في ظل كافور
(١) في طريق مصر
وهناك مسألة خليقة بالتفكير، وقد يكون فِي حلها ما يعين على فهم حال المتنبي فِي مصر، فلماذا لجأ المتنبي إلى بلاد الإخشيديين حين فارق سيف الدولة، ولم يلجأ إلى العراق؟ وظاهر أنَّ هناك جوابًا يسيرًا على هذه المسألة، ولكنه جواب لا يقنع ولا يمكن الاطمئنان إليه، فقد يقال: إنَّ المتنبي لم يذهب إلى العراق لسبب جغرافي ليس غير، فهو لم يكن يستطيع أن يقصد إلى العراق من الطريق التي سلكها حين أقبل إلى الشام فِي صباه؛ أي من طريق الجزيرة؛ لأن هذه الطريق كانت كلها إلى سيف الدولة وإلى أوليائه، فلم يكن له بد من أنْ يتخذ إلى العراق طريقًا أخرى يمر فيها من غير شك ببلاد الإخشيديين، وكذلك انتهى إلى دمشق، فلم يستطع عنها زوالًا إلى طريق العراق، بل زال عنها إلى طريق الفسطاط، وهذا الجواب كما ترى مقنع فِي ظاهره، ولكني أعتقد أنَّ المتنبي لو كان قد صمم على الذهاب إلى العراق لما عدم الوسيلة إلى ذلك والحيلة فيه، ولوجد من الأصدقاء فِي مملكة الحمدانيين وفي مملكة الإخشيديين أنفسهم من يعينه على ذلك، ويهيئ له الوسيلة إليه.
ولكن المتنبي لم يفكر فِي الذهاب إلى العراق، أو فكر فيه وأعرض عنه، بل أنا أرجح أنه قد أدار الحديث فِي ذلك مع جماعة من أصحابه وأوليائه، فنصح له هؤلاء بالعراق، وأبى عليهم هو، فتحولوا هم إلى العراق، ومضى هُوَ إلى مصر مخالفًا، ثم ندم على خلافهم، أو أظهر ما يدل على هَذَا الندم، حين قال لكافور بعد ذلك بأعوام، سنة تسع وأربعين وثلاثمائة:
فظاهر من هَذَا الكلام أنَّ قومًا من أصدقاء المتنبي وتلاميذه ضاقوا بحلب كما ضاق هُوَ بها، وهمُّوا أنْ يزولوا عن ملك سيف الدولة كما همَّ هُوَ أنْ يزول عنه، فأجمعوا أمرهم بينهم على الرحيل، ولكنهم أداروا رأيهم فِي البلد الذي يقصدون إليه، فأما أصحابه فآثروا بغداد، وأما هُوَ فآثر الفسطاط.
وقد يكون من المفيد أنْ نعرف الأسباب التي حملت المتنبي على إيثار الغرب، وحملت أصحابه على إيثار الشرق.
فأصحاب المتنبي، وهم فِي أغلب الظن من العلماء وطلاب العلم، فلم يكن لهم من السابقة ما يصرفهم عن بغداد أو يزهدهم فيها أو يخوفهم منها؛ لأنهم لم يذموا أهلها ولم يسيئوا إلى القائمين بالأمر فيها بقول أو فعل، ثم هم فِي أغلب الظن عراقيون قليلًا أو كثيرًا، وفدوا على حلب يطلبون فيها ما يطلبه الرجل المثقف الأديب فِي بلد ناهض يكثر فيه العلم والمجد والمال، ثم أزعجوا عنها، إما لأنهم قضوا منها وطرًا، وإما لأن صروف الحياة لم تتح لهم البقاء فيها، فآثروا أنْ يعودوا إلى أوطانهم على أنْ يتغربوا فِي غير طائل، وبغداد بعد مستقر الخلافة، ودار العلم والحكمة، وملتقى العلماء والأدباء من جميع الأقطار الإسلامية، فلهم فِي العودة إِلَيْهَا نفع محقق، وليس عليهم منها بأس.
أما المتنبي فقد كان أمره مختلفًا أشد الاختلاف، كان العراق وطنه من غير شك، ولكنه ولد فِي ذلك الوطن شقيًّا، ونشأ فيه بائسًا، وزال عنه كارهًا له زاهدًا فيه، وعاد إِلَيْهِ فِي شبابه فلم يطب له فيه مقام، فزال عنه فِي المرة الثانية كما زال عنه فِي المرة الأولى، كارهًا له زاهدًا فيه، والمتنبي لم يتح للنسيان أن يُلقي بينه وبين العراق وأهله أستارًا صفاقًا أو رقاقًا، وإنما جعل يذكر العراق بنفسه، ويعلن إلى العراق عداواته، ويسرف فِي إعلان هذه العداوة فِي جميع الأوقات، ولا سيما أثناء اتصاله بسيف الدولة، فقد أسرف فِي ذلك كما رأيت إسرافًا شديدًا، فهاجم معز الدولة، وهاجم الخليفة نفسه، وآثر على ملكهما ملك هَذَا الأمير التغلبي، ولم يصطنع فِي ذلك حيطة ولا تحفظًا، ولعله لم يكن يتمنى فيما بينه وبين نفسه شيئًا كما كان يتمنى العودة إلى العراق، ولكنه كان يعلم حق العلم أنَّ سبيله إلى العراق غير ميسرة، وأنَّ مقامه فِي العراق لن يكون حميد العاقبة، فغرب هُوَ وشرق أصحابه، وبِوِدِّه لو يُشَرِّقَ كما شرقوا.
وأنا أعلم أنَّ المتنبي لم يهج أولي الأمر فِي بغداد وحدهم أثناء مدحه لسيف الدولة، بل هجا معهم أولي الأمر فِي مصر، وكان خليقًا أنْ يخاف مصر كما خاف العراق، ولكن من المحقق أنَّ ما قاله فِي المصريين عند سيف الدولة لم يكن شيئًا بالقياس إلى ما قاله فِي البغداديين، فهو لم يُعرِّض بكافور ولا بالإخشيد وابنه تعريضًا واضحًا جليًّا، فلما صرَّح بالنعي عليهم لم يزد على أنَّ زعم أنهم لم يتركوا الشام لسيف الدولة حبًّا ولا كرامةً، وإنما نفاهم عنها سيف الدولة نفيًا، فهو إذن قد زعم أنهم انهزموا له فِي الحرب، وليس هَذَا شيئًا يشين، كما يشين ما كان يذكر به العراقيين من الجبن والخور، ومن القصور والتقصير، ومن العكوف على اللهو والمضي فِي إرضاء الشهوات والاغترار بمظاهر الملك وترك حقائقه لسيف الدولة الذي كان لا يُعنى إلا بجد الأمر، ولا ينفق حياته إلا فِي جهاد الروم، إلى غير ذلك مما قاله فِي التعريض والتصريح بأهل بغداد.
فقد كان فساد الأمر إذن بينه وبين العراق خطيرًا، وكان إصلاح الأمر بينه وبين مصر ميسورًا سهلًا، فإذا لاحظت أنه حين غاضب سيف الدولة وحاشيته سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة لم ينذرهم بأنه قد يذهب إلى العراق، بل أنذرهم بأنه قد يترك ضميرًا عن يمينه ليمضي إلى ملك الإخشيديين، عرفت أنَّ المتنبي نفسه كان يشعر بأن ملك الإخشيديين سيكون أرحب له صدرًا من ملك الخلفاء العباسيين وأميرهم الديلمي، وللمتنبي بعد هَذَا كله عند الإخشيديين أصدقاء ليس له مثلهم فِي العراق، فهو قد مدح جماعة من حكامهم وقادتهم قبل أنْ يتصل بسيف الدولة — كما علمت — وهو قد اتصل اتصالًا وثيقًا بأمير من أمرائهم فِي الرملة، وهو خليق أنْ يجد من هؤلاء أو من بعضهم حماية ورعاية وعونًا على أنْ يتصل بالملك المصري الشاب، أو بوصيه ووليه كافور.
وإذن فأنا لا أفهم إيثار المتنبي لمصر على العراق فحسب، بل أريد أنْ أزعم أنَّ المتنبي لم يفارق حلب، ولم يترك سيف الدولة إلا بعد أنْ استوثق لنفسه عند الإخشيديين، وأكبر ظني أنَّ الرسل قد سعوا سرًّا بين المتنبي والإخشيديين فِي آخر أوقاته بحلب، وأنَّ هؤلاء الرسل لم يضمنوا له الجوار والأمن عند الإخشيديين فحسب، وإنما جاءوه أَيْضًا بالوعود المطمعة والآمال المغرية، فلم يتحول عن شمال الشام إلى جنوبها إلا وهو يعلم ما يريد، ويقدر أنَّ حاله عند الإخشيديين ستكون خيرًا من حاله عند الحمدانيين، وأنه سيظفر فِي ملك مصر بما لم يظفر به فِي ملك شمال الشام.
وأنا من أجل هَذَا كله لا أطمئن إلى الأخبار التي يُحدِّثنا بها الرواة عن إقامة المتنبي بدمشق والرملة، وإنما أقرؤها فِي تحفظ شديد، وأفهمها على وجه مخالف كل المخالفة لما فهمها عليه القدماء، فقد زعم القدماء أنَّ الشَّاعِر وصل إلى دمشق محزونًا، وأنَّ عامل الإخشيديين عليها، وهو رجل يهودي يعرف بابن مالك، تلقاه لقاءًا حسنًا، ولكنه طمع فِي أنْ يمدحه المتنبي، فلما لم يظفر منه بما أراد كاد له عند كافور، ويقول القدماء: إنَّ المتنبي تردد كثيرًا فِي الذهاب إلى مصر، ثم يقولون — ويوافقهم بلاشير على ما قالوا — إنه ذهب إلى الرملة لاجئًا إلى صديقه الإخشيدي القديم الحسن بن عبيد الله بن طغج، وكان يريد أنْ يلزمه، لولا أنَّ كافورًا كتب يستقدمه وألح فِي ذلك، فسار الشَّاعِر إلى الفسطاط كارهًا.
ولا أستبعد أنْ يكون المتنبي نفسه هُوَ الذي قد تحدث بهذا كله، بعد أنْ عاد من مصر إلى العراق خائب الأمل، محزون النفس، يائسًا من كل ما كان ينتظر من كافور، فأما الذي أرجحه أنا فهو أنَّ المتنبي قد أصلح أمره مع المصريين، وترك حلب، على أنْ يكون شاعرًا رسميًّا لكافور، ليغيظ سيف الدولة وأصحابه، وليعرِّفهم أنه إنْ لم يجد عندهم الأمن والرضا، فسيجد عند عدوهم أكثر من الأمن والرضا، سيجد عند عدوهم الحكم والسلطان، وقد عرفنا أنَّ المتنبي كان إذا اتصل بأمير انقطع له حقًّا، ولم يمدح أحدًا من أصحابه والمقربين إليه، فهذا يبين لنا السبب فِي أنه حين بلغ دمشق لم يمدح عامل الإخشيديين عليها، فإذا ذكرت ما افترضناه فِي أول هَذَا الكتاب من جواز أنْ تكون هناك صلة بين هَذَا اليهودي الذي كان على دمشق، وذلك اليهودي الذي سعى به عند عامل حمص فِي شبابه حَتَّى دفعه إلى السجن، لم تستغرب إعراض المتنبي عن مدحه لهذا اليهودي الذي أحسن استقباله وأكرم مثواه.
وليس غريبًا أنْ يكون هَذَا اليهودي قد طمع فِي مدح المتنبي وضاق بما أصابه من الإخفاق، كما جرى ذلك نفسه لإسحاق بن كغلغ حين أراد الشَّاعِر على أنْ يمدحه لما مر بطرابلس فِي طريقه إلى أنطاكية، ومما يرجح هَذَا أنَّ المتنبي ترك دمشق دون أنْ يستطيع اليهودي أنْ يمسكه فيها، أو يرده عن الوجه الذي كان يقصد إليه، فلما وصل الشَّاعِر إلى الرملة، تلقاه الإخشيدي أحسن لقاء، ووصله وأهدى إليه، وكان المتنبي خليقًا أنْ يمدحه رعايةً لما كان بينهما من عهد قديم، ووفاء بحق هذه الهدايا والصلات، ولكن المتنبي لم يصنع من ذلك شيئًا؛ لأنه دخل ملك الإخشيديين على أنْ يكون شاعر كافور لا شاعر غيره من الحكام والأمراء.
ومن أجل هَذَا نفهم إعراض المتنبي، بعد أنْ وصل إلى مصر، عن مدح من كان فيها من السادة والقادة، ومن الأمراء والوزراء، ووقف شعره كله أول الأمر على كافور حَتَّى استيأس منه، لم يمدح إلا فاتكًا، ولم يمدحه إلا بقصيدة واحدة، ولم ينشئ هذه القصيدة إلا بعد أنْ أذن له بذلك كافور.
إذن فكل هذه القصة التي صيغت حول حيرة المتنبي واضطرابه وتردده وسوء حاله فِي دمشق ثم فِي الرملة، ليست شيئًا، وإنما هي حديث لعل المتنبي نفسه هُوَ الذي تعزى به عما لقِيَ فِي مصر من خيبة وإخفاق.
(٢) في الفسطاط
وقد انتهى المتنبي إلى مصر سنة ست وأربعين وثلاثمائة بعد أنْ فارق سيف الدولة بأشهر، ولعل من الحق أنْ نلاحظ أنه فارق شخص سيف الدولة ولم يفارق ذكره، بل لم يستطع أنْ يفارق ذكره إلى أنْ مات.
ولم يكن من اليسير أنْ تمحى صورة سيف الدولة من نفس المتنبي كما محيت منها صور الأمراء والسادة الذين اتصل بهم قبله، فقد لقي المتنبي عند سيف الدولة خير ما لقي فِي حياته كلها، لا من جهة الثروة والغنى وخفض العيش ولين الحياة، فقد كان ذلك شيئًا يسيرًا، يستطيع كافور أنْ يدره على المتنبي وأنْ يدر على المتنبي أكثر منه؛ لأن ملك كافور كان أوسع وأثرى من ملك الحمداني؛ بل لأن سيف الدولة وحياة المتنبي معه كانتا مخالفتين من جميع الوجوه لحياة كافور ولحياة المتنبي مع كافور، وكانت حياة سيف الدولة حياة بطولة كلها، تملؤها الحرب فِي أكثر أوقاتها، ويتحدث بها الناس فِي جميع الأقطار الإسلامية وفي كثير من الأقطار البيزنطية أيضًا، وكان المتنبي يشارك سيف الدولة فِي هذه الحياة وفيما كان يملؤها من بطولة، كان يشاركه فِي ذلك مشاركة عملية، فكان يغزو الروم معه إذا غزاهم، وكان يستمتع بالنصر إذا أتيح النصر للأمير، ويشقى بالهزيمة إذا كتبت عليه الهزيمة، وكان كذلك يشارك الأمير فِي جهاده للثائرين به والخارجين عليه من أهل البادية، فكان يبلو ألوان الحرب المنظمة وغير المنظمة، وكان يحس لذاتها وآلامها المادية والمعنوية، وكان بعد هَذَا كله يتغنى هذه الحرب، ويعلن مجدها الضخم إلى المسلمين وغير المسلمين، كان اللسان الرسمي لهذا الجهاد العظيم، وكان فِي الوقت نفسه اللسان الصادق لما يثور فِي قلبه هُوَ من عاطفة أو هوى أو شعور.
كانت حياته عند سيف الدولة إذن مملوءة بالنشاط الخصب الذي شغله عن نفسه وشغله بها فِي وقت واحد، فقد كان المتنبي فِي حاجة إلى أنْ يُشغل عن نفسه وإلى أنْ يشغل بها، كان أبغض شيء إِلَيْهِ وأثقل شيء عليه وأقتل شيء له أنْ تضطره البطالة والخمود إلى أنْ يفرغ لنفسه فينظر فيها وينظر إِلَيْهَا فِي كل وقت، ولم يكن له بد من الحركة العنيفة المتصلة، ومن النشاط القوي المستمر، وحاجته هذه إلى الحركة والنشاط هي التي دفعته إلى ثورة الشباب، وضيقه بالبطالة والخمود هُوَ الذي بغض إِلَيْهِ الحياة والأحياء فِي أيام محنته.
ثم كان المتنبي فِي حاجة شديدة إلى أنْ يعود إلى نفسه بين حين وحين، فينظر إِلَيْهَا وينظر فيها، فتسره ولا تسوءه، يسألها عما عملت فتجيبه بما يحمد ويرضى، فإذا شُغل عن نفسه ثم عاد إِلَيْهَا ألهمته، وإذا هُوَ شاعر فحل يتغنى نشاطه ونشاط الناس، ويُشيد بمجده ومجد الناس، وينشد هَذَا الشعر الذي لا يلبث أنْ يشيع ويذيع ويملأ الآفاق والأقطار.
أما حياة كافور حين اتصل به المتنبي، بل قبل أنْ يتصل به المتنبي، فقد كانت حياة أمن وسلم، ودعة وهدوء، ليست حدوده مجاورة لحدود الروم، فيتكلف مثل ما كان سيف الدولة يتكلف من الهجوم والدفاع، ولا هي مجاورة لحدود العراق، فيخاف مثل ما كان سيف الدولة يخاف من الدس والكيد، ومن الحق أنَّ الفاطميين كانوا يثيرون فِي نفسه شيئًا من القلق، ولكنه كان قلقًا يسيرًا لا يؤرق الليل ولا ينغص النهار، والبلاد التي كان يحكمها كافور بلاد متحضرة منظمة، قد ألف أهلها الحضارة والنظام المدني منذ عهد بعيد جدًّا، وقد انكسرت شوكة الذين ارتحلوا إِلَيْهَا واستقروا فيها من البدو منذ عهد بعيد، فهي قليلة الحظ من الثورة والاضطراب، قد فرغت لنفسها وظفرت باستقلالها، وفرغ الناس أو كادوا يفرغون من الطمع فيها والطموح إليها، إلا ما كان من الفاطميين الذين كان أمرهم لا يزال بعيدًا — كما قلنا — من أنْ يثير القلق والخوف.
وقد تجاوز سلطان هذه البلاد حدودها الطبيعية، فهي متسلطة على فلسطين كلها، وقسم لا بأس به من الشام، وعلى أقطار واسعة وراء البحر الأحمر، وحدودها بعيدة آمنة من جهة الجنوب، وإذن ففي وسعها أنْ تنعم بالأمن والدعة، وتفرغ لاستثمار أرضها الخصبة، ولا سيما إذا ضُبط فيها الأمر، وحسنت فيها الإدارة، ولم يكثر فيها الجور، ولم يشع بين أهلها الفساد.
ويظهر أنَّ أمور مصر كانت صالحة مطمئنة حقًّا فِي ذلك الوقت، فكان أولياء الأمر فيها هادئين مطمئنين، يدبرون الملك أحسن تدبير، وينعمون بثمراته فِي غير خوف ولا قلق، فأين هذه الحياة الهادئة الوادعة المطمئنة من تلك الحياة القلقة المضطربة الخائفة؟ وأين سكون كافور من قلق سيف الدولة؟ وإذن فلن تكون حياة المتنبي عند كافور مملوءة بالحركة والنشاط، كما كانت فِي شمال الشام، وإذن فلن يُشغل المتنبي عن نفسه، ولكنه سيشغل بها دائمًا، وإذن فهو يفقد عند كافور أحد المؤثرين الأساسيين فِي شاعريته، هُوَ يفقد نصف نفسه، إنْ صح هَذَا التعبير، وإذن فهو مضطر إلى أنْ يفكر فِي نفسه دائمًا، وإلى أنْ ينظر فلا يرى غيرها، وهو يستحضر ماضيه فيرى آمالًا خابت، وأحلامًا ذهبت، ونعيمًا زال، وحشرات لا تزال لاذعة، ثم يحاول أنْ يفكر فِي مستقبله فلا يرى أو لا يكاد يرى شعاعًا من أمل ولا بصيصًا من رجاء.
ماض كله خيبة وإخفاق حَتَّى فِي أحسن أوقاته، ومستقبل مظلم، وحاضر قلق لا ترضى به النفس ولا تطمئن إليه، فلا غرابة فِي أنْ تسوء حياة الشاعر، ولا غرابة فِي أنْ يسبغ الحزن واليأس على شعره رداء قاتمًا لا يكاد يظهر فيه الإشراق والابتهاج.
(٣) قضية المتنبي وكافور
وقضية المتنبي مع كافور يسيرة جدًّا بالقياس إلينا، وإنْ ظهرت للشاعر ولمعاصريه عسيرة معقدة، فهي تنحل فِي حقيقة الأمر إلى أنَّ المتنبي أحس القلق والضيق عند سيف الدولة، فعرَّض بالتحول عنه إلى مصر، وطمع المصريون فِي تحويله إليهم ليضعفوا خصمهم، وليستأثروا من دونه بسلاح من أمضى أسلحته، وهو سلاح الدعوة والإذاعة، فأغروا الشَّاعِر وأطمعوه، ولم يفهم الشَّاعِر هَذَا الإطماع وذلك الإغراء على وجههما، وإنما خدعه الغرور، فظن أنَّ القوم يصدقونه ولا يكذبونه، وأنهم يريدون به الخير، ولا يريدون أنْ ينتزعوه من يد مولاه الحمداني، فاستجاب لهم، وأسرع إليهم، وانتظر تحقيق الوعد، وتصديق الرجاء، فلم يجد إلا سرابًا لا يروى من ظمأ ولا يشفى من أوام.
أيهما المخطئ فِي هذه القضية، أهو كافور الذي سار سيرة السياسي اللبق فاجتهد لنفسه، واحتاط لملكه، وخذل عن عدوه، واصطنع فِي ذلك ما يصطنعه الساسة المكرة من وعود لا تفرض على أصحابها الوفاء، وأقوال لا تأخذ أصحابها بالصدق؟ أم هُوَ المتنبي الذي أسرف فِي الاعتداد بنفسه، وغلا فِي حسن الظن بها وبالناس، فلم يتدبر أمره ولم يَحتطْ لنفسه، وإنما اندفع فِي غير رَوِيَّة ولا أناة؟ إنَّ الذين يقرءون شعر المتنبي، وهذه الحكم البالغة، والأمثال السائرة التي يرسلها إرسالًا ويكيلها كيلًا، يُخدعون عن الشاعر، فيظنون به الفطنة والحكمة والذكاء، ولكن الذين يتدبرون سيرته، ويقرءون فخره ومدحه وهجاءه، يعرفون طبيعة الشَّاعِر ويردُّونه إلى مكانه الحقيقي من خصال الرجل الذكي اللبق، فقد كان المتنبي مغرورًا من غير شك، وكان مسرفًا فِي الغرور، وكان مكبرًا لنفسه كل الإكبار، ولكن الشر كل الشر أنه كان يظن من حين إلى حين أنَّ الناس يرون فيه ما كان يرى فِي نفسه، ويكبرونه كما كان يكبر نفسه، ويعتدون به كما كان يعتد بنفسه، وإلا فكيف نفهم أنْ ينفق المتنبي تسعة أعوام يمدح فيها الأمير الحمداني ويعيب فيها خصومه من أهل مصر والعراق، ثم يظن بعد ذلك أنَّ المصريين يَعدونه صادقين، ويبذلون له الآمال والأماني وهم يأخذون أنفسهم بالوفاء والاطمئنان إليه؟ مهما يكن من شيء فقد انخدع لكافور، وأقبل مستسلمًا له، متهالكًا عليه، واثقًا به، يظن أنه سيجد عنده من الرفعة ونباهة الشأن ما يغيظ به سيف الدولة الذي لم يعرف قدره، ولم يرع حقه، ولم يعص فيه الوشاة والكائدين.
وأنت تعلم أنَّ المتنبي نشأ طامعًا فِي الحكم، طامحًا إليه، مجاهدًا فِي سبيله، وأنه احتمل فِي ذلك ألوانًا من الأذى، وذاق فيه فنونًا من العذاب، فهذه الوعود تخيل إِلَيْهِ أنَّ الحكم منه قريب، وأنَّ السلطان يسعى إِلَيْهِ سعيًا ويخطو إِلَيْهِ خطوات واسعة، فما له هُوَ لا يسعى إلى السلطان الذي يسعى إليه، ولا يخطو إلى هَذَا السلطان خطوات واسعة كالتي يخطوها إليه، لقد وعده المصريون بأنه سيتولى الحكم فِي ولاية من الولايات أو إقليم من الأقاليم، هُوَ إذن سيرتفع عن هذه المكانة التي كان يحرص عليها عند سيف الدولة، لن يكون شاعرًا مأجورًا عند كافور كما كان شاعرًا مأجورًا عند سيف الدولة، بل سيكون واليًا من الولاة وأميرًا من الأمراء، سيجمع بين إمارة الشعر وإمارة الحكم، ستشهد له الخيل والليل والبيداء والسيف والرمح والقرطاس والقلم، فما له لا يسرع إلى هذه الأمنية التي تريد أنْ تتحقق بعد أنْ استيأس منها وتعزى عنها!
نعم! إنه كان فِي صباه وشبابه لا يطلب الحكم والسلطان لنفسهما، ولا يراهما غاية لما كان يلقى من مشقة ويحتمل من عناء، وإنما كان يراهما وسيلة إلى إصلاح النظام السياسي والاجتماعي، ورد الأمن والعدل والعافية إلى الناس، وهو الآن يكتفي من الحكم بالحكم، ومن السلطان بالسلطان، يراهما الغاية كل الغاية، والأمل كل الأمل، لا يفكر فِي إصلاح النظام السياسي والاجتماعي؛ لأن أحدًا من الذين ثاروا لإصلاح هَذَا النظام لم يحاول إصلاحه، ولأن الناس الذين يكرهون هَذَا النظام ويشكون منه ويريدون تغييره، لا يغيرونه ولا يعينون أحدًا على هَذَا التغيير، ولأن الناس الذين يتحرَّقون شوقًا إلى الأمن والعدل والعافية لا يكرهون أنْ يعيشوا فِي ظل الخوف والجور والخطر، فهو لا يريد أنْ يصلح أمور الناس برغم أنوفهم، وحسبه أنْ يصلح أمر نفسه، وأي إصلاح لأمر نفسه أكثر من أنْ يتولى الحكم وينهض بأعباء السلطان، ويصبح رجلًا يأمر فيطاع، وينهى فيستمع له، ومن يدري! لعل الشعراء يمدحونه بمثل ما يمدح به هُوَ سيف الدولة أو غير سيف الدولة من الأمراء والولاة.
ومن الحق أنه كان فِي شبابه شديد الضيق بهؤلاء العبيد الذين يُملَّكون على الأحرار، وبهؤلاء العجم الذين يقضون فِي أمور العرب، وأنه كان يريد أنْ يثور ليرد إلى الأحرار حريتهم، ويديل للعرب من العجم، ويعيد هؤلاء الأرقاء الذين يستخشنون الخزَّ حين يلمسونه، كانت تبرى بأظفارهم الأقلام، إلى حالهم الأولى التي كانوا عليها قبل أن تدور الدنيا إلى الشمال، بعد أنْ كانت تدور إلى اليمين.
كان يريد هَذَا كله، وكان يحرص عليه كل الحرص، وقد جاهد فِي سبيله، وذاق ذل الأسر وهوان السجن، ولكنه أخفق واستيأس، ثم عاد إِلَيْهِ شيء من الأمل وحظ من الرجاء حين اتصل بهذا الأمير العربي الذي أحيا ما كان للعرب من مجد وبأس، ولكنه نظر فإذا هَذَا الأمير نفسه لا يقدره ولا يسمع له، وإنما يطيع فيه الوشاة والكائدين، فليدع الأحرار فِي رق العبيد ما داموا يرضون لأنفسهم هَذَا الرق، وليدع العرب فِي ظل العجم ما داموا ينعمون بالحياة فِي هَذَا الظل، بل ليتجاوز هَذَا الطور من اليأس المتكبر والإعراض المستعلي، وليصبح رجلًا كغيره من معاصريه، وليبع نفسه من هؤلاء العبيد، وأعجمي من هؤلاء الأعاجم، ما دام هَذَا قد يجعله أميرًا على بعض الولايات أو حاكمًا لبعض الأقاليم.
إلى هَذَا الحال انتهى حين فارق سيف الدولة وألقى بنفسه بين يدي سيده الجديد كافور، جحد ماضيه كله، ورفض آراءه كلها، ونزل حَتَّى عما كان خليقًا أنْ يحتفظ به من أيسر الكرامة وأهون الكبرياء، ولا تقل إنه كان محتاجًا إلى هذه الذلة، مضطرًّا إلى هَذَا الهوان، عاجزًا عن أنْ يحيا حياة كريمة مستقلة خالصة للفن، فلم يكن المتنبي فِي ذلك الوقت بائسًا ولا فقيرًا، بل كان بعيدًا كل البعد عن البؤس والفقر، أخذ من سيف الدولة مالًا كثيرًا جدًّا، ولم يسرف فِي هَذَا المال، بل أسرف فِي حسن تدبيره وشدة القيام عليه حَتَّى انتهى به إلى البخل القبيح، وخرج من ملك الحمداني يسوق بين يديه مالًا ضخمًا، ويحيط به عدد من الرقيق، فلو شاء أنْ يعيش حرًّا كريمًا مستقلًّا لما وجد فِي ذلك مشقة ولا جهدًا، وقد يُقال: إنَّ حياة الشعراء فِي ذلك العصر لم تكن تسمح لهم بهذا اللون من الحياة، وقد يقال أيضًا: إنَّ شاعرنا لم يكن يستطيع أنْ يُعرض عن مدح الأمراء والملوك، ولو حاول ذلك لعرَّضوه للأذى، ولأكرهوه عليه إكراهًا.
قد يقال هَذَا كله، ولكنه لا يغني عن المتنبي شيئًا، ولا يزيد على أنْ يكون ما نذهب إِلَيْهِ من أنَّ المتنبي إنما كان شاعرًا كغيره من الشعراء، ورجلًا كغيره من الناس، قد رفع نفسه فوق قدرها، وزعم لها ما ليس من أخلاقها، وطمع فيما لا ينبغي لمثله أنْ يطمع فيه، ظن نفسه حرًّا، ولم يكن إلا عبدًا للمال، وظن نفسه أبيًّا، ولم يكن إلا ذليلًا للسلطان، وظن نفسه صاحب رأي ومذهب، ولم يكن إلا صاحب تهالك على المنافع العاجلة التي كان يتهالك عليها أيسر الناس أمرًا وأهونهم شأنًا.
وقد جاء بعد المتنبي رجل آخر رفع نفسه عن الدنيا وعن شهواتها ولذاتها ومنافعها العاجلة واحتقر الناس وازدراهم، وأنكر الملوك والأمراء، وزهد فِي التقرب إليهم والدُّنوِّ منهم، وأراد لنفسه أنْ تكون نفس الرجل الحر الكريم، ولعقله أنْ يكون عقل الرجل الحكيم الفيلسوف، فوفي لنفسه وعقله بكل ما أراد، ولم يكن أقل شاعرية من المتنبي، ولم تسعده الأيام كما أسعدت المتنبي، فقد حرمته بصره، ولم تتح له من الغنى والثروة ما يكفل له لين الحياة وخفض العيش، ومع ذلك عاش كريمًا، ومات كريمًا، ولم يتعلق عليه أحد بذلة، ولم يغتمز فيه أحد هفوة، سخر من الزمان ولم يسخر منه الزمان، واستطال على السلطان وعجز السلطان عن أن يستطيل عليه، وعاد من بغداد يشترط على أهل قريته أنْ يُخلو بينه وبين حريته، وألا يُشركوه فيما يعرض لهم من خير ولا شر، وألا يخرجوه معهم إنْ خرجوا من المدينة فارين أمام الروم، وأنْ يقيموا فِي المدينة إنْ أمنوا، ويظعنوا عنها إنْ خافوا، ويتركوه فيها على كل حال؛ لأنه رفع نفسه فوق الأمن والخوف جميعًا، وما أرى إلا أنك قد عرفت هَذَا الرجل الذي أتحدث عنه، وهو أبو العلاء.
فالفرق إذن بين هذين الرجلين، هُوَ الفرق بين الفيلسوف والرجل من سائر الناس، والذي أريد أنْ أصل إِلَيْهِ من هَذَا الحديث الطويل هُوَ أنَّ المتنبي قد ظن بنفسه غير ما كانت عليه، وما أكثر ما يُخدع الناس عن أنفسهم، ولكن الغريب أنَّ المتنبي لم يخدع نفسه وحدها، وإنما خدع معها كثيرًا جدًّا من الناس، فظنوا به الفلسفة، وليس هُوَ من الفلسفة في شيء، وظنوا به الحرية والكرامة وإباء الضيم، وليس هُوَ من هَذَا كله فِي شيء، إنما هُوَ رجل من أهل زمانه لم يمتز منهم بأخلاقه، وإنما امتاز منهم بلسانه، كما كان يمتاز غيره من الكتاب والشعراء.
أقبل المتنبي إذن على كافور وضيعًا ذليلًا، قد هان على نفسه فهانت نفسه على الناس، وقد رأينا فِي بعض ما سبق من هَذَا الحديث أنَّ المتنبي لم يصف أحدًا كما وصف نفسه حين قال:
فلنلاحظ الآن أنه لم يصف أحدًا كما وصف نفسه حين قال أيضًا:
فقد ماتت نفس المتنبي أو كادت تموت حين فارق سيف الدولة هاربًا من الكيد ومكر الحاشية، وباع كرامته وصداقته من كافور بثمنٍ بخسٍ هُوَ أنْ يكون واليًا فِي ظل عبد:
كما كان يقول فِي شبابه، وفي ظل من سيقول عنه فِي آخر أيامه:
ماتت نفسه أو كادت تموت، ولم يبق منها إلا رمق ضئيل لم يكن خير ما بقى منها، إنما كان شر أجزاء نفسه وأهونها على الناس حين يلتمسون الخلق والفلسفة، وكان خير أجزاء نفسه وأكرمها على الناس حين يلتمسون الشعر والفن والغناء.
بهذا الرمق الذليل الخصب المهين القوي، أقبل المتنبي على كافور، فمدحه وتملقه، ورغب إِلَيْهِ وطمع فيه، ومن هَذَا الرمق نفسه انصرف المتنبي عن كافور راغبًا عنه زاهدًا فيه، هاجيًا له، كافرًا بأنعمه، مُشيعًا فيه الفحشاء، مذيعًا فيه السوء، وذنب كافور أنه عرف المتنبي كما كان ينبغي أنْ يعرف، ووضعه فِي الموضع الذي كان ينبغي أنْ يوضع فيه، رآه شاعرًا يبيع المدح والثناء بالدراهم والدنانير، فاشترى منه المدح والثناء بالدراهم والدنانير، ورآه أحمق يجهل قدر نفسه، فجاراه فِي هَذَا الحمق ليصرفه عن خصمه، وليحمله على أنْ يكذب نفسه وينكر ما كان قد قال فيه، ويمدحه بعد أنْ كان قد ذمه، ووفق كافور لكل ما أراد، فذنب كافور إذن أنه كان عاقلًا فطنًا لبيبًا، لم يخدعه المتنبي، وما كان للمتنبي ولا لأبرع منه أنْ يخدع هَذَا الأسود الدميم الذي استطاع أنْ يتجاوز قدره، وأنْ يفرض نفسه على الدولة الإسلامية كلها، وأنْ يقتطع أحسن أجزائها، فيستأثر فيه بالملك والسلطان نعم، ذنب كافور أنه كان عاقلًا فطنًا، وأنه كان يحسن العلم بالناس، ويضع الأمور فِي مواضعها.
ولكن لا بأس على المتنبي من هَذَا التلون والاضطراب، فنحن قد ربحنا من هَذَا التلون والاضطراب شيئًا كثيرًا، ربحنا هَذَا الشعر الذي حفظه لنا ديوان المتنبي بما فيه من مدح وهجاء، ومن حزن وغناء، فهو سواء أَلَاءَمَ الحقَّ أم لم يُلائمه، أعذب شعر المتنبي وأرقه، وأصفاه وأصدقه تصويرًا للناحية الإنسانية المؤلمة من نفس هَذَا الشَّاعِر البائس الحزين.
(٤) البيئة المصرية
ولم تكن البيئة المصرية أقل من البيئة الحلبية خصبًا ولا نشاطًا، ولا ثروة من العلم والفلسفة والأدب، حين وفد المتنبي على الفسطاط، بل قد يكون من الخطأ أنْ نسوي بين البيئتين فِي ذلك، فقد كانت البيئة المصرية قديمة العهد بالحياة العقلية على اختلاف ألوانها، أقدم عهدًا بها من دار الخلافة نفسها، والناس جميعًا يعلمون أنَّ علوم الدين وفنون الأدب ازدهرت فِي الفسطاط قبل وجود بغداد.
ازدهرت فيها منذ أواخر القرن الأول للهجرة، ثم سلكت سبيلها إلى الرقي هادئة مطمئنة طوال القرن الثاني والثالث لم تضعف ولم تفتر، ولم يدركها الخمود، ولعلها كانت تقوى حَتَّى تتجاوز المألوف من النشاط أحيانًا فِي بعض فروع العلم أو فِي بعض فروع الفن، كالذي كان حين وفد الشافعي على مصر، وأنشأ بها مدرسته آخر القرن الثاني وأول القرن الثالث، فقد كان لهذا الحادث أثر عظيم فِي تنشيط الحياة العقلية فِي مصر، وكالذي كان حين اشتغل ابن طولون بأمر مصر، فدفع الحضارة دفعة قوية نشط لها الشعر والنثر، ونشط لها الفن أيضًا.
وقد أتاح الإخشيديون لهذه الحياة العقلية، التي كانت ترقى فِي هدوء وتنشط فِي اطراد، ما مكنها من المضي فِي طريقها إلى القوة والرقي والتزيد من العمق والاتساع، ولست أزعم أنَّ الفسطاط قد سبقت بغداد أو بلغت منزلتها فِي ذلك العصر، ولكنها كانت على كل حال قريبة من بغداد ومتجاوزة للحظ الذي انتهت إِلَيْهِ حلب من النهضة أيام سيف الدولة، وقد كان العلماء يُنشئون فِي مصر، وكان العلماء يفدون عليها من الأقطار الإسلامية فيعملون فيها ويتعلمون، ولم يكن هناك فرع من فروع العلم والفن والفلسفة يزدهر فِي بغداد إلا وله حظ من الازدهار فِي مدارس الفسطاط ومساجدها، وأندية السادة والقادة من أهلها.
وقد يكون هناك فرق بين الحضارة التي كانت تزدهر فِي ظل الإخشيديين والتي كانت تزدهر فِي ظل الحمدانيين، وهو أنَّ الحضارة الحمدانية كانت جديدة طارئة، فكانت محدثة تعلن عن نفسها فتسرف فِي الإعلان، على حين أنَّ الحضارة المصرية كانت تليدة مستقرة مؤثَّلة المجد، فلم تكن تحفل بنشر الدعوة، ولم ترغب فِي الإعلان.
وبعيدٌ عن بالي كل البعد أنْ أفكر فِي الحضارة المصرية القديمة التي ازدهرت أيام الرومان واليونان، وإنما أفكر فِي الحضارة الإسلامية العربية وأتحدث عنها، فقد كانت الفسطاط مصرًا من أمصار المسلمين، له ما لأكثرها من الحظ فِي الأخذ بأسباب الأدب والعلم والفن، فلما أنشئت بغداد جذبت إِلَيْهَا معظم القوة العقلية التي كانت شائعة فِي الأمصار، ولكنها لم تقتل الفسطاط كما لم تقتل البصرة والكوفة.
ولم تعرف الفسطاط منذ آخر القرن الأول عصرًا غلب فيه الجهل وضعفت فيه الثقافة وانقطعت فيه المشاركة فِي هَذَا البناء العقلي الإسلامي العظيم، على حين نرى أنَّ المتنبي نفسه قد شهد شمال الشام وهو فِي حالة من الضعف والاضطراب وفتور النشاط العقلي، وظهرت آثارها واضحة قوية فِي شعره أثناء الصبا والشباب.
وفرق آخر يمكن أنْ يلاحظ بين الحضارة التي لقيها المتنبي فِي مصر، والتي تركها فِي حلب، وهو أنَّ الحضارة المصرية كما كانت بعيدة العهد بالوجود فِي الماضي، فقد اتصلت فِي المستقبل، لم يضعفها زوال ملك الإخشيديين، وإنما أتاح لها ملك الفاطميين فرصة مكنتها من منافسة بغداد والتفوق عليها، على حين لم يكد سلطان الحمدانيين يضعف حَتَّى ذوت أزهار الحضارة الحلبية، وأسرع شمال الشام، فعاد أو كاد يعود إلى الحال التي كان عليها حين زاره المتنبي فِي أوائل القرن الرابع، ومعنى هَذَا كله أنَّ الحضارة المصرية لم تكن عارضة ولا طارئة، لم يُذْك جذوتها قائد أو أمير، فتخمد بزوال ملكه وانقضاء سلطانه، وإنما أذكت جذوتها طبيعة مصر الخالدة الهادئة، التي لا تحب الجعجعة، ولا تتهالك على الفخر بما قد يعرض لها من لين الحياة.
هذه الحضارة المصرية لقيها المتنبي فِي الفسطاط، ولقيها متنوعة مختلفة، ولقيها أشد عمقًا وتفاوتًا مما رأى فِي حلب، فقد كان النشاط فِي حلب محصورًا أو كالمحصور فِي المتصلين بسيف الدولة؛ لأن سيف الدولة هُوَ الذي أنشأه ودعاه واشتراه بالمال، أما فِي مصر فقد كان النشاط مفرَّقًا فِي غير مجلس، كان فِي مجلس كافور، وكان فِي مجلس وزرائه وقادته، وكان فِي المساجد العامة وفي المدارس الخاصة، بل لم يكن فِي الفسطاط وحدها، وإنما كان فيها وفي غيرها من المدن الكبرى، فِي مصر العليا وفي مصر السفلى أيضًا.
ولم يكن بُدٌّ للمتنبي من أنْ يحسب حساب هَذَا النشاط، ومن أنْ يقدِّر أنَّ شعره سيَلقَى الفسطاط بمثل ما كان يلقى فِي حلب من النقد والدرس والتحليل، على أقل تقدير، وقد ظهر أثر هَذَا فِي شعر المتنبي الذي قاله فِي مصر، فقد ظل الشَّاعِر ملاحظًا نفسه، مراقبًا فنه، لا يُظهر الشعر ولا ينشده إلا بعد الامتحان والابتلاء والتمحيص، ولستُ أغلو إنْ قلت: إنَّ شعر المتنبي فِي مصر أقل سَقَطًا من شعره فِي حلب؛ لأن المتنبي — فيما يظهر — كان يقدر العلماء المثقفين المصريين أكثر مما كان يقدر العلماء والمثقفين الذين كان يلقاهم فِي قصر الحمدانيين.
وثَمَّ سبب آخر لا بُدَّ من الإلمام به والإشارة إليه، فأكثر ما يضعف شعر المتنبي فِي حلب حين يقول الشعر فِي المناسبات المختلفة مرتجلًا حينًا، وطائعًا للأمر حينًا آخر، ومتكلفًا ليثبُتَ أمام منافسيه مرة ثالثة، أما فِي مصر فشعر المناسبات لا يكاد يوجد فِي الديوان، ولم يحتج الشَّاعِر إلى الارتجال؛ لأن اتصاله بكافور لم يكن من القوة بحيث يثير حاجته إلى ذلك، فلم يَصْفُ كافور للمتنبي، ولا صفا المتنبي لكافور، ولا كان بينهما من هذه المودة الخالصة المتصلة ما يدعو إلى ارتجال الشعر فِي الموضوعات التافهة المتنوعة، إلا أنْ يكون المتنبي قد جحد ذلك فيما بعدُ جحودًا، ومحاه من ديوانه وذاكرته محوًا، ولم يرد أنْ يُبقي من هَذَا الشعر ما يصور نفسه عارية أمام كافور، كما أبقى منه ما صورها عارية أمام بدر والحسن بن عبد الله بن طغج وأبي العشائر وسيف الدولة.
ومهما يكن من شيء، فشعر المتنبي الذي قاله فِي مصر أو الذي ألهمته إياه مصر مختار كله، برئ من السخف واللغو أو كاد.
(٥) المتنبي والبيئة الطبيعية في مصر
ونلاحظ هنا ظاهرة قد كنَّا نستطيع أنْ نلاحظها فِي حلب أو فِي غيرها من البلاد التي قام فيها المتنبي، لا نكاد نستثني منها إلا الشيء القليل، نلاحظ أنَّ البيئة الطبيعية لم تكن تؤثر فِي نفس المتنبي كثيرًا؛ فقد كان يمر بالمدن والقرى، ويعيش فيها دون أنْ يراها أو دون أنْ يظهر فِي شعره أنه رآها أو أنها أثرت فِي نفسه تأثيرًا قويًّا أو ضعيفًا، ولولا أنه وصف بحيرة طبرية حين مدح علي بن إبراهيم التنوخي، وألم إلمامًا يسيرًا بوصف لبنان حين مدح الأوراجي، ووصف وادي بوان حين مدح عضد الدولة، وسَمَّي طائفة من المدن والقرى والجبال تسمية، لولا هَذَا لقلنا: إنَّ المتنبي قد مرَّ بالدنيا ولم يرها ولكننا نستطيع الآن أنْ نقول: إنه مر بالدنيا ورآها، ولكنه لم يحفل بها، نستغفر الله، بل لم يحفل بمظاهر الطبيعة فيها؛ لأنه كان مشغولًا عن الطبيعة بنفسه وبالناس، وهو كان يرفع بصره إلى السماء أحيانًا إذا جنه الليل وأرَّقه الحزن واليأس، فيرى النجوم، وربما وصف النجوم فأحسن الوصف، وربما صور الليل فأحسن التصوير، وربما أبدع فِي وصف وادي بوان، وربما راع فِي وصف بحيرة طبرية، ولكنه فِي هَذَا كله لم يكن يقصد إلى الوصف من حيث هُوَ فنُ يطلب لنفسه ويُتخذ إلى الجمال الخالص، وإنما كان يتخذ الوصف وسيلة إلى ما يثور فِي نفسه من العواطف والأهواء.
فالطبيعة عنده ليست شيئًا ذا خطر، وإنما الأمر الخطير حقًّا عند المتنبي شيئان، نفسه ليعبدها، والناس ليبغضهم أشد البغض، ويذمهم أقبح الذم، ويتملق منهم أشنع التملق من يستطيع أن ينفعه بالجاه أو بالمال.
ومن هنا نفهم أنْ يزور المتنبي مصر ويقيم فيها أعوامًا متصلة، ثم لا يظهر للطبيعة المصرية أثر يذكر فِي شعره، فهو يسمي المقطم فِي مدحه لكافور، وهو يسمي الأهرام فِي رثائه لأبي شجاع، وهو يذكر النواطير فِي هجائه لكافور، وهو يذكر السواقي فِي مدحه لكافور وتعريضه بسيف الدولة، ولكنه لا يزيد على التسمية والذكر.
وقد لاحظ الأستاذ بلاشير فِي شيء من الدهش أنه حين طلب إِلَيْهِ كافور أنْ يصف دارًا جديدة انتقل إليها، لم يزد على أنْ وصف كافورًا نفسه وهنأه بهذه الدار، وقد كان موقع الدار من النهر والجبل وما يحف بها من الحدائق والبساتين، خليقًا أنْ يلهم الشَّاعِر شيئًا، ولكن الشَّاعِر لم يرَ إلا كافورًا الذي يستطيع أنْ يمنح المال والولاية، وإلا نفسه التي تتحرق جشعًا إلى المال وطمعًا فِي الولاية، وليس فِي شيء من هَذَا ما يدعو إلى الدهش، فقد كان المتنبي — كما قلنا — لا يرى إلا نفسه والناس الذين يرغب إليهم أو يرغب عنهم، وهو لم يعرض عن طبيعة مصر وحدها، وإنما أعرض عن طبيعة غيرها من البلاد، إلا هذه الأماكن القليلة التي استثنيناها.
وأغرب من هَذَا كله أنَّ المتنبي كان بدوي الطبع، كثير الإقامة فِي البادية، كثير الاضطراب فِي الصحراء، فكان خليقًا أنْ يصور لنا بعض التصوير طبيعة البادية والصحراء، ولكنه لم يصنع من ذلك شيئًا، وقد احتاج إلى أنْ يسلك سبيل الفحول من قبله، فيصف الإبل والطرق والأسفار، وما تكلف من جهد وما تحمل من عناء، ولكنه استعار هَذَا كله أو أكثره من الذين سبقوه، ولم يضف أو لم يكد يضيف إِلَيْهِ شيئًا جديدًا، وليس لذلك فيما أعتقد إلا سبب واحد، وهو أنه كان يقطع الصحراء ويضطرب فِي البادية، ولا يرى فِي هذه ولا فِي تلك إلا نفسه وإلا عدوًّا يرهبه، أو صديقًا يرغب إليه.
وليس أدل على ذلك من هَذَا الشعر الذي قاله حين هرب من مصر، فوصف الطريق التي سلكها من الفسطاط إلى الكوفة، فإنك لا تجد فِي هَذَا الشعر الجميل الرائع من هذه الطريق الطويلة الشاقة التي كانت خليقة أنْ تُلهمه أبرع الشعر وأروعه إلا تسمية للأماكن التي مرَّ بها وأنزل فيها، كأنه جغرافي يصف طريقًا من الطرق، نستغفر الله، بل يسمي مواضع بعينها من هذه الطريق.
والمتنبي لم يهمل الطبيعة المصرية وحدها، وإنما أهمل الحضارة المصرية أيضًا، فنحن نعرف أنه زار الفسطاط، ولكننا نعرف هَذَا من التاريخ ومن هذه الأسطر التي يقدم بها الديوان بين يدي القصائد التي يتألف منها شعره المصري، فأما الحياة فِي مدينة الفسطاط، فأما ما كان يقوم فيها من العمارات، فأما ما كان يملؤها من النشاط على اختلاف ألوانه ومظاهره، فليس له فِي شعر المتنبي أثر ولا ظل، وما ينبغي أن ننكر ذلك أو نضيق به، فلم يكن حظ حلب أو دمشق أو الرملة أو الكوفة أو أرجان أو شيراز أو بغداد من شعره خيرًا من حظ الفسطاط.
قلت لك: إنه كان يمر بالمدن والقرى، ولا يكاد يراها، بل أغرب من هَذَا كله أنه خرج ذات ليلة من قصر سيف الدولة، فصادف نهر قُويق، وقد مدَّ وطغى على شاطئيه، فقال فِي ذلك رجزًا، ولكنك تقرأ هَذَا الرجز فلا ترى فيه النهر ولا ماءه، وإنما ترى فيه سيف الدولة؛ لأنه اتخذ هَذَا المظهر الشعري الذي كان خليقًا أنْ يلهم شعرًا جميلًا وسيلةً إلى مدح سيف الدولة ووصفه بالكرم والجود، كدأبه حين كان يرى السحاب متكاثفًا أو يرى المطر منهمرًا، فلا يفتح الله عليه إلا باتخاذ السحاب والمطر وسيلة إلى تملق من كان فِي حاجة إلى أنْ يتملقه من الناس.
(٦) شعره في كافور
وشعر المتنبي فِي كافور قليل بالقياس إلى شعره فِي سيف الدولة، ولكنه مختلف متنوع، لا بأس بالوقوف القصير عند أنواعه وفنونه؛ لأنها تصور لنا براعة الشَّاعِر فِي معالجة هذه الفنون على تباين ما كان عليه من الأحوال، فهو قد مدح كافورًا وطمع فيه واستنجزه وعده، وهو قد تغنى حزنه ويأسه، وخوفه وإشفاقه، وهو قد عرض بسيف الدولة وعاتبه حَتَّى انتهى أحيانًا إلى الذم، وهو قد ألم ببعض وجوه السياسة الداخلية المصرية، ثم هُوَ قد هجا كافورًا فأسرف فِي هجائه، وهو بعد هَذَا كله قد مدح أبا شجاع فاتكًا ثم رثاه.
وإذن ففنون الشعر التي طرقها فِي مصر، ليست أقل من فنون الشعر التي طرقها فِي حلب، لم يُهمل إلا فنًّا واحدًا هُوَ خير ما أحسن من فنون الشعر، وهو تصوير الجهاد بين المسلمين والروم، فهل كانت طريقته فِي معالجة الفنون التي ألم بها فِي مصر كطريقته فِي معالجة هذه الفنون نفسها حين ألم بها فِي شمال الشام؟ لا ونعم.
أما لا، فلأن عنصرًا أساسيًّا من عناصر الإجادة الفنية عند المتنبي قد تأتَّى له فِي شمال الشام ولم يتأتَّ له فِي مصر، وهو الإعجاب الذي هُوَ أساس الشعر والباعث له والدافع إليه، كان المتنبي معجبًا بسيف الدولة، ما إلى الشك فِي ذلك من سبيل، كان يريد أنْ يحيا فِي ظله ويظفر بجوائزه وينعم بنائله، هَذَا حق، ولكنه قبل هَذَا وبعد هذا، كان مكبرًا للأمير الحمداني، معجبًا به، مفتونًا بحسن بلائه فِي جهاد العدو من العرب والروم، وأحسب أنه لو لم يتصل بسيف الدولة لقال فيه الشعر وأكثر عليه الثناء، ولم يكن معجبًا بكافور ولا محبًّا له، بل هُوَ كان يبغضه أشد البغض، ويزدريه أشد الازدراء، ليكن مخطئًا فِي ذلك أو مصيبًا، فهذا شيء لا خطر له، وإنما الواقع أنه كان يمقت كافورًا ويزدريه، وإذن فهو عندما كان يمدح سيف الدولة كان يصدر عن الإعجاب والرغبة، وعندما كان يمدح كافورًا كان يصدر عن الرغبة وحدها، وكان مضطرًا إلى أنْ يكظم عواطف البغض ويحمل نفسه على ما لا تريد، كان صادقًا أمام نفسه حين كان يمدح سيف الدولة، كان كاذبًا منافقًا أمام نفسه حين كان ينشئ المدح وينشده فِي كافور، فإذا أتيحت له الإيجادة فِي سيف الدولة، فليس فِي ذلك غرابة، وإذا أتيحت له الإيجادة فِي كافور فهذا هُوَ الغريب حق الغريب.
وعلى عكس ذلك غضب المتنبي على سيف الدولة فعاتبه وألح فِي عتابه، وعرض به وانتهى أحيانًا إلى الهجاء، ولكنه كان معجبًا دائمًا بسيف الدولة، فلم يكن غضبه عليه إلا حزنًا لفراقه ولونًا من خيبة الأمل فيه.
ثم غضب على كافور فعاتبه أول الأمر، ثم هجاه بعد ذلك، فكان مظهر الفن فِي العتاب والهجاء معاكسًا لمظهر الفن فِي المدح، كان صادقًا أمام نفسه فِي هجاء كافور فلا غرابة فِي أنْ يجيد، وكان كاذبًا متكلفًا فِي نعيه على سيف الدولة فلم يكن يبلغ منه شيئًا.
ولم تكن السياسة المصرية تهم المتنبي أو تعنيه؛ لأنه لم يكن مشتركًا فيها كما كان مشتركًا فِي السياسة الحمدانية، ولأن هذه السياسة المصرية كانت من الهدوء والاستقرار بحيث لم يكن فيها ما يثير الشعر أو يلهم الشعراء، ولذلك قلَّ شعر المتنبي السياسي عند كافور، ولم يَقل منه إلا قصيدتين اثنتين سنقف عندهما بعد حين.
أما الفن الذي أجاده المتنبي وبرع فيه، أثناء إقامته فِي مصر، فهو الغناء، فقد وفق المتنبي لنغمات جديدة لعله لم يوفق لمثلها فِي شعره كله، ولم تكد تخلو من هَذَا الغناء قصيدة من قصائد المتنبي التي مدح بها كافورًا أو هجاه، والتي مدح بها فاتكًا أو رثاه، وهو بعد هَذَا قد خرج عن مألوفه منذ زمن بعيد، فاختص نفسه بشيء من الشعر لم يُشرك معه فيه أحدًا بمدح أو هجاء.
وكنا نعرف ذلك من المتنبي فِي صباه وشبابه، فلما اتخذ الشعر صناعة ووسيلة إلى العيش، أعرض عن القصائد الخالصة له، وجعل قصيدته قسمة بينه وبين الممدوح، له أولها وللممدوح آخرها، ولكنه حين انتهى إلى مصر وأنفق فيها شطرًا من وقته ينتظر الوفاء بالوعد، ورأى أنه لا يظفر بشيء، وأنه لا يستطيع أنْ يجهر بكل ما يحس أو يعلن كل ما يجد، تغني حزنه وألمه وانتظاره وسخطه وندمه فِي شعر رائع حقًّا.
ثم لم يكد يخرج من مصر ويستأنف حياته فِي العراق وفارس حَتَّى عاد إلى طريقته الأولى، فجعل الشعر قسمة بينه بين غيره من الناس.
ولم يُحدث المتنبي شيئًا ذا بال فِي القصيدة التي مدح بها فاتكًا، ولا فِي المراثي التي قالها فيه، وإنما مضى فِي هَذَا المدح والرثاء على عادته المألوفة فِي هذين الفنين، فقلد غيره وقلد نفسه، ولم يتجاوز ما سبق إِلَيْهِ من ذلك، وكل ما أحدثه أنه كان شديد الضغن على كافور، فكان يعرض به فِي رثائه أبا شجاع، ولكن هَذَا ليس بالشيء الخطير ولا بالأمر الذي يحفل به.
فلنقف وقفات قصارًا عند نماذج من هذه الفنون التي ألم بها المتنبي فِي مصر، فهي فِي حقيقة الأمر لا تحتاج إلى الوقفات الطوال، ولكن إهمالها غير ممكن ولا ميسور.
(٧) مدحه لكافور
وقد مدح المتنبي كافورًا بثماني قصائد، أنشده أولاها فِي جمادى الثانية سنة ست وأربعين وثلثمائة، وهي اليائية التي مطلعها:
وفي هذه السنة نفسها بنى كافور دارًا، وطلب إلى المتنبي أنْ يذكرها، فأنشده همزيته التي أولها:
وفي هذه السنة كذلك أنشده بائيته التي أولها:
وفي آخر هذه السنة أنشده داليته التي أولها:
فهو إذن، كان مكثرًا فِي مدح كافور لأول عهده به، يريد أنْ يظفر بحبه أو بالمكانة عنده، كما كان مكثرًا فِي مدح سيف الدولة حين اتصل به فِي سنة سبع وثلاثين وثلثمائة، ولكن سيف الدولة أرضى حبه للمال، وأرضى إعجابه بجلائل الأعمال، فمضى على الإكثار فِي مدحه، ولم يبلغ كافور من ذلك ما كان يبلغه سيف الدولة، ففترت همة الشَّاعِر بعض الفتور، فلما كانت سنة سبع وأربعين وثلثمائة انتقل كافور من دار إلى دار، فأنشده تلك الأبيات التي أولها:
وفي هذه السنة نفسها أهدى إِلَيْهِ كافور فرسًا، فشكر له هديته بالميمية التي يقول فِي أولها:
وفي شوال من هذه السنة مدحه بالبائية التي أولها:
ثم أنشده فِي شوال سنة تسع وأربعين وثلثمائة آخر مدائحه له، وهي البائية التي أولها:
ومن الخطأ أنْ يُظن أنَّ المتنبي قد خص كافورًا بهذه المدائح، وإنما الصواب أنه جعلها قسمة بين ثلاثة أشخاص، الأول المتنبي نفسه، حين كان يتغنَّى آلامه وأحزانه، وحين كان يرغب إلى كافور فِي تحقيق آماله، ويستنجزه ما قدم له من وعد، والثاني سيف الدولة حين كان يعيبه حينًا ويعاتبه حينًا آخر، ويظهر الندم على فراقه ويعرض بالعودة إِلَيْهِ مرة ثالثة، والشخص الثالث والأخير هُوَ كافور.
ولسنا فِي حاجة إلى أنْ ندرس هذه القصائد كلها، فبعضها يغني عن سائرها؛ لأن موضوعاتها ومعانيها متشابهة، وإنْ اختلفت فيها ألوان التصوير والتعبير، فلننظر قبل كل شيء إلى هذه اليائية التي أنشدها لأول عهده به، فهي بطبيعة الحال مشتملة على هذه الموضوعات الثلاثة التي قدَّمنا ذكرها.
فأما القسم الأول منها فغناء بآلام الشَّاعِر وأحزانه لما أصابه من خيبة الأمل وما أدركه من الإخفاق، وهو فِي هَذَا القسم شديد على سيف الدولة، مسرفٌ فِي الشدة عليه، يريد أنْ يغيظه ويُحفظه، ويثير فِي نفسه الندم على ما قصَّر فِي ذاته وفرط فيه، وهذه الشدة نفسها تصور ما كان يملأ قلب المتنبي ويفعم ضميره من الغيظ والحنق ومن الأسف والندم، فنفسه تنازعه أشد النزاع إلى سيف الدولة، وقلبه لا ينفك يهفو إليه، وهو يعنف قلبه أشد التعنيف، ويؤنب نفسه أوجع التأنيب على هَذَا الحنين إلى ما لا يستحق حنينًا، والوفاء لمن لا يستأهل وفاء، وهو يرى سيف الدولة غادرًا، وينكر نفسه إن صَبَتْ إليه، وينكر دموعه إنْ جرت فِي أثره وهو على ذلك لا يعدو أنْ يكون محبًّا ينسب بحبيبه، ويبكي فِي أثر هواه، ويشتد فِي اللوم والتعنيف على هَذَا الحبيب الذي أسرف فِي الهجر، حَتَّى انتهى إلى الغدر، ولكنه يتجاوز هَذَا الغزل الحاد العنف إلى شيء يوشك أنْ يكون هجاء، لولا أننا نحس منه الغيظ المتأجج الذي ينتهي بصاحبه إلى التحدي، وذلك حين يقول:
فالشطر الأول من هَذَا البيت غيظ قد بلغ أقصاه، وانتهى إلى التحدي الذي يصور ألم المتنبي أكثر مما يصور شيئًا آخر، والشطر الثاني من هَذَا البيت هُوَ نتيجة هَذَا الغيظ، وهو أشبه شيء بما يقوله العاشق الذي أخرجه الهجر عن طوره، فأخذ يتسلَّى باللهو العارض، والحب المتكلف، والصبابة الكاذبة، ويزعم للتي ملكت قلبه أنَّ التي تمنحه اللذة والعزاء فلا تلذه ولا تعزيه، أروع منها جمالًا وحسنًا.
ثم يمضي المتنبي فِي مدح كافور إلى أنْ يقول:
فهو هنا يعرض بحاجته ويتجنب التصريح، ولكن تعريضه واضح كل الوضوح، ويرجع إلى مدح كافور، إلى أنْ يقول:
فإذا هُوَ يعود إلى سيف الدولة بتعريض الغائظ المغيظ، ومن قبلُ عرض بسيف الدولة ففضل عليه كافورًا فِي الرفعة والكرم حين يقول:
وعرض بانهزام سيف الدولة لكافور فقال:
فأنت ترى أنَّ النصيب الأوفى من القصيدة شائع بين المتنبي وسيف الدولة، يصرح مرة ويعرض أخرى، ولكنه مع ذلك يمدح كافورًا فيحسن المدح دون أنْ يخرج عن المألوف أو يأتي بشيء جديد، وإنما هي المبالغة فِي وصف جوده وذكائه، وعزمه ومضائه، وبأسه وعصاميته، يؤدي هَذَا كله أداء حسنًا، لا مشقة فيه ولا جهد، ولا تكلف فيه ولا عناء.
فإذا تركت هذه اليائية إلى البائية الرائعة التي مدح بها كافورًا فِي شوال من السنة نفسها، رأيت مذهبه فيها كمذهبه فِي القصيدة السابقة، فهو يقسمها قسمين، قسمًا للغناء وقسمًا للمدح، وهو يذهب فِي غنائه مذهبين مختلفين، يقصد بأحدهما إلى الرمز والإيماء، وبالآخر إلى الفلسفة الصريحة، ويذهب بمدحه مذهبين أيضًا، يخص بأحدهما كافورًا، ويشيع الثاني بين كافور وسيف الدولة والمتنبي نفسه، فأما اصطناعه للرمز والإيماء فحين يتغزل بالأعرابيات ويطيل فِي ذكرهن ويؤثرهن على الحضريات، وهذا الجزء من قصيدته مشهور شائع، قد أعجب به الناس منذ زمن بعيد، ولكنهم فهموه على وجهه الظاهر القريب، وأذهب فِي فهمه أنا مذهبًا آخر، فأرى فيه حنينًا إلى حياته فِي شمال الشام، حيث البداوة أغلب من الحضارة، وحيث البأس أظهر من اللين، وحيث المخاطرة والمغامرة والتعرض للمكروه، وكأن الشَّاعِر قد ضاق بهذه النعمة الهادئة، وهذا الخفض الآن فِي مصر، وشاقه صليل السيوف وصهيل الجياد، ولكنه لم يستطع أنْ يجهر بما يجد من ذلك، فاتخذ الأعرابيات كناية عنه ورمزًا له، كما اتخذ الحضريات كناية عما كان فِي مصر من حياة ناعمة فاترة فيها تكسر وخضوع.
والقدماء يعجبون أشد الإعجاب بهذا البيت من هذه القصيدة وهو:
وربما كنت رديء الذوق، ولكني أحب أنْ أعْجبَ بهذا البيت فلا أظفر بما أريد من الإعجاب الخالص الذي لا يشعر به نقد ولا عيب، فما الذي يُعجب فِي هَذَا البيت؟ هُوَ هَذَا الطباق الكثير المتتابع، الذي يحدث موسيقى ظاهرة التأثير فِي النفس، فالشاعر يطابق بين الزيارة والانثناء عنها، وهو يطابق بين السواد والبياض، وبين الليل والصبح، وبين الشفاعة له والإغراء به، وبعض هَذَا الطباق يكفي لإرضاء المشغوفين بالبديع، وهذا الطباق نفسه قد يرضيني، لولا أني أجد فِي القافية انحدارًا ثقيلًا على السمع أشد الثقل، فأنت بين اثنتين: إما أنْ تجعل قوله «يغري بي» فِي مقام الكلمة الواحدة، فتنطق بها موصولة ولا تشعر بما فيها من التفرق لتستقيم لك القافية على نظامها الموسيقي المألوف، وإذن فقد أفسدت النطق وأسأت إلى الصوت اللغوي نفسه، وإما أنْ تنطق بهذه الجملة على وجهها، فتشعر بأن لفظها يتألف من فعل وحرف وضمير وتنبر الباء، إنْ جاز هَذَا التعبير، وإذن فقد صح لك النطق اللغوي، ونبتْ عليك القافية نبوًّا شنيعًا.
وسواد الليل كان يشفع للمتنبي عند من؟ عند عدوه، فما يحتاج العدو إلى هذه الشفاعة وما يرضاها، وما أظنه إلا كان يريد أنَّ سواد الليل كان يخفيه على الرقباء فيحميه منهم، وأنْ بياض الصبح كان يُظهره للرقباء فيغريهم به ويعرضه لآذاهم، والمعنى قديم جدًّا طرقه عمر بن أبي ربيعة كما طرقه امرؤ القيس من قبل، فلم يزد شاعرنا على أن أوجزه أشد الإيجاز، واصطنع فيه هَذَا الطباق الكثير الذي كان خليقًا أن يحسنَ، لولا ما ينتهي إِلَيْهِ من نبوِّ القافية.
فإذا فرغ المتنبي من هَذَا الغزل الرمزي عمد إلى فلسفته الصريحة الواضحة فقال:
فهذا الكلام من أروع الشعر وأجمله، يعجبني فيه هَذَا الانتقال من إيثار الجمال البدوي الصريح، الذي لم يُصْنعْ ولم يُتكلف، إلى إيثار الشيب الواضح الذي لا يخفيه الخضاب، ثم يعجبني أَيْضًا عدول الشَّاعِر إلى الحق واعترافه بأنه يحتمل المشيب كارهًا له وراغبًا عنه، بعد أنْ صرَّح بأنه لم يُرد أنْ يخفيه بالخضاب، فهو يؤثر الصراحة على النفاق، وهو يؤثر الصدق على الكذب، وهو يؤثر أنْ يكون شجاعًا تؤذيه الشجاعة وتُعَنِّيه، على أنْ يكون منافقًا يغر نفسه بالآمال والأوهام، ثم هُوَ بعد ذلك يتمنَّى العودة إلى الشباب ويضحي فِي سبيل ذلك لو استطاع بكل ما أفاد من علم وحلم، ومن الذي زعم أنَّ العلم والحلم لا يستفادان إلا بالشيب والضعف وتقدم السن، لقد يوجد العلم والحلم عند الشبان الذين لم يراعوا فِي شبابهم، كما يوجدان عند الشِّيب الذين اشتروهما بما أضاعوا من القوة والأمل والنشاط.
وكل هذه الفلسفة وكل هَذَا الغناء، إنما يشير الشَّاعِر به إلى هَذَا الحزن الغامض العميق الذي يملأ نفسه، والذي يستطيع أنْ يفصل أسبابه، ولكنه لا يستطيع أنْ يحصره ولا أنْ يحيط به، ثم ينتهي الشَّاعِر إلى كافور فيقول:
ومن الناس من يظن أنَّ المتنبي قصد بهذا الشعر وأشباهه إلى كلام ظاهره المدح، ويمكن أنْ يلتوي به السامع أو القارئ؛ لأن الشَّاعِر قد التوى به إلى الذم.
وما أظن إلا أنَّ هَذَا النحو من فهم شعر المتنبي فِي كافور، تكلف فِي كثير من الأحيان، يدفعنا إِلَيْهِ ما نعلمه من سوء رأي الشَّاعِر فِي ممدوحه، ومن غضبه عليه وهجائه له، وليس المهم هُوَ أنْ نفسر الشعر بما فسره المتنبي نفسه فِي أحاديثه ودروسه بعد أنْ هرب من مصر، ولا أنْ نفسر الشعر بما فسره به الشرَّاح الذين سمعوا المتنبي وتأثروا بحديثه، والذين سمعوا الأخبار أو صنفوها حول ورود المتنبي على كافور وإقامته، وإنما المهم أنْ نفترض أننا ظفرنا بهذا الشعر غُفلًا من كل تفسير، ولم نعلم من أمر قائله والمقول فيه شيئًا، أفكنا نظن أنَّ صاحبه قد التوى به عن وجهه الظاهر، وأراد به خداعًا ومكرًا؟ كلا! إنما كنا نفهم فِي يسر وسهولة أنَّ الشَّاعِر لم يُردْ إلا أنْ يصور عصامية الأمير وتفوقه، وما أتيح له من النبوغ والظفر بما لا يظفر به أذكياء الناس والذين كملت لهم العدة وتمت لهم أدوات الفوز، دون أنْ يستعد لذلك أو يتهيأ له، ودون أنْ يرث ذلك من أبٍ أو جدٍّ.
كذلك كنا نفهم هَذَا الشعر، وما كان يخطر لنا أنَّ قائله قصد به إلى وجه آخر من وجوه التعريض والتلميح، ولكن المتنبي فارق الأمير مغاضبًا له، ساخطًا عليه، نادمًا على مدحه، خجلًا من الإسراف فِي هَذَا المدح، مستخذيًا من الخيبة والإخفاق، مجتهدًا بالطبع فِي أنْ يأخذ ما أعطى وينكر ما عرف ويغير ما قال، وهو نفسه ينبئنا فِي هجائه كما سترى أنه لم يمدح كافورًا وإنما عبث به، وأنه لم يكن يزوره مكبرًا له ساخرًا منه، ولكنا نعلم حق العلم أنَّ هَذَا كلام شاعر مَغِيظ مُحْنِق، والمتنبي متهم عندنا فِي أحد الحالين، فإن صدق ما قاله فِي الهجاء فقد كذب ما قاله فِي المدح، وإنَّ صدق ما قاله فِي المدح فقد كذب ما قاله فِي الهجاء، وهو مع ذلك صادق عندنا فِي الحالين، بشرط أنْ نفهمه على وجهه، لا كما يجب هُوَ أنْ نفهمه، فقد كان صادقًا حين مدح كافورًا، وكان كاذبًا فِي الوقت نفسه، كان صادقًا؛ لأنه أراد المدح ولم يُردْ غيره، وكان كاذبًا؛ لأنه لم يمدح عن يقين ولا عن إيمان، وإنما مدح عن رغبةٍ وطمع، فقال غير ما يعتقد، وأثنى بغير ما يرى.
وهو كذلك صادقٌ كاذبٌ فِي هجائه: صادق لأنه كان يهجو عن غضب وسخط وبغض، وكاذب لأنه كان يقول غير الحق ويذيع فِي هَذَا الأمير من السيئات ما كان يكذبه فيما بينه وبين نفسه إذا خلا إليها، وما أكثر الأحوال التي يفرض فيها علينا البحث الصحيح أنْ نتهم الشعراء والكتاب فيما يتحدثون به عن أنفسهم مادحين أو قادحين.
ويمضي المتنبي بعد ذلك فِي مدح كافور فيقول:
وما أظن أحدًا يقدِّر أن المتنبي كان يعبث فِي هَذَا المدح، وإنما لهجة الشَّاعِر هنا صادقة صريحة، تدل على إعجابه بهذا الأمير الذي سمت به همته وحدها من أسوأ الحالات إلى تدبير هَذَا الملك الواسع العريض، ولكن سعة هَذَا الملك وعرضه يُطمعان المتنبي فِي رقعةٍ منه ضيقة فِي مدينةٍ من مدنه أو قريةٍ من قراه، ونفسه تتحرق شوقًا إلى هذه الولاية، ولكنه مع ذلك لا يصرح فِي هذه القصيدة كما لم يصرح فِي القصيدة الماضية، وإنما يكتفي بالتعريض الواضح الجلي بعد أنْ يمضي فِي مدح الأمير مدحًا حسنًا قويًّا على أنه قبل أنْ يعرض بحاجته لا يُهمل التعريض بسيف الدولة، فهو يقول:
وظاهرٌ ما فِي هَذَا الكلام من التعريض الواضح الثقيل بأخلاق سيف الدولة، وما فيه أَيْضًا من جحود الجميل وإنكار النعمة، وظاهر كذلك ما فِي البيت الثاني من هذه الأبيات من تجاوز للحد فِي انتقاص صديقه ومولاه القديم، والتلميح بحاجته التي يضحي فيها حَتَّى بالحياء، فكافور لا يهب المال وحده، ولا يهب من المال أكثر مما كان يهب سيف الدولة فحسب، ولكنه يهب الدولات، فهو يستطيع أنْ ينشئ دولًا، وأنْ يجعل لهذه الدول سيوفًا.
وانظر إلى البيتين الأخيرين من هذه القصيدة، فهما يغنيان عن كل تفصيل، لتعريض المتنبي بحاجته وتهالكه صادقًا أو كاذبًا على رضا الأمير، وإشفاقه من الغضب أو السخط الذي قد يجر عليه الحرمان وخيبة الأمل:
وأنا أمرُّ مسرعًا بالدالية التي مدح بها المتنبي كافورًا آخر سنة ست وأربعين وثلثمائة، ولكني أروي منها هذه الأبيات وحدها؛ لأنها تصور أبلغ تصوير وأجمله، تلك العلة التي حملت المتنبي فِي حياته ما احتمل من جهد وعناء، وألقته صريعًا آخر الأمر فِي مَهْمَهٍ من مهامه العراق، وهذه العلة هي قلبه الذي لا يقنع بشيء ولا يطمئن إلى حال، وإنما هُوَ طامعٌ أبدًا، طامحٌ أبدًا راغبٌ فِي التغيير، قلق مهما يستقر:
ويطول انتظار المتنبي ويبطئ وفاء كافور، ويبعد العهد بسيف الدولة، فيهدأ الغيظ ويسكت الغضب، ويبقى الندم قويًّا لاذعًا، وإذ بنا نرى الشَّاعِر يمدح كافورًا سنة سبع وأربعين وثلثمائة بهذه الميمية التي يكفي أنْ تقرأ مطلعها لتفهم منه ندم الشاعر، وتتصور حاله النفسية، وتبين أنه سيحمد سيف الدولة فِي القصيدة ويعتذر عن فراقه إياه، يصور بذلك ندمه من جهة، ويدعو بذلك كافورًا إلى الوفاء من جهة أخرى:
وتتقدم هذه السنة والشاعر منتظر، والأمير مبطئ، وندم الشَّاعِر على ما خلف وراءه يقوى ويشتد ويكلفه أحزانًا وآلامًا، وإذا هُوَ يهنئ كافورًا بعيد الفطر، فينشده هذه البائية، وهي آثر ما قال فِي كافور عندي؛ لأنها تصرح عن نفس الشَّاعِر تصريحًا لا لبس فيه، فهو حامد لأثر سيف الدولة يجهر بين يدي كافور بندمه على فراقه، وهو واصف لما لقي من الجهد فِي الفرار من حلب، وهو مطالب كافورًا بتحقيق أمله فِي غير تعريض ولا تلميح، وهو يشير إلى أنه قد بعد عن أهله وطال بعده عنهم، واشتد لذلك حزنه وعظم ألمه، وهو يحب أن يعود إليهم، لولا أنَّ الآمال تقيده عند كافور، واقرأ هذين البيتين، وانظر إلى تصويرهما للندم:
واقرأ كذلك هذه الأبيات لترى ملله من طول ما اشتكى وتعتَّب:
وانظر بعد هَذَا إلحاح الشَّاعِر على الأمير فِي حاجته وتصريحه بهذه الحاجة فِي غير لبسٍ ولا غموض:
ولكنه حسن الاستعداد للتعزي عن أهله بالبقاء مع كافور، بشرط أنْ يُحسن هَذَا البقاء، وأنْ يكون فيه الثراء والمجد معًا:
وفي هَذَا البيت الأخير نفس أبي الطيب كلها، فهو رجل لا يحب إلا نفسه، وهو سعيد حيث وجد من الناس الجميل، وهو راض حيث وجد المجد العزة، فأما الوطن والأهل والأصدقاء، فتأتي بعد ذلك، ولعلها لا تأتي.
ولا يحفظ الديوان لنا من مدحه لكافور سنة ثمان وأربعين وثلثمائة إلا قصيدة واحدة، لم نحصها فيما أحصينا من قصائد المدح؛ لأنا سنتحدث عنها فِي فصل خاص مع قصيدة أخرى بها سنة سبع وأربعين وثلثمائة ولم نحصها أَيْضًا فيما أحصينا.
وكذلك لا يحفظ الديوان من مدح المتنبي لكافور سنة تسع وأربعين وثلثمائة إلا قصيدة واحدة هي البائية التي أنشده إياها حين لقيه لآخر مرة.
ثم لا يروي الديوان لنا مدحًا لكافور فِي سنة خمسين وثلثمائة، مع أنَّ الشَّاعِر لم يترك مصر إلا فِي ذي الحجة من هذه السنة. أفيمكن أنْ يكون المتنبي قد أعرض عن مدح الأمير هَذَا الإعراض نحو سنتين كاملتين، ولم يتهمه الأمير ولم ينكر سكوته هَذَا الطويل؟ أما أنَّ الأمير كان يتهم المتنبي ويرصد له الأحراس ويدس عليه الجواسيس، فشيء يظهر أنه كان محققًا، وأما أنَّ المتنبي قد سكت عن مدح الأمير هَذَا الوقت الطويل، فشيء أشك فيه كل الشك، وأكاد أقطع بأن المتنبي قد مضى فِي مدح كافور سنة تسع وأربعين وسنة خمسين كعهده فِي السنتين السابقتين، ولكنه أسقط هَذَا الشعر من ديوانه، أو أسقط هَذَا الشعر من الديوان بعد المتنبي ولم يصل إلينا، وليس غريبًا أنْ يستخذى المتنبي من كثرة ما استجدى فِي غير فائدة، فيسقط طرفًا من هَذَا الاستجداء، ولا يُبقي من شعره فيه إلا ما يقيم له الحجة عليه، ومهما يكن من شيء فإن قصيدته الأخيرة تصور يأسه أو قربه من اليأس، كما تصور استخذاءه من شماتة أهل حلب فيه بعد أنْ حاول ما حاول وألح ما ألح ولم يظفر بطائل، وهو يقول ذلك لكافور فِي لهجة مؤلمة حقًّا، فانظر إلى هذه الأبيات:
ثم انظر إلى البيتين اللذين يختم بهما القصيدة:
فهذا شعر مستعطف ذليل بائس، قد تقطعت به الأسباب أو كادت تتقطع، وهو يعلن حسرته ولهفته فِي لهجة عذبة مؤثرة حقًّا، ولكن كافورًا كان صاحب سياسة لا صاحب عاطفة، وقد كوَّن رأيه فِي هَذَا الشَّاعِر وقضى فيه بأمره، واتخذه أسيرًا فِي سجن ينعم فيه بلين الحياة وخفض العيش، ورأى أنَّ هَذَا يكفيه.
وأنت بعد النظر فِي هذه القصائد كلها بتفصيل أوفى مما عرضت عليك مقتنع بأن المتنبي قد آثر نفسه وآثر سيف الدولة بخير ما فيها من الشعر، وأنَّ ما قدم من المدح إلى كافور على جودة بعضه وتوسط بعضه الآخر لم يكن يستحق أكثر مما أخذ المتنبي من مال هَذَا الأمير.
(٨) شعره السياسي عند كافور
وقد كادت الفرصة تسنح للمتنبي وتهيئ له العودة إلى الفن الذي برع فيه عند سيف الدولة، وهو وصف الحرب وتصوير الجهاد، ولكنها لم تلبث أنْ أخلفت الظنون واضطرت المتنبي إلى الهدوء الذي كان يكرهه ولا يحتمله إلا فِي مشقة وعناء.
ففي سنة سبع وأربعين وثلثمائة كانت وحشة بين كافور وبين أنوجور بن الإخشيد، سعى فيها المفسدون بين الملك ووليه، وجدُّوا فِي السعي حَتَّى أفسدوا بينهما، وحتى كادت الحرب تشب، ثم اصطنع كافور الحلم والأناة كما اصطنع معهما العزم والحزم، وأحس الملك ضعفه عن الحرب وحاجته إلى وليه، فعاد الأمر بينهما إلى صفاء، وذكر المتنبي هذه القصة مرتين، المرة الأولى حين هنأ كافورًا بعيد الفطر لهذه السنة ببائيته المشهورة التي تحدثنا عنها آنفًا، والمتنبي فِي هذه القصيدة يُجمل ولا يفصل، ويكاد يؤثر التعريض على التصريح، ولكنه مع ذلك حازم عازم، منضم إلى كافور من غير تردد ولا التواء، معلن أنَّ الملك مدين لهذا الرجل ببقائه وسلامته وقصور الأعداء فِي الوصول إليه، وقصور الأحداث عن البلوغ منه؛ لأنه قام على هذه الدولة قيام الأب الجريء الرحيم، فرد عنها العدو الخارجي بالحرب، ورد عنها البؤس والفقر والاضطراب بحسن السياسة والتدبير، فالذين يحسدونه أو يمكرون به أو يريدون صرف السلطان عنه طاغون باغون جاحدون للنعمة منكرون للجميل، وذلك حيث يقول:
ثم يقول:
وظاهرٌ ما فِي الأبيات من اندفاع المتنبي فِي تأييد كافور وصدق لهجته فِي النهوض بالذود عنه، ولنذكر هَذَا البيت الأخير الذي يفدي الشَّاعِر فيه هَذَا العبد الأسود بمعد ويعرب جميعًا، فقد ينفعنا تذكر هَذَا البيت حين نرى هجاء المتنبي لكافور.
ولما تم الصلح واستقر الأمر بين الملك ووليه، قال المتنبي داليته المشهورة يهنئ بها كافورًا، وهي عندي من أجمل شعر المتنبي وأصدقه فِي تصوير ما يكون فِي مصر بين حين وحين من الفرقة وانشقاق العصا، ثم من الوحدة واجتماع الرأي، ومن أبياتها ما يمكن إنشاده والتمثل به فِي هَذَا العصر الذي نعيش فيه، وفي هَذَا الطور من أطوار تاريخنا الحديث بصفة خاصة، ونلاحظ أنَّ المتنبي قد أشار إلى الملك فِي هذه القصيدة ولكنه لم يسمعه، وقد أثنى عليه ولكنه اقتصد فِي الثناء، وخص بالذكر والمدح الخالص كافورًا، وانظر إلى أول القصيدة:
فهذا كلام سائغ اللفظ، قريب المعنى، ملائم لأهواء النفوس المجتمعة بعد افتراق، وعواطف القلوب المؤتلفة بعد اختلاف، وهو قد صور الفرقة والألفة اللتين كانتا بين الكافورية والإخشيدية سنة سبع وأربعين وثلثمائة، وهو فِي الوقت نفسه خليق أنْ يتمثله المصريون فِي عصرهم الحديث كلما أتيح لهم الائتلاف بعد الاختلاف، والاتفاق بعد الافتراق، وقد عطف المتنبي على كافور بعد هذه الأبيات فوصف ثباته وحلمه وإعراضه عن الوشاة وامتناعه على دعاة السوء فِي كلام ما أرى إلا أنه يصلح للإنشاد فِي هَذَا العصر الحديث، ويصور بعض النابهين الذين نحبهم من المصريين، قال:
ثم يقول:
ثم يقول:
ثم يقول:
وانظر إلى هذه الأبيات العذبة التي يملؤها الحنان، والتي تصور أحسن تصوير وأبدعه وأروعه ما يكون من تواصل بعد تقاطع، ومن مودة بعد حفيظة وضغن، والتي نحس معناها بين حين وحين، ونود لو نحسه فِي كل حين:
أرأيت أجمل من هَذَا الكلام، وأبرع من هَذَا التصوير، وأنفذ من هذه المعاني إلى ضمائر النفوس ودخائل القلوب، فِي ألفاظ حلوة لينة جزلة رصينة، وهي مع ذلك ترضي الذوق ولا تؤذيه، وتقهر السمع ولا تشق عليه، أرأيت شعرًا أصدق فِي تصوير اتفاق المصريين، حين يتفقون برغم الكائدين والحاسدين، من هَذَا البيت الذي يجمع الصدق والدقة وجمال اللفظ وعذوبة المعنى ومضاء الرأي ونفاذ البصيرة ورضا النفس وتحدي العدو:
ويخلص المتنبي بعد ذلك إلى كافور فيختصه بالمدح ويقصر عليه الثناء، ويصطنع الذوق والظروف، فلا يستنجزه وعدًا ولا يسأله شيئًا، وذلك حيث يقول:
ولما كانت سنة ثمان وأربعين وثلثمائة عرضت فرصة أخرى كادت تدفع المتنبي إلى وصف الحرب، ولكن الظروف حوَّلتها عن وجهها، فقد ثار شبيب العقيلي فِي الشام، واجتمع حوله عدد ضخم من الأعراب، وعرَّض النظام للخطر وأغار على دمشق وكاد يقتحمها، ولكنه سقط فِي الميدان أثناء الهجوم صريعًا ميتًا لم يمسه سيف ولا رمح ولا سهم، واختلف الناس فِي تفسير موته، فظن بعضهم أنْ قد كان به صرع قضى عليه، وتحدث قوم آخرون بأن السم هُوَ الذي قتله، وبأن كافورًا هُوَ الذي وجه من دسَّ له السم فِي الطعام أو فِي الشراب.
وقال المتنبي فِي هذه القصة ميميته الغامضة، التي يقال: إنها أثارت أو قوَّت الشكوك فِي نفس كافور؛ لأن الشَّاعِر لا يذم فِي هذه القصيدة شبيبًا، بل يحمده ويرثيه، ويُظهر الأسف الشديد عليه، وهو فِي الوقت نفسه يحمد حظ كافور ويهنئه بمواتاة الأيام والحوادث له وردها عدوه عنه فِي غير حرب ولا قتال، وأنا لا أقف فِي هذه القصيدة موقف المعجب المسائل ولا موقف المتشكك المستريب، ولا أظن أنَّ كافورًا قد شك فيها أو ارتاب بها، وما كان له أنْ يشك أو يرتاب، وهو فيما أرجح الذي أوحى هذه القصيدة وكلف المتنبي أنْ يذهب فيها هَذَا المذهب، ليخفي ما كان قد دبر من كيد، أو ما زعم الناس أنه دبر من كيد، وهذا من سيرة الساسة وأصحاب الدهاء معروف فِي كل مكان، وفي قصور الشرق التي يستأثر فيها الفرد بالحكم والسلطان بنوع خاص، وأول هذه القصيدة:
والناس يسيئون الظن بهذا البيت، ويرى بعضهم أنه إلى الهجاء أقرب منه إلى المدح، كأن المتنبي قد جعل ارتفاع قدر كافور أثرًا من آثار المصادفة، ونوعًا مما تنكشف عنه الظروف، ولكني قدَّمت لك أني أرتاب فِي ارتياب الناس هذا، إنْ صح أنْ نصطنع أسلوب المتنبي فِي الحديث، فالبيت مدح خالص لا غبار عليه ولا لبس فيه؛ لأن الشَّاعِر لا يريد إلا أنْ يقول: إنَّ الله كتب العلا لكافور، وهيَّأ له قهر الحوادث، وذلل له المصاعب والعقبات، دون أنْ يكلفه جهدًا أو يحمله عناء؛ لأنه أتاح له حظًّا موفقًا سعيدًا، فمن الحق على أعدائه أنْ يعلموا أنَّ الله معه، وأنَّ الزمان مواتيه، فلا يطمعوا فيه ولا يشكوا فيما كتب له من فوز وتوفيق، والشعر الذي يأتي بعد هَذَا صريح فِي تحقيق ما أراد الشَّاعِر إليه، وهو يقول:
ولكن الناس بعد أنْ عرفوا ما كان من فساد الأمر بين الشَّاعِر وكافور، مشغوفون بالتماس التعريض والتلميح والالتواء فِي كل ما قال المتنبي، وهم يحملون شعر الرجل ما لا يحتمل، ويضيفون إلى المتنبي ما لم يرده ولم يفكر فيه، والناس معذورون؛ لأن المتنبي نفسه هُوَ الذي استخذى من مدحه لكافور ففتح لهم هَذَا الباب.
والشاعر يمضي بعد ذلك فِي رثاءٍ شبيب والثناء عليه، بما يخيل إلينا أنَّ قلب المتنبي قد خفق بشيء من الحنان والعطف على هَذَا المخاطر الذي أعجله الموت عن تحقيق ما كان يريد، ولا غرابةً فِي ذلك، فقد كان المخاطرون المخفقون يذكِّرون المتنبي بما تعرض له أثناء الشباب، ولعلك لم تنس أنَّ شيئًا من هَذَا الشعور يظهر فِي لاميته التي ذكر فيها إيقاع سيف الدولة بالقرامطة الذين أسروا ابن عمه أبا وائل تغلب بن داود.
فأنت ترى أنَّ إلمام المتنبي بالسياسة المصرية كان يسيرًا، لأنها لم تكن سياسة حرب وقتال، وإنما كانت سياسة مكر ودهاء، وليس المتنبي من المكر والدهاء فِي شيء، وأيسر أصول المكر والدهاء ألا يظهر عليهما شاعر لا يمسك لسانه، وهو بعدُ غريبٌ متَّهمٌ وطامعٌ محرومٌ.
(٩) غناؤه في مصر
وأجمل ما قال المتنبي من الشعر فِي مصر إنما هُوَ هَذَا الغناء الذي صور فيه حزنه وألمه واغترابه، وهذه البطالة التي فُرضت عليه، وهذا اليأس الذي جاهده خمس سنين، وقد استأثر هَذَا الغناء بشعره الذي قاله فِي مدح كافور كما رأيت، وبشعره الذي قاله فِي هجاء كافور كما سترى، ولكن المتنبي قد تغنى حزنه وألمه، وما أحاط بنفسه من الكوارث والخطوب، فِي شعر لم يقصد به إلى مدح ولا هجاء، وإنما قصد به إلى الغناء وحده، كان طائرًا تعوَّد الهواء الطلق والفضاء العريض، يرتفع فِي السماء ما أتاحت له قوته العنيفة أنْ يرتفع، فإذا أراد الراحة لم يقع إلا على الشواهق من قمم الجبال، فإذا هُوَ الآن سجين فِي قفص ضيق، لعله من الذهب المرصع بألوان الجوهر، ولكنه قفص على كل حال، وكان جوادًا مرحًا فرحًا، حياته كلها فِي العدو والغزو، ولذته كلها فِي المرح والنشاط، لا يطمئن ولا يرضى إلا إذا مضى أمامه فِي البيد والمهامه، مستمتعًا بحر النهار وبرد الليل، أو اقتحم الصعاب والعقاب إلى العدوِّ ثملًا بنشوة الظفر أو ألم الهزيمة، فإذا هُوَ الآن مرتبط فِي الفسطاط عند قصر كافور، قد مضغ الشكيم حَتَّى ملَّ مضغ الشكيم، وقد أفنى مرحه ونشاطه فِي هذه الحركات العنيفة المرحة التي يأتيها الجواد الأصيل فِي الرباط لا تقدمه ولا تؤخره، فإذا طالت عليه أضنته وعنته وردته إلى الخمود والفتور.
هذه كانت حال المتنبي حين طالت إقامته فِي الفسطاط، يغدو على كافور ويروح إلى داره، ويخلص من حين إلى حين لهؤلاء الجلساء الذين كانوا يروون عنه شعره، ويسألونه عن غريبه ومشكله، وما تعوَّد الرجل هذه الحياة الهادئة الخاملة، فإذا أضفت إلى ذلك أنَّ أمله فِي كافور قد ألح عليه حَتَّى أصبح مرضًا، وأنَّ حزنه لفراق سيف الدولة قد طبع فِي قلبه حَتَّى أصبح نُدُوبًا لا تزول، وأنه كان يشعر شعورًا قويًّا مؤذيًا بأن كرامته قد أهينت فِي مصر، وبأن الذين تحداهم فِي حلب وتركهم مغاضبًا لهم، تنتهي إليهم أخبار حياته هذه المظلمة القاتمة، فيسخرون منه ويشتمون به، وقد تنقطع عنهم أخباره، فيخلقون الأخبار من عند أنفسهم، ويتحدثون بها فِي مجلس صديقه القديم شامتين ساخرين.
إذا قدَّرت هَذَا كله، وذكرت أنَّ نفس المتنبي كانت من الدقة والرقة ورهافة الحس، بحيث يؤذيها أقل شيء ويثيرها أهون أمر، عرفت أنَّ الشَّاعِر كان فِي مصر تعسًا مبتئسًا، خليقًا بالرحمة والرثاء، وقد نفس الرجل عن نفسه فِي مدحه لكافور وفي هجائه إياه، وحين خلا إلى نفسه ولم يفكر إلا فيها، ولكن شعره هَذَا الحزين الكئيب مخالف كل المخالفة، فِي طبيعته ونغمته ولهجته، لما كان يقوله من الشعر الحزين أيام الشباب، فأنت تذكر شعره الذي شكا فيه أيام الشباب، ومكر الزمن به، وتنكر الحوادث له، وتألب الخطوب عليه، وأنت ترى أنَّ ذلك الشعر قد كان ثائرًا هائجًا، يظهر فيه الاضطراب العنيف، والغضب الذي لا حدَّ له والذي ينذر بالانفجار، وينتهي أحيانًا إلى ما يخرج به الشاعر عن طوره، ويطرح فيه كل وقار.
وما أظنك تستطيع أنْ تجد فِي كل ما قاله المتنبي من شعر الشكوى قبل زيارته لمصر إلا قصيدة واحدة أنكر فيها الشَّاعِر نفسه، واستسلم فيها للحزن والألم حينًا، ولكنه لم يلبث أنْ ثاب إلى نفسه، واسترد قوته العنيفة، وبأسه الشديد، وهي الميمية التي قالها بعد أنْ فر من بدر بن عمار، ولجأ حينًا إلى صديقه المُرِّيِّ، والتي أولها:
فأما فِي مصر فنحن نحس أنَّ شيئًا قد انحطم فِي نفس هَذَا الشَّاعِر العنيف، فإذا حزنه لا يصطنع لغة الغضب ولا لغة الثورة، وإنما يصطنع لغة الشكوى والأنين، كأنه الجريح لا يستطيع أنْ يقبض على السيف ولا أنْ يبطش به، ولا يملك إلا أنْ يئن أنين العاجز الكليل.
أكان مصدر ذلك أنَّ شيئًا قد انحطم فِي نفس المتنبي حقًّا مع تقدم السن واختلاف الأحداث، ففارقه شبابه، وتفرقت عنه خصال القوة والجرأة والبأس، وبقي له عقله المفكر، وقلبه الحساس، ونفسه الشاعرة، فهو يرى الألم ويحتمله، ولا يرى فِي نفسه القدرة على دفعه؟ أم كان مصدر هَذَا أنه أسير فِي مصر قد ضربت حوله مراقبة شديدة، وأرصدت له العيون والجواسيس، فهو مضطر إلى الحذر والاحتياط، وهو مكره على القصد والاعتدال؟
كلا الأمرين كان حقًّا، فقد رشد المتنبي ونضج عقله المفكر، فأدرك الضعف والفتور نفسه الثائرة، وهو فِي الوقت نفسه أسير سجين، مشدد عليه فِي المراقبة، مكلف أنْ يتحفظ ويحتاط.
ولم يحفظ الديوان لنا كثيرًا من هَذَا الشعر الذي اختص الشَّاعِر به نفسه فِي مصر، ولكن ما بقي منه خليق بالإعجاب كل الإعجاب، وهذه الميمية التي قالها حين أصابته الحمى فِي مصر سنة ثمان وأربعين وثلثمائة من أرق الشعر العربي كله، وأعذبه وأرقاه، وأشده استثارة للحزن، وتحريقًا للقلوب الحساسة الشاعرة، وقد أعجب القدماء بهذه القصيدة؛ لأن الشَّاعِر قد برع فيها حين أراد وصف الحمَّى؛ وليس فِي هَذَا شك، ولكني حين أحب هذه القصيدة وأكلف بها، لا أكاد أحفل بهذه البراعة الفنية أو أقف عندها؛ لأن حزن هَذَا الشَّاعِر العظيم قد تجاوز الفن وصار أعظم منه وأبعد مدى، وأنفذ إلى القلوب والنفوس، فأنا لا أرى شاعرًا يصطنع الشعر ليصور ما يجد من لوعة وحسرة ويأس، وإنما أرى اللوعة والحسرة واليأس تتخذ الشعر لها لسانًا لتبلغ أسماعنا وتنتهي إلى قلوبنا.
وما أشك فِي أنَّ لهذه القصيدة قيمتها الفنية الخالصة، ولكني لا أشك فِي أنها لم تكلف الشَّاعِر من الجهد والعناء، ما تعوَّد أنْ يتكلفه فِي غيرها من قصائده، وإنما فاضت بها نفسه، وانطلق بها لسانه، وجرى بها قلمه فِي غير تكلف ولا عسر، واقرأ هذه الأبيات لترى فيها كيف كانت خيبة أمله فِي الأصدقاء:
أترى إِلَيْهِ كيف يصطنع النفاق والمداجاة على شدة بغضه للنفاق والمداجاة؛ لأنه أصبح لا يجد من ذلك بدًّا! وأين نحن من المتنبي الذي كان يقول بين يدي أبي العشائر:
لقد أصبح الآن يجزي على ابتسام بابتسام، ويلقى نفاقًا بنفاق؛ لأنه عرف الناس واعترف بأن الجماعة أقوى من الفرد، وبأن الحوادث أقوى من الإنسان، وبأن الحياة أعظم قوة من الأحياء.
وانظر إِلَيْهِ كيف يصف سجنه فِي مصر:
وأنا أدع وصفه الرائع للمرض والحمى، فقد كثر فيه حديث القدماء، وأصل إلى هذه الأبيات التي يصف فيها علة مرضه الصحيحة، وهي هذه البطالة التي فُرضت عليه:
ثم انظر آخر الأمر إلى هذه الأبيات التي تصوِّر إذعانه للقضاء وصبره على المحن، ولكنها تنتهي به إلى أنه هي اليأس القاتم الذي ليس وراءه أمل ولا رجاء:
والمتنبي فِي هذه الأبيات الأخيرة يبلغ الفلسفة العليا، ويرتفع عن نفسه وسجنه ومرضه وما يحيط به من الأحداث، إلى التفكير فِي طبيعة الموت وما يكون وراء القبر، وهو هنا يائس، وما أراه إلا منكرًا للبعث جاحدًا للحياة الثانية، ولكنه يؤدي هَذَا الإنكار فِي تحفظ واحتياط شديدين، وأهون حاليه أنْ يكون شاكًّا مرتابًا، كما رأيت فِي بائيته التي رثى بها أخت سيف الدولة.
وليست هذه هي المرة الوحيدة التي يتعمق المتنبي فيها فِي أمور نفسه وأمور الناس حَتَّى ينتهي به التعمق إلى تجاوز نفسه وتجاوز الناس، وإذا هُوَ يفكر فِي فلسفة الأخلاق أو فلسفة الدين، فالنونية التي قالها فِي مصر وحفظها لنا الديوان، تحدثنا بكثير من تعمق المتنبي فِي أمور نفسه وأمور الناس أحيانًا، وهي على قصرها خصبة كثيرة الدلالة.
وما أرى إلا أنَّ طول تفكيره فِي قصته عند سيف الدولة هُوَ الذي ألهمه هذه الأبيات المظلمة التي هي عندي من أسس الفلسفة العلائية:
فهو في هذه الأبيات يضع أساس التشاؤمِ المطلقِ واليأس الشامل، والتشاؤم الذي لا موضع فيه للتفاؤل، فهو قد صحب الزمان فلم يرَ منه خيرًا، والناس قبله قد صحبوا الزمان فلم يروا منه خيرًا، وهو لا ينكر أنَّ اللذةَ قد تعرض للناسِ في حياتهِم بين حينٍ وحين، ولكنه لا يشك في أنها لذَّة عارضة لا تلبث أنْ تزول، وطارئة لا تقيم حتى تَرِيمَ.
والناسُ جميعًا مهما تختلف حُظُوظُهُم من اللَّذَّاتِ، يتركون الحياة يائسين محزونين، آخر حظهم هذه الغصة التي تنغص كل ما بَلوْا من خير ولقوا من إحسان، فالأصل فِي الزمان الشر، يبدأ حياة الناس وبه يختم حياة الناس، وقد يخلي هَذِهِ الحياة من الخير، وقد يشيع فيها بعضُ الخيْرِ، ولكنه مُنته بها دائمًا إلى الشَّرِّ.
وليس الناس خيرًا من الزمان، ولكنهم شركاؤه في الشر وأعوانه على السوء، كأنما تلقوا منه العدوى، فأسرعوا إلى موافقته ومعونته.
وإذا كان الزمان كله شرًّا، وإذا كان الناس أعوانًا للزمان على ما يُصبُّ عليهم من الشر، فما عسى أنْ تكون السيرة التي ينصح بها المتنبي للرجل الذي يريد أنْ يكون حكيمًا كريمًا؟ هي أنْ يكون شجاعًا، وألا يذعن للذل، ولا يستسلم للهوان، فأقصى ما ينتهي أمره إِلَيْهِ حين يأبى الذل ويمتنع على الضيم ويثور على الجائرين، إنما هُوَ الموت، والموت واقع لا محالة، وهو نازل بالشجاع والجبان، وبالقوي والضعيف، وبالثائر والمستكين، وإذن فليس هناك معنى للخوف منه أو تهيب لقائه، إنما يُفهمُ الخوف من الموت لو أنَّ للأحياء سبيلًا إلى الخلود، فأما والحياة إلى موت، والبقاء إلى فناء، فاحتمال الضيم عجز، والإذعان للهوان جبن.
وقد يخشى الناس ألم الموت؛ لأنهم يقدرون أنه مؤلم، ولكن قليلًا من الروية يزيل من نفوسهم هَذَا الخوف، فكل ما نراه صعبًا قبل وقوعه نراه سهلًا عند وقوعه، وإذن فليس للكريم خطة إلا الإقدام:
وما أرى إلا أنَّ هذه الأبيات الأخيرة تدل على الخطة التي كان المتنبي يديرها فِي رأسه حين استيأس من كافور وحين استيقن أنه أسير عند هَذَا الأمير، وهي خطة الهرب من مصر.
والديوان يحدثنا بأن الشَّاعِر استأذن كافورًا فِي الذهاب إلى الرملة، ليقضي مالًا كتب له به، فلم يأذن له الأمير، وأقسم عليه لا يرحل، وتكلف أنْ يقضي له ماله، ومنذ ذلك الوقت لم يشكَّ المتنبي فِي أنه سجين كافور، ولم يفتر عن التفكير فِي الإفلات من هَذَا السجن.
وكم كنت أحب أنْ أقف عند هذه النونية التي قالها المتنبي فِي سيف الدولة وقد انتهت إِلَيْهِ الأنباء فِي مصر بأنه نُعي فِي مجلس الحمداني، فهذه النونية ليست أقل روعة ولا جمالًا من القصيدتين السابقتين، ولكني أذكر منها آخرها؛ لأنه يصور لنا ألم المتنبي من الحرمان فِي مصر والشماتة فِي حلب، ولا أعرف شيئًا يؤلم ويؤذي مثل هذه التعلة التي يخدع بها الشامتين به، وإنْ كان فيما بينه وبين نفسه لا ينخدع ولا يأمل ولا ينتظر شيئًا:
وأنا أحسب لك أنْ تقرأ هذه القصيدة وتقرأها؛ فهي من أرقي شعر المتنبي وأبقاه.
(١٠) المتنبي وفَاتِك
وكأنَّ الزَّمَانَ قد تأذَّن أنْ يُعاقِبَ المتنبي عَلَى مَا بَلَا عِندَ سيف الدولةِ منْ راحةٍ ولذةٍ ونعيمٍ، أو أنْ يُعاقبَه على مَا أظهر عندَ سيفِ الدولةِ منَ اعتداد بالنفسِ وازدراءٍ للناس، ومن بغي وطغيان وكفر للنعمة وجحود للجميل، فأقسم لينغصنَّ عليه حياته فِي مصر كلها تنغيصًا، فبينا هُوَ شقي فِي الفسطاط بفراق سيف الدولة، وإخلاف كافور، وأَخْذِ الطرق عليه من كل وجه، واضطراره إلى حياة السجناء، وإذا أمل يبدو له، فيرد عليه فضلًا من حياة، ويشيع فيه شيئًا من نشاط، فقد اتصل — بعد جهد ومشقة — بأمير من أمراء مصر، هُوَ أبو شجاع فاتك الرومي الذي كان يعرف بالمجنون، وكان فاتك هَذَا مولى من موالي الإخشيد مثل كافور، وكان قائدًا من قواده، وكان مقدمًا عنده وأثيرًا فِي نفسه، وكان يفضَّل على كافور؛ لأنه أبيض من الروم، وكافور أسود نوبي أو زنجي، ولأن فاتكًا كان مقدامًا جريئًا يكاد يبلغ التهور أو الجنون، فأما كافور فقد كان كما رأيت من سيرته حازمًا عازمًا شجاعًا، ولكنه معتدل يؤثر المكر والدهاء على الحرب والقتال، ويصطنع فِي ذلك مذهب سيده الإخشيد، وكان فاتكًا مسرفًا فِي الكرم والجود، إنْ صدق تصوير المتنبي له، وصح ما يروي من إهدائه إلى الشَّاعِر عن سعة وسخاء، ولم يكن كافور بخيلًا ولا حريصًا، ولكنه كان مدبرًا يكره الإسراف وينأى عنه، ولعل المتنبي تقرَّب إِلَيْهِ بقوله فِي الدالية المشهورة:
ولما مات الإخشيد قضت الظروف أنْ يكون تدبير الملك إلى كافور دون فاتك، فانحاز هَذَا إلى الفيوم، وكانت إقطاعًا له، وكانت أنباؤه وأحاديث الناس عنه تنتهي إلى المتنبي فتطمعه وتغريه، ولكنه كان لا يجد إلى لقائه سبيلًا، لتضييق كافور عليه وتشديده فِي المراقبة.
وقد اعتل فاتك وأقبل إلى القاهرة يستشفي، سنة ثمان وأربعين وثلثمائة، ولعله احتال فِي لقاء المتنبي، واحتال المتنبي فِي لقائه، وأتيح لهما هَذَا اللقاء فِي الصحراء، كما يقول بن خلكان، ثم أهدى أبو شجاع إلى المتنبي فأحسن الإهداء، وأعطاه فأجزل العطاء، واستأذن المتنبي كافورًا فِي أنْ يشكر لفاتك إهداءه وعطاءه، فلم يجد كافور بدًّا من الإذن، مجاملة ومصانعة أيضًا، وقال المتنبي فِي فاتك لاميته المشهورة:
وكأن المتنبي لم يستطع أنْ يكف نفسه عن التعريض الخفي بكافور، فقال فِي البيت الثاني من هذه القصيدة:
وهو كذلك لم يستطع أنْ يخفي تأذِّيه بهذا السجن الذي يمسكه فِي الفسطاط، فقال:
ثم اتخذ بعد ذلك فِي مدح فاتك سبيلًا سواء، ليس فيها تعوُّج ولا التواء.
ولعل المتنبي كان يتحدث إلى نفسه بأن الظروف قد تتيح له الاتصال بفاتك فِي غير احتياطٍ ولا حرج، ومن يدري! لعله كان يجد عند فاتك ما يعزيه عما لم يظفر به من كافور، ولكن الزمان كان قد تأذَّن، كما قلت لك، بأن ينغص على المتنبي حياته كلها فِي مصر، فقد مات فاتك بعد أنْ سمع هذه اللامية بوقت قصير، وحزن المتنبي عليه كما يستطيع أنْ يحزن، ورثاه كما يستطيع أنْ يرثى فِي قليل من الإجادة والتأثر، وفي كثير من الكلام، فقد رثاه ثلاث مرات فِي ثلاث قصائد، ولكنه لم يُظهر هَذَا الرثاء فيما أرجح إلا بعد خروجه من مصر، وأكبر ظني أنَّ المرثية الأولى قيلت فِي الفسطاط نفسها، وأولى هذه المراثي عينيته التي مطلعها:
والثانية ميميته التي أولها:
وقد قيلت فِي الكوفة.
والثالثة ميميته التي قالها فِي الكوفة وقد ذكره ببعض هداياه، وأولها:
وليس فِي هَذَا الرثاء كله ما يميزه من رثاء المتنبي إلا ما يشتمل عليه من هجاء كافور، كما أنَّ مدح المتنبي لفاتك لا يمتاز من سائر مدائحه بشيء.
فلندع هَذَا الشعر الذي لا يكاد بصور من حياة الشَّاعِر إلا بارقة أمل لم تلبث أنْ أخلفت الأيام فيها ظنون الشَّاعِر اليائس الحزين.
(١١) هجاؤه لكافور
وقد انتهى المتنبي بعد طوال الانتظار إلى اليأس من كافور وخيبة الأمل فيه، وإذا صدق الديوان فقد أقام سنة كاملة فِي مصر لا يرى كافورًا ولا ينشده، وإذا صدق ما يقوله بعض الرواة، فقد كان يظهر فِي القصر ويسير فِي المواكب، ولكنه لا يمدح الأمير طوال سنة خمسين وثلثمائة، وأكبر الظن أنه كان يعيش عيشة المغضوب عليه، الذي أخذت عليه طرق الفرار، فهو حر فِي ظاهر الأمر سجين فِي حقيقته.
في ذلك الوقت جعل المتنبي يتهيأ للهرب من جهة، ويقول الشعر فِي هجاء كافور، والناس يكبرون هَذَا الهجاء ويكثرون الإعجاب به والكلام فيه، والمحدثون المعاصرون يختلفون فيه اختلافًا كثيرًا، فمنهم من يرى أن المتنبي قد تجاوز كافورًا بهذا الهجاء إلى مصر كلها والمصريين جميعًا، ومنهم من يرى أنه لم يرد مصر ولا المصريين، وإنما أراد كافورًا، ومن كان إليهم الحل والعقد من قادة الإخشيديين، وهم بعد ذلك يختلفون، فمنهم من يعذر المتنبي، ومنهم من يمقته ويسرف فِي مقته، ويكره من أجل هَذَا الهجاء شعره كله، وربما كان من الناس من يرى شيئًا من الصدق فيما عاب المتنبي به المصريين، فمن الناس من يتمثل بقوله:
وأكثر الناس يتمثل بقوله:
وربما تمثل بعضهم بقوله:
وأنا أعترف بأني لا أرى كل هذه الخصومة إلا لغوًا لا خير فيه، فقد غضب شاعر من الشعراء على أمير من الأمراء فهجاه، بعد أن رضي عنه فأثنى عليه، وهذا شيء يكون فِي كل زمان ويكون فِي كل مكان، وما ينبغي أن نحب الشعراء أو نبغضهم؛ لأنهم مدحوا أو هجوا، ولأنهم مدحونا نحن أو هجونا، وإنما ينبغي أن نعرف الشعراء أو ننكرهم؛ لأنهم مدحوا فأحسنوا المدح، وهجوا فأجادوا الهجاء.
وقد رأينا أنَّ مدح المتنبي لكافور كان مدحًا معتدلًا، يجود حينًا ويتوسط حينًا آخر، وكان جزل اللفظ، رصين الأسلوب، أقرب إلى الرضا منه إلى السخط، وما أشك فِي أن المتنبي قد وفق للإجادة فِي هجاء كافور والمصريين أكثر مما وفق للإجادة فِي المدح، وليس يطلب إلى الشَّاعِر حين يهجو أن يقول حقًّا، إنما يطلب إِلَيْهِ أن يتقن الإساءة إلى من يهجو، ويبرع فِي التشهير به والتشنيع عليه، فأما أن يكون صادقًا أو كاذبًا، فأما أن يكون مرضيًّا للأخلاق أو مخالفًا عن أمرها وقانونها، فهذا شيء لا يعني الفن بحال من الأحوال، وقد كذب الفرزدق على جرير، وكذب جرير على الفرزدق، وكذب غير الشاعرين عليهما جميعًا، وقُضِي لهؤلاء الشعراء بالبراعة فِي الهجاء.
فماذا أنكر المتنبي من كافور؟ أنكر عليه خلقه أولًا: رآه أسود دميمًا، قبيح الشكل، ضخم المشفر مشقوقه، غليظ القدمين مشقوقهما أيضًا، خصيًّا، ثم عيره هَذَا كله فِي شعر مضحك لاذع من غير شك، ولكنه كان يعرف هَذَا كله من كافور حين كان يمدحه ويتملقه، ويسرف في التقلب إليه، فهو قد أضحك الناس من كافور، ولكنه قد غض من نفسه عند الناس، والناس قد يضحكون من الرجل الدميم ذي الخلقة البشعة والشكل القبيح، ولكنهم مع ذلك يكبرون عقله، ويُعجبون بأخلاقه، ويحمدون مهارته فِي السياسة، وبراعته فِي تدبير أمور السلطان، وكذلك ضحك الناس من كافور، وما يزالون يضحكون منه إذا قرءوا أو سمعوا هجاء المتنبي له، ولكنهم لا يزدرونه ولا يحقرونه، وإنما يضحكون منه فِي شيء من العطف وكثير من الإعجاب، فإذا أنكروا أحدًا فهم ينكرون الشَّاعِر الذي أعطى ثم أخذ، ومنح ثم استرد، وقال ثم كذب نفسه، وهم حين يضحكون من هَذَا الشَّاعِر لا يبخلون عليه بالإعجاب والإكبار، فهم يكبرون فنه وبراعته فِي تصريف الكلام، ولكنهم يصغرون رأيه ويحقِّرون خُلقه، ولا سيما حين يكون هَذَا الرجل مكبرًا لنفسه كما أنَّ المتنبي يكبرها.
والمتنبي يهجو كافورًا بأصله، وبأنه كان رقيقًا تلعب فِي رأسه يد النخاس، وهذا كلام يُضحك الناس ويُرضي العامة، ولكنه لا يغض من كافور، ولا يضع من قدره، فقد كان المتنبي نفسه يثني عليه، لأنه ارتقى من حاله تلك إلى أنْ أصبح يدبر ملكًا واسعًا وسلطانًا بعيدًا.
والمتنبي بعد هَذَا كله ينكر نفسه أشد الإنكار، فما ينبغي للفيلسوف الحكيم الذي أنفق شبابه الأول ثائرًا على النظم الاجتماعية، منكرًا لما تقوم عليه من الجور، مؤمنًا بالمساواة بين الناس جميعًا، أنْ يعيب رجلًا بسواد الجلد، أو أنْ يعيبه بهذا النظام الذي كان ينكره ويثور به، والذي كان يقسم الناس إلى السادة والعبيد، وإلى الأحرار والأرقاء، وإلى الأغنياء والفقراء.
فالمتنبي فِي قصته مع كافور كلها صغير حقًّا، صغير حين مدح، وصغير حين هجا، وصغير حين رضي، وصغير حين غضب، ولكن صغره هَذَا لا يمنعه من أنْ يهجو فيجيد، ومن أنْ يريد إضحاك الناس فيبلغ ما يريد، والحق بعد هَذَا كله أنه قد هجا كافورًا فكان لاذع الهجاء، ولعله هجا المصريين فوفق لتصوير شيء من مواطن الضعف فيهم، ومن ذا الذي لا حظ له من ضعف؟ وأنا أعتذر — إذا لم يكن بدٌّ من الاعتذار — من الإعجاب ببعض هجاء المتنبي للمصريين، فكما أنه قد أحسن تصوير لون من ألوان الحياة المصرية حين ائتلف كافور ومولاه بعد اختلاف، فهو كذلك قد أحسن تصوير لون من أخلاق المصريين حين وصف إذعانهم وخنوعهم لهذا الأسود الذي كانوا يرونه يضرب ويهان ويعبث به فِي الأسواق، ثم أصبحوا يرونه ملكًا يدينون له بالطاعة والخضوع، وما أكثر الظروف التي تدفعنا جميعًا إلى أنْ نتمثل فِي شئون أنفسنا بالأبيات التي ذكرناها آنفًا من شعر المتنبي دون أنْ يمسنا من ذلك أذي أو يلحقنا منه عار، والشعب الكريم كالفرد الكريم خليق أنْ يعرف عيب نفسه ويجدَّ فِي إصلاحه ما وجد إلى ذلك سبيلًا.
ولننظر فِي نماذج من هجاء المتنبي لكافور، كما نظرنا فِي نماذج من مدحه إياه، ولنبدأ بهذه المقطوعة اليائية التي جاءت على الوزن والقافية اللذين اصطنعهما فِي أول قصيدة مدحه بها حين أنشده:
ومن يدري! لعل المتنبي لو فرغ لكافور وكان منظَّم النفس منظَّم الحياة، لقال فِي هجائه بمقدار ما قال فِي مدحه، ولعارض كل قصيدة فِي المدح بقصيدة فِي الهجاء تشبهها فِي الوزن والقافية، وتنقض ما اشتملت عليه من ثناء.
ولكن المتنبي لم يفرغ حَتَّى لهذا، فهو كان مشغولًا عن الفن الخالص، لا يقول الشعر إلا حين يرغب أو يرهب، وحين يحب أو يبغض، فأما الفراغ للفن من حيث هُوَ فن، فذلك شيء ليس من شأنه، ولا هُوَ من شأن كثير من شعرائنا، ولا سيما فِي هَذَا العصر العباسي.
قال المتنبي فِي هجاء كافور:
وقد أنصف المتنبي نفسه، وأنصف منها فِي هذه الأبيات حين لم يسخط على كافور وحده، بل سخط على نفسه أيضًا، وحين لم يضحك من كافور وحده، بل ضحك مما ناط به من أمل وما عقد به من رجاء، ولكن المهم أنْ نعلم ماذا كان يقول المتنبي فِي كافور لو أنه لم يخيِّب أمله، ولم يخلفه ما وعده، أكان يرى فيه كل هذه الخصال التي زعم أنه يراها فيه الآن، وأنه كان يراها فيه حين كان ينشده المدح ويرفع إِلَيْهِ الثناء؟ ولكن البيت الثاني على كل حال جميل، ولا سيما قوله:
ثم يقول:
وفي البيت الأول ظرف، ولكن فِي البيت الثاني مبالغة سخيفة، فلم يكن كافور يُظن به الجهل إلى هَذَا الحد.
ثم يقول:
وهذا أبلغ فِي تصوير الجهل، فقد يظن بالرجل الغفلة عن التفريق بين المدح والذم أكثر ما تُظَن به الغفلة عن التفريق بين البياض والسواد.
ثم يقول:
وليس بهذين البيتين بأس، فقد تكلف الشَّاعِر فيهما عزاء عما احتمل من مشقة، وما قطع من طريق، وما أدرك من خيبة، وكان عزاؤه أنه ضحك من مشفري كافور كما ضحك من رجليه.
ومن أجود هجائه لكافور هذه الأبيات الميمية التي بدأها هازلًا ضاحكًا، ثم أخذ يجدُّ شيئًا حَتَّى انتهى إلى حزن فلسفي عميق، ثم إلى غضب حمله على أنْ يحرض على كافور من يقتله، وذلك قوله:
وللمتنبي فِي كافور مقطوعات أخرى يعرفها الناس، يبلغ فيها الإجادة، ولا يبعد أحيانًا فيها عن السخف، ولكني أقف عند قصيدته الدالية التي قالها عند خروجه من مصر فِي آخر سنة خمسين وثلثمائة، وهي خليقةٌ بالعناية حقًّا، ولا سيما القسم الأول منها، لما فيه من هَذَا الغناء الحزين الذي أجاده المتنبي فِي مصر كل الإجادة.
وانظر إلى هذه الأبيات الأولى، وإلى هذه اللهجة القوية التي يملؤها الحزن واللهف والإشفاق، فهو يستقبل العيد جاهلًا بماذا يعود عليه، أبهذه الهموم والأحزان التي تعوَّد أنْ يلقاها فيه منذ أقام بمصر؟ أم بشيء آخر يغيِّر حاله السيئة هذه، وينقله إلى حال خير منها؟ وهو مع ذلك مبتئس بالعيد، كاره له، يتمنى لو بعد عنه؛ لأن أحبّاءه منه بعيد، وما يريد أنْ يستمتع وحده بالسرور، فمن هؤلاء الأحباء، وأين يكونون؟ أهم فِي قصر سيف الدولة بحلب، حيث لا يستطيع أنْ يذهب؟ أم هم بالكوفة حيث يريد أنْ يستقر؟
يظهر أنهم ليسوا هنا ولا هنالك، ولا فِي أي مكان آخر، وإنما هم فِي نفس المتنبي، أو هم فِي آماله التي لا يبلغها، وأمانيه التي لا يستطيع لها تحقيقًا.
فانظر إِلَيْهِ كيف يقول:
فأحباؤه إذن ليسوا أشخاصًا يقيمون فِي حلب أو فِي الكوفة، وإنما هم أطماعه وأماني نفسه التي لم يظفر بها قط، ولن يجد إلى الظفر بها سبيلًا.
واقرأ هذه الأبيات التي لا أعرف أجمل منها، ولا أصلح للغناء:
أما أنا فمفتون بهذه الأبيات، وبالثلاثة الأخيرة منها خاصة، وما أعرف أني وجدت فِي كل ما قرأت من الشعر العربي ما يشبهها جمالًا وروعة، ونفاذًا إلى القلب وتأثيرًا فِي النفس، ومهما أحاول فلن أستطيع تصوير ما يملأ نفسي من الحزن حين أسمع تحدُّثه إلى ساقييه وسؤاله إياهما عما فِي كئوسهما: أخمرٌ هُوَ أم همٌّ وتسهيد؟
ومهما أقل فلن أستطيع أنْ أصور إعجابي بهذا البيت الذي يسأل فيه عن نفسه، ما له لا يطرب للخمر ولا يطرب للغناء، وما أعرف بيتًا يصور السكون وجمود النفس وموت القلب خيرًا من هَذَا البيت، وهو على تصويره الرائع للسكون والجمود والموت، من أشد الشعر تحريكًا للنفوس وإثارة للطرب الحزين فِي القلوب.
ثم انظر إلى هذه الحسرة التي يصيح بها البيت الأخير، صيحة اليأس والقنوط؛ لأنه يبتغي المدام فيظفر بها، ولكنه وحيد قد فقد حبيب نفسه، فهو لا يستطيع أنْ يلهو وحده، ولا أنْ ينعم بلذة وحيدًا.
ثم اقرأ هذه الأبيات الأخرى؛ فقد أخذ الشَّاعِر يوضح عما فِي نفسه، ويبين أسباب حزنه شيئًا فشيئًا:
وهذا الشطر الأخير جميل رائع بما فيه من هَذَا الإيجاز، ومن هَذَا الشيء الذي يشبه الطباق، فهو غني ولكنه فقير؛ لأن ثروته وعود لم تتحقق، هَذَا الشطر الجميل الذي سار مسير الأمثال كذب كله، وكان المتنبي يعرف أنه كذب؛ لأن هذه الإبل التي كانت تحْدَى بين يديه مثقلة بما كانت تحمل من الذهب والفضة والمتاع، والتي كان المتنبي حفيًّا بها، حريصًا عليها، لا يتردد فِي أنْ يقترف الإثم ذيادًا عنها، واحتفاظًا بها، هذه الإبل كانت خليقة — لو استطاعت — أن تردَّ عليه شطره هذا، وأن تصيح به، إنه خرج من مصر، كما خرج من حلب، ومعه أموال أخرى غير المواعيد.
وقد وصل المتنبي إلى كافور وأصحابه، فهجاهم بالكذب والغدر وإخلاف الوعد، ومقتهم ومقت الجود معهم، وَلَكِنْ انْظُر إِلَيْهِ بَعدَ قليلٍ كَيْفَ يَقُول:
ولست أعرف أصدق فِي مصر ولا أبرع فِي تصويرها من هَذَا البيت الأخير.
وما أري إلا أنَّ المتنبي قد ألهم البلاغة والحكمة حقًّا، حين وفق لهذا البيت الذي يختصر لونًا من حياة مصر منذ أبعد عهودها بالتاريخ إلى هَذَا العهد الذي نحيا فيه، ولو أنَّ التاريخ أراد أن يحصي الثعالب التي عدت على مصر وأموالها، فأخذت منها ما أطاقت وما لم تطق حَتَّى أدركها البشم وما هُوَ فوق البشم، ونواطيرها نائمة، وقادتها غافلون، وأموالها مع ذلك لا تفنى ولا تنفد، ودول الثعالب يتلو بعضها بعضًا، ويقفو بعضها إثر بعض، أقول لو أراد التاريخ إحصاء هذه الثعالب، لما استطاع، ولست أدري! أيأتي يوم يكذب فيه هَذَا البيت من شعر المتنبي، فلا تنام نواطير مصر، ولا تبشم الثعالب فيها، ولا يعدو الماكرون الغادرون على أهلها الآمنين الغافلين، ثم يقول المتنبي بعد قليل:
ثم يبلغ الغضب من الشَّاعِر أقصاه حين ينتهي إلى هَذَا البيت، فإذا هُوَ يعلن عزمه على الهرب فيه وقد أسبغ عليه اللون الحماسي القاتم فِي الشطر الأول، ولكنه لا يلبث فِي الشطر الثاني أنْ يستحيل إلى فكاهة تثير الضحك والاستهزاء، ثم يقول:
وإذن فالمتنبي ينكر هذه الخطة ويأبى ما تحمله من الضيم، ولكن كيف يكون إنكاره وكيف يكون إباؤه؟ لن يكون مقاومة ولا امتناعًا، ولكنه سيكون هربًا وفرارًا:
والقصيدة متينة رصينة إلى آخرها، ولعلها أجود ما قال المتنبي فِي هَذَا الفن، ولم يتحدث عن هجاء المتنبي لكافور من لم يرو هذه الأبيات الخالدة التي جاءت فِي آخر مقصورته، والتي ما أحسب مثقفًا خليقًا بهذا الوصف جهلها أو يجهلها منذ شاع شعر المتنبي فِي الناس:
وسواءٌ أردنا أم لم نرد، فإن لمصر على المتنبي فضلين لا يستطيع هُوَ ولا نستطيع نحن أن ننكرهما، فهي قد رققت غناءه وعلَّمته الحزن الطويل العميق، والتأمل الذي يكاد يرقى به إلى الفلسفة، وأنطقته بأشد شعره حزنًا وأبلغه فِي النفس أثرًا، فِي ميميته التي يذكر فيها مرضه، وفي نونيته التي يشكو فيها الزمان، وهي قد علَّمته الهجاء اللاذع الممض الذي يبقى على الدهر ولا يخلو من نفع وموعظة.
فالمتنبي مدين لمصر بكثير من حكمته؛ لأنه لم يعرف الحياة الهادئة التي تملؤها الهموم الملحة كما عرفها فِي مصر، كان خليقًا أنْ يعرفها فِي السجن بعض الشيء، ولكنه كان شابًّا قليل التجربة فأسرع إِلَيْهِ الضعف، وكان خليقًا أنْ يعرفها أثناء اضطرابه فِي شمال الشام بعد خروجه من السجن وبعد فراره من بدر، ولكنه كان كثير الحركة قليل الاستقرار، مباعدًا بينه وبين التفكير الطويل العميق، فأما عند سيف الدولة فقد كان مشغولًا بالقصر والحرب، وبالكيد وجمع المال، فلما انتهى إلى مصر واستقر فِي ظِلِّ كَافُور أتيح له السكون والهدوء، ولم يعرض له أحد بكيد ولا حسد، ولم يضيِّق عليه فِي حياته المادية، وإنما وُضع على نارٍ هادئة من الوعد والإخلاف، فنضجت نفسه نضجًا بطيئًا، ولكنه نضج صحيح، وتعلم كيف يطيل التفكير فِي الحوادث والخطوب دون أنْ تشغله الثورة عن التعمق والاستقصاء، وانتهى إلى الاستهزاء بالحوادث والخطوب وبالذين يسلِّطون عليه هذه الحوادث ويغرون به هذه الخطوب، فنبغ فِي الهجاء، واستطاع أنْ يرقى به من السخف والإقذاع إلى حَيْثُ يجعله أمثالًا سَائِرَةً وحكمة تنفع الناس.
(١٢) فراره من كافور
ولم يكن بُدٌّ للمتنبي، حين أزمع الرحيل من مصر، من أنْ يقصد إلى العراق، فسبيل الشام مأخوذة عليه، فِي جنوبها ملك الإخشيديين وسلطان كافور، وفي شمالها الحمدانيون الذين فارقهم قاليًا لهم، والذين لا يستطيع أنْ يصل إليهم حَتَّى لو عاد بينهم وبينه الصفو، إلا أنْ يمر بطريق مأهولة فِي بلاد كافور يشتد فيها الطلب وتضيق فيها المراقبة.
وقد كان من الجائز أنْ يباعد المتنبي فِي أسفاره نحو الغرب، فيقصد إلى الفاطميين فِي شمال أفريقيا، ولكن هَذَا لم يخطر له لسبب واضح جدًّا؛ لأنه لو فعل لنفى نفسه عن العراق والشام نفيًا مؤبدًا كما يقولون؛ لأنه كان يجعل ملك كافور بينه وبين مأمنه فِي العراق والشام، فلم يكن له بدٌّ إذن من أنْ يعود إلى العراق، ومن أنْ يسلك إِلَيْهِ طريقًا غير الجادة، لا يمكن أنْ يدركه فيها الطلب أو يبلغه فيها البحث إلا بعد مشقة وجهد، وقد دبر المتنبي أمره تدبيرًا حسنًا، وأعانه على ذلك جماعة من أعراب مصر الذين يحسنون العلم بطرق الصحراء، فالديوان ينبئنا بأنه استعان برجل قيسي من بِلْبِيس فأرسل إِلَيْهِ دليلًا، ومدحه المتنبي بالأبيات التي أولها:
وليس من شك فِي أنَّ الشَّاعِر جدَّ فِي الهرب حَتَّى أمن طلب كافور، ثم رفق بنفسه وإبله وخيله وعبيده بعد ذلك فسار معتدلًا، ولم يبخل على قافلته ببعض الراحة من حين إلى حين، حَتَّى انتهى إلى الكوفة، وقال مقصورته المشهورة فِي ربيع الأول من سنة إحدى وخمسين وثلثمائة، وكان قد خرج من الفسطاط فِي يوم عرفات سنة خمسين وثلثمائة، فكأن هذه الرحلة قد اقتضته ثلاثة أشهر أو أقل أو أكثر قليلًا.
وما كنا لنقف عند هَذَا الهرب، ولا نتحدث عن هذه الرحلة، لولا أن فيها ظاهرتين خليقتين بالملاحظة والتفكير، فأما الظاهرة الأولى فنستنبطها من هذه الحادثة التي عرضت له حين نزل فِي بعض طريقه بأعرابي من طييء يقال له وردان بن ربيعة، فجعل هَذَا الأعرابي يُفسد عبيده، وجعل العبيد يسرقون له من متاع سيدهم، فلما شعر المتنبي بذلك وعرف أعظم عبيده حظًّا من هَذَا الشر ضربه بالسيف فأصاب وجهه وجدع أنفه، ثم أمر غلمانه أنْ يجهزوا عليه ففعلوا.
وقد ذكر المتنبي هذه القصة فِي مقطوعتين حفظهما الديوان، وقد هجا الطائيين فِي أولاهما وهو يقول فيها:
وقال الثانية يفخر فيها بتلك الضربة التي أصابت وجه العبد، ويذمه بعد موته، وأولها:
وليس لهذا الشعر فِي نفسه خطر، وإنما هُوَ نحو من كلام الأعراب فِي مثل هذه الحوادث الهينة فِي ظاهر الأمر، إنما الشيء الخطير حقًّا، هُوَ إقدام المتنبي على القتل فِي سبيل ما كان يسرق هَذَا العبد من متاعه، فذلك لا يصور بخله وحرصه على المال فحسب، وإنما يصور كذلك ما هُوَ شر من هذا، يصور استهانته بالحياة الإنسانية، واستباحته الدم الإنساني فِي سبيل متاع يقوَّم بالدراهم والدنانير.
وأقل ما يوصف به هَذَا الإثم أنه لا يصور نفسًا شاعرة متحضرة رقيقة الحس متأثرة بالفلسفة، فضلًا عن الدين الذي لا يبيح دماء الناس فِي مثل هذه الصغائر، ولو أنَّ حياة المتنبي كلها خلت من النقائص والعيب، لكانت هذه الحادثة وحدها خليقة أن تسبغ عليها لونًا أحمر قانيًا يبغضها ويبغض صاحبها إلى الناس.
والغريب أنَّ المتنبي يفخر بهذا الإثم، ويراه مظهرًا من مظاهر البطولة والفتوة، وأغرب من هَذَا أنَّ من الناس من أُعجب بهذا الإثم، وبشعر المتنبي فيه قديمًا وحديثًا، كأنه يكفي أنْ يُقترف الإثم ويرتكب الفجور ليُحمد الآثم بإثمه ويثني على الفاجر بفجوره فِي بيئات تتخذ الإسلام دينًا، وتتخذ الفلسفة والحضارة مقومًا للعقل والقلب والشعور، ولكنها الفتنة بالمتنبي تصرف الناس حَتَّى عن أبشع سيئاته وأشدها نكرًا.
أما الظاهرة الثانية فنراها فِي هذه المقصورة التي أذاعها من الكوفة، ووصف فيها طريقه وهجا فيها كافورًا، وهي أنَّ استرداد الشَّاعِر لحريته قد ردّ عليه فتوته الأولى ومرحه القديم وقتًا ما، وإذا نفسه الشابة تشيع فِي هذه القصيدة فرحة مرحة وخائلة تياهة لا تكاد تسع نفسها ولا يكاد يسعها الكون، وإذا الشَّاعِر يعود إلى غروره القديم، فيفخر بنفسه فِي غير قصد ولا اعتدال، ويقول هَذَا الفخر فِي شعر جميل سائغ محبَّب إلى النفس.
وليس من شك فِي أنَّ هذه المقصورة من أجود ما قال المتنبي من الشعر، وقد أحبها الناس فِي عصره واستنشدوه إياها، وأعجبوا بها إعجابًا شديدًا، وهي خليقة بهذا الإعجاب؛ لأنها تلائم نفس الشَّاعِر أصدق ملاءمة، وتلائم المعاني التي أراد الشَّاعِر أن يذيعها فيها.
وأظهر ما يعجبني أنا من هذه القصيدة ملاءمة الشَّاعِر بين موضوعها أو موضوعاتها وبين ما اصطنع فيها من الوزن والقافية، فهو قد أراد أنْ يصف هربًا بعيدًا ممعنًا فِي السرعة، ممعنًا فِي البعد، وأنْ يفخر بنفسه فخرًا يجب أنْ يذيع ويشيع ويملأ الآفاق فِي أسرع وقت، وأنْ يهجو عدوَّه هجاءً لاذعًا يجب أنْ يسير ويطير فِي أسرع وقت أيضًا، فاصطنع لهذا كله هَذَا البحر الذي يصور السرعة والعدو، وهذه القافية المقصورة التي ينطلق بها حرف اللين إلى غير حد، وما أسرع ما سارت القصيدة وطارت حَتَّى ملأت الآفاق، وانطلقت بها الألسنة فِي كل مكان!
وأول القصيدة وصف بدوي للطريق، أو قل تسمية بدوية للمواضع التي مر بها وأقام فيها من الفسطاط إلى الكوفة، وليس له من الجمال إلا بداوة اللفظ وعذوبته، وهذه الحركة السريعة التي تحسها فيه، وآخر القصيدة هجاء لكافور قد رأيته وعرفت قدره، فأما وسط القصيدة فهو هَذَا الفخر الذي ذكرته آنفًا، والذي لا بُدَّ من روايته لتعجب بنشاطه وسرعته، وبضخامته وخفته فِي وقت واحد، وإنْ كان درسه وتحليله ينتهيان إلى ما يؤلم، ويثير العطف والإشفاق:
فهذا الفخر الرائع البديع كله ينحل إلى شيء يسير، وهو أنَّ الشَّاعِر قد فر من مصر فرار اللص، واندفع فِي الصحراء اندفاع الصعلوك، وقتل فِي طريقه عبدًا لأنه سرق بعض المتاع، فظاهر هَذَا الفخر معجب من غير شك، وباطنه يحزن ويضحك من غير شك أيضًا، ولكننا قد نزدري الرجل، وقد ينتهي الازدراء إلى أنْ نرحمه دون أنْ يمنعنا هَذَا أنْ نعرف للشاعر حقه فِي كثير من الإعجاب.