في ظل الأمراء
(١) مع الأوراجي
ولم يتصل المتنبي ببدر مباشرة ولا فجأة أول الأمر، وإنما سعى فِي ذلك وجدَّ وابتغى إِلَيْهِ الوسيلة فيما يظهر لي، والديوان لا ينبئنا فِي صراحة، والرواة لا ينبئوننا كذلك كيف سعى إلى بدر، وكيف انتهى إليه، ولكن قصيدة فِي الديوان لا يعرف تاريخها توشك أن تدلنا على ما نحتاج إِلَيْهِ من ذلك، وهي هذه الهمزية التي مدح بها أبا علي هارون بن عبد العزيز الأوراجي الكاتب الذي كان يذهب — فيما يقول الديوان وكما سنرى من القصيدة — مذهب التصوف، والذي كان له شأن قبل ذلك فِي قصة الحلاج، فقد يخيل إليَّ، بل أكاد أرجح أنَّ المتنبي اتخذ هَذَا الرجل وسيلة إلى بدر بن عمار، ومن يدري! لعله كان يريد أن يتخذ بدر بن عمار وسيلة إلى مولاه ابن رائق، وأنْ يتخذ ابن رائق نفسه وسيلة إلى قصر الخلافة فِي بغداد، ولكن الأسباب تقطعت به ولما يبلغ من ذلك إلا بعض ما كان يريد.
هذه القصيدة تنبئنا بأن الشَّاعِر قد أقبل يمدح أبا علي الأوراجي من بعيد، وقد جاز إِلَيْهِ جبال لبنان فِي شيء غير قليل من المشقة والجهد، فأكبر الظن أنَّ الأوراجي هَذَا كان فِي ذلك الوقت متصلًا بعمل من أعمال ابن رائق قريبًا من بدر فِي طبرية أو بعيدًا عنه بعض الشيء فِي دمشق.
فأقبل المتنبي من شمال الشام إلى جنوبها بعد أن جلت عنه جنود الإخشيد، حَتَّى انتهى إلى صاحبه هَذَا فمدحه بقصيدتين.
إحداهما هذه الهمزية التي يجب أن نقف عندها وقفة قصيرة، والأخرى أرجوزة طردية على نحو أراجيز أبي نُوَاس قالها مستجيبًا لممدوحه حين طلب إِلَيْهِ ذلك، وأثبتها فِي الديوان مفاخرًا بها، ومفاخرًا بأنه قد قالها فِي سرعة توشك أن تكون ارتجالًا، وقد نتحدث عنها فِي غير هَذَا الموضع من هذه الفصول.
وللهمزية التي نحن بإزائها فيما أرى مكانة خاصة من شعر المتنبي، فهي القصيدة الوحيدة التي يعمد فيها الشَّاعِر إلى المذهب الرمزي ليرضي ممدوحه الذي كان يذهب مذهب التصوف، وهي من هذه الجهة قيمة؛ لأنها تبين عَنْ علم المتنبي، فِي الخامسة والعشرين من عمره، بمذاهب المتصوفة فِي الكلام ومنهجهم فِي الرمز والإيماء، ولأنها تظهر لنا الشَّاعِر الفتى وقد ملك ناصية الفن حقًّا، واستطاع أن يصرفه كما يشاء ويهوى دون أن يجد منه مقاومة وامتناعًا، ولأنها بعد هَذَا وذاك تكشف لنا عَنْ براعة المتنبي، لا في هَذَا النحو من التكلف الفني الذي كان مألوفًا فِي ذلك العصر والذي كان يعتمد قبل كل شيء على أوجه البديع، بل فِي تكلف آخر لم يكن مألوفًا إلا عند المتصوفة والباطنية الذين يقصدون بالألفاظ والمعاني غير ما يفهم منها أصحاب الظاهر من عامة الناس وخاصتهم.
والظريف أنَّ هَذَا التكلف لم يفسد على المتنبي شعره فِي هذه القصيدة، وإنما أسبغ عليه جمالًا غريبًا لا نجده فِي شعره العادي، ومصدر هَذَا الجمال الغريب ما حاوله المتنبي من الملاءمة بين جهدين: جهد العقل، وجهد الفن.
وأنت تستطيع أن تقرأ غزل هذه القصيدة فتستحسن فيه هذين الجهدين معًا:
وينبغي أن تغفر للمتنبي هَذَا الجمع بين ظرفي الزمان والمكان فِي أول الشطر الثاني، فهو قد أتعب النحويين تحليلًا وتعليلًا، ولكنه مع ذلك ظاهر المعنى، فالمتنبي لا يزيد على أن يقول لصاحبته: إنَّ الرقباء مطمئنون إلى أنك لن تزوريني إذا أظلم الليل؛ لأن وجهك يضئ الظلمة فَيَنم عنك؛ لأنكِ ضياءٌ حيث كنتِ، فالمعنى ظاهر ولكن صيغته تُعمِّيه بعض الشيء، المعنى ظاهر، ولكن جهد الشَّاعِر فِي استنباطه والتعبير عنه ظاهر أيضًا، وأنت لا تلوم المتنبي ولا تعتب عليه إذا تكلفتَ شيئًا من الجهد فِي فهم هَذَا البيت؛ لأنك تحمد عاقبة الجهد، وترى أنَّ من حق الشَّاعِر الذي تعب فِي استنباط المعنى وأدائه أنْ يكلفك شيئًا من التعب فِي فهمه والوصول إليه، ما دام المعنى آخر الأمر قيمًا خليقًا بما بذلت من الجهد، فنحن هنا فِي بيئة أخرى، هذه البيئة التي يحسن أبو تمام والمتنبي خلقها، والتي توجد تعاونًا واشتراكًا بين الشَّاعِر والقارئ أو المستمع إليه، وإنما تخلق هذه البيئة حين يُعنى الشَّاعِر بمعانيه، ويصدر فيما ينشئ عَنْ عقله وفنه من جهة، وعن احترامه لقارئه وسامعه من جهة أخرى، وانتقل إلى ما بعد هَذَا البيت:
فالبيت الثاني توضيح وتفصيل وإطناب للبيت الأول، ولكن فيه تعميمًا ليس فِي ذلك البيت، فالمليحة قلقة فيما تدبر من أمرها؛ لأنها مسك ينم عليها نشرها، وشمس يفضحها ضوءها وإن سرت بليل، وتصورت أنت هَذَا الطباق الذي يأتيه من سُرى الشمس فِي الليل، فإذا تجاوزت هَذَا المعنى فانظر إلى هَذَا البيت الثالث الذي ذهب الشَّاعِر فيه مذهب المتصوفة الصريح، حين يلوون الألفاظ عَنْ أساليبها الطبيعية الظاهرة، فالشاعر يأسف على أسفه الذي هُوَ محقق، ولكنه لا يعلم به؛ لأن صاحبته قد دلهته عنه وأذهلته، بما يحدث فِي نفسه من أثر، والشاعر يؤكد لنا هَذَا المعنى تأكيدًا فِي البيت الرابع الذي ينبئنا فيه بأنه لا يشكو السقام، وإنما يشكو فقد السقام، ذلك أنه كان يحس السقم حين كان له جسم يمسه السقم وتلم به الآلام، فأما وقد أفنى الحب جسمه وأعضاءه فهو لا يشكو سقمًا ولا ألمًا، وإنما يشكو شيئًا أبلغ من السقم والألم، وهو العدم الذي يمنعه أن يحس سقمًا وألمًا، وتصور أنت شاعرًا يجد نفسه ويشعر بها، ويعلم أنه معدوم ويشكو من هَذَا العدم، ولكن لا تنس أن شاعرنا يقدم هَذَا الكلام بين يدي مدحه لرجل من المتصوفة، فهو يصطنع له مذهب المتصوفة فِي الكلام والتفكير أيضًا:
وانظر إلى براعة الشَّاعِر وقدرته على العبث بالألفاظ واتخاذ هَذَا العبث وسيلة إلى شعر لا يخلو من جمال، فالناس يقولون: عين نجلاء، وهم يقولون طعنة نجلاء، فماذا يمنع المتنبي أن يشتق من هَذَا الاشتراك بين العين والطعنة فِي «النجل» الذي هُوَ السعة، شبهًا بينهما، فيجعل عين حبيبته فِي حشاه؛ لأن الطعنة التي مسته بها واسعة نجلاء كالعين التي حملت إِلَيْهِ هذه الطعنة، ثم هُوَ يحقق هَذَا التشبيه تحقيقًا بالبيت الأخير، فيزعم أنَّ عين حبيبته قد شقت عنه درعه ونفذت إلى قلبه، ودرعه مع ذلك صلبة محكمة تندق فيها الصعدة السمراء، فأصل المعنى كما ترى مألوف، ولكن التعبير عنه جديد، وتصوره على هَذَا النحو طريف يخيل إليك أنَّ الشَّاعِر قد ابتكره ابتكارًا:
والشاعر كما ترى فِي هذه الأبيات يفخر بنفسه مقتصدًا فِي الفخر، ولكنه اقتصادٌ لا ينبغي أن يخدعنا عَنْ امتلاء الفتى بنفسه، فهو اقتصادٌ فِي الألفاظ لا فِي المعاني … فالشاعر صخرة تزحم من يزاحمها، والشاعر نجم، بل هُوَ الجوزاء بين الشعراء، فإذا لم يفطن الأغبياء والجهال لمكانه فهو عاذرٌ لهم، وهل على الأعمى حرج ألا يراه!
ولكن انظر إلى تصوير الشَّاعِر لهمه البعيد وأمله العريض وصدره الواسع كيف ذهب فيه هَذَا المذهب اللطيف، فأشرك ناقته فِي التفكير، وأشرك الليل فِي العمل: وجعلنا بإزاء حركة معقدة ونشاط متصل، فهو بعيد الهم، واسع الصدر، عريض الأمل، جاد فيما يبتغي، والليالي مخلفة لظنونه، مخيبة لآماله، ولكنها لا تبلغ من جهده وصدره ولا تحد من نشاطه وجده، فهو يكلف ناقته من الجهد والعناء ما يلائم هذه الخصومة المتصلة بينه وبين الزمان، ويشق الأمر على ناقته ويعظم الخطب وتشتد المحنة، فهي تريد أن تفهم ما يلم بها، ولن تخرج من حيرتها، وهي تسائل فِي كثير من الشك: أيهما أفضى بها: هذه البيداء التي لا تنتهي، أم صدر صاحبها هَذَا الذي لا يعرف لهمه حدًّا ينتهي إليه، والناقة مع ذلك ماضية فِي قطع البيد واجتيابها مُضي الهزال فِي أثناء شحمها، وقِفْ عند هذا الإسآد الذي تعمد الشَّاعِر تكراره، فجاء به مضارعًا ومصدرًا واسم فاعل قصدًا إلى الإغراب والإلتواء بالمعنى؛ ليلائم بين لفظه ومعناه، وبين مقامه من هَذَا الرجل المتصوف الذي يمدحه.
وأنت ترى من هذه الأبيات أنَّ الشَّاعِر حريص على ألا يدع المذهب القديم الذي ألفه الشعراء، فيذكر طريقه إلى ممدوحه، ولكنه على احتفاظه بهذا الشكل التقليدي يغير الأسلوب والموضوع تغييرًا، فانظر إِلَيْهِ كيف يخلص إلى ممدوحه هَذَا الخلوص العجيب، بأن يجعل بينه وبين أبي علي جبالًا تشبهه فِي الضخامة والارتفاع، وفي الثبات والاستقرار، وفي الصعوبة والامتناع، فمن شأنها أن تُبعده عنه، ولكن الشَّاعِر يجعل بينه وبين أبي علي رجاء يشبه هذه الجبال فِي الضخامة والعظم والسعة والقوة، فمن شأنه أن يقرِّبه منه، وأي جبال مهما تعظم تستطيع أن تستعصي على هَذَا الرجاء العريض العنيف الذي لا حد لسعته ولا لقوته!
ثم انظر إلى وصفه الموجز لصعوبة لبنان وما ينبث فيها من العقاب، وما يجمد على هَذَا العقاب من الثلج الذي ينتشر بياضه حَتَّى يضلل الشَّاعِر عَنْ مسالكه تضليلًا، فكأنه سواد الليل.
وما أريد أن أمضي على هَذَا النحو فِي تحليل القصيدة كلها، وإن كانت القصيدة كلها تعجبني، ولكني أدع لك قراءة الشطر الأول من مدحه لأبي عليٍّ ومشاركتي فِي الرضا والإعجاب به، والاعتراف بأنه كان كغيره من مدح المتنبي فِي جوهره وأصله، فإنه ممتاز فِي أسلوبه، ومذهب الشَّاعِر فِي العناية به، والتأنق فِي ذاته، ولكني مضطر أن أقرأ معك هذه الأبيات التي يختم الشَّاعِر بها قصيدته:
وما أراك فِي حاجة إلى أن أدلك على هذه المبالغات التي أسرف الشَّاعِر فيها إسرافًا شديدًا كعهده حين يبالغ، ولا إلى أن أدلك على تعمده اصطناع مذاهب الصوفية واستعارته ألفاظهم ومعانيهم، واضطراره من أجل هَذَا كله إلى أن يحمِّل ألفاظه أعباءً ثقالًا كما فِي هَذَا البيت:
ولكنك توافقني فيما أظن أنَّ المتنبي قد جاوز فِي هذه القصيدة طوره الذي رأيناه فيه قبل إنشائها حين كان مضطربًا فِي شمال الشام يبيع شعره فِي سوق الكساد: تجاوز هَذَا الطور إلى طورٍ جديدٍ وثب إِلَيْهِ وثوبًا، ووثب إِلَيْهِ فجأة وعلى غير انتظار أو قل دفع إِلَيْهِ دفعًا: دفعه إِلَيْهِ انهزام الإخشيديين الذين لقي فِي ظلمهم ما لقي من المحن، وذاق فِي ظلمهم مرارة الأسر والسجن والحرمان، ورجوع الأمر فِي الشام إلى عربي مهما يكن أمره ومذهبه، فليس تركيًّا ولا ذنجيًّا كالإخشيد وابن كيغلغ وكافور، ولا شك فِي أنَّ هَذَا الأمل القوي الذي ملأ نفس المتنبي وقلبه قد رد إِلَيْهِ الثقة بفنه إن لم يكن رد إِلَيْهِ الثقة بنفسه، فهو مطمئن منذ الآن إلى أنه لن يبيع شعره فِي سوق الكساد، وإذا لم تعد إِلَيْهِ الثقة بنفسه قائدًا أو زعيمًا أو سيدًا عظيمًا، فلا أقل من أنَّ الثقة قد عادت إِلَيْهِ بنفسه شاعرًا بارعًا نابغًا مقربًا إلى الأمراء، ثم إلى الملوك، ثم من الخليفة، من يدري!
وقد رأيت كيف أثر اتصاله بالتنوخيين فِي فنه، فوثب به من طور إلى طور، فكيف به الآن وهو يرجو أنْ يتصل بمن لا يقاس إِلَيْهِ التنوخيون قوة وبأسًا، وثروةً وجاهًا، وقربًا من الملوك والخلفاء، ومهما يكن من شيء فقد غُلِب المتنبي على أمره: غلبه فنه، وغلبته سُنَّة هَذَا الفن، كان يظن ويرجو أن يكون رجلًا مستقلًا له رياسة وزعامة وسلطان، وكان يظن فِي أول أمره أن يصلح بثورته كثيرًا من شئون الحياة ونظم الاجتماع، ثم كان يظن بعد ذلك أن يتخذ الثورة وسيلة إلى الحكم والسلطان، إذا لم يستطع أن يتخذها وسيلة إلى الإصلاح.
ولكن التجربة علمته أنه لم يُخلقْ لهذا، وإنما خُلق ليسلك طريق الشعراء من قبله، فيمدح الطغام، ثم أوساط الناس، ثم أشرافهم، ثم من يدري! لعله يصل إلى القصر.
غلبه فنه وغلبته طبيعة الشاعر، وانهزم المتنبي المصلح، وانهزم المتنبي الطموح إلى الاستقلال، ولم يبق من كل تلك الآمال والمطامع إلا شاعر يلتمس الثروة والغنى، ويجدُّ فِي سبيل اللذة المعتدلة والهدوء، وقد يقوى طمعه، وقد تحدثه نفسه بالطموح إلى شيء من السلطان يومًا، ولكنه على كل حال لن يفكر فِي الاستقلال، ولن يتصور الحياة إلا فِي ظل رجل عظيم من هؤلاء الذين كان يذمهم ويشهر بهم، والذين سيذمهم ويشهر بهم أَيْضًا فيما سيستقبل من أيامه.
كان كبر نفس المتنبي فِي شبابه خداعًا وضلالًا، لم يلبث أنْ زال عنه حين تعرض للخطر الصحيح، وسيبقى من كبر المتنبي هذا، وسيبقى من رغبة المتنبي فِي الإصلاح وسخطه على الناس، وانتقاضه على المألوف من نظم الحياة، كلام كثير لا يخلو من قوة وروعة وجمال، ولكنه كلام لا أكثر ولا أقل.
ولست أدري أكان الأوراجي هَذَا قريبًا أم بعيدًا من بدر بن عمار، ولكن المتنبي أقام معه حينًا على كل حال، كما تدل على ذلك طرديته التي أشرنا إِلَيْهَا آنفًا، ثم اتصل من طريق الأوراجي هَذَا فيما أرى ببدر، فلا تسل عن فرحه ومرحه، ولا عن ابتهاجه وامتلاء نفسه بالغبطة والرضا، ولا تسل عن ارتفاع فنه وانحطاط نفسه، إذا لم يكن بُدٌّ من أنْ نقلده مرة فنصطنع الطباق.
(٢) عند بدر بن عمَّار
ومع ذلك فبدر هَذَا الذي يُقبل عليه المتنبي وقد امتلأ قلبه بالإقبال عليه بهجة وسرورًا يعجز عن إخفائهما فيما سترى من شعره، هُوَ الذي هجاه المتنبي نفسه قبل ذلك بثلاثة أعوام أو أربعة، حين وليَ على حلب، فأقبل إسحاق بن كيغلغ من قبل الإخشيد، فأزعجه عنها وردَّ إِلَيْهَا وإليها السابق، وذلك حين يقول المتنبي فِي الدالية التي استعطف بها ابن كيغلغ وسأله فيها أن يعفو عنه:
فقد كان بدر وأصحابه إذن غنمًا تشفق من زئير الأسود، وكانوا هرابًا تروعهم أصوات الرياح، فيسمعون فيها صهيل الجياد وخفق البنود.
فأما سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة حين دارت الدائرة على الإخشيديين فِي هَذَا القسم من بلاد الشام، وحين أتيحت لبدر ولاية طبرية، وأتيح للمتنبي أن يتصل به، فانظر كيف يستقبله المتنبي وكيف يتحدث عنه:
فالحياة كما ترى فِي ظل بدر من الروعة والجلال ومن البهجة والجمال، بحيث تخلط الأمر على الشاعر، فيخيل إِلَيْهِ مرة أنها حلم، ويخيل إِلَيْهِ مرة أخرى أنَّ الزمان قد تجدد، ويخيل إِلَيْهِ مرة ثالثة أنَّ الله قد سمع لأبي نُوَاس، فجمع الخلق كله فِي شخصٍ واحد، وهو يوضح هَذَا كله ويحمله بهذا البيت الثاني الذي يزعم فيه أن بدرًا تجلى له وللناس، فاكتسبوا منه ضوءهم وبهاءهم كأنهم النجوم قد لاقت سعودًا.
وتستطيع أن تقول: إنَّ هَذَا تلون الشعراء وتقلبهم، كما تتلون الحياة، وكما تتقلب صروف الأيام، وما أخالفك فِي ذلك، وما أنكر عليه منه شيئًا، وإنما ألاحظ أن صاحبنا شاعر قبل كل شيء، يغلبه فنه وطبيعته الشاعرة المشبهة لطبيعة الشعراء المعاصرين له على ما ظهر فِي صباه وشبابه من القوة والأيد، ومن شدة البأس وصعوبة المراس والطموح إلى جلائل الأعمال.
فالذين يرون هَذَا الاضطراب فِي حياة الشَّاعِر الفتى ويحسون انهزام المصلح الفيلسوف، وصاحب الحزم والعزم، أما الشَّاعِر الذي يكسب حياته بالمدح الكاذب والثناء الباطل، وينكر نفسه كلما اقتضت منه المنفعة العاجلة إنكارها، ثم ينظرون إِلَيْهِ على رغم ذلك كما ينظرون إلى المصلح الفيلسوف، وينتظرن منه على رغم ذلك ما ينتظرون من المصلح الفيلسوف، يكلفون أنفسهم عناءً لا يُغني، ويكلفون العلم شططًا لا يستطيع العلم له احتمالًا، لقد ملك الفرح بلقاء بدر على المتنبي أمره، كأنه المسافر قد أحرقه الظمأ، حَتَّى كاد يشرف على الهلاك، ثم رأى الماء فأقبل عليه مندفعًا، لا ينظر وراءه ولا يفكر فيما قد يتعرض له بعد أن يروي غلته، ويشفي صداه، وكذلك اندفع المتنبي فِي مدح بدر بهذه القصيدة الدالية التي أراها أولى مدائحه لهذا الأمير، والتي أعجل فيها الشَّاعِر عن المقدمة والتمهيد، فلم ينسب ولم يتغن وإنما هجم على المدح هجومًا فِي غير تحفظٍ ولا احتياط، وما أرى أنه قد جدد فِي فن المدح شيئًا، أو أحدث فيه ما لم يسبقه إِلَيْهِ الشعراء المادحون، ولكني أحس فِي هذه القصيدة قوة قوية مشتقة من أمل الشَّاعِر ونشاطه، ومن حدة نفسه وتهالكه على الراحة بعد التعب، وعلى الرضا بعد السخط، وعلى الغنى بعد الفقر، وعلى الأمن والهدوء بعد الخوف والإشفاق.
وهذه القوة تفيض على القصيدة رونقًا يُجري فِي أبياتها شيئًا من الإشراق المبتهج الذي يحببها إليك، ويجذبك إليها، وإن لم تجد فيها غناء، وهي تفيض على ألفاظ القصيدة جزالة لا تجحد، ورصانة ليس فيها شك، وما أرى إلا أن ما كان يملأ نفس الشَّاعِر من فرح وأمل ونشاط، هُوَ الذي دفعه إلى هَذَا البحر المتقارب الذي يلائم اضطراب النفس بالأمل القوي حين تضطرب بالأمل القوي، وغليان النفس بالحزن المضطرم حين تغلي بالحزن المضطرم.
واقرأ معي هذه الأبيات فسترى هَذَا كله واضحًا فيها أشد الوضوح:
فانظر إلى الشَّاعِر كيف يؤثر الإيجاز فِي أبياته ويفر من التفصيل فرارًا، يضمن كل بيت معنى مستقلًا، وقد يضمن البيت معنيين يستقل بكل واحد منهما شطر من الشطرين، كأنما الشَّاعِر عجلٌ يريد أن يغلب الأمير على التفكير والروية، فهو يرميه رميًا سريعًا جدًّا بهذه الأزهار المتلاحقة التي ليس بينها أناة ولا أمل، حَتَّى يبهر الأمير ويعجله عن أن ينظر فِي هذه الأزهار نظر الممتحن المتخير، أو كأنه يريد أن يدفنه فِي هذه الأزهار، فهو يلح عليه بها إلحاحًا حَتَّى يضطره إلى أن يقفه، وأن يقول له: حسبك فقد أرضيت وأربيت.
ولسنا نحن مُعجلين عن التفكير والروية، ولسنا نخاف من الشَّاعِر أن يدفننا فِي أزهاره هذه، فقد ذبلت هذه الأزهار بعد أن مضى عليها أكثر من عشرة قرون ونحن إذن ننظر فيها على نحو من الأناة والمهل، يكشف لنا عن نفس الشَّاعِر الذي صاغها ووهبها لهذا الأمير.
ونحن إذا نظرنا فِي هذه الأزهار، دلتنا على أنَّ الشَّاعِر كان يريد أن يبهر ممدوحه من جهة، وكان صادقًا فِي تصوير ما يملأ نفسه ويملكها من الفرح والمرح والسرور، فهو يصطنع المبالغة، ولكنه لا يتكلفها ليخدع بها الممدوح عن نفسه وماله، وإنما تصدر عنه فِي غير تكلف؛ لأنها تصور نفسه الراضية المبتهجة الآملة، كان يريد أن يسجد للأمير، ولكن الأمير كره أن يُعبد من دون الله، فأرضاه الشَّاعِر بترك السجود له، ولو أنَّ بدرًا طغى على نفسه وعلى الناس، وخرج عن طوره، ورضي من المتنبي وأشباهه أن يسجدوا له، لما تردد المتنبي فيما رأى، ولما كره أن يتقرب إِلَيْهِ بالسجود وأن يخرج له عن هذه الكبرياء التي صورته لنا فِي شبابه عزيزًا أبيًّا لا يقبل الضيم، وسنرى أنَّ حياة المتنبي منذ ذلك الوقت ليست إلا سلسلة متصلة من بذل هذه الكبرياء، للسادة والقادة والأمراء، ثم البكاء عليها بعد أن يبذلها ويفرط فيها، وسنرى أنَّ المتنبي لم يخرج لبدر وأشباهه عن كبريائه وحدها، بل خرج لهم كذلك عن أشياء كثيرة أخرى ليست أقل من الكبرياء خطرًا عند الرجل الكريم.
والمتنبي يرى أنَّ بدرًا هُوَ الأمير كل الأمير، لا يؤمر عليه إلا الندي، ويرى أنه الجواد كل الجواد، لا يبخل على الناس إلا بالبخل، ويرى أنه إذا مُدح كره المدح وضاق به، كأنه يحسد نفسه، ويرى أنه يُقدم على كل شيء إلا الفرار، ويقدر على كل شيء إلا على أن يزيد حظه من الفضيلة؛ لأنه قد بلغ أقصاها الذي لا مزيد عليه.
والشاعر يمضي على هَذَا النحو إلى آخر القصيدة: معان قوية تستمد قوتها من المبالغة والطباق، ومتلاحقة يدفع بعضها بعضًا، وتحملها إلى أُذُن الممدوح ألفاظ خفيفة سريعة كأن لها أجنحة تشق بها الهواء، وهي مع ذلك متينة رصينة لا تؤذي السمع ولا تنبو عن الطبع، فإذا بلغ المتنبي رضا ممدوحه، وأخذ من ماله حَتَّى اكتفى وأمن بعد خوفه، واستراح بعد جهد، وتغطى، كما يقول أبو نواس، من دهره بظل جناحه، ثابت إِلَيْهِ نفسه وعاد إِلَيْهِ رشده، وتقدم فِي مدحه هادئًا مطمئنًّا ومفكرًا مروئًا.
ويجب أن نعتدل ونقتصد حين نذكر تفكير المتنبي وترويته، فهو لا يفكر ولا يروي إلا فِي فنه، فأما فِي طبيعة الأشياء، وأما فيما يحسن وما لا يحسن، وأما فيما يقال وما لا يقال، فالمتنبي لا يعرف تروية ولا تفكيرًا، وإنما هُوَ إذا أقبل على بدر بالمدح بعد هذه القصيدة سلك طريقه المألوف، واصطنع الأناة والمهل، فقدم النسيب والغناء بين يدي المدح والثناء، ولم يندفع بمعانيه وألفاظه اندفاع السيل المنحدر من القمة العالية إلى القاع السحيق، وإنما سار بها سيرًا يختلف سرعة وبطئًا، ولكنه معتدل على كل حال، وهو غير مُعجل عن نسيبه حين ينسب، ولا عن تشبيهه حين يشبه، ولا عن وصفه حين يصف، وهذا لا يمنعه من المبالغة والإسراف، بل قد يدفعه إليهما دفعًا.
فانظر إلى هذه القصيدة التي مدح بها بدرًا، وقد أراد الطبيب أنْ يفصده فغلظ عليه وآذاه ذلك بعض الشيء، فسترى أنه قد عاد فيها إلى مذهبه ومذهب غيره من الشعراء، فقدَّم بين يدي المدح بهذا الغزل المصنوع الذي يظهر فيه جهد العقل والفن أكثر مما تظهر فيه حرارة العاطفة وقوة الشعور، ثم تغنى بعد ذلك بشيء يسير من أمره ومن خُلقه، وكأن صوابه قد ثاب إليه، وكأنه يسترد من نفسه بعض ما أعطى، فهو يتحدث بكثرة تنقله وبأنه إذا أنكر قومًا زال عنهم، وبأن أرض الله واسعة وفيها للكريم مضطرب، كما قال القدماء، ثم هُوَ بعد ذلك يمضي فِي مدح بدر، حَتَّى يصل إلى خطأ الطبيب، فانظر إِلَيْهِ كيف يصور هَذَا الخطأ فِي هَذَا التكلف الذي قد لا يخلو من سماحة تخفيها جزالة الألفاظ ورصانتها:
أما أنا فلا أرى فِي هَذَا الكلام جمالًا ولا حُسنًا، وإنما أرى فيه صنعة ثقيلة، وتكلفًا بغيضًا، وسماجة يخفيها الفن ويسبغ عليها زينة كاذبة، وحيلة باطلة، وليس يعدل ما فِي هَذَا الكلام من السماجة الخفية إلا هذه السماجة الظاهرة فِي بيت آخر من هذه القصيدة يسبق هذه الأبيات، وهو قوله:
وما أشك فِي أنَّ المتنبي كان معجبًا بهذا البيت، وما أشك فِي أنه أنشده مُقطِّعًا له، واقفًا عند كل جزء من أجزائه وقد ملأه التيه والغرور، وما أشك فِي أنَّ إعجاب «بدر» بهذا البيت لم يكن أقل من إعجاب المتنبي، وما أرتاب فِي أنَّ كثيرًا من الناس يعجبون به ويغلون فيه، كما فعل المادح والممدوح، ولكني لا أدري لماذا يخيل إليَّ أنَّ هَذَا البيت يصور أسمج ما كان فِي المتنبي حين كان ينشد بين يدي ممدوحيه من هذه الخيلاء التي لا تمثل إلا ذلة وضعة وضعفًا وسخفًا.
على أن أجود ما قال المتنبي فِي «بدر» عندي هي لاميته، التي يصف فيها ما كان بين بدر وبين الأسد من صراع ينتصر فيه بدر، فالمتنبي قد صور الأسد المصارع المدافع فِي هذه القصيدة، وصور هَذَا الصراع والدفاع تصويرًا رائعًا بارعًا، بذَّ فيه نفسه، وفاق فيه طاقته، وخرج فيه عن طوره المألوف.
وأكاد أعدُّ هذه القصيدة من آيات المتنبي، بل أنا أعدها من هذه الآيات، ولا سيما هَذَا القسم الوصفي منها، لولا أنَّ فيها سخفًا سخيفًا ورطته فيه المبالغة وردته إلى بعض ما كان يهذي به فِي شبابه مما ينحرف عن الدين فِي غير روية ولا تفكير ولا غناء فلسفي، فقد يُحتمل من الشَّاعِر أو المفكر أن ينحرف عما يألف الناس وعما يحبون ويؤثرون حين يدعوه إلى ذلك لون من ألوان الجمال، أو يغريه بذلك فن من فنون التفكير أو رأي من الآراء الفلسفية، فأما أن يتجاوز القصد وينحرف عن المألوف، لا لشيء إلا ليزيد فِي تملق ممدوحه، ويزيد بذلك حظه من الجائزة، فهذا هُوَ الصغار الذي لا ترضاه إلا النفس الصغيرة، وهذا السخف الذي دُفع إِلَيْهِ المتنبي فِي هذه القصيدة هُوَ قوله:
أفتراه طمع فِي أن يستهوي بدرًا إلى قرمطيته القديمة؟ من يدري! ولكننا نتجاوز له عن هَذَا السخف فِي سبيل هَذَا الوصف الرائع الذي لا بُدَّ من روايته؛ لأنه أجمل من أن يهمل:
فهذا كلام يكفي أن تنظر فيه نظرًا سريعًا لتحس ما فيه من جمال وروعة، وترى فيه فتوة وقوة، ما أرى إلا أن الشَّاعِر قد استعارهما من نفسه، وخلعهما على ممدوحه، لا لأني أجحد بلاء ابن عمار حين ردَّ الأسد عن نفسه بالسوط، بل لأني أحس روح الشَّاعِر يجري فِي هَذَا الكلام قويًّا فتيًّا مستجمعًا قوته وفتوته، كأحسن ما استجمعهما فِي شعره كله، وأنت تستطيع أن تقدر ما فِي هَذَا الكلام من جزالة تلائم ما فيه من سهولة ويسر، وأن تقدر ما وفق له الشَّاعِر أحسن توفيق من وصف الناس، والفرس، والليث، وما كان بين الخصمين من صراع، ثم من الجمع بين وصفه المادي، ووصفه المعنوي النفسي لليث، إن صح هَذَا التعبير ثم من حديث هَذَا الأسد الآخر الذي جعله ابن عمه الأسد القتيل، فقد سمع بما ألم بابن خاله، ففر وآثر العافية لنفسه.
وأنت معجب كذلك بهذه الأبيات التي ينثر الشَّاعِر فيها حكمًا وأمثالًا أثناء هَذَا الوصف الرائع، لا لأن هذه الحكم والأمثال طريفة فِي نفسها، فهي مما ألف الناس؛ بل لأن موقعها أثناء هَذَا الوصف لا يخلو من الطرافة، فالناس إنما يفلسفون ويضربون الأمثال حين يتحدثون عن بلاء الإنسان وما يحدث له من الخطوب، فإذا تحدثوا عن بلاء الحيوان وما يعرض له من الأمر، فقلما يفلسفون؛ لأن الحيوان نفسه لا يفلسف ولا يروي، ذلك إلى أنَّ مكان هذه الحِكَم والأمثال يُشيع فِي الوصف عناءً يخرجه عن أن يكون وصفًا عاديًّا، كما يخرجه عن أن يكون مدحًا عاديًّا.
ولسنا نعرف دقائق حياة المتنبي عند بدر، ولكننا نقدر أنَّ هَذَا الشعر الرائع قد أرضى بدرًا كل الرضا، وأثار فِي نفوس حاشيته شيئًا من الحسد، لم تلبث آثاره أن ظهرت واضحة كل الوضوح، وقد أشار إِلَيْهَا المتنبي نفسه فِي هذه اللامية الأخرى التي مدح بها بدرًا، والتي يقول فيها:
فهو ينسب فِي أول هذه القصيدة نسيبًا مصنوعًا كعهده منذ أقام عند بدر، ثم ينتقل من هَذَا النسيب إلى غناء يذكر فيه نفسه، ولا شك فِي أنه يعرض فيه بحاله الخاصة، ويكاد ينبئنا بأنه سيضطر إلى الرحيل عن بدر، وذلك حيث يقول:
وكأنه أشفق أنْ يُفهم عنه هَذَا التعريض على وجهه، وأنْ يُشعرَ بما يدبِّر فِي نفسه، فجعل هَذَا البيت الأخير تخلصًا إلى صاحبه، ورغم أنه يوجه هذه الريح إلى بدر، ثم يمضي فِي مدح بدر حَتَّى يصل إلى هذين البيتين اللذين سيتمثلهما فِي بغداد بعد أكثر من خمس وعشرين سنة، حين يلح عليه شعراء العراق بالهجاء، فيسأله أصحابه أن يرد عليهم، فيزعم أنه سبق إلى الرد عليهم فِي شبابه حين قال:
وقد أضاف ابن رائق السواحل إلى عمل بدر، فهنأه المتنبي بمقطوعة تجدها فِي الديوان، ولكن بدرًا حين سافر إلى السواحل ليتسلم ما أضيف إِلَيْهِ من الأقاليم، لم يصحبه المتنبي فِي سفره هذا، وانتهز خصومه هذه الفرصة فأغروا به الأمير وحرضوه عليه، وكأن إغراءهم وتحريضهم قد وقع من نفس بدر موقعًا، فنحن نرى المتنبي يمدحه بعد عودته ويعتذر إِلَيْهِ من هَذَا القعود، بل يستغفره هَذَا الذنب فِي قصيدة نونية ليست فِي نفسها شيئًا، ولعل روحًا من السماجة يجري فيها خفيًّا حينًا وظاهرًا حينًا آخر، ولكنَّا نروي منها هذه الأبيات التي يصرح فيها بذكر حساده وخصومه:
(٣) إزعاجه عن بدر
- الأول: أنَّ المتنبي كان مفتونًا بنفسه، يظهر ذلك فِي شعره وحديثه وسيرته، ويستعلي على أصحابه عند الأمير.
- الثاني: أنَّ المتنبي لم يألف قبل ذلك الوقت معاشرة السلطان ولا حياة القصور، وإنما ألم بشيء يسير جدًّا من ذلك مع التنوخيين فِي اللاذقية، ثم صرفته عنه المحنة، ثم عاش مشردًا يكسب حياته بمدح أوساط الناس وبالتنقل فِي البادية، فلما اتصل ببدر استقبل حياةً لم يكن قد هُيِّئ لها، فلم يحسن تعرف ما يحتاج إِلَيْهِ الأمير من شاعره، وليس أدل على ذلك من قعوده عن مصاحبة الأمير فِي سفره إلى الإقليم الذي أضيف إليه، والذي هنأه به المتنبي نفسه.
- والثالث: أنَّ الأمير قد أخلص فِي حب المتنبي وإيثاره بالخير واصطفائه لنفسه، حَتَّى ألغى الحجاب بينه وبينه، واستطاع المتنبي أن يدخل عليه وقد حجب نفسه عن الناس،١ ثم اشترك المتنبي معه فِي لهوه وعبثه ومجونه، ونحن نرى من الديوان أنَّ صاحبنا لم يكن نديمًا يحسن المنادمة، فهو كان يمتنع على الأمير إذا طلب إِلَيْهِ الشرب، ولا يستجيب له إلا كارهًا، وهو كان يظهر من ذم الخمر والانصراف عنها ما لا يُرضي فتى ماجنًا لاهيًا من فتيان العراق، وكان المتنبي يأتي ذلك فِي صراحة لا تعرف التحرج، ثم إذا ألح الأمير عليه فِي الشرب شرب حَتَّى سكر، وحتى ذهل عما يأتي وعما يقول.
وثبت لبدر ولابن كروَّس أنَّ المتنبي يرتجل حقًّا، وكان المتنبي خليقًا أن يكتفي بهذا، ولكنه سجل انتصاره تسجيلًا، وكذلك لم يكن المتنبي يحسن احتمال ما يلقي من الدعابة فضلًا عن الكيد، فكان ذلك يُحفظ خصومه، ويزيدهم مكرًا به وحنقًا عليه.
وقد أكره المتنبي على الشرب ليلة، فشرب حَتَّى سكر وذهل عن نفسه، فلما أصبح غدا على الأمير، فعرض عليه الشراب، فقال هذه الأبيات التي تصور غلظته وخشونة طبعه، وأنه إن صلح للمدح وللمدح الرائع، فهو أغلظ روحًا وأجفى طبعًا من أن يصلح لمنادمة الأمراء من أهل العراق:
تقصير فِي خدمة الأمير حين يجد الجد، وقصور عن خدمة الأمير فِي أوقات اللهو، وجهل بحياة القصور، وامتلاء بالنفس، وازدراء للأشباه والنظراء، ومن يدري! لعل لسان المتنبي لم يكن يستقر فِي فمه إذا خلا إلى من كان يظنهم أصدقاءه وأصفياءه، فإذا أضفت إلى هَذَا كله كيد رجال القصور، لم تجد غرابة فِي أن يفسد الأمير على المتنبي كل الفساد، وفي أن يتغير عليه قلب بدر، ويعجز هُوَ عن إصلاح أمره، وينظر فإذا هُوَ معرض للغضب ثم للخطر، وإذا هُوَ مخيَّر بين هَذَا الشر، وبين شر آخر كان يظن أنه قد استراح منه إلى آخر الدهر، وهو الفرار.
(٤) فِراره من بدر
وهذا هُوَ الذي يحملني على أن أخالف بعض الذين أرَّخوا المتنبي من المحدثين ولا سيما الأستاذ بلاشير، فأردُّ بعض القصائد التي قالها فِي مدح جماعة من الأنطاكيين إلى عهد ضعفه وفتوره ذاك قبل أن يلحق ببدر، وسنرى حين نتبع المتنبي فِي طريقه كلها، أن المحن قد تُضعف عزمه وتؤثر فِي نفسه، ولكنها لن تبلغ من فنه إلا مرة أو مرتين، وسنجد لذلك علله الصحيحة التي ليس بينها وبين المحن صلة، وإنما هي متصلة بنفس الشَّاعِر أو بالموضوع الذي سيعالجه على غير استعداد للقول فيه، فهذه القصيدة التي نحن بإزائها متقنة كل الإتقان، تصور الشَّاعِر محتفظًا بسلطانه الفني، وقدرته على تصريف الألفاظ والمعاني كما يريد.
والشيء الثاني الذي تدل عليه هذه القصيدة أن نفس الشَّاعِر قد أوذيت حقًّا بهذه المحنة الجديدة، وأوذيت فِي أعماقها، فالشاعر محزون، وربما كانت هذه الكلمة أضعف من أن تؤدي ما كان يجد الشَّاعِر من الألم بعد خيبة أمله فِي بدرٍ.
وإن شئت فقل: إنَّ الشَّاعِر فِي هَذَا الوقت كان يجمع فِي نفسه بين خصلتين متناقضتين، أو بين خصال متناقضة: فهو قد أحس الذل وانكسرت له نفسه، واحتمل ما لم يتعود أن يحتمل من الضيم، وهو يجد لذلك لذعًا أليمًا لا يكاد يطيقه، ثم هُوَ يحس كأن نفسه الأولى قد ثابت إليه، وكأن عزمه القديم قد راجعه، وكأن شيئًا يناجيه من أعماق شبابه الماضي، يدفعه إلى أن يثور آبيًا للضيْم نابيًا على الذين أرادوا أن يضيموه، وهو من أجل ذلك يحس كبر نفسه وعزتها وارتفاعها عن صغائر الأمور، وأنها أكرم عليه وأشرف عند الناس من أن تطمئن إلى ما أريد بها من الذلة والهوان.
ثم هُوَ بعد هَذَا كله لم ينس التجربة القديمة، ولم يغب عنه أثرها فيه وانهزامه لها، فهو فِي حاجة إلى كثير من الحذر والاحتياط، والمهل والأناة، لا يكاد يهم بالوعيد والنذير حَتَّى يثوب إلى رشده، ولدا هُوَ يحول هَذَا الوعيد والنذير عن وجهه، ويجعله أداة شعرية يتخلص بها إلى ممدوحه ليس غير، والشاعر فِي هذه القصيدة مشغول النفس بهذا الحزن الذي يملأ قلبه عن النسيب والغزل وتكلف الصنعة الفنية، فهو إذا أراد أن يمدح لم يقدم بين يدي المدح إلا هَذَا الغناء الذي يصور هذه الخصال التي حدثتك عنها آنفًا.
واقرأ معي هذه الأبيات التي يتغنى الشَّاعِر فيها بآلامه وخيبة آماله، فسترى أنَّ أول ما يتغنى به من ذلك، إنما هُوَ الذل الذي أحسه، والندم الذي يحرق قلبه؛ لأنه رضي هَذَا الذل وأقام عليه:
كأنه حين أراد أن ينشئ هذه القصيدة استوحى شيطان الشعر، فأحس أنَّ هَذَا الشيطان يريد أن يدفعه إلى الفخر، وأن يوحي إِلَيْهِ منه ألوانًا كما تعوَّد أن يفعل، ولكن الشَّاعِر لا يرى نفسه أهلًا للفخر ولا خليقًا به بعد أن ذاق من الذل ما ذاق، واحتمل من الضيم ما احتمل، فهو يمتنع على شيطانه ويأبى أن يتلقى عنه هَذَا الوحي الذي لا يلائم حاله، ولا يصور ما يجد فِي نفسه، إنما الفخر لمن يأبى الضيم ويمتنع على الذل منتصرًا على المحن والخطوب، قد ضحى فِي هذه المقاومة بالراحة والنوم، وآثر الجهاد والسهاد، وما فعلتُ من ذلك شيئًا وإنما انهزمت للمحنة حين ألمَّتْ بي، وآثرت الراحة حين أتيحت لي، وأنا أحس من نفسي عزمًا ماضيًا وهمًّا بعيدًا، ولكن ما هَذَا العزم الذي يقصر صاحبه عن إنفاذه، وما هَذَا الهم الذي يرتد عنه صاحبه لأول ما يعرض له من العقبات!
كلا! إني أحسُ فِي نفسي حاجة إلى شيء غير الفخر: أحس فِي نفسي ألمًا، وفي جسمي سقمًا، وأكاد أندفع إلى أن أشكو وأبكي، لا إلى أن أفاخر وأكاثر، لقد احتملت الأذى، ورأيت من كان يجنيه عليَّ ويُلحقه بي، فلم أدفع الأذى عن نفسي، ولم آخذ من جانبه بحقي، وإنما أذعنت واستكنت، وآثرت الخضوع والاستسلام.
والشاعر فِي هَذَا الكلام صادق اللهجة حقًّا، تُحس فِي شعره أنَّ فؤاده ينفطر ألمًا، وأن صدره يغلي غيظًا وحنقًا:
وكأن شيطانه قد جعل يعزيه ويسليه، ويهون عليه احتمال الخطب، فزعم له أنه لم يحتمل ما احتمل، ولم يرض ما رضي إلا ليبلغ ما كان يتوق إلى بلوغه من الثروة والأمن وخفض العيش، وكأن شيطانه جعل يذكره بأنه كثيرًا ما أنكر أن ينعم الجاهلون ويشقى العاقلون، ثم يتحدث إِلَيْهِ بأن النعمة قد أتيحت له، فسعى إِلَيْهَا واشتراها بثمنها، فهو يجيبه بهذا البيت:
فإذا عجز شيطانه عن إقناعه من هَذِهِ الطريق، سلك إلى إقناعه طريقًا أخرى، فزين له أنه لم يرض ذلًا ولم يقبل ضيمًا، وإنما صبر وغفر وآثر العفو والحلم، ولكن هَذَا الباطل لا يخدع الشَّاعِر نفسه، ولا يشغله عما يملأ قلبه من ندم ولوعة، فهو يعلم حق العلم أنه لم يؤثر عفوًا ولا حلمًا، وإنَّما كان عاجزًا عن أن ينتقم لنفسه، ولن يكون الرضا حلمًا حَتَّى تصحبه القدرة على الجهل، ولن يكون الإغضاء عفوًا حَتَّى تصحبه القدرة على البطش:
كلا! إنَّ النفس لم تصغر علي إلى هَذَا الحدِّ، وإني لم أيأس منها بعد، وإنما أنا أجد بقية من الأمل وفضلًا من الرجاء، لست أحس الألم لما أدركني من مساءة، لو كانت نفسي هينة لسهل عليها احتمال الهُون، كما أنَّ الميت لا يؤذيه ما يلحق جسمه من جراح.
ثم يثب الشَّاعِر من هَذَا الضعف والانحلال، ومن هَذَا اللوم الذي كان يغمر نفسه به، إلى شيء جديد من الأمل والنشاط، بل إلى أكثر من الأمل والنشاط، فقد فُتح له باب الرجاء، واستيقن أنه ما دام لم يرض الذل ولم يحتمله راضيًا به غير متألم له، فهو خليق أنْ يعرف نفسه، وأنْ يسلك طريقه إلى المجد، فقد يكبو الجواد ولكنه ينهض من كبوته، وصاحبنا لا ينهض، وإنما يثب وثوبًا، وإذا هُوَ يسترد كبرياءه كلها، وإذا هُوَ يطاول الزمان ويغالب الدهر، وإذا هُوَ ينتهي من ذلك إلى سخفه الماضي وضلاله القديم:
وما دام قد استرد كبرياءه كلها، وبدت له نفسه كما يراها، فهو أعظم وأكرم وأشد بأسًا، وأمضى عزمًا، من أن يقر على ما أريد عليه من الهوان، وإذا هُوَ يندفع إلى الوعيد كعهده قبل أن يجاوز العشرين:
ولكن بقية من عقل له أو لشيطانه ترده إلى الصواب، وتحمله على الحذر والاحتياط، وإذا هُوَ يعدل بهذا الوعيد المخيف إلى المدح فيقول:
وكأنه قد أحسَّ أن بدرًا يجدُّ فِي طلبه مغيظًا من هَذَا الهرب، أو مغيظًا من هذه القصيدة التي انتهت إليه.
ومن يدري! لعل بدرًا لم يطلبه ولم يحفل به، وإنما لعب الخوف بنفسه فظن أنه مطارد مطلوب، فلم يُطل المقام عند صاحبه، ولم ينعم عنده بأمنٍ ولا راحة، وإنما أعجل حَتَّى عن وداعه واستئذانه فِي الرحيل عنه، ففر وقال معتذرًا:
ومهما يكن من شيء فقد دفع أبو الطيب إلى تلك الحياة البغيضة التي اصطلى آلامها ثلاثة أعوام أو أربعة قبل أن يتصل ببدر، فهو الآن مشرد، ينتقل فِي البادية خائفًا من السلطان، لا يستطيع أن يدنو من أرض الإخشيديين وقد كان بينه وبينهم ما انتهى به إلى سجن حمص، وقد كان منذ أسابيع يمدح عدوهم بدر بن عمار، ولا يستطيع أن يدنو من أرض ابن رائق فِي الشام وأعالي الفرات وهو طريد بدر، وبدر كما رأيت أثير عند ابن رائق مقرَّب إليه، فليس له إذن أن يهيم فِي البادية مخفيًا نفسه على البدو، وأنْ يستتر فِي الحاضرة إنْ ألم بها منكرًا نفسه على الحضر، قد لفظته الأرض، وضاقت به الدنيا، وهو يصور لنا هَذَا أجمل تصوير وأروعه، كما يصور لنا سخطه على الذين جنوا عليه هذه المحنة الثانية، وذلك فِي رائيته التي يقول فيها:
فأنت ترى فِي هذه القصيدة اعترافه بالخيبة، واستسلامه للمحنة، وضيق نفسه بما يلقى من الشر، ويأسه من تحقيق الأمل، ولكنه مع ذلك حفيظ على كرامته، حريص على عزته، لا يريد أن ينزل عن شرفه مهما يكن من أحداث، ثم هُوَ يعدل إلى خصمه ابن كروَّس فيهجوه بهذه الأبيات اللاذعة:
(٥) عودته إلى الاضطراب
فماذا صنع المتنبي أثناء هَذَا الهرب؟ ولم يلبث مستخفيًا؟
لم يصنع شيئًا ذا خطر فيما يظهر، وإنما كان يلتمس النجاة، فإذا ظفر بها التمس الأمن، وكان فِي أثناء ذلك كثير الرجوع إلى نفسه، ممعنَ التفكير فيما امتلأت حياته به من البؤس والشدة والشقاء.
وما أكاد أشك فِي أنَّ هذه المحنة الثانية قد أثارت فِي نفسه ندمًا شديدًا على ما أظهر من ضعفٍ وخور، ولعلها أحيت فِي نفسه حنينًا إلى الشباب، وإلى ما كان فِي الشباب من هذه النزعات القرمطية التي إنْ جرَّت عليه محنًا وجشمته أهوالًا، فقد كانت تشعره بالعزة والأنفة، وتجعل لحياته وآلامه غاية سامية وغرضًا شريفًا.
ومن يدري! لعل هَذَا كله قد رده أو كاد يرده إلى قرمطيته الأولى، ومهما يكن من شيء فأنا أرجح أنه فِي أثناء هَذَا الاضطراب فكر فِي وطنه الأول غير مرة، وعرض له خيال جدته تلك التي طال بُعده عنها وفراقه لها، وما أرى إلا أن هيامه فِي الأرض واضطرابه فِي البوادي قد دفعاه إلى العراق، وأنه همّ أن يدخل الكوفة للقاء جدته فلم يستطع، لتلك الأسباب الغامضة التي ساءلنا عنها فِي بدء هَذَا الحديث فانحدر إلى بغداد فيما تقول القصة، أو لم ينحدر إِلَيْهَا فِي أغلب الظن، ولكنه كتب إلى جدته على كل حال؛ لأنه هُوَ ينبئها بذلك فِي قصيدته.
كتب إِلَيْهَا ينبئها بمقدمة أو بعجزه عن دخول الكوفة، ويستقدمها للقائه، فلما انتهى كتابه إلى هذه الشيخة البائسة فرحت به، فقتلها الفرح، أو فرحت به فأخذت تقبله وتلح فِي تقبيله باكية، ودموعها تنهمل على الكتاب فتذيب المداد، ولعل المداد هُوَ الذي قتلها.
ومهما يكن من شيء فقد انتهى إلى المتنبي موت جدته، فرثاها بهذه القصيدة التي روينا لك طرفًا منها فيما مضى، والتي تصورت كما رأيت، وكما تستطيع أن ترى من إعادة النظر فيها، قرمطيًّا غاليًا فِي قرمطيَّته، كأنه قد عاد إليها، وكاد يتورط فيها لولا أنْ هتفت به تجربته الأولى، فأعادت إِلَيْهِ الحذر والاحتياط، وأنا أستغفر عشاق المتنبي والمؤمنين بشجاعته وإقامته إنْ قلت: إنَّ المتنبي لم يصور أحدًا كما صور نفسه فِي هَذَا البيت المشهور:
على أنَّ الزمان الذي أسرف المتنبي فِي ذمه قد أشفق على أبي الطيب من محنته هذه الثانية، وكره له أنْ يتورط فِي اليأس فيندفع إلى مثل ما اندفع له فِي محنته الأولى، فلم يكد يمضي فِي هربه عامًا أو بعض عام، حَتَّى تغير وجه السياسة فِي بلاد الشام، وفُتح للهارب المستخفي باب من أبواب الفرج، فهذا ابن رائق فِي أواسط سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، قد ترك الشام وعاد إلى بغداد، وتركها معه بدر بن عمار، ورُفع الحرج الثقيل عن المتنبي، وأصبح يستطيع أن يتنفس فِي شيء من الحرية والأمن، فإلى أين ذهب؟ وماذا صنع؟ سؤال لا نظفر له بجواب واضح فيما بين أيدينا من شعر المتنبي، ولا فيما تحدث به الرواة.
على أنَّ سنة ثلاثين وثلاثمائة لا تكاد تتقدم حَتَّى يُقتل ابن رائق، يقتله ناصر الدولة أخو صديقه ومولاه بعد حين، سيف الدين الحمداني، هناك ينهض الإخشيد لاسترجاع الشام، وهناك يظهر المتنبي فِي غير إسراف فِي التحفظ، وأكبر الظن أنه لم يظهر ولم يدخل مدن الشام جهرة، ولم ينشر فيها شعره مستظلَّا بظل الإخشيديين إلا بعد أنْ سعى فِي ذلك فأطال السعي، وجدّ فِي ذلك فأمعن فِي الجدِّ، ونحن نراه يتقرب بشعره إلى عمال الدولة الإخشيدية وأصحاب المناصب المدنية والعسكرية فيها، وما أظن إلا أنه قد قال فِي هذه المدة شعرًا كثيرًا مختلفًا، تقرب به إلى أشخاص كثيرين مختلفين أيضًا، ولكنه ألغاه فيما بعدُ إلغاءً، مبتغيًا مرضاة سيف الدولة كما يظن بلاشير، أو مستخذيًا من كثرة ما فيه من الاستعطاف الذي لم يكن يلائم مجده حين كان يملي شعره فِي حلب، أو فِي الفسطاط، أو فِي بغداد، على أنَّ ديوانه يحفظ لنا شيئًا من هذا الشعر الذي تقرب به إلى عمال الإخشيديين ونحن نذكر من هَذَا الشعر قصائد خمسًا، هي على كل حال من جيد شعره وأرقاه، الأولى: رائيته المشهورة التي يمدح بها علي بن أحمد بن عامر الأنطاكي، ولعله كان عاملًا للإخشيديين على أنطاكية، والتي مطلعها:
وهي كما ترى بريئة من النسيب، فإذا مضيت فِي قراءتها رأيت الفخر الجزل الذي يصور غرورًا وفنونًا أكثر مما يصور شجاعة وحزمًا، ولكني أقف من هذه القصيدة عند هذين البيتين اللذين يصل فيهما المتنبي إلى موسيقى تعجبني، ولعلها تعجبك، وهما قوله:
وأقف كذلك عند هَذَا البيت الذي أرى فيه تعريضًا بالمستأثرين بالأمر فِي العراق:
وهؤلاء السلاطين هم أهل الجور الذين أنذرهم فِي بيت مضى من هذه القصيدة، وهو قوله:
أما القصيدة الثانية فبائيته التي يمدح بها علي بن محمد بن سيار بن مكرم التميمي، والتي أولها:
- أحدهما وهو القسم الأول: يصف الحرب وقتل الأعداء وصفًا رائعًا، وما أرى إلا أنه يشير إلى انتصار الإخشيديين على أصحاب ابن رائق وطردهم عن بلاد الشام.
- والقسم الثاني: من المقدمة غناء حزين يذكر فيه المتنبي سوء حاله النفسية وضيقه بالحساد وبغضه للحياة؛ لأنهم يشاركونه فيها، وهو فِي هَذَا الغناء يصف الليل ونجومه أجمل وصف وأروعه وأرقاه.
والقصيدة الثالثة داليته التي مدح بها هَذَا الرجل نفسه، والتي مطلعها:
وما أرى إلا أنه قد احتذى بهذه القصيدة دالية الحطيئة:
فأحسنَ الاحتذاءَ والتقليدَ، والشاعر فِي هذه القصيدة كعهده فِي أيام الراحة والأمن، معجب بنفسه كل الإعجاب، ساخط على الناس كل السخط، واقرأ هذه الأبيات التي تصور سخطه على الناس بل غلوه فِي هَذَا السخط، والتي هي من أجمل شعر المتنبي لألوان التشاؤم التي ستنبثُّ فيما سيقول من الشعر إلى أن يموت:
أما القصيدة الرابعة فالزائية التي مدح بها أبا بكر علي بن صالح الروذباريَّ، ولعله كان عامل الإخشيد على دمشق، ومطلعها:
ولم يرو صاحب الصبح من القصيدة إلا هذه الأبيات، أما أنا فأرجح أنَّ المتنبي لم يلقَ الإخشيد، ولم يطمع فِي لقائه، فقد كان همه فِي ذلك العصر أيسر من هَذَا وأهون، ولو قد لقي الإخشيد لما قصر فِي ذكر ذلك والافتخار به، والموازنة بين الإخشيد وبين مولاه كافور، ولا سيما حين غضب على كافور، وأنا أرى أنَّ هذه القصيدة الزائية قد قيلت فِي وقت متأخر شيئًا، كما سترى.
وإذًا فقد جعل المتنبي يتقرب شيئًا فشيئًا إلى عمال الإخشيديين فِي شمال الشام، وهؤلاء يقبلون مدحه ويجيزونه ويقربونه إلى أمثالهم فِي الجنوب، حَتَّى انتهى إلى عامل دمشق ثم إلى الحسين بن علي هذا، ولعله كان فِي طبرية أو قريبًا منها حيث كان أبوه، وانتهى آخر الأمر إلى أمير من أمراء الإخشيديين كان يقيم فِي الرملة عاملًا عليها ومتوليًا فِي أكبر الظن لفلسطين، فألقى عصاه واستقرت به النوى عند هَذَا الشاب، وهو قريب من مصر، ولكنه بعيد عنها: قريب من مصر يمدح عمالها وبعض أمرائها، ولكنه بعيد عنها لم يمدح صاحبها أنوجور، ولا وصيها كافور، وقد انتهى المتنبي إلى الرملة، وظفر بحماية هَذَا الأمير الشاب وهو فِي الثانية والثلاثين من عمره.
وقد لقي أهوالًا وهمومًا ثقالًا، وآن له أنْ يستريح.
(٦) عند ابن طُغْج
على أنه لم يسترح وقتًا طويلًا؛ فقد انتهى إلى أبي محمد الحسن بن عبيد الله بن طغج فِي الرملة فِي أوائل سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة فِي أكبر الظن، ورحل عنه فِي هذه السنة نفسها بعد أن أقام عنده أشهرًا، وما أرتاب فِي أن نفسه منَّته أن يتجاوز الرملة إلى مصر، ثم إلى الفسطاط، وأن يتصل هنالك بالملك أو بالوصي، وما أرتاب فِي أنه كان خليقًا أن يحاول ذلك وينفذه، لولا أنَّ الأمور السياسية قد جرت على ما حبب إِلَيْهِ الانصراف عن مصر والرجوع إلى شمال الشام.
فلننظر قبل كل شيء هذه الميمية التي مدح بها الأمير الإخشيدي الشاب، فهي من جياد قصائده، وهي فِي الوقت نفسه تصور لنا تردده بين مصر والشام تصويرًا إن يكن بعيدًا فإنه مع ذلك واضحٌ جليٌّ.
والقصيدة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: نسيب مصنوع متكلف، كأكثر ما رأينا وما سنرى من نسيب المتنبي، والتكلف ظاهر لا فِي معناه وحده بل فِي معناه ولفظه أيضًا، ويكفي أنْ تقرأ المطلع لتحس التكلف اللفظي والمعنوي:
فانظر إلى هذه الألف التي أثبتها فِي الضمير أول البيت ليقيم الوزن، وانظر إلى هَذَا الحذف الذي اصطنعه بين المضاف والمضاف إِلَيْهِ فِي آخر الشطر الأول ليقيم الوزن أيضًا، فقد كان حقه أن يقول:
والشاعر يذهب مذهب أبي تمام فِي هذه الملاءمة اللفظية بين «لائم» و«اللوائم»، وبين «علمت» و«المعالم»، ولكنه يعجز عن أنْ يبلغ ما كان يبلغه أبو تمام من العذوبة اللفظية التي تحبب إلى السامع والقارئ هَذَا الفن البديع، وأنت واجد هَذَا التكلف الظاهر فيما يلي المطلع من الأبيات، بل أنت واجد فيها ذوقًا غليظًا يصنع الحب والغرام صنعًا، ويريد أنْ يُكره أذواق الناس على قبول ما يصنع، ولكن قف عند هذين البيتين اللذين وجدا من يعجب بهما إعجابًا شديدًا:
فما رأيك فِي هذه الأجسام التي رقت أبشارها، وأسرفت فِي الرقة حَتَّى إن الوشي لينقش فيها حين تتثنى أو تميس؟ وما رأيك فِي هذه التراقي التي كأنها حُليت بالثغور لا لشيء إلا لأن بين الأسنان التي تبسم عنها الثغور وبين الحلي الذي تحمله الصدور شبهًا في الرونق والصفاء؟ أما أنا فلا أرى فِي هَذَا التشبيه إلا إغرابًا ينتهي إلى السماجة.
أما القسم الثاني من القصيدة: فهو غناء أدنى إلى الفخر، وقد ألف المتنبي هَذَا النوع من الغناء والفخر، حَتَّى أصبح من الحق عليك أن تألفه، وألا ترى فِي ذكر المتنبي للحرب والبأس إلا وسيلة شعرية رأى المتنبي أنها تعجب الناس وتلائم حياة أهل الشام — كما تلائم ميله وطبيعته — فأسرف فيها إسرافًا شديدًا، ولكن قف عند هذه الأبيات:
فأنت واجد فيها طبيعة المتنبي كلها التي سيصورها شعره إلى آخر ديوانه: جوع وأحاديث — كما يقول المثل — وفلسفة فِي الهواء ليس وراءها طائل ولا غناء.
ويمضي الشَّاعِر حَتَّى يبلغ صاحبه، فيمدحه مدحًا لا بأس به، ليس خيرًا ولا شرًّا مما ألفناه من مدحه للذين مدحهم، غير بدر بن عمار، حَتَّى يصل إلى وصف الجيش فيحسن إحسانًا ظاهرًا فن المتقدمين، وما أرى إلا أنَّ تأثير بَشار فيه ظاهر جدًّا، وذلك قوله:
ثم اقرأ هذه الأبيات الثلاثة:
فإن لها خطرها، فالمتنبي يشير فيها إلى ما كان من محاولة سيف الدولة أن يغير على جنوب الشام منتهزًا موت الإخشيد، لينقض ما كان قد تم بينهما من الصلح، وما كان من نهوض كافور لرده عن ملك الإخشيديين، وإلزامه الحدود التي تم عليها الصلح مع الإخشيد، وما أتردد فِي أنَّ المتنبي كان ينتظر عاقبة هذه الحرب بين كافور وسيف الدولة، ليمضي إلى مصر، أو ليرجع إلى شمال الشام، ولعله كان يقدر أنَّ كافورًا لن يكتفي بإكراه سيف الدولة على رعاية الصلح، بل سينتهز الفرصة ليسترد شمال الشام، ويمحق الحمداني محقًا، ولو قد فعل لما أبطأ المتنبي عن اللحاق ومحاولة الانقطاع إليه، ولكن كافورًا لم يزد على أنْ حمى المعاهدة، واضطر سيف الدولة إلى رعايتها، واحتفظ بالحدود التي أقرها الإخشيد.
وإذن فقد استقرت فِي شمال الشام دولة عربية يظهر أنها قوية شديدة البأس، مستقرها حلب لن يستطيع أولو الأمر فِي بغداد أنْ يصلوا إِلَيْهَا لمكان ناصر الدولة فِي الموصل، فالمتنبي متردد الآن بين الفسطاط حيث كافور الأسود وأنوجور التركي، وبين حلب حيث الملك العربي الفتى، وحيث البيئة العربية الخالصة، وقد أنفق المتنبي وقته عند هَذَا الأمير الإخشيدي الشاب فِي الرملة، منتظرًا ومتفكرًا، وكأنه قد انتفع بما لقي عند بدر بن عمار من المحنة، وتعلم شيئًا من حياة القصور ومعاشرة الأمراء، فهو ينادم الأمير الشاب منادمة الشَّاعِر الفطن اللبق، الذي يعرف هوى سيده فيسبق إليه، والذي يحسن التملق ويسرف في المدح، وينزل عند رغبة مولاه، يقول الشعر حين تدعو الحاجة إلى قوله، وحين لا تدعو إِلَيْهِ حاجة، يكره الخمر ولكنه يشربها إذا قال له سيده: بحقي لتشربن هَذَا الكأس، ثم لا يتحرج أن يقول هَذَا الشعر الذي قد يرضي الأمير الشاب، ولكنه يُغضب الله ويغضُّ من المروءة:
ثم يأخذ الكأس ويقول:
ولم يقصر المتنبي فِي خدمة سيده الجديد، فهو يغدو عليه مع الصبح، ويروح إِلَيْهِ مع المساء، ينادمه إذا استقر، ويصحبه إذا انتقل إلى مكان قريب أو بعيد، ويحدثه ويحدث أصحابه بما يسليهم ويرضيهم، وبما يفزعهم ويزعجهم أحيانًا، كالذي كان حين حدثهم عما رأى من إغارة القرامطة على الكوفة فِي صباه، فجزع الناس لهول ما سمعوا، فقال المتنبي هذه الأبيات التي تدل على أنه لم يصدف عن القرمطية إلا كارهًا:
وكأن المتنبي قد اكتفي بهذه المنادمة، وما كان يرتجل فيها من هَذَا المدح القصير، ولكن الأمير كان يريد قصائد طوالا كالميمية، فعاتب المتنبي فِي إعراضه عن مدحه، ولم ينشط المتنبي لهذا المدح، فاعتذر إِلَيْهِ بهذه الأبيات:
وكان قريبًا من هَذَا الأمير الشاب رجل من أشراف العلويين يعرف بأبي القاسم طاهر بن الحسين بن طاهر العلوي، وكان أثيرًا عند الأمير، وكان يرغب فِي أن يمدحه المتنبي ولا يبلغ من ذلك ما يريد، فتوسط له الأمير عند الشاعر، وقبل الشَّاعِر بعد امتناع، وهي فيما نرى أول مرة يحس المتنبي فيها أنه قد عظم فِي أعين الناس وفي أنفسهم، وقد مدح هَذَا العلوي بالبائية التي مطلعها:
والتي لا أقف منها إلا عند قوله:
وهؤلاء الأدعياء هم الذين عرَّض بهم فِي ميميته التي حللناها آنفًا حيث يقول:
وكأن هَذَا العلوي وأصحابه كانوا فِي طبرية، وكأنهم شيعة للفاطميين يُخفون بغضهم للإخشيد، وكأنهم كرهوا من المتنبي قرمطيته القديمة وقصده إلى الإخشيدي فِي ذلك الوقت، فأرادوا أن يصدوه عن الرملة، وأرصدوا له السودان ليردوه أو ليقتلوه.
وأقف كذلك من هذه البائية عند هَذَا الشعر الذي يصور استهانة المتنبي بالدين، وتلونه فِي الرأي، وذلك قوله:
وواضح أن أبهر آيات النبي إنما هُوَ القرآن لا أُبُوَّته للعلويين، ولا تقف عند تمحل الشراح لهذا البيت، فإنه اعتذار لا غناء فيه، ثم يقول:
وفي هَذَا الكلام تعريض ظاهر بالفاطميين، ثم يقول:
وقد عاد المتنبي هنا شيعة علويًّا كما كان فِي بغداد حين مدح فِي صباه محمد بن عبيد الله العلوي بداليته التي وصفناها فِي أول هَذَا الحديث.
فالمذهب السياسية والدينية عند المتنبي وسيلة لا غاية كما ترى، وفي أثناء هَذَا الوقت كله استقر الأمر بين كافور وسيف الدولة على الصلح الذي أمضاه الإخشيد قبل أن يموت، واستقر رأي المتنبي على أن يعود إلى البيئة العربية فِي شمال الشام، بعد أن كان يبغض هذه البيئة أشد البغض، ولا يعود إِلَيْهَا ولا يقيم فيها إلا كارهًا، وقد استأذن أميره الشاب فِي الرحيل فأذن له، وانصرف المتنبي مودعًا إياه بقصيدة لم يحفظ الديوان منها إلا هذه الأبيات:
(٧) عَوْدٌ إلى شمال الشام
مضى المتنبي من الرملة حَتَّى انتهى إلى طرابلس فِي طريقه إلى شمال الشام، وما كان يقدر أنه سيلقى فِي هذه المدينة ما يُؤخر سفره إلى حيث يريد، وما كان يقدر بنوع خاص طبيعة هَذَا العائق الذي سيمسكه فِي طرابلس حينًا، وهو الآن فِي الثانية أو الثالثة والثلاثين من عمره، واختلفت عليه أحداث وخطوب منذ خرج من السجن لم ينتصر عليها وإنما انتصرت عليه، ولكني حدثتك، وما أنت فِي حاجة إلى هَذَا الحديث، بأن الذي انهزم فِي المتنبي ليست طبيعته الخالصة، وإنما هي طبيعة تكلفها الشَّاعِر وخدعه عنها لفظه وغروره، فأما طبيعته الخاصة وهي طبيعة الشَّاعِر المتهيئ للنبوغ، فقد انتصرت من غير شك، وكان ما حدث له فِي طرابلس دليلًا واضحًا على أنَّ انتصارها كان عظيمًا وفوزها كان مبينًا حقًّا، وأنت تذكر أنه حين خرج من السجن مدح إسحاق بن كيغلغ والي حمص للإخشيد ومُخرجهُ من السجن بقصيدته الرائية التي يقول فيها:
ولم يستطع أن ينشدها إياها فيما يقول الديوان؛ لأن الأمير كره ذلك، وتقدم إِلَيْهِ فِي أن يبرح الأرض كما رجحنا، فقد كان إسحاق بن كيغلغ هَذَا ما يزال على ولايته حين مر المتنبي بطرابلس، كان قد انتقل إِلَيْهَا من حمص ليبعد مستقره بعض البعد عن الحدود بين الإخشيديين والحمدانيين، فلما انتهى المتنبي إلى طرابلس وعرف مكانه، رغب فِي أن يمدحه كما مدح غيره من عمال الإخشيديين وقوادهم وأمراءهم، ونظر المتنبي فإذا هَذَا الأمير الذي كان يرغب عن شعره منذ اثنتي عشرة سنة يرغب فِي شعره الآن، فلا تسل عن كبرياء الشاعر، وما امتلأت نفسه به من الزهو والغرور وإذا هُوَ يمتنع على الأمير ويأبى أن يجيبه إلى المدح الذي رغب فيه، ويحتال الأمير فِي ذلك فلا يوفق، وتشق عليه هذه الإهانة، فيمسك الشَّاعِر فِي طرابلس لا يلقيه فِي السجن ولا يخلي بينه وبين السفر، وإنما يمسكه سجينًا كالطليق، وطليقًا كالسجين، ولسنا ندري كم أقام المتنبي على هذه الحال فِي طرابلس، ولكن الظاهر أنه تغفل العيون التي أرصدت له، ففرَّ من المدينة لا يقصد إلى الشمال مخافة أن يُطلب فيُؤخذ، بل يقصد إلى الجنوب مشرقًا، وهو آمن أنْ يُطلب من هذه الناحية، وإذا هُوَ فِي دمشق بعد حين. ويخيل إليَّ أنه كان يريد الأمن والعافية أثناء إقامته فِي دمشق، حَتَّى تتاح له الفرصة فيستأنف رحلته إلى الشمال، وأنه من أجل هَذَا استجار بعلي بن صالح الروذباري والي دمشق، ومدحه بالزائية التي ذكرناها آنفًا وهذه الزائية خليقة أنْ نقف عندها حينًا؛ لأنها تستحق شيئًا ولو قليلًا من التأمل والتفكير، وحسبي أنْ ألفتك من أمرها إلى ثلاثة أشياء:
الأول والثاني منهما مشتركان بينها وبين أمثالها من هذه القصائد التي اختار لها المتنبي هذه القوافي الصعبة النادرة، كذاليته فِي مدح مساور بن محمد الرومي، وقد مرت بك، وكشينيته فِي مدح أبي العشائر وستراها بعد حين.
والثالث مقصور عليها، ولكن له خطره فِي تصوير التزام المتنبي لرأيه حين يأمر ويستغني، وتضحيته بهذا الرأي حين يخاف أو يطمع أو يحتاج، فأما الأمر الأول من هذه الأمور الثلاثة، فهو أنَّ صعوبة القافية وامتناعها يكلفان الشَّاعِر شططًا، ويضطرانه إلى أنْ يصطنع ألفاظًا ليست من لغة الشعر في شيء، وإنما هي إلى العامية المبتذلة أدنى منها إلى لغة الشعراء، ولكن ندرة القافية تضطر الشَّاعِر إلى اصطناعها فيتورط فِي ذلك لا مستخذيًا منه ولا مستشعرًا خجلًا أو حياءً.
وانظر إلى هَذَا البيت:
وإلى قافيته المبتذلة، وانظر كذلك إلى هَذَا البيت:
فهل تعرف أسمج من هذه القافية وأصفق من هَذَا الطباق؟ وانظر أَيْضًا هَذَا البيت:
فلولا القافية وتحكمها فِي الشَّاعِر وامتناعها عليه ما احتاج هَذَا البيت إلى سكر الأهواز.
والأمر الثاني: أنَّ احتياج الشَّاعِر إلى القوافي يستعبده للقافية، ويُكرهه على أنْ يستعبد الشعر ومعانيه للقافية أيضًا، فهو يجمع الألفاظ التي تصلح قافية زائية أو ذالية أو شينية، فإذا اجتمع له منها ما أراد، نظم قصيدته على الزاي أو على الذال أو على الشين، وقد يُضطر إلى معنى من المعاني، لا لشيء إلا ليضع فِي آخر البيت كلمة من الكلمات تصلح قافية، وانظر إلى هَذَا البيت:
فلولا أنه محتاج إلى أنْ يقيم بيته على الحجاز لما ذكر نجدا، ولما نظم البيت كله، وانظر كذلك إلى هَذَا البيت:
فقد جعل ممدوحه ملكًا وبزازًا، لا لشيء إلا أنه لا يريد أن تفلت منه هذه الكلمة المبتذلة، وانظر أَيْضًا إلى هَذَا البيت:
فالمعنى فِي هَذَا البيت كله يتبع العكاز ولا يستدعيه، ولست أدري أين قرأت أنَّ فكتور هوجو كان يجمع القوافي ويهيئها قبل أنْ ينظم شعره، ولكن الشيء الذي لا شك فيه أنَّ ذوق فكتور هوجو كان يأبى عليه أنْ يذل للقافية حَتَّى يتورط فِي الابتذال، وما أظن إلا أنَّ الشعراء جميعًا يستعرضون ما قد يتهيَّأ لهم من القوافي، ليختاروا منها لا ليُحكِّموها فِي أنفسهم وفي أذواق الناس.
ولعلي قصصت فِي غير هَذَا الكتاب ما رأيته من المرحوم زكي باشا حين كان يضع مقدمته لكتاب التاج، وكان يريد السجع، فانتهى إلى كلمة «المذكور» أو «المشهور» لا أدري، ولم يجد لها مقابلًا فالتمسه وأطال التماسه، فلما أعياه ذلك قرأ باب الراء كله من القاموس المحيط.
أما الأمر الثالث، فأشد من هذين الأمرين خطرًا، فقد مدح المتنبي قبل هَذَا الرجل جماعة من غير العرب، ولكنه كان يتجنب التعرض لمدح أجناسهم الأجنبية ويكتفي بمدح أشخاصهم، فإن تجاوز أشخاصهم، لم يعدُ ما لآبائهم من سابقة فِي الإسلام وفي ظل الدولة العربية، أما فِي هذه القصيدة فالمتنبي الذي اتخذ العربية لنفسه مذهبًا سياسيًّا وفلسفيًّا، يخرج عن مألوفه، فيمدح هَذَا الرجل الفارسي، ويمدح الفرس، ويرقى بمدحه إلى الفرس قبل الإسلام، وانظر إِلَيْهِ كيف يقول:
إلى أن يقول:
فالمتنبي هنا شُعوبي صريح، لولا أننا نعرف أنه شاعر ساخر بالناس وبممدوحه خاصة، أو بأكثرهم على أقل تقدير.
وفي دمشق عرف المتنبي أنَّ إسحاق خرج للقاء الروم وتوعده، فقال فيه الأبيات التي أولها:
ثم بلغه أنَّ غلمان إسحاق عَدَوَا عليه فقتلوه، فقال الأبيات التي أولها:
وقد أعرضُ لهذا الهجاء فِي غير هَذَا الموضع، فحسبنا الآن أنْ نلاحظ أنه يدل على أنَّ عداوة المتنبي كانت باقية قاسية يعجز الموت نفسه عن محوها.
ولسنا ندري كم أقام المتنبي فِي دمشق، ولكن المحقق أنه خرج منها سنة ست وثلاثين وثلاثمائة بعد مقتل ابن كيغلغ قاصدًا إلى أنطاكية، والديوان ينبئنا بأنه نزل ببعلبك، فأكرمه حاكمها علي بن عسكر، وخلع عليه وأجازه وطمع فِي مدحه، ولكن المتنبي لم يزد على أنْ قال له هذه الأبيات:
وما أظن إلا أنَّ هَذَا البيت الأخير يصور ملل المتنبي وتبرمه، لا بالعطاء؛ فقد كان أحرص من أن يتبرم بالعطاء، بل بهذا الإلحاح عليه فِي طلب المديح، وقد مضى المتنبي من بعلبك حَتَّى جاوز حدود الإخشيديين ودخل أرض الحمدانيين فاستقبل حياة جديدة، مخالفة كل المخالفة لما ألف وما ألفنا من حياته.
وهو الآن فِي الثالثة والثلاثين من عمره وقد أصبح شاعرًا عظيمًا يتحدث الناس به وبشعره فِي شمال الشام وجنوبها، وفي مصر عند الإخشيديين، وفي العراق عند العباسيين والبويهيين.
وهو يعرف هذه الشهرة ويقدرها ويغالي بها، فلا يمدح إلا من يريد أنْ يمدح، وقد يمتنع على قوم ربما ود فِي يوم من الأيام لو استمعوا له أو التفتوا إليه، ولعلك تلاحظ أنَّ ظاهرة قد اطردت فِي حياة هَذَا الشاعر، فهو لم يستطع أنْ يرقى بفنه إلا فِي ظل حامٍ يحميه ويعطف عليه، وهو لم يستطع أن يعيش عيشة الشَّاعِر المنتج المرتقي بفنه شيئًا فشيئًا إلا فِي كنف الأشراف والسادة والأمراء، كأنه النبت الطفيلي لا ينمو ولا يزهر إلا فِي ظل الشجر الضخام المرتفعة فِي السماء.
وَثَبَ فنه وثبته الأولى فِي اللاذقية عند التنوخيين، ثم وثب وثبته الثانية فِي طبرية عند بدر بن عمار، ثم استمسك واحتفظ بقوته أثناء المحنة الثانية، ولكنه أزهر ونما وتضوَّع نشره فِي ظل الإخشيدي الشاب، وها هُوَ ذا الآن يتجاوز هؤلاء الأمراء والحكام الصغار إلى أمير خطير، هُوَ سيف الدولة، ولكنه لا يبلغ سيف الدولة فجأة، وإنما يتوسل إِلَيْهِ بابن عمه أبي العشائر فِي أنطاكية، فلنتبعه فِي هذه المدينة لنرى ماذا يصنع فيها، وأي وسيلة يبتغي إلى إرضاء هَذَا الحاكم ليرقى على أكتافه إلى سيف الدولة.
(٨) عند أبي العشائر
ويظهر أنه لم يرحل من دمشق حين أراد الرحيل وحين أمنت له الطرق، وإنما تأخر فيها عن رضا واختيار، لا عن سخط وإكراه، فقد بلغه فيما يُظنُّ أنَّ حال أبي العشائر فِي أنطاكية ليس على ما يحب، وأنه قد انهزم لبعض المغيرين عليه وتعرض للخطر، فلبث هُوَ فِي دمشق يريد أن يعلم على من تدور الدائرة، كما انتظر فِي الرملة يريد أن يعرف عاقبة الحرب بين سيف الدولة وكافور.
ودارت الدائرة على عدو أبي العشائر، فكرَّ هَذَا بعد الهزيمة منتصرًا، وانتهت أخبار فوزه إلى المتنبي، فخف من دمشق، وقد أعد فيها أولى مدائحه لهذا الحاكم، وكأنه فِي ذلك الوقت كان مشغوفًا بشوارد القوافي، فآثر لقصيدته قافية الشين، وخضع فيها لمثل ما خضع له فِي زائيته التي مدح فيها الروذباري من الذل والصغار أمام تحكم القافية الصعبة، ولست فِي حاجة إلى أنْ أدلك على مظاهر هَذَا فِي هذه القصيدة، فحسبك ما قلت من ذلك فِي القصيدة الماضية، وأنت واجد فِي الشينية للقراءة الأولى من ذلك ما تشتهي وما لا تشتهي.
ومطلع هذه القصيدة غريب لا يخلو من «حأحأة» و«شأشأة» ثقيلتين مصدرهما تحكم القافية هذا، وهو قوله:
ومن يدري! لعل المتنبي وبعض المعجبين به كانوا يجدون فِي هذه الحأحأة والشأشأة جمالًا وظرفًا، والله يهب حسن الذوق لمن يشاء، ولست أقف من هذه القصيدة إلا عند قوله:
فالمتنبي يتكثر فِي هذه الأبيات ويزعم أنه لما علم بِكَرِّ الأمير أسرع إِلَيْهِ يشاركه فِي حسن البلاء، وأكبر الظن أنه كان خائفًا أنْ يبلغ أبا العشائر منهزمًا، فلما علم بانتصاره خف إليه، وقد وصل المتنبي عند أبي العشائر وهو مكبر لنفسه مستشعر عظمته وتفوقه على الشعراء، وهو من أجل ذلك يهاجم، ولا ينتظر أنْ يضطر إلى الدفاع، فانظر إلى قوله:
ومدح المتنبي أبا العشائر بعد أنْ استقر عنده بقافيته المشهورة التي أولها:
وفي هَذَا البيت مظهر من جمال تبدو فيه صنعة وتكلف، ولكن اقرأ ما بعده فسترى تكلُّفًا لا يطاق:
وما أرى إلا أنك تضيق مثلي بهذا التكلف المرذول الذي يظهر فِي هَذَا اللفظ المعقد الرث كأنه نسج العنكبوت، ثم يقول:
ولم يكفه ما مضى من سخف حَتَّى أمعن فِي السخف الجديد، فيجعل صاحبته تعشق نفسها، ولكنها لا تشكو ألم العشق؛ لأنها ظافرة من نفسها بما تريد من الوصال، ثم يقول:
وهو رجوع إلى المعنى الذي استخرجه فِي صباه ورجع إِلَيْهِ كثيرًا بعد ذلك، وهو قوله:
وانظر إلى هَذَا البيت الذي يخاطب فيه ممدوحه، والذي تتحكم القافية فيه تحكمًا ثقيلًا:
ولكن قف عند هذه الأبيات، فسيعجبك ما فيها من حكمة، وسيلفتك ما فيها من فخرٍ:
واحفظ قوله «شاعر المجد خدنه شاعر اللفظ»، فإن هَذَا المعنى نواة — إن صح هَذَا التعبير — ستنبت وتنمو وتعطي شعرًا كثيرًا مختلفًا ألوانه حين يتصل المتنبي بسيف الدولة.
وليس من شك فِي أنَّ تعريضه بالشعراء، ثم تصريه بذمهم والغض منهم فِي البيت الذي رويناه آنفًا، حين جعل نفسه جوادًا، وجعلهم حميرًا، قد هاج الشعراء عليه وأغراهم بالكيد له، فلم يَنُوا عن ذلك ولم يقصِّروا فيه، ولكن المتنبي لم ينهزم لهم ولم يفر منهم، كما فعل مع الذين كادوا له عند بدر بن عمار، وإنما ثبت لهم وألح فِي الهجوم عليهم، وكان يرى أنَّ هذه الموقعة حاسمة بينه وبين الدهر الذي يخاصمه، فهو إنْ انهزم رُد إلى شقاء متصل، وإنْ انتصر بلغ ما أمَّله من الوصول إلى سيف الدولة، وقد تم له الانتصار بهذه القصيدة الرائعة التي هي أروع ما قال فِي أبي العشائر، والتي روينا لك بعضها فِي أول هَذَا الكتاب، ومطلعها:
والمضي فِي قراءة هذه القصيدة يُقنعك بأن المتنبي كان يتمثل حين أنشأها لامية الأعشى التي أولها:
والغزل فِي أول القصيدة حلو يبلغ النفوس على ما فيه من تكلف غير مملول، فإذا فرغ منه وثب إلى الدفاع عن نفسه والفخر بها فِي شعر مرَّ لاذع مسكت للخصم.
ولست فِي حاجة إلى أنْ أعيد روايته، فقد رويته فيما مضى من هَذَا الحديث ثم يصل إلى أبي العشائر فيمدحه مدحًا عذبًا شائقًا متينًا يصلح للغناء، وقلما يصلح مدح المتنبي للغناء قبل وصوله إلى سيف الدولة، وانظر إلى قوله:
ثم انظر إلى قوله:
وأنا أختار للمتنبي فِي أبي العشائر كلمتين أخريين يقول فِي إحداهما:
ويقول فِي الأخرى:
وللمتنبي فِي أبي العشائر مقطوعات كثيرة أخرى فِي موضوعات مختلفة، فقد سار الشَّاعِر مع هَذَا الأمير سيرته مع علي بن إبراهيم التنوخي، وبدر بن عمار، والحسن بن عبيد الله الإخشيدي، فكان نديمًا سريعًا إلى قول الشعر، مسرفًا فِي الارتجال، مطيعًا لمولاه، يقول حين يريده على القول وحين لا يريده عليه.
وله كلمة أخرى قالها معاتبًا لأبي العشائر حين أرصد له نفرًا من غلمانه ليقتلوه فأفلت منهم، ولكن أوان الحديث عن هذه الكلمة لم يأن بعد، وأنا أرجح أنَّ أبا الطيب قد وصل إلى أبي العشائر فِي أواخر سنة ست وثلاثين وثلاثمائة فأتمها عنده، وأقام معه وجهًا من سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، حَتَّى قدم سيف الدولة أنطاكية فِي جمادى الأولى من هذه السنة، فمدحه واتصل به وانتقل معه إلى حلب.