الذي يحتم الرجوع
لأصحاب القانون الطبيعي للاسترشاد بآرائهم.
إن من واجب الماركسية — كما يقول بلوخ — أن تفهم الماضي
أكثر مما فهم نفسه،
٩٥ لأن استبعادها لنظريات القانون الطبيعي لم
يجعلها تدرك تداخل هذا التراث الكلاسيكي مع اليوتوبيات
الاجتماعية وأن كليها مهد للإنسانية الماركسية. ويمكن
القول إن النزعة الماركسية هي التي ربطت بينهما بعد أن
كانا منفصلَين، وارتفعت بهما معًا من الناحية العملية؛ إذ
لا كرامة للإنسان بدون القضاء على الحاجة والحرمان، ولا
سعادة بغير القضاء على أشكال العبودية القديمة والحديثة.
٩٦ ومن الطبيعي ألا ينظر بلوخ لميراث القانون
الطبيعي نظرةً تقليدية، وأن يدرك سبب إخفاق التراث
الماركسي الذي يتلخَّص في غياب فكرة القانون وقضية الحقوق
الإنسانية من جدول أعمال الثورات الاشتراكية. لقد وضع
كتابه مع بدايات إخفاق هذه الثورات، وتبيَّن الظلم الواقع
على الإنسان فكرس جهده للتغلب عليه بحثًا عما هو حق، وما
هو عدل. وواجب كل ثورةٍ اشتراكية أن تدرك بوعي ما تتضمنه
من أمل ومن حقوقٍ طبيعية وكرامةٍ إنسانية.
إن على الماركسية التي تسعى لتحقيق مجتمعٍ خالٍ من
الطبقات أن تعي أن مثل هذا المجتمع لا بد أن يكون له قصدٌ
حقيقي للقانون الطبيعي الذي هو بمثابة القوة التي تقاوم
تعسف الدولة، فيصبح هذا القانون هو أساس مملكة الحرية، ولا
بد لها أن تنظر لمذاهب القانون الطبيعي نظرةً إيجابية
وتعيد صياغة هذا التراث للتغلب على وظيفته الثنائية. وإذا
كانت الماركسية تهتم بنقد الواقع القائم، فيجب ألا يغيب
عنها أن الحق هو الذي يقاوم الاستغلال والإهانات الواقعة
على الكرامة الإنسانية. إن العدل الحقيقي هو محط آمال
البشر المستضعفين الذين تصوَّروا أن المخلص سيأتيهم من
الخارج، وظلوا ينتظرون مملكة الله العادلة التي لم تتحقق
في الواقع الفعلي بل في آخر الزمان،
٩٧ لذلك كانت مهمة بلوخ البحث عما هو اشتراكي في
ميراث الحق الطبيعي، وكانت نظرته أقرب إلى الواقع العيني
بما فيه من ظلم وجد رموزه في التناقضات الاجتماعية
والمعاناة والاغتراب. وكان هذا أمرًا ضروريًّا وطبيعيًّا
بالنسبة لمفكر يسعى لتخليص المجتمع من الانحلال والاستغلال
والعبودية وتحقيق مجتمعٍ متكامل غير مغترب.
وإذا كانت الماركسية تتحدث عن تطبيع الإنسان فهي تتحدث
أيضًا عن أنسنة الطبيعة، وفي هذا ثقة وإيمان بكمال
الطبيعة، ولكنها ليست هي الطبيعة الحيوانية ولا قوانين
الطبيعة الرياضية كما بدت في نظريات القانون الطبيعي التي
استبعدتها، بل تلك الطبيعة التي تكون في حالة صيرورةٍ
متجددة بحيث يمكن أن تكون طبيعةً يوتوبية.
٩٨ وإذا كان هوبز قد عرَّف هذه الطبيعة بأنها
مجبولة على الشر، ووصفها روسو بأنها خيِّرة بالفطرة، فإن
ماركس لم يؤمن بجوهرٍ ثابت للإنسان، وليس لدية «السكونية»
التي يقوم عليها القانون الطبيعي، فالواقع الفعلي ومسار
التاريخ دليلان كافيان على تحولات الطبيعة البشرية،
والإنسان طبقًا لتعريفه التاريخي والأخلاقي هو نتاج
العلاقات الاجتماعية.
٩٩ خلاصة هذا أن كلًّا من اليوتوبيات الاجتماعية
ونظريات القانون الطبيعي الكلاسيكي جزء من خلفية التراث
الثوري الاشتراكي، وأن كليهما يتضمن بالضرورة القدرة على
توقع شيءٍ ما أفضل من ذلك الذي أصبح بالفعل، لأن كليهما
ينتمي إلى مملكة الأمل الإنساني.
(٢) اليوتوبيا الفيدرالية
تعددت أقسام المعرفة في القرن التاسع عشر واتجهت اتجاهاتٍ
شتى: «إن من سمات الحياة الحديثة أنها أخرجت من داخلها تيارات
من الفكر متنوعةً تنوعًا هائلًا، ومتعارضة أشد التعارض، ولذلك
لا نستطيع أن ننظر للقرن التاسع عشر ككلٍّ أو كوحدةٍ واحدة، بل
علينا أن نجزِّئه إلى عدد من أساليب الفكر أو عوالم الفكر.»
١٠٠ وبطبيعة الحال كان لا بد أن ينعكس هذا على التفكير
اليوتوبي حيث تنوَّعت الأشكال اليوتوبية، فنشأت يوتوبيات تبحث
عن السعادة والمتع الحسية، وأخرى تصور مجتمعاتٍ شيوعيةً مثالية
وإنسانية اختفت منها الملكية الفردية، إلى جانب يوتوبيات تندفع
إلى المستقبل في تفاؤلٍ شديد، متأثرة بأفكار فلاسفة عصر
التنوير في القرن الثامن عشر ومُصلحيه الكبار الذين رسم بعضهم
مشروعاتٍ نظرية وحضارية تدور حول فكرة التقدم الحتمي في الفنون
والعلوم والأخلاق ونظم الاجتماع وإمكان تشكيل الطبيعة البشرية
والوصول بها إلى الكمال عن طريق التربية المعرفية الأخلاقية والجمالية.
١٠١ وقد تبلورت هذه الأفكار المستقبلية وأخرجت التفكير
اليوتوبي من سكونيته ولاتاريخيته السابقة.
وجاءت يوتوبيات القرن التاسع عشر مفعمة بالحركة والتفاؤل
بالمستقبل بعد أن صبَّت أفكارها بصورةٍ غير مباشرة في
الثورتَين الكبيرتَين في أواخر القرن الثامن عشر، وهما ثورة
الاستقلال الأمريكية والثورة الفرنسية. وحملت هذه الأفكار
اليوتوبية أصداء أزمات العصر وطموحاته، وارتبط تاريخ اليوتوبيا
بميلاد الحركة الاجتماعية التي ازدهرت وانتشرت في القرن التاسع
عشر، بحيث يصعب التمييز بين الأعمال التي تخص الفكر اليوتوبي
والأخرى التي تعالج المشاكل الاجتماعية التي نشأت في تلك
الفترة، إذ فقدت الكلمة — أي اليوتوبيا — معناها الأصلي في تلك
الحقبة الزمنية بسبب إساءة استخدام أنصار الماركسية لها إلى
الحد الذي جعلهم يتهمون بها خصومهم في الفكر.
١٠٢ لقد اتهموا كُتاب اليوتوبيا بإهمال الدور الريادي
لطبقة البروليتاريا التي أنتجها التطور التاريخي، وعدم فهمهم
للمذهب الاشتراكي الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بعد بلوغ
الرأسمالية درجةً معينة من التطور، واستبعادهم للثورة التي
بإمكانها وحدها السيطرة على الأوضاع الاقتصادية ووسائل الإنتاج
وإلغاء الطبقات، بحكم أن البروليتاريا هي الطبقة الوحيدة
القادرة على إنجاز هذه الثورة. وكانت أكبر تهمة وجهوها إلى
كتاب اليوتوبيا أنهم تصوَّروا أن المجتمع الجديد يمكن أن يوجد
في أي مكان أو زمان، وأنه لا علاقة بين تطور النزعة الرأسمالية
وإمكانية تحقيق مجتمعٍ جديد، وإن الدولة يمكنها السيطرة على
وسائل الإنتاج والأوضاع الاقتصادية بالطرق السلمية والإصلاح الاجتماعي.
١٠٣
أثَّر آباء النزعة الاجتماعية تأثيرًا كبيرًا على كُتاب
اليوتوبيا في القرن التاسع عشر، ولم يقتصر هذا التأثير على
كتاباتهم النظرية فقط، بل شمل المشروعات الاجتماعية الإصلاحية
التي تصوَّروها لشكل المجتمع اليوتوبي — سواء كانت خططًا
اجتماعية أو قرًى تعاونية — والتي أوحت بأشكالٍ عديدة من
اليوتوبيات التي كُتبت بعد ذلك. وعلى الرغم من الثورة الصناعية
التي فتحت مجالاتٍ جديدة وبدت للكثيرين وكأنها قدَّمت الحل
الحاسم لمشكلات الفقر وعدم المساواة، إلا أن الفقر في الدول
المتقدمة اقتصاديًّا كان أكثر بشاعةً مما في غيرها. فقد وصل
عدد ساعات العمل إلى ما يتجاوز الثمانية عشر ساعة في اليوم،
وازداد الأغنياء غنًى، بينما ازداد الفقراء فقرًا. وظهرت
مجموعة من المفكرين والكُتاب الاشتراكيين كانت مهمتهم التركيز
على تحقيق اليوتوبيا أكثر من التركيز على الشكل المحدَّد
للمجتمع اليوتوبي أمثال أوين وفورييه وسان سيمون
وأتباعه.
ويأتي اسم روبرت أوين
Owen
(١٧٧١–١٨٥٩م) على رأس أصحاب اليوتوبيات الفيدرالية التي لم
تقرَّ بالحكومة المركزية. ولم يوجه أوين اهتمامًا كبيرًا
للصناعة، بل وضع نظامًا جديدًا للإنتاج على أساس التنظيمات
التعاونية؛ فاهتمَّ بالتجمعات الزراعية المستقلة التي لا يزيد
عدد سكانها عن الثلاثة آلاف، وعليها أن تحقق الاكتفاء الذاتي
في الغذاء عن طريق تقسيم البضائع المنتجة على أعضاء الجماعة
بالتساوي. أما عن الحكم فيتم من قِبل إدارةٍ مستقلة، ويدير
الشئون الداخلية مجلسٌ عام يتكون من كل أعضاء الجماعة الذين
تتراوح أعمارهم ما بين الثلاثين والأربعين عامًا، ويحكمون وفق
قوانين الطبيعة البشرية، بينما يحكم الشئون الخارجية مجلسٌ
عامٌّ آخر يتكوَّن أعضاؤه ممن تتراوح أعمارهم ما بين الأربعين
والستين عامًا، وعندما يبلغ العالم حد الاكتفاء من الغذاء
الزراعي تصبح الحكومات غير ضرورية وتختفي.
١٠٤
ويؤمن أوين بأن التربية هي إحدى الطرق الموصلة إلى الهدف،
ولذلك نراه يقدم نظامًا في التعليم — كان له تأثيره على
كُتَّاب اليوتوبيا فيما بعدُ — يؤكد فيه إمكانية تعديل الطبيعة
البشرية لدى الأطفال عن طريق التوجيه الرشيد إلى حب الغير،
والتربية العاقلة للفكر، والسلوك المستقيم. وقد وضع في ذلك
كتابه «النظرة الجديدة إلى العالم — أو مقالات عن مبدأ تشكيل
الطبع الإنساني وتطبيقه في الواقع العملي» عام ١٨١٦م. وكذلك
قدم كتاب «العالم الأخلاقي الجديد» عام ١٨٣٦م ووضع أوين أساس
نزعةٍ شيوعية تدعو لحب الجنس البشري، وتنظر إلى الملكية الخاصة
والزواج والدين الوضعي باعتبارها ثلاثية الشر التي تخلق
التعاسة البشرية. ودعا إلى قيام مجتمعٍ خالٍ من البطالة والفقر
والجريمة والعقاب، وأوصى بإصلاح المجتمع بالتسوية السلمية
وبدون صراع أو إضراب، كما ناشد رجال الصناعة التخلي عن النزعة
الرأسمالية، وإن لم يدعُ إلى تدمير الآلة بل شجع أعضاء الجماعة
على الميكنة المنزلية. والمهم أن حلمه اليوتوبي المفعم
بالأماني لم يتطلع لإقامة مجتمعٍ صناعيٍّ كبير، بل إلى
مجتمعاتٍ فيدراليةٍ صغيرة.
١٠٥
إذا كانت يوتوبيا أوين تقوم على تفكيرٍ غير تاريخي فإنه
يختلف عن فيدراليٍّ آخر هو شارل
فورييه
Fourier (١٧٧٢–١٨٣٧م) الذي أقام نقده للواقع
القائم على أساسٍ تاريخي، ورأى أن تقديم نموذجٍ حي وناجح
لمجتمعٍ يوتوبي هو السبيل لإقناع الجنس البشري بتبنِّي مثل هذا
النموذج. فكان بذلك رائد الحركة التعاونية وتكوين اقتصادٍ
جديدٍ مجرد من الأنانية، وأقام مدينته الفاضلة على تقسيم
الدولة إلى مناطق أو معسكراتٍ تعاونية أطلق على كلٍّ منها اسم
الفالنستير
Phalanstere.
١٠٦ وفيها يتحرر الفرد من كل المعوقات ويطلق العنان
لغرائزه وأهوائه ورغباته دون اعتبار لقيودٍ أخلاقية. وينتقل من
متعة إلى أخرى ومن عمل إلى آخر في حريةٍ تامة وفقًا لميوله.
وقد أقام فورييه آراءه في الإصلاح على أساس نقده للمدينة
والمجتمع المتحضر، فكان عمله الأول «نظرية الحركات الأربع» عام
١٨٠٨م — تعبيرًا عن نزعةٍ نقدية للحياة المعاصرة. وكذلك كتابه
«التجمع الأهلي الزراعي» عام ١٨٢٢م وفي كتاب «العالم الصناعي
الجديد» الذي وضعه عام ١٨٢٩م وصف الحياة الحضارية بأنها حالة
البربرية المتوحشة التي أوجدت الرذيلة وأنتجت الفساد والانحلال
في كل مكان وزمان، وأنه عندما تتخطى المجتمعات البشرية هذه
الحالة البربرية سيحل التناغم والانسجام وتتحقق مدينة السعادة.
١٠٧ وتختلف آراء فورييه الفيدرالية عن آراء الاشتراكية
الماركسية للقرن التاسع عشر، فهو لا يؤمن بأن الثورة والعنف
هما السبيل لتحقيق مجتمعٍ أفضل، ويفضل طريق التغيير والإصلاح
الاجتماعي السلمي. هذا بالإضافة إلى أن مشروعه اليوتوبي يقوم
على أساس الإقرار بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، والعمل على
زيادة الإنتاج لرفع مستوى المعيشة، والسماح بتكوين ثرواتٍ
صغيرة لا تهدف إلى استغلال الآخرين ولكن لمنع ذوبان الفرد في
الجماعة، وإقامة التوازن في كل «فلنستر»، وهو يسمح كذلك بتقسيم
الأرباح بين المساهمين — وهم مجموعاتٌ رأسماليةٌ صغيرة — ويبقي
على حافز الربح للتشجيع على المزيد من الإنتاج وإشباع غريزة
الطموح عند الإنسان؛ مما يؤكد في النهاية أن حلم فورييه المفعم
بالأماني هو التخطيط لمجتمعاتٍ تعاونيةٍ صناعيةٍ صغيرة.
وتحول الحلم اليوتوبي الفردي الفيدرالي عند أوين وفورييه إلى
حلمٍ يوتوبيٍّ مركزي عند كابيه وسان سيمون، فلم تعد الجماعات
الصغيرة أو الكوميونات هي الهدف، بل اتجه كلٌّ منهما إلى تكوين
تنظيماتٍ اقتصاديةٍ كبيرة. ولم تعد الحرية فردية ذات شكلٍ
اقتصادي بل تحولت إلى حريةٍ اجتماعيةٍ موجهة إلى غاياتٍ عامة،
بمعنى تحقيق نظام ينكر النزعة الذاتية السابقة ويحولها إلى
نزعةٍ جماعيةٍ صناعية يسميها بلوخ باليوتوبيا المركزية.
١٠٨ ويمثل كابيه
Cabet (١٧٨٨–١٨٥٦م) هذا النظام الاتحادي،
وتقوم يوتوبياه على النظام الصارم الذي عرضه في كتابه الذائع
الصيت «رحلة إلى إيكاريا» عام ١٨٣٩م، وتداولته الطبقة العاملة.
وقد باشر كابيه بنفسه تأسيس مجتمعه اليوتوبي في ولاية تكساس
الأمريكية، ولكنه اضطر للعودة إلى باريس عام ١٨٥٣م فأصاب
مجتمعه اليوتوبي الوهن بعد رحيله بسبب الصراعات الداخلية،
وعندما عاد إلى أمريكا ثانية لم يستطع أن يُعيد لمجتمعه عهده
الأول فمرض ومات، وظل مجتمعه قائمًا بضعة عقود حتى عام ١٨٩٨م.
١٠٩
يقوم مجتمع إيكاريا على المساواة التامة بين المواطنين في
الحقوق والواجبات. أما نظام الحكم فهو جمهوري يُعبِّر فيه
الشعب عن نفسه من خلال مجالسَ قومية ونيابية. والشعب الذي يملك
حق التصويت، له السلطة العليا في منظمةٍ سياسيةٍ قائمة على
جمهوريةٍ ديمقراطية. ويقوم هذا المجتمع أيضًا على النظام
العشري، فالدولة مقسَّمة إلى مائة ولاية، مقسمة إلى عشر
كميونات. وإيكاريا هي مركز هذه الولايات والكميونات. وتعتمد
إيكاريا الموحدة على الصناعة المنظمة التي تصنع عالم المستقبل،
فالإبداع الصناعي بها على مستوًى عالٍ من التقنية بفضل عمالٍ
مهرة ومهندسين يعملون سبع ساعات كل يوم من خلال خطةٍ اقتصاديةٍ اشتراكية.
١١٠
ويعبر سان سيمون (١٦٧٠–١٨٢٥م) أيضًا عن يوتوبيا مركزيةٍ
مناوئة للنزعة الذاتية الاقتصادية التي تتلخَّص في المبدأ
الليبرالي «دعه يعمل، دعه يمر.» وإذا كان أوين وفورييه قد
أقاما يوتوبياهما على أساس تجمعاتٍ تعاونيةٍ زراعيةٍ صغيرة،
فإن كابيه وسان سيمون قد أقاماها على تنظيماتٍ صناعيةٍ كبيرة.
فقد كان سان سيمون «يعتقد أن كل مجتمع سوف يصبح مصنعًا كبيرًا
أو خليةً واسعة للإنتاج. وحكومة هذا المجتمع يجب أن يتولاها
بالضرورة رجال أكفاء هم رجال الصناعة، بمعنى أنه يجب أن تحل
حكومة تقوم على أساسٍ اقتصادي محل الحكومات السياسية.»
١١١ فالغاية الوحيدة ليوتوبيا سان سيمون هي إقامة
مجتمعٍ صناعيٍّ كبير شعاره أن كل إنسان يجب أن يعمل، وعلى قمته
رجال الصناعة، حتى إنه طالب بسحب السلطة السياسية من أيدي رجال
الدين وإيداعها في أيدي رجال الصناعة، «كان هدف سان سيمون أن
يجعل من السياسة علمًا وضعيًّا، فالسياسة في نظره هي «علم
الإنتاج» والصناعة بالنسبة إليه هي حجر الزاوية في سعادة
الإنسانية، فهو يرى في العمل الوسيلة الوحيدة للتحرر
والاستقلال الذاتي.»
١١٢
وينظر سان سيمون بعطفٍ متزايد نحو الطبقة العاملة، ويحسُّ
بحالة البؤس التي يعانيها العمال، ويرى في إلغاء الامتيازات
الوسيلة الوحيدة لعلاج هذه الحالة. ويتحقق إلغاء الامتيازات —
في نظره — عن طريق تنمية الإنتاج المادي وتثقيف الطبقة العاملة
بطريقةٍ مثمرة.
١١٣ ويقتصر دور الحكومة في المجتمع الذي ينشده سان
سيمون على أمن الإنتاج وحريته، ويتكون مجتمعه اليوتوبي من رجال
الصناعة والعلماء والفنانين، وفيما عدا هذه الفئات الثلاث لا
يوجد إلا الطفيليون والمتسلطون. وتمثل هذه الفئات الثلاث المثل
الأعلى لنظام الحكم في برلمانٍ مؤلف من ثلاثة مجالس: مجلس
الاختراع ويتكون من الفنانين، ومجلس الفحص من العلماء، ومجلس
التنفيذ من رجال الصناعة.
وقد استمد سان سيمون اقتناعه بنظريته من مظاهر التاريخ نفسه
ومن خلال الوعي التاريخي، فقد مر التاريخ — في رأيه — بثلاث
مراحل: المرحلة اللاهوتية التي تم فيها خلق الآلهة للعالم،
والمرحلة الميتافيزيقية التي تعتمد على القوى الطبيعية أو
الأفكار المجردة، ثم المرحلة الوضعية التي تأتي من تحليل
الوقائع، وهذه هي مرحلة المجتمع الصناعي الحديث. والدولة
الصناعية المنظمة هي الكاهن الاجتماعي الأسمى، أو هي نوع من
البابوية الصناعية التي ستكون على رأس هذه الدولة.
١١٤ التي يتحقق فيها التناغم والانسجام بلا عنف ولا
ثورات ولا لجوء إلى استخدام القوة.
(٣) الصهيونية ويوتوبيا الأرض الجديدة-القديمة
بدأت الحركات القومية في أوروبا مع بدايات القرن التاسع عشر؛
مما ترتب عليه ظهور المشكلة اليهودية، فلم يستطع الشعب اليهودي
— في الشتات — الذوبان في المجتمعات التي استوطنها، بل ظل
مغلقًا على نفسه محتفظًا بهويته. ولم يكن حلم استعادة مملكة
داود قد مات، بل بقي المتزمتون من اليهود لمدة ألفَي عام
يختمون صلواتهم بعبارة: العام القادم في أورشليم. وظلوا
يحترقون شوقًا لذكرى الأرض والسعادة التي فقدت، سواء في فلسطين
أو في إسبانيا بعد طرد اليهود منها، فالحنين إلى الماضي كان
دائمًا صفةً مميزة للشعب اليهودي. وجاء موسى هيس (١٨١٢–١٨٧٥م)
في وقت كانت فيه الحركة القومية تحتل مركز الصدارة في أوروبا،
وأصبح على اقتناعٍ كامل بأن عالم المستقبل يجب أن ينظم على
أساس الثقافات القومية، وقد حاول في كتابه «روما والقدس» عام
١٨٦٢م إثبات أن الاتجاه الداعي إلى ذوبان اليهود في المجتمعات
الأوروبية لا يشكل حلًّا عمليًّا بالنسبة للمسألة اليهودية،
لأن اليهود المقيمين وسط الأمم الأخرى لا يمكن أن يلتحموا
عضويًّا بهذه المجتمعات.
١١٥ كان الجنس أو العرق عند هيس هو القوة المشكِّلة
للتاريخ، وكان أول من رسم حدود الحلم الصهيوني قبل مؤسس الحركة
تيودور هرتزل.
وعلى الرغم من دوافع هيس الاشتراكية إلا أنه لا ينظر
للاقتصاد باعتباره المحرك الأول للتاريخ، بل جعل العرقية هي
أساس نزعته الاشتراكية، ودعا أبناء شعبه إلى إقامة المستعمرات
في الأرض المقدسة، وأن يزرعوها كما فعلوا منذ ألفَي عام خلت:
«إن البذور المَختزَنة في داخلكم، شأنها شأن بذور القمح التي
كانت توضع بجانب المومياوات المصرية، قد ظلت هاجعة لآلاف
السنين ومع ذلك لم تفقد قدرتها على التكاثر، إن البعث القومي
وحده هو الذي ستستمد منه العبقرية الدينية لليهود قوةً جديدة
وتفعم من جديد بالروح المقدسة للأنبياء، وذلك مثل العملاق الذي
تلمس قدماه الأرض التي ولد فيها فتبعث فيه القوة.»
١١٦ أصبحت النزعة الاشتراكية بالنسبة لهيس هي انتصار
الرسالة اليهودية في روح الأنبياء، ومن أجل هذا الهدف وضع خطةً
اشتراكيةً عالمية تتحول إلى فعل في فلسطين، وهي المكان الذي
يمكن أن ينشأ فيه اليهود مرةً أخرى.
١١٧ ورسم هيس حلمًا مفعمًا بالأماني ليوتوبيا صهيونيةٍ
اشتراكية ترتكز منذ البداية على ما أورده الأنبياء في الكتاب
المقدس، «وبهذا وصلت العنصرية الإسرائيلية إلى ذروتها بالجمع
بين العنصرية الجنسية أو العرقية والعنصرية الدينية.»
١١٨ لكن اليهود الغربيين كان أغلبهم من الطبقة
البرجوازية ولم يكن بينهم عددٌ كبير من العمال؛ لذلك لم تحقق
هذه الأحلام الصهيونية تأثيرًا كبيرًا إلا في الطبقة الوسطى
الدنيا التي ليس لها مراكزُ اجتماعية في مجتمعاتها.
وجاء هرتزل (١٨٦٠–١٩٠٤م) الذي وضع البرنامج الصهيوني الأكثر
تأثيرًا لاستقطاب الطبقة البرجوازية اليهودية، ومواجهة أزمة
الطبقة الوسطى، والوقوف في وجه موجة العداء للسامية التي بدأت
تظهر وتزداد حدَّتها في أوروبا في ذلك الحين. وأصبح هذا
البرنامج الصهيوني بالفعل مقبولًا من البرجوازية الليبرالية اليهودية.
١١٩ ورأى هرتزل أن المسألة اليهودية ليست مسألةً
اجتماعية أو دينية بل مسألةٌ قومية، وأن المخرج الوحيد لمشاكل
اليهود ومعاناتهم لا يمكن أن يكون إلا عبر توكيد اليهود على
قوميتهم وسعيهم لإقامة دولتهم.
١٢٠ ولم تكن القدس في بداية الأمر هي الصوت الذهبي
ليوتوبيا هرتزل للبحث عن أرض المستقبل، فقد تأرجحت هذه الأرض
بين الأرجنتين وفلسطين، وكان حلمه اليوتوبي هو تشكيل دولةٍ
رأسماليةٍ ديمقراطية بمساعدة إنجلترا وألمانيا. وظهرت فكرة
«الدولة اليهودية» عام ١٨٩٦م وهي دولةٌ رأسماليةٌ تعاونية
لإصلاح الأرض التي ستصبح ملكيةً عامة، وتبلور الحلم لجعل
الحكاية الخرافية حقيقة على الأرض إذا أراد لها اليهود ذلك.
وظهرت الرواية اليوتوبية «أرض قديمة جديدة» عام ١٩٠٠م لتصور
أرض التقدم البرجوازي يوتوبيا ليست في المستقبل البعيد، بل
تقرر لها أن تكون ابتداءً من عام ١٩٢٠م في الدولة اليهودية
التي تقوم على التعاونيات الزراعية. وتمركزت يوتوبيا هرتزل
وتمحورت حول الشيء الوحيد الذي لا تمتلكه وهو الأرض.
١٢١ وحام الحلم اليوتوبي حول فلسطين: «إن هدف
الصهيونية هو إقامة وطنٍ قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون
العام.» كانت هذه العبارة هي الهدف الذي أعلنه هرتزل في أول
مؤتمر صهيوني في مدينة بال عام ١٨٩٧م.
اختلفت يوتوبيا هرتزل عنها عند موسى هيس، فهذا الأخير ربط
يوتوبياه الاشتراكية بحركة العمل الدولية، وربط رسالته
الاشتراكية بتراث أنبياء اليهود، وجعل محور عمله في فلسطين.
ولكن هرتزل حوَّل هذا الحلم إلى آخر برجوازي، وأخذ الحلم ينمو
ويزدهر بمساعدة بعض المفكرين الإنجليز الذين أثاروا المشاعر
اليهودية القبلية، كما أثاروا تعاطف الإمبريالية الألمانية —
في ذلك الوقت — مع الحركة الصهيونية. والحقيقة أن هذا الاهتمام
بالنزعة الصهيونية كان جزءًا من السياسة الإمبريالية الغربية،
فقد كانت إنجلترا تريد تأمين الطريق البري للهند، واقترح بعض
الكُتَّاب السياسيين — مثل هو لنجروت — إقامة دولةٍ يهودية في
تلك البقعة. كما كانت السلطات الألمانية تريد تأمين مصالحها في
الشرق بمساعدة تركيا رجل أوروبا المريض — كما أُطلق عليها في
ذلك الحين — فبحثت الأمر مع هرتزل عام ١٨٩٨م بشأن إقامة دولة
تحت الحماية الألمانية والسلطة التركية. ولكن هذا المشروع فشل
بسبب انسحاب ألمانيا من اللعبة. وحانت لحظة اقتراب الحلم من
التحقق في إعلان وعد بلفور عام ١٩١٧م الذي وعد بإقامة وطنٍ
قومي لليهود في فلسطين التي كانت حتى هذا الإعلان دولةً عربية
تحت الحماية البريطانية. ووجدت الإمبريالية البريطانية أن
أجزاء من برنامج هرتزل الصهيوني تناسب السياسة البريطانية
فأعلنت تحت قناع إنسانيةٍ مزيفة إقامة مأوًى لما تبقى من ضحايا
النازية والفاشية، على ألا يزيد عدد السكان اليهود عن ثلث
السكان العرب في ذلك الحين. وهكذا بدأت دولة هرتزل الصهيونية
بأعدادٍ محدودة، وتشكَّلت كميوناتٌ زراعية على غرار تلك التي
رسمها أوين وكابيه في أمريكا الشمالية.
وبدأت المأساة على أرض فلسطين، وليس من الغريب أن نجد بلوخ —
وهو الذي ينحدر من أصلٍ يهودي — وقد تغلبت عليه نزعته
الاشتراكية الإنسانية فيصف الصهيونية بأنها نزعةٌ عنصريةٌ
قائمة على الوعي الزائف، ويقرُّ بأن دولة إسرائيل التي قامت
للهروب من الفاشية أصبحت هي نفسها دولةً فاشية، هذا من جانب،
ومن جانبٍ آخر أصبحت إسرائيل قلب النزعة الإمبريالية الأمريكية
في الشرق.
١٢٢ يضاف إلى هذا أنه ينظر للمشكلة اليهودية من وجهة
النظر الماركسية التي عبَّر عنها ماركس في كتابه «المسألة
اليهودية» الذي أكد فيه أن استمرار الشعب اليهودي ليس لصفاتٍ
ذاتيةٍ عرقية أو جنسية أو لأنه شعب الله المختار على حد زعمه،
لأن استمراره في البقاء لم يكن برغم التاريخ بل في التاريخ
وبفضله. إن البحث في المسألة اليهودية يجب أن يكون بالبحث في
الظروف المادية التي أحاطت بهذه المسألة عبر التاريخ، وبذلك
وضع ماركس القضية في إطار يتجاوز الأطر البرجوازية إلى رحاب
الثورة العالمية البروليتارية.
١٢٣
معنى هذا — في رأي بلوخ أيضًا — أنه ليس هناك حلٌّ منعزل
للمشكلة اليهودية بدون حلٍّ شامل للمشكلة
الاجتماعية-الاقتصادية. وإن الفترات التي تزايدت فيها كراهية
البشرية للجنس اليهودي — حتى قبل فترة الاضطهاد النازي — إنما
تعود إلى أسبابٍ اجتماعية واقتصادية منذ البداية. ويمكن تقسيم
المراحل التي مرت بها هذه الأسباب إلى ثلاث مراحلَ مختلفة، في
العصور القديمة كانت غطرسة اليهود وتكبرهم على الأمم الأخرى
وانغلاقهم على أنفسهم بدعوى أنهم شعب الله المختار سببًا في
إثارة مشاعر الكراهية في نفوس الشعوب الأخرى. وفي العصور
الوسطى تعود الكراهية إلى أسبابٍ دينية وهي خيانة يهوذا للمسيح
التي أثارت حنق الشعوب المسيحية ورغبتها في الانتقام. أما في
العصر الحديث فقد كان للصهيونية والنظرية العرقية أثرٌ كبير في
إثارة العداء للسامية، فاجتمعت الأسباب المُحرِّضة ضد اليهود.
ويرى بلوخ أن هذه الأسباب كانت مبررة لأن اقتصار الكتاب المقدس
على الشعب اليهودي — الذي يشعر بالفخر لهذا بل وما زال مخدوعًا
بهذا الوهم — دون سائر شعوب الجنس البشرى حادثة غير مسبوقة في التاريخ.
١٢٤
والحقيقة أن الأسباب التي ذكرها بلوخ ونتج عنها العداء
للسامية في العصر الحديث تكتمل بالتفسيرات الأخرى لحقيقة هذا
العداء، وأن الصراع الذي تميز بالدموية والوحشية في مطلع هذه
العصور، كان بعيدًا تمامًا عن أن يكون صراعًا بين مجموعتَين أو
قوميتَين أو دينَين كما قد يبدو في الظاهر، لقد كان في واقع
الأمر بين طبقتَين، إذ كانت البرجوازية القومية الناشئة في
بلدان أوروبا تصارع بضراوة ضد الاحتكار اليهودي التاريخي
للتجارة. وكانت البرجوازية التجارية اليهودية هي الحاجز
الرئيسي في طريقها، وكان هدم التسلط اليهودي هو شرط نموها
واستيلائها على السوق. وقد كانت الطبقات الدنيا هي التي تصارع
ضد اليهود، تقودها البرجوازية الناشئة وينضم إليها أحيانًا
النبلاء بدافع الحقد على دائنيهم. ولا شك أن اضطهاد اليهود
خلال العصور الوسطى تحت شعار إبادة الخونة كان بمثابة
الإرهاصات الأولى للثورة الاجتماعية البرجوازية.
١٢٥ فالظروف الاجتماعية والاقتصادية إذن هي — في رأي
بلوخ وأنصار الماركسية — العوامل التي تختفي وراء المسألة
اليهودية. والعداء للسامية ليس من الأمور الخالدة أو الأبدية
كما يريد الصهاينة أن يقنعونا بذلك. وحتى إذا كان الأمر كذلك
فلن يخفِّف — في رأي بلوخ — من هذا العداء غزو البلاد العربية
وخلق خلافاتٍ جديدة ونزعةٍ يهوديةٍ جديدة، ولا عن طريق دولة
رأسمالية-ديمقراطية كما يتصورها هرتزل، ولا بوسائل هيس
الاشتراكية التي تحوم حول القدس، فليست المسألة أن يكون لليهود
أمة أم لا!
١٢٦ ولكن السؤال الآن: هل ما زال لدى اليهود — سواء
أكانوا أمة أم لا — وعي بما قاله إله الخروج لعبده إسرائيل
وكلَّفه به كمهمة لا كمجرد وعد: «هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري
الذي سرت به نفسي. وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم.»
١٢٧ إن هذه المهمة التي وجهها الرب لأمة ابتُليت
بالشقاء تتلخص في: «لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين
من بيت السجن الجالسين في الظلمة.»
١٢٨ ويؤكد بلوخ أن اليهود قد قاموا بهذه المهمة
الخلاصية وإن لم يقوموا بها على نفس المستوى الذي نجده في
المسيحية والإسلام، ففي القرن الثاني بعد الميلاد انتشرت
الديانة اليهودية ووصلت إلى الصين، وفي القرن الثامن الميلادي
دخلت إمبراطورية كازار
Chazar
— وعاصمتها استراخان — في اليهودية. صحيح أن هذا كله تم في
وقتٍ متأخر، ولكن معظم النصوص اليهودية المقدسة — كما يقول
بلوخ — تطرق فكرة التبشير ورسالة الخلاص وتنبه اليهود لنشرها:
«لا يسوءون ولا يفسدون في كل جبل قدسي لأن تمتلئ من معرفة الرب
كما تغطي المياه البحر.»
١٢٩ وقد ظلَّت ذكرى هذه النزعات التبشيرية والخلاصية
موجودة في اليهود الذين تجردوا من النزعة القومية الصهيونية.
ولكن النزعة التبشيرية الخلاصية المستقبلية يمكن — على العكس
من ذلك — أن تغيب تمامًا عن اليهود الذين يحصرون أنفسهم في
وعيٍ قوميٍّ ضيق أو يتبنَّون نزعات التوسع التجاري الدولي، لقد
اقتصر وعيهم عام ١٩١٧ — وهو عام وعد بلفور — في الركن الشرقي
للبحر الأبيض المتوسط تحت الحماية البريطانية ومصالحها
التجارية في قناة السويس وبترول الموصل. ثم دخل الوعي الآن في
دائرة الرأسمالية الغربية ومناطق النفوذ البريطاني وتحت حماية
الوحش الأمريكي. لكن إذا أرادت الأمة اليهودية أن تبقى فلا بد
أن تعي رسالتها بين الأمم الأخرى وتدرك دورها في حركة التحرير
الاجتماعي وإلا فلن يكون لها مستقبل على الإطلاق.
١٣٠
لا شك أن نزعة بلوخ الإنسانية الاشتراكية قد غلبت عليه في
تحليله للصهيونية كحركةٍ قوميةٍ عنصرية. ولم تمنعه ديانته
اليهودية — خلافًا لغيره من الماركسيين اليهود — من أن يُدين
العنف الإسرائيلي الموجَّه ضد العرب، ولا أن يوجِّه نقده إلى
أمته التي رأى فيها بوادر نازيةٍ جديدة، وعلى الرغم من ذلك فهو
لا ينكر حقها في أن تحتفظ بهويتها القومية شأنها شأن غيرها من
الأقليات القومية الأخرى، وأن تنمي لغتها وتراثها وثقافتها على
الأرض التي ولدت فيها وتربَّت عليها في إطار نزعةٍ اشتراكيةٍ
عالمية تساهم مساهمةً فعالة جنبًا إلى جنب مع الأمم الأخرى في
حركات التحرير الاجتماعي. وأغلب الظن أن المواطن العربي قد
يؤيد هذا المطلب المشروع في حق الأمة اليهودية في الاحتفاظ
بهويتها وثقافتها الوطنية. ولكن السؤال: هل كان من الضروري أن
يتحول الشعب الذي كان مقهورًا فيما مضى إلى شعبٍ قاهر لكل
الشعوب العربية المحيطة به؟ هل كان من الضروري — لكي تحتفظ
الأمة اليهودية بهويتها الدينية والثقافية — أن يتشرد شعب
بأكمله وتُسلب أرضه ويطرد من دياره؟ وهل كان من الضروري أن
تقوم الهوية اليهودية في أرض فلسطين؟ ألم يعترف بلوخ نفسه بأن
جبل صهيون في فلسطين لم يكن إلا رمزًا فحسب، وإنه من الممكن أن
يكون هناك جبل صهيون حيث يكون اليهود في أي مكان؟ ألا يمكنهم
الاحتفاظ بهويتهم وقوميتهم وتراثهم في الدول التي نشئوا فيها
ونهلوا من ثقافتها؟ ألم يكن من الممكن إدماج ثقافتهم وتراثهم
في التراث الإنساني كما فعل فلاسفة اليهود في ظل الثقافة
العربية الإسلامية في الأندلس قديمًا، وكما فعلت قلةٌ قليلة من
المثقفين اليهود المعاصرين الذين أسهموا في إثراء التراث
الإنساني من خلال إسهامهم في تراث الأمم التي نشئوا على أرضها؟
بذلك وحده تتحول النزعة القومية العنصرية المقصورة على الجنس
اليهودي إلى نزعةٍ اشتراكيةٍ عالمية، وليس مهمًّا أن يكون لها
وطن، فحل المسألة اليهودية لا يحتاج إلى صهيونيةٍ جغرافية في
فلسطين، لأن هذا يمكن تحقيقه في أي دولة ينتمي إليها الشعب
اليهودي.
(٤) الماركسية واليوتوبيا العينية
بعد هذا العرض الموجز السريع لأهم اليوتوبيات منذ بدايات
التفكير البشري وحتى القرن العشرين لا بد أن يُطرح السؤال: ما
مدى ما حققته من تغيير في مجتمعاتها؟ إن هؤلاء الحالمين الذين
وقفوا في وجه الفساد والاستغلال في عصرهم، وأدانوا الظلم
بقلوبهم، ونشدوا العدل الاجتماعي، وسعوا بعقولهم وخيالهم —
باعتبارهم يوتوبيين تأمليين — إلى بناء عالمٍ أفضل، توافرت
لديهم جميعًا النية الطيبة والرغبة في الإصلاح، ولكن ندر بينهم
من امتلك إرادة التغيير واكتشف التوسط التاريخي — مثل فورييه،
وبنسبةٍ أقل سان سيمون — وقليل منهم كان لديه الحس المسبق
بالاتجاهات والإمكانات الواقعية الموجودة في عصرهم؛ الأمر الذي
جعل من هذه اليوتوبيات أشكالًا مجردة لدولٍ خياليةٍ بعيدة عن
سياق التاريخ — لا يوتوبيات عينية متحققة — وكأن الحلم
اليوتوبي يمكن أن يشرق في فراغ، والصور الخيالية اليوتوبية
المفعمة بالأماني يمكن أن تطبق خارج التاريخ وصيرورته الجدلية،
بل بطريقةٍ سكونية على واقع لا يعرف عنها شيئًا أو على أفضل
تقدير يعرف عنها القليل.
١٣١
ولا يرجع ضعف هذه اليوتوبيات فحسب لعواملَ ذاتيةٍ كامنة في
شخص أو شخصيات المفكرين اليوتوبيين ونزعتهم العقلية التأملية
والمجردة، ولكن يرجع أيضًا لعواملَ موضوعية من أهمها أن الظروف
الاجتماعية والواقع الفعلي لم يكونا قد وصلا لمرحلة النضج
بالقدر الذي يسمح بالتغيير. لم تكن الصناعة قد طُوِّرت بشكلٍ
كافٍ، ولم تكن الرأسمالية قد واصلت تطورها بحيث تنشأ طبقة
بروليتاريا ناضجة كما يقول ماركس في «بؤس الفلسفة».
١٣٢ كانت اليوتوبيات الكلاسيكية إذن وحتى نهاية القرن
الثامن عشر على أقل تقدير يوتوبياتٍ نظرية، وكان المنهج
الرياضي الاستنباطي هو المنهج المتبع فيها وليس المنهج
التاريخي. ومعنى هذا أنها انحصرت في استنباطات من الفكر الخالص
كما اتضح من نظريات الحق الطبيعي التي افتقدت الحس الحقيقي
بالتاريخ. أما عن اليوتوبيات الحديثة فقد خرجت من نطاق العقل
المجرد، وبخاصة تلك التي ارتبط أصحابها بنظريات علم الاجتماع.
فهؤلاء الحالمون كانت لهم أفكار لا يمكن تجاهلها، وعلى الرغم
من مظهرها المجرد، إلا أنهم لم يكونوا أبدًا من المفكرين
التأمليين، بل هم يوتوبيون اقتصاديون سياسيون، وإرادة التغيير
لديهم لا شك فيها. لقد شرع بعضهم في التطبيق الفعلي الذي لم
يحالفه الحظ، وإذا كانت إرادة التغيير الكامنة في بعضها لم
تخرج إلى حيز التأثير الفعَّال، فإنما يرجع ذلك لضعف ارتباطها
بالطبقة العاملة، وكذلك بسبب التحليل غير الكافي للاتجاهات
الموضوعية والإمكانات الواقعية في المجتمع القائم، أو بسبب عدم
نضج الظروف الاقتصادية نضجًا كافيًا بحيث تُفجِّر إرادة الفعل
في الذات، فهذه الظروف الموضوعية من الأمور التي تساعد على
الانتصار الثوري.
١٣٣
ظلت اليوتوبيات السابقة الذكر عهودًا طويلة تعبر عن أملٍ
يوتوبي غير دنيوي، وذلك باستثناء بعض اليوتوبيات التي نظرت إلى
الواقع وانطلقت منه ولكنها كانت غير ناضجة فصورت العالم الأفضل
بشكلٍ مجرد وأقامت نسقًا في عقول مبدعيها فقط. إن الماركسية
وحدها هي التي قهرت التجريد، وإن تحسين العالم لا يأتي بالتأمل
بل بالفعل، بالنظرة الجدلية إلى الواقع مع مراعاة قوانين
العالم الموضوعي، حتى تتحول اليوتوبيا من تأمليةٍ مجردة إلى
يوتوبيا عينية ذات نزعةٍ اشتراكية. وتاريخ اليوتوبيات
الاجتماعية يثبت أن هذه النزعة الاشتراكية قديمة قدم العالم
الغربي، وقدم الحلم بالعصر الذهبي.
١٣٤ ولا عجب بعد ذلك أن ينتهي الفيلسوف الاشتراكي إلى
أن تاريخ اليوتوبيا ما هو إلا تطورٌ تدريجي لهذه النزعة التي
اكتملت في الماركسية.
مع الماركسية تقدمت النزعة الاشتراكية من اليوتوبيا إلى
العلم، وبدأت فكرة تحسين العالم من الاتجاهات الفعلية للواقع.
لم ينظر للبؤس كحالة تدعو للرثاء، ولكن بدأ بحث أسبابه وتفجير
قوَّته الثورية الكامنة للقضاء عليه. ولم يسمح ماركس لسخطه على
المجتمع أن يجعله يغفل عن العوامل الثورية الموجودة فيه. وإذا
كان بعض اليوتوبيين قد رأى أن أجور العمال في المجتمع
الرأسمالي غير منصفة، وطالبوا بمجتمعٍ جديد بأجور أكثر
إنصافًا، فإن ماركس لم ينظر للأمر من هذه الزاوية، وإنما حلَّل
العوامل الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي، واكتشف ما فيه من
تناقضات تُسبِّب انهياره في نهاية الأمر بفعل عواملَ جدليةٍ
باطنه. وبذلك وضع أُسسًا جديدة للنقد الاقتصادي كانت مفتقدة في
اليوتوبيات الاجتماعية المجردة في مرحلة ما قبل الماركسية، وهي
التي خصصت تسعة أعشار مساحتها في وصف دولة المستقبل، والعشر
الباقي للنقد، بينما كرس ماركس تسعة أعشار كتاباته للتحليل
النقدي للحاضر وسمح بمساحةٍ ضئيلة لوصف المستقبل، لأن كل عمله،
وليس فقط جزء منه، مُوجَّه للمستقبل، كما أنه لم يرسم صورة
للجنة بل تناول بالنقد والتحليل الحياة الاقتصادية، وكشف سر
الاستغلال وفساد الربح.
١٣٥
جسد ماركس بشكلٍ مادي توقعات اليوتوبيا بوسائلَ اقتصادية
عندما بحث في جدل الإنتاج وفائض القيمة، وبذلك وضع الأسس
المادية لجدل التاريخ، وألغى الثنائية بين ما هو كائن وما
ينبغي أن يكون، وبين الممارسة التجريبية واليوتوبيا من أجل
إعادة تنظيم المجتمع بشكلٍ ثوري، ولذلك أغفل كل اليوتوبيات
السابقة من أجل نزعةٍ واقعيةٍ مفعمة بالمستقبل؛ المستقبل الذي
استنار بعواملَ مادية-تاريخية من الماضي والحاضر تعمل باستمرار
لتصب في المستقبل.
١٣٦
في الماركسية يزداد الحلم العيني وضوحًا، ويتطور مضمونه
ليصبح حلمًا متحققًا تحققًا فعليًّا. كما تهتم الماركسية —
بوصفها يوتوبيا عينية — بأن تفهم الحلم لأنه يكمن في النزوع
التاريخي نفسه، وتتوسط هذه اليوتوبيا مع الصيرورة وتركز
اهتمامها على تحقيق الأشكال والمفاهيم التي طورتها في رحم
المجتمع الحاضر، إنها يوتوبيا عينيةٌ تقدمية بسبب ارتكازها على
عنصرَين أساسيَّين هما: توجهها للمستقبل، وارتباطها بإمكاناتٍ
حقيقيةٍ موضوعيةٍ كامنة في الواقع الفعلي وإن لم تتحقق بعدُ في
العالم الخارجي. وتتجه هذه اليوتوبيا العينية إلى الجمع بين
النظرية والتطبيق، ولا ينحصر قصدها اليوتوبي في أرض الحلم
المنعزلة أو في أفضل نظامٍ اجتماعيٍّ متصوَّر كما كان الحال في
اليوتوبيات الاجتماعية، بل يتسع ليشمل كل الميادين الأخرى من
تقنية وعمارة وفنونٍ تشكيلية وأدب وموسيقى … إلخ، فكل هذه
الميادين لها صورٌ مفعمة بالأمل ومتشابكة مع بعضها البعض من
أجل خلق عالمٍ بشري، وكل فلسفة وكل عملٍ فني له نافذةٌ يوتوبية
تطل على المستقبل، أو هو محاط بعنصرٍ يوتوبيٍّ قائم على أساسٍ
موضوعي يكون كامنًا في البداية ويحمل داخله بذرة نمائه حتى
يشرق في إمكاناتٍ حقيقية قد تؤدي في النهاية إلى كارثةٍ محققة،
أو تكون بذرة الأمل الممكن، وذلك حسبما تقرره إرادة الموجوادت البشرية.
١٣٧ وتمتد اليوتوبيا لتنتشر كالمادة المشعة في كل
الأنشطة الإنسانية، وتدفع معوقات الطبيعة للخلف بصنع البشر —
المتمتعين بوعيٍ كامل — التاريخ لأول مرة بدون فكرة الضرورة أو
القدر الأعمى، لأن هذه الفكرة الأخيرة تجد من يتعبدها في
المجتمع الطبقي وحده. أما اليوتوبيا التي أصبحت عينية فلا تعرف
القدر أو الضرورة لأنها وضعت أساسًا لنظام غير مغترب في حدود
عالمٍ أفضل.
١٣٨
عندما يصبح الجدل عينيًّا، وعندما يجعل نفسه في خدمة هدف يضع
المستقبل والمتمنَّى نُصب عينَيه، لا تكفي الرغبة وحدها ولا بد
أن تضاف لها الإرادة، ومع الإرادة التبصر النافذ. عندئذٍ تتحول
اليوتوبيا إلى علم، ويصبح العلم دليلًا يهدي إلى السلوك
الصحيح، وذلك وفقًا للقضية الحادية عشرة من قضايا فويرباخ التي
تطالب بأن تصب كل النظريات الصحيحة في تغيير العالم: «إن
فويرباخ في جهوده لتوليد الوعي يقطع أبعد شوط يمكن لنظري أن
يقطعه دون أن يكفَّ عن أن يكون نظريًّا وفلسفيًّا (…) إنه
يؤوِّل مجرد تأويل العالم المحسوس القائم، ويسلك تجاهه سلوك
النظري، في حين أن المسألة هي أحداث الثورة في العالم القائم
ومهاجمة حالة الأشياء كما وجدها وتبديلها عمليًّا.»
١٣٩ ويرتبط بالعلم العيني أو الواقعي قدر من العاطفة
التي لا غنى عنها لتحويل المعرفة إلى عمل وممارسة، ذلك أن
المبادرة لا تأتي أبدًا من المعرفة وحدها، وإنما تنبع أساسًا
من الإرادة. إن المعرفة يمكنها أن تهدي الإرادة، ولكن الإرادة
هي التي تحقق المعرفة. وبغير العاطفة الثورية والحماس الإرادي
القوي لتغيير العالم تبقى أنطولوجيا الإمكان والمستقبل واﻟ
«ليس-بعد» مجرد أفكار مهما وُصفت هذه الأفكار بأنها تقدمية،
ولو تشبَّعت بالعاطفة الثورية لأصبحت أداة لتحقيق
اليوتوبيا.
لكن بعض الثوريين الذين تحركت ضمائرهم أمام البؤس المنتشر
وانضموا إلى صفوف الاشتراكية ظلوا في أعماقهم برجوازيين، لذلك
أدانتهم الماركسية كما أدانت الاشتراكية النابعة من عواملَ
إنسانية فقط، أي من التعاطف والرغبة فحسب؛ إذ لا بد من تضافر
الضمير والمعرفة لتوفير الوعي الاشتراكي «الموضوعي» لا الذاتي
فحسب من أجل قلب كل الظروف والعلاقات التي يكون فيها الإنسان
كائنًا مهانًا مستعبدًا مهجورًا ومحتقرًا. وإذا كان هناك
محاولاتٌ وجودية للتقليل من شأن ثورية ماركس وتصويره في صورة
القريب من كيركيجورد أو باسكال فإن من المستحيل — في رأي بلوخ
— تزييف ماركس الحقيقي لأنه نموذج الإنسانية الماضية في تحرير
نفسها بصورةٍ فعالة. وهي إنسانية ترفض معاملة البشر كما تعامل
الكلاب؛ إنسانيةٌ واقعيةٌ موجهة لمن يستحقها، تمسك السوط بيدها
في غضب وسخط كما تنادي وتهيب وتبحث عن سبيلٍ موضوعي للإنقاذ.
١٤٠ ولا تقتصر هذه الإنسانية الماركسية على الطبقة
العاملة المغتربة وحدها، بل تمتد إلى كل المستغلين والمغتربين
في ظل الرأسمالية. ولا تقتصر هذه الثورية الإنسانية على كتابات
ماركس الشاب، لأن إنسانيته الواقعية تمتد لتشمل تفسيره المادي
للتاريخ. صحيح أن مصطلح الاغتراب لا يظهر في كتاباته المتأخرة،
ولكنه اختفى كلفظ فقط وظل الموضوع الإنساني باقيًا في تحليلاته
ليوم العمل ولمجموع العلاقات الاجتماعية، كما ظلت الإنسانية
«الفاعلة» ماثلة في نصوصٍ عديدة.
١٤١
ويهاجم بلوخ المحاولات العديدة لتجريد ماركس والماركسية من
النزعة المستقبلية وإبعادها حتى عن التراث الليبرالي، كما يحمل
حملةً شديدة على محاولات إعادة الماركسية لجذورها العقلية لا
المادية الواقعية، وتصوير ماركس على أنه كانطي أو هيجليٌّ جديد
أو ردِّ نظريته إلى أفكار الخلاص القديمة من أوغسطين ويواخيم
الفيوري لتصوير الماركسية في صورةٍ مسيحيةٍ علمانية وكأنها
مجرد نسخةٍ اقتصادية أو تحولٌ اقتصاديٌّ فاسدٌ لعقيدة الخلاص
اليهودية-المسيحية. إن كل الذين يبذلون هذه المحاولات ينسون أن
الماركسية تلغي مجتمع الطبقات الذي سمح بوجود السيد والعبد،
وتحرر إرادة الأمل من عقالها، كما أن أصالة ماركس لا تنفي أن
له آباءً وأجدادًا، وأنه حقق حلمهم الماضي وارتفع به إلى مستوى
الوعي الثوري وجعله شيئًا جديدًا كل الجدة.
١٤٢
وقد تصور بعض الأدباء والباحثين الرومانسيين مثل كرويتسر
Creuzer وفيلكر
welcker أن علم الأساطير يعبر
عن المجموع الكلي للمعرفة الذي وجد منذ أزمان لا تعيها
الذاكرة، وإن كل ما جاء بعد ذلك — مثل نظرية المثل لأفلاطون
على سبيل المثال — لم يكن إلا صدًى شاحبًا لهذا العلم الشامل،
ومن ثم تصوروا أن ماركس حالمٌ رومانسي مثل غيره من العلماء
الرومانسيين الذين قالوا إن العلم كله أصله أسطوري. ولذلك
اتُّهم ماركس بأنه وضع الأساطير في هذا العالم وأضفى الصبغة
الدنيوية عليها. ويدافع بلوخ عن ماركس مستشهدًا بهذه العبارة
التي كتبها إلى روجا عام ١٨٤٣م: «سوف يتضح أن العالم كان يملك
منذ أمدٍ طويل حلمًا عن المادة، وهي المادة التي يتحتم عليه أن
يعيها لكي يملكها بحق، وسوف يتضح أيضًا أن المسألة ليست خطًّا
فاصلًا بين الماضي والمستقبل، وإنما الأمر يتعلق بمواصلة أفكار
الماضي.» إن هذه العبارات التي قالها ماركس هي في الواقع
الجوهر الحقيقي للأصالة، وتعبر عن موقفٍ جديد كل الجدة من
الماضي. ويتضح هذا من قول ماركس نفسه بأنه موقف يقوم على تحليل
الوعي الأسطوري الذي لم يتضح لنفسه على نحو ما كان عليه في
الماضي، وبدون الانفصال عن ذلك الماضي بشكلٍ مجرد أو صارم،
وعلى هذا فإن ماركس لم يُضعف من جانب المعرفة الأسطورية بل صححها.
١٤٣
إن الجديد الرائد الذي جاء به ماركس هو في معرفة فائض
القيمة، وفي التفسير الاقتصادي الجدلي للتاريخ، وفي فهمه
للعلاقة بين النظرية والممارسة. وإذا لم يفهم الرومانسيون هذا
الجديد الرائد — بالمعنى السابق أي انفصال العلوم عن أصولها
الأسطورية — فإن هذا يكشف عن انتماءاتهم البرجوازية وعقليتهم
التي تنزع إلى الترميم والإصلاح، لا إلى الثورة الحقيقية. كما
أن جهلهم بهذا الجديد ليس إدانة للماركسية على الإطلاق، لأن
موقفهم المتخلف هذا لا يمكن أن يعي الإنسانية الجديدة
والفاعلية الجديدة وتغيير العالم والحلم المتَّجه إلى الإمام
على الدوام في الماركسية المفتوحة.
١٤٤ ولننظر إلى الأخلاق … فهل انتقص من قدر الأخلاقية
لأنها لم تعد لصالح عالمٍ آخر أم أنها أصبحت أكثر نقاءً
وصفاءً؟ ولننظر إلى المسيحية نفسها … هل شوهها «توماس مونتسر»
لاهوتي ثورة الإصلاح الديني عندما سلك سلوكًا ثوريًّا ولم يقبل
أن يسالم؟ ألم تصبح المسيحية — على العكس من ذلك — أكثر أصالةً
عندما دفع بها إلى النشاط الفعلي وإلى التاريخ المعاصر. ولننظر
إلى تاريخ العلم الذي نشأ عند اليونان نشأة انفصل فيها عن
الأسطورة على الرغم من أن الأسطورة كانت دائمًا تدخل في إيضاح
الأفكار غير الأسطورية. هل أصبحت الفلسفة والعلم — بعد أن فصل
اليونان العلم عن الأسطورة — أفقر مما كانا عليه أم أنهما
ازدادا غنًى وثراءً عندما انفتحا على آفاقٍ جديدة لم تُرَ من
قبلُ ولم يفكر فيها أحد من قبلُ كما فعل سقراط على سبيل المثال
عندما حاول أن يُنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، وكما فعل
ديمقريطس بفكرته عن الضرورة عندما غرسها في البنية الذرية
١٤٥ … إلخ.
لا شك أن هناك نداءً أسطوريًّا أو صوفيًّا يتردد من بعض
أفكار ماركس الإنسانية والجدلية. ولكن هذه الإنسانية وهذه
الجدلية تتجه بدون شك نحو النور والظهور في نهضةٍ مستقبلية.
ويتجلى هذا الجانب الأسطوري في فكرة الخلاص عند ماركس التي
يحيط بها وينبعث منها بريقٌ أسطوري. وإن المؤمن بالتنوير
الحقيقي لن يضنَّ على هذه الروح التنبُّئية بالخلاص عند ماركس،
لن يضنَّ عليها بعرفانه واندهاشه وتعلمه من مثل هذه الأفكار
التنبُّئية. والواقع أن ما يصحح مسار العالم ويضيف إليه ويضيئه
من داخله لا يمكن أن يبرز إلا عندما يصل الوعي إلى موقفٍ
علميٍّ صحيح. فلم يعد من المكن أن يتحقق هذا أو أن يُفهم في
مجتمع لا يعيش فيه إلا فيلسوفان فقط، أحدهما فيلسوف يائس
تخلَّى عن كل شيء، والآخر فيلسوفٌ عنكبوتي يحاول أن يقدم لنا
كنوز الحكمة المدرسية الوسيطة وكأنما هي فصل الخلاص الأخير. إن
الماركسية الخلَّاقة وحدها هي المعبرة عن عصرنا، وهو العصر
الذي يبدع ويواصل تراث الماضي ويحققه في نفس الوقت. والماركسية
وحدها تمثل الإنسانية الحقيقية التي ترفع من شأن الأرض ولا
تجعلها مجرد شبح يعكس الصورة الأسطورية القديمة. وهي التي تحقق
ما يعرف بأنه حق وفقًا للإمكانيات الواقعية وللمنظور الواقعي
للمستقبل. وفي هذه الممارسة لا يتم فصل العالي أو علمنته عندما
تنفصل الماركسية عما هو فوق الإنسان ولا يؤثر في صيرورة
الإنسان، وما لم تُفهَم العلمنة بالمعنى الماركسي الجديد وحده
الذي يوحد بين النظرية والتطبيق فلن تفهم أبدًا.
١٤٦ وعلى حين كان كل عظماء الفكر قبل ماركس قانعين بأن
يصبح العالم فلسفيًّا، فإن الإنسانية الماركسية قد فتحت على
طريقتها — ووفقًا لعبارة ماركس الشهيرة عن ضرورة تغيير العالم
بدلًا من الاكتفاء بتفسيره — آفاقًا جديدة يمكن أن تجعل
الفلسفة عالمية، وبهذا تكون الفلسفة قد أُوقفت على قدمَيها من
جديد، ووُهبت القدرة والكفاءة لإعادة بناء هذا الكوكب الأرضي.
ولا بد أن نلاحظ أن الماركسية لم تُنقِص من قدر الأفكار
العظيمة بحق في الماضي، ولم تختزلها لأن ذلك الماضي ظل غنيًّا
بالأفكار الحقيقية.
١٤٧
إن الأمل النابع من خطةٍ علميةٍ مدروسة والمرتبط بالممكن
الوشيك التحقق هو أفضل ما يوجد في حياة الإنسان، بشرط أن يرتبط
بالمعرفة الدقيقة بالواقع مع الممارسة. لا يمكن أن يزدهر العقل
بغير الأمل، ولا يمكن أن يتكلم الأمل بغير العقل، لأن وحدتهما
وحدةٌ ضرورية. والذين يتهمون الماركسية بأنها أخروية لا يدركون
نزعة الحلم، فقد حرص ماركس على تعقيل الحلم لا إغراقه في سحب
العواطف، كما حرص على أن يقترن التعقيل بالحماس بحيث تربط
الماركسية بينهما لإبراز «الجديد» واليوتوبي الواقعي. والمهم
هو التوحيد بين التعقيل والحماس — أي الخيال في حالة الفعل —
وتوجيههما نحو الأمل المتطور المدروس. وتعد الماركسية نظرًا
وتطبيقًا هي الطريق الوحيد لتحقيق حلم العصر الذهبي، إنها لا
تنسى الواقع، كما تفعل اليوتوبيات الاجتماعية، بل تطوره
جدليًّا واقتصاديًّا وعلميًّا دون أن تتخلى عن التراث أو عن
صور أحلام يقظته عن المستقبل، لأنها تخلصها من اغترابها القديم
ومن تحولها إلى تأملاتٍ مجردة. فالماركسية هي التي تحقق مضامين
الأمل وتضفي عليه الوجود العيني، والسبيل الوحيد إلى ذلك هو
المجتمع الخالي من الطبقات.
١٤٨
ولا بد من التفرقة بين الأمل الذاتي — الذي يظل أملًا
ذاتيًّا — والأمل الموضوعي وهو الأمل بالمعنى الصحيح الذي
يتوسط النزوع التاريخي، كما يتم في العالم وعن طريقه ويتجه نحو
هدفه، وهو تحقيق الإنسانية الاشتراكية. والفلسفة رحلةٌ جدليةٌ
شجاعة تضع الأمل في المقدمة، الأمل في تحقيق الممكن والكشف عن
المجهول، أي الأمل الموضوعي الواقعي المؤسس على معرفة الشروط
الذاتية والموضوعية معرفةً دقيقة وعلى الإرادة الثورية التي
توجهه وتكافح في سبيل تحقيقه. إنه أمل يرتبط بالمادة بحيث
يتجاوز أرسطو وفهمه للمادة بكثير، وهو ليس كامنًا في الذرة
المادية ولا هو مغلق فيها وإلا حال هذا دون تصور الوثبة
الجدلية الكيفية ﻟ «ليس-بعد» نحو الجديد.
١٤٩ وهنا يختلف الهدف والغاية المادية خلال العملية
الجدلية عنهما في المذاهب الغائية الدينية التي تُفترَض قبليا
من منظور العناية الإلهية والحقيقة النهائية. وبذلك يكون عصب
المفهوم التاريخي الصحيح هو الجديد، وعصب المفهوم الفلسفي
الصحيح هو الجديد الأفضل، وكلاهما غير متحقق في الأنطولوجيات
الثابتة للماهيات الثابتة. هذا بالإضافة إلى أن عيب كل
الفلسفات الميتافيزيقية السابقة على ماركس أنها تأملية وأنها
تتجاهل حقيقة المادة الأساسية وهي أنها مادةٌ متجهة إلى الإمام.
١٥٠
هكذا وجد بلوخ أن الماركسية هي فقط المعنية بتحقيق الهدف
النهائي للأمل وهي الفلسفة الوحيدة القادرة على تحقيق الحلم
اليوتوبي والوصول به إلى غايته المنشودة إلى مملكة الحرية. وقد
ظل على رأيه حتى مات ١٩٧٧م ولم يشهد انهيار المعسكر الاشتراكي
في أواخر عام ١٩٨٩م، إلا أنه استشعر بداية النهاية. ونزعته
التفاؤلية وإصراره على الأمل حتى اللحظة الأخيرة لم يحجبا عنه
رؤية الواقع الفعلي وتجاربه المريرة، فما كان منه إلا أن طرح
هذا السؤال: «هل يمكن أن يخيب الأمل في الأمل؟»
١٥١ إنه سؤال تفرضه الأمثلة العديدة التي يقدمها
التاريخ على اليأس والإحباط بعد هزيمة الإرادة الثورية على
المستوى الفردي والجماعي في مختلف العصور التاريخية. وقد وجد
بلوخ أن السؤال لا يزال معاصرًا إلى أبعد حد بعد أن رأى مع
الزمن أن البداية العظيمة قد وقعت في أيدٍ صغيرة، غير أنه لم
يتخلَّ عن «الأمل» ولم يفرط في الهدف، وإنما وضع في حسابه
الحواجز والانحرافات التي تقف في طريقهما، وأخطار الفشل
والانتكاس الذي يهددهما. بل إنه لم يعد يقتصر على «اللا»
الكامنة في الصيغة الأنطولوجية والشعورية التي أسس عليها
فلسفته، وهي وجود اﻟ «ليس-بعد» أو الوجود الذي لم يتحقق بعدُ،
وإنما أخذ يفكر في «العدم» أو قوة السلب المطلقة التي تقضي على
الأمل وتعوق الطريق إلى الهدف إن لم تدمره تدميرًا. بيد أن
خيبة الأمل التي درس أسبابها واستقصى أنواعها لا تصدر عن يأس
أو قلقٍ وجودي، لذلك ازداد تمسكًا بالأمل والنضال في سبيل
تحقيق الهدف الذي بدا له بعيدًا وإن لم يكن مستبعدًا ولا
مستحيلًا؛ إذ لولا التمسك به لما وجد على الإطلاق. وإذا كان
بلوخ يؤكد دور العامل الذاتي في تحقيق هذا الهدف، فإن عينه لم
تغفل عن المصاعب الموضوعية التي تواجه تحقيق الأمل المتجدد دون
أن تؤدي به إلى اليأس.
اقتضت الضرورة طرح هذا السؤال الذي فرضته الأحداث: هل يمكن
أن يخيب الأمل أو هل يمكن أن تخيب أساليبه؟ إن هذا أمر شائع
ومتكرر، فأي حياةٍ مملوءةٌ بأحلام لم تتحقق، هذا أمر لا بد منه
بالنسبة للتفكير الذي يقتصر على التمني وإقامة قصور في الهواء
لا أساس لها ترتكز عليه؛ ذلك أن مثل هذا التفكير يتلذذ بنفسه
ولا يسأل فيه عن الواقع. كذلك أحلام اليقظة العامة كم سبحت دون
أن تنزل في الماء! وكم غرر بالشباب مثل هذا الأمل! فكانت خيبة
الأمل التي أعقبته هي الشيء الحقيقي فيه. من الأرجح أن أحلام
اليقظة وحدها تؤدي دائمًا إلى خيبة الأمل، سواء كانت أحلامًا
خاصة أو عامة. ولكن هل الأمل القائم على أساس، ويقوم بدور
«التوسط» لهدفٍ حقيقي يبشر به، يختلف عن الأمل السالف الذكر؟
مثل هذا الأمل الأخير يمكن بل يتحتم أن يخيب لأنه كان نوعًا من
التمني والاسترسال وراء أحلام اليقظة، ولم يقم على أي أساسٍ
موضوعي، فهو أمل يختلف تمامًا عن ذلك الذي يعتمد على الوعي
الكافي بالإمكانات والنزعات الكامنة في الواقع.
ولهذا يمكن أن يخيب الأمل في الأمل، أولًا، لأنه منفتح على
الأمام (الآتي والمستقبل) ولا يقصد الحاضر. ولأنه دائمًا في
حالة عدم تحدُّد ويهتم بما هو متغير لا بتكرار ما هو قائم،
فإنه ينطوي على عنصر الصدفة الذي يجب أن يحسب حسابه. ثانيًا،
من الممكن أن يخيب الأمل في الأمل لأنه — باعتباره توسطًا
عينيًّا — لا يتعامل مع وقائعَ ثابتةٍ أو جامدة. فما يسمى
وقائعُ ثابتة إما أن تكون الذات قد شيَّأتها، أو تعتبر من
الناحية الموضوعية مرحلة توقف للمسار التاريخي، بيد أن هذا
المسار التاريخي جدليٌّ مستمر وليس فيه واقعةٌ ثابتة. ولهذا
يبقى الأمل كعاطفة مع الخوف المتعلق به، كما يبقى الأمل كمنهج
في مجال اﻟ «ليس-بعد»، أي في مجال لا يتحدد فيه تحققه ولا
امتلاؤه بالمضمون. ومعنى هذا بعبارةٍ أخرى أن الأمل ينطوي على
احتمال إفساده وإبطاله؛ إذ إنه ليس ضمانًا موثوقًا به، لأن فيه
ما في العملية التاريخية والكونية نفسها من عدم تحدُّد، فلا هي
تبطل تمامًا ولا هي تكسب تمامًا. ولهذا كله ينتمي الأمل
للإمكان الموضوعي والواقعي الذي يطوق الواقع السائد تطويق
الخطر والنجاة الممكنة معًا. ذلك الممكن هو المشروط جزئيًّا لا
كليًّا مثل الوجود الواقعي الراهن، وعدم الضمان هذا لا يعني
عدم الثقة والاطمئنان التام الذي يجعل كل ممكن وكل انتظار
نوعًا من اللامعقول الذي يناقض الشروط الجزئية القائمة في عالم
الإمكان الموضوعي والواقعي. وحتى لو أضيفت العوامل الذاتية إلى
المعرفة الموضوعية بالشروط القائمة، فإن الأمل لا يفقد طابع
«عدم الضمان» الذي يميزه.
١٥٢
وهنا تعترف اليوتوبيا الواقعية بأنها على الطريق، هذا الطريق
الذي توجد عليه ماهية العالم التي تمكنه أن يتحقق بعيدًا عن
الشك، ولهذا لا تدعي مثل هذه اليوتوبيا الكمال طالما أنها تظل
معلقة بخيبة الأمل وانعدام كل ثقة وضمان، ثم ألا يؤكد الواقع
نفسه — حتى لو كانت مضامينه كلها قد تحققت — أنه لم يصل إلى
مستوى الكمال الذي كان يُرجي له قبل تحققه؟ وإذا كانت خيبة
الأمل لا يخلو منها الواقع الذي تحقق منه القليل، فإن هذا مما
يؤكد الطموح الوجودي والماهوي للأمل. إن خيبة الأمل تتعلم من
الخسائر والأضرار التي تحيق بها، وتزداد فطنةً بالانتباه إلى
النزوع الكامن في الوقائع المزعومة التي تظل في حالة صيرورة.
ولكنها من ناحيةٍ أخرى لا تتعلم منها، إذ إن «الأمل المؤسس» لن
يقنع بأي واقع بل سيدينه على أساس أنه لم يحقق الجوهر الكامن
أو مضمون الهدف الذي كان ينزع إليه الموجود الواقعي، وإنما
شوَّهه أو وضع عليه قناعًا، ولذلك، فإن هذا الموجود سيدان من
اليوتوبيا المؤسسة، وكم ستزيد هذه الإدانة إذا كان هذا الهدف —
وهو الإنسانية الواقعية — لا يزال في حيز الإمكان أو مجال اﻟ
«ليس-بعد» ثم إذا كان الواقع الذي يدَّعي أنه يعبر عن الوجود
الحقيقي — أو عن ذلك الهدف — أبعد ما يكون عن الإنسانية بل ضدها.
١٥٣
على وجه الإجمال ومصداقًا لعبارة اسبينوزا إن الحق ليس
دليلًا على نفسه فحسب، بل هو دليل على الكذب أيضًا. فإن خيبة
الأمل لا تتعلق بتحقق الواقع تحققًا جزئيًّا لا يعبر عن النزوع
الكامن فيه، وإنما تتعلق خيبة الأمل الحقيقية بالأمل بحكم أنها
ترفض الواقع المشوَّه إلى حد عدم القدرة على التعرف عليه،
وبحكم أن الأمل، ومضمون الهدف الذي يسعى إليه، وهو «مملكة
الحرية»، يفرض واجبه عليه أن يكون مقياسًا للحكم على ذلك
الواقع المشوَّه وإدانته. يقينًا ستساعد التحليلات
الاقتصادية-الاجتماعية على النفاذ إلى أصل هذا الواقع
المشوَّه. ولكن لا بد أن يكون «الكل» اليوتوبي أو الهدف حاضرًا
فيها ولا يغيب عنها. وهذا الهدف الكلي نفسه موجود في أقدم حلم
يقظة حلمته البشرية، وهو قلب كل الظروف التي يكون فيها الإنسان
كائنًا مهانًا ومحتقرًا ومهجورًا ومستعبدًا. وكون هذه العبارة
جاءت على لسان ماركس يجعلها تصلح أن تكون شعارًا للأمل، ولما
كانت قوة اليوتوبيا المؤسسة في إصرارها على النضال، فإن هذا
على التحديد هو مصدر خيبة أملها في النتيجة التي انتهت إليها،
وهذا بالضبط هو المقياس الذي يجعلها محصنة من خيبة الأمل. وكما
كان تولستوي وتذكيره بالمسيحية الأولى مزعجًا للقيصر فإن
التذكير بروزا لوكسمبرج أو بالذين تشبثوا بمبادئ الاشتراكية
الإنسانية مزعج للذين أوصلوا الاشتراكية إلى ما وصلت إليه. إذن
فالأمل كمقياس لذاته لا يمكن أن يكون سببًا في خيبة الأمل،
وكذلك فإن الالتزام به — أي بالأمل — لا يمكن أن يكون سببًا
فيه. ولو كان من الممكن القضاء عليه — أي على الأمل — لما أصبح
في نظر أعدائه شيئًا غير محتمل (أي أعدائه من أصحاب السلطة
الذين جنوا على الاشتراكية الإنسانية والمسئولين عن نقيضها)
والأمر هنا شبيه بالعبقري والعبقرية في تاريخ البشرية، فلو كان
من الممكن القضاء عليها لما وجد عبقري أبدًا.
١٥٤
ليس هناك ما هو أكثر إنسانيةً من تجاوز ما هو كائن. ومن
المعروف منذ القدم أن زهور الأحلام لم تنضج ثمراتها إلا فيما
ندر. والأمل — الذي امتحن بتجاربَ طويلة — يعرف هذا أكثر من
غيره، ولهذا لم يبلغ أبدًا حد اليقين المطمئن. وهو لا يعرف فقط
— بحكم تعريفه — إنه حيث يكون الخطر تظهر النجاة منه، كما
يقول هولدرلين، وإنما يعرف أيضًا أنه حيث تكون النجاة أو
الخلاص يكون الخطر. إنه يعلم أن الإفساد يجوس في العالم مؤديًا
دور العدم، وإن العبث كامن داخل الإمكان الموضوعي والواقعي
الذي يطوي النعيم كما يطوي البلاء. إن صيرورة العالم لم تكتسب
تمامًا، كما أنها لم يُقضَ عليها القضاء التام، والبشر يمكنهم
أن يكونوا الحراس على هذا الطريق الذي لم يحسم بعدُ. ويبقى
العالم في مجموعه هو معمل الخلاص الممكن. ولهذا يمكن القول على
لسان هيراقليطس: إن من لا يأمل في البعيد المستبعد، لا يمكنه
أن يعثر عليه. إن الوجود الإنساني، بالمعنى المتعالي الذي يقوم
عليه، هو التجاوز. وهذا القول يتفق مع الكرامة الإنسانية، كما
يفتح الأبواب على بحر الإمكانيات الواقعية-الموضوعية، وهو
البحر الذي لن تستطيع الوضعية أن تجفف مياهه، ولن يستطيع
التأمل المجرد أن يسبح فيه. هكذا يتطلب الأمل في المستقبل
دراسةً جادة، لا تنسى المحنة ولا تنسى قبل ذلك الخروج منها. إن
للتجاوز أشكالًا عديدة، وفلسفة الأمل المتجاوزة أو المتعالية
بطبيعتها هي التي تجمع هذه الأشكال جميعًا وتفكر فيها مهتدية
بقول «لوكريتوس»: «إنني إنسان، وما من شيءٍ إنساني غريب عليَّ.»
١٥٥
الحق أن عرض بلوخ لليوتوبيات بصفةٍ عامة، سواء التاريخية
منها أو الاجتماعية، إنما جاء بهدفٍ واضح ومحدد وهو إلقاء
الضوء على الجوانب التي يشرق منها الأمل في هذه اليوتوبيات،
والمواضيع التي تستشرف الجديد وتتطلع إلى المستقبل. وبمعنًى
آخر يمكن القول بأن هدفه هو تحديد ما هو تاريخي منها وما هو
غير تاريخي أيضًا، فكأنه عرضٌ تمهيديٌّ موجَّه لما يريد أن
يؤكده في نهاية الأمر، وهو أن كل هذا التفكير ما هو إلا خطوة
أو — بمعنًى أدق — خطوات قطعتها البشرية طوال تاريخها لكي تتوج
في النهاية بتاجٍ ماركسي — بما يوحى إلى حدٍّ كبير بإيمانه بأن
التطور التاريخي لا بد أن ينتهي إلى الماركسية حتى ولو كانت
ماركسيةً مفتوحة إلى ما لا نهاية على المستقبل كما يفترض — في
حين أن بلوخ نفسه لا يؤمن بالمقولة الماركسية المزعومة عن
حتمية التطور التاريخي. والحقيقة أن عدم إيمان بلوخ بهذه
المقولة إنما يتَّسق تمامًا مع نسقه الفلسفي وجدله المفتوح
الذي يتحدث عن نزوعٍ ممكن أو كامن لم يتقرر بعدُ، ويستحيل أن
يوجد في هذا النسق المفتوح علةٌ ثابتة تسبب نتيجةً محددة، كما
تصور بعض المنظرين الماركسيين. لقد زعم هؤلاء أن العلِّية
الاقتصادية هي التي تسبب الحتمية التاريخية، لأن هذه الحتمية
تعني أن النتيجة موجودة وجودًا مسبقًا في العلة ولا بد أن تنتج
عنها، وهو الأمر الذي أدى بهم إلى القطع بالحتمية الاشتراكية
كنتيجةٍ ضرورية لما سموه بالحتمية التاريخية. صحيح أنه لا بد
من توافر جميع الشروط لإمكان ظهور الجديد في المستقبل، ولكن
هذه الشروط ليست عللًا تتسبب في إحداث نتائجَ ضرورية، لأن
توافر الشروط الضرورية «يمكن» أن يسبب النتيجة المتوقَّعة،
ولكن ليس ثمة ضرورةٌ ملزمة لذلك. إن الجديد يمكن أن يظهر، ولكن
ليس حتمًا أن يظهر، والعملية التاريخية يمكن أن تنجح وتؤدي إلى
تحقيق الخير، كما يمكن أن تفشل وتنتهي إلى العدم أو الكارثة.
وهذا ما يتفق تمامًا — في رأينا — مع فلسفة بلوخ. ولكن كيف
يستقيم هذا التحليل — الذي يقبله منطق العقل والجدل، ويؤمن به
بلوخ نفسه — مع تأكيده في مواضعَ عديدة على أن الماركسية هي
بالضرورة الحل الذي ينتهي إليه رفع الاغتراب بين الذات
والموضوع؟ أليس في هذا نوع من الحتمية التاريخية التي لا تبعد
كثيرًا عما تفترضه الماركسية الرسمية؟ ألا يتناقض هذا مع
التوجه العام لهذه الفلسفة المفتوحة على المستقبل اللانهائي
غير محدد المعالم؟ ربما يكون هذا التناقض بالإضافة إلى
تناقضاتٍ أخرى أشرنا إليها في موضعها من الأمور التي تُوقِعنا
في دائرة الحيرة أمام هذا النسق الفلسفي الضخم الذي ما زال في
حاجة إلى دراساتٍ تفصيلية لفك الكثير من غموضه ورموزه.
يضاف إلى ما سبق أن اليوتوبيا العينية التي نسبها بلوخ إلى
الماركسية وحدها دون سائر اليوتوبيات ليست في حقيقة الأمر سوى
يوتوبيا بلوخ نفسه. فمن المعروف أن ماركس يرفض التفكير
اليوتوبي من أساسه لأنه بتحقيق المجتمع الشيوعي — الذي زعم أنه
خاتمة المطاف التاريخي — ينتفي أي تفكيرٍ يوتوبي باعتباره
فكرًا متحققًا بالفعل. فكيف يمكن — بهذا المعنى — أن ينسب
للماركسية يوتوبيا لم تتحقق بعدُ؟ هذا من ناحية. ومن ناحيةٍ
أخرى يمكن القول إنه على الرغم من استعمال بلوخ للعديد من
المقولات الماركسية، إلا أنه قدم اليوتوبيا العينية بمفرادت
نسقه الفلسفي الخاص ومقولاته الأساسية، كأنطولوجيا الإمكان واﻟ
«ليس-بعد» و«الكل» اليوتوبي … إلخ بحيث يصعب فهم هذه اليوتوبيا
العينية بغير تلك المفردات الخاصة ببلوخ نفسه لا بمفردات ماركس
والماركسيين التقليديين. كما يمكن الانتهاء إلى حقيقةٍ هامة،
وهي أنه على الرغم من أن بلوخ يعتبر نفسه فيلسوفًا ماركسيًّا
وكثيرًا ما يستشهد بنصوص ماركس، إلا أنه لم يأخذ من الماركسية
سوى منهجها النقدي وأسقط معظم مقولاتها التقليدية والحرفية
المعروفة، بحيث يمكن القول بأنه اتخذ من الماركسية مدخلًا
لفلسفته الخاصة أو ﻟ «بلوخيته» — إذا جاز هذا التعبير — أي
مدخلًا لماركسيةٍ جديدة هي فلسفة بلوخ نفسه، ماركسية لها
مقولاتٌ أخرى مختلفة عن تلك التي أسسها كارل ماركس، بحيث تصبح
هذه الأخيرة مجرد حالةٍ خاصة داخل إطارها الأوسع والأشمل. وعلى
الرغم من ذلك فإن يوتوبياه ظلت في نطاق الحلم العاطفي الغامض،
فقد قدم نسقًا نظريًّا هائلًا ولكنه لم يقدم تخطيطًا مدروسًا
لمعالم مجتمعٍ مدنيٍّ إنسانيٍّ مثالي يمكن أن يكون هو الوطن
للبشر جميعًا وتختفي معه كل أخطار الحروب والدمار والتلوث.
ويمكن القول إن اليوتوبيا العينية التي مهد لها بدراساته
الضخمة لتاريخ الأمل وتجلياته لم تأتِ بصورةٍ عينية كما كان
متوقعًا منه.