غنيمة الإياب
(١) في الكوفة
والمسألة التي تحتاج إلى بحث واستقصاء، وتعجز النصوص، إلى الآن، فِي رأيي، عن حلها على نحو يُرضي ويُريح، سواء فِي ذلك ما حفظ الديوان من الشعر، ومما تحدث الرواة به من الأخبار، وهي، ماذا كان المتنبي قد أضمر فِي نفسه من رأي، ورسم لنفسه من خطة حين فر من مصر قاصدًا إلى العراق؟
أما أحاديث الرواة فمختلفة مختلطة، وما أحسب أنهم فكروا فِي إلقاء هَذَا السؤال ومحاولة الجواب عليه، ولكنهم رأوا أنَّ المتنبي قد استأنف الاتصال بسيف الدولة، وذهب إلى بغداد وعاد إلى الكوفة واتصل بسيف الدولة مرة أخرى ومرة ثالثة، وقصد إلى ابن العميد، ثم إلى عضد الدولة، ثم قتل، وتناقلوا أخبارًا متفرقة حول هذه الحوادث كلها، فلم يحسنوا تخليصها ولا استخلاص ما تدل عليه من المعاني، إنْ كانت تدل فِي المعاني على شيء، وأما المحدثون فقد اجتهدوا فِي أنْ يستخلصوا من شعر المتنبي وسيرته وأحاديث الناس عنه معنى متسقًا يلائم بعضه بعضًا، فظنوا أنَّ المتنبي كان يفكر فِي الرجوع إلى سيف الدولة ويريد هَذَا الرجوع، وأنَّ سيف الدولة أَيْضًا كان يتمنى هذا، ولكن الأحداث لم تتح للأمير والشاعر أنْ يلتقيا، وما أدري: أكان هَذَا حقًّا أم لم يكن، ولكني أفهم سيرة المتنبي منذ عاد إلى العراق على نحو يخالف ما ذهب إِلَيْهِ القدماء والمحدثون جميعًا.
وأحب قبل كل شيء أنْ تذكر ما ألممت به فِي بعض الحديث عن المتنبي عند سيف الدولة، من أنَّ الشَّاعِر قد أساء فِي حلب إلى وليِّ الأمر فِي العراق إساءة جارحة لم يكن من اليسير أنْ تُنسى فِي سرعة وسهولة، والأشخاص الذين هجاهم تعريضًا أو تصريحًا كانوا ما يزالون أحياء، وكان السلطان ما يزال إليهم، وقد رأيت أنَّ المتنبي هجا الخليفة وهجا مُعِزَّ الدولة، وعرَّض بوزيره المهلبي، وأنت تعلم أنه كان قد عرَّض بكافور أيضًا، ولكن تعريضه بكافور كان يسيرًا بالقياس إلى تعريضه بأولي الأمر فِي بغداد، ومع ذلك فقد رأيت أنَّ كافورًا لم يأمن للمتنبي ولم يطمئن إليه، وإنما أذله من جهة واستخدمه من جهة أخرى، وقد أظهرت تجربة كافور أنَّ الثقة بالمتنبي سذاجة، وأنَّ الاطمئنان إِلَيْهِ حمق، طمع فِي كافور، وكان الحق عليه ألا يفعل، وألح على كافور وكان الحق عليه أنْ يفهم استعداده لأول مرة لقيه فيها أو بعد انتظار قصير، ثم غضب على كافور وظل يمدحه مع ذلك حينًا، ثم فر من كافور فأطلق لسانه فيه وأنكر ما كان قد أسبغ عليه من ثناء.
فلم يكن من المنتظر ولا من المعقول أنْ ينخدع أولو الأمر فِي العراق عن هَذَا كله، لم يكن من المعقول أنْ ينسوا ما قال فيهم ولا أنْ يتناسوه، ولا أنْ يُطمعوا المتنبي كما أطمعه كافور وقد رأوا نتيجة هَذَا كله واضحة بشعة، والمتنبي نفسه على سذاجته واعتداده بنفسه لم يقدِّر أنه سيلقى من أهل العراق حفاوة به أو إقبالًا عليه وقد قال فيهم ما قال، وما أحسبه كان مستعدًا لأن يأمن لهم ويطمئن إليهم كما فعل مع كافور، فهو إذن كان يائسًا من أنْ يستأنف حياة الشَّاعِر المادح من أصحاب السلطان فِي بغداد كما فعل فِي الفسطاط، وما أراه كان يفكر تفكيرًا صادقًا فِي العودة إلى سيف الدولة، فلعله كان يحب الأمير ويكبره ويثق به، ولكنه كان يعرف سلطان الحاشية وكيد القصر وضيق أسرة الأمير نفسها به، وهو كان قد تعرَّض للموت مرة وأفلت منه بعد جهد، فمن يدري! لعله كان يتعرض للموت ولا يفلت منه مرة أخرى.
وكانت أمور سيف الدولة قد أخذت تفسد ويسعى إِلَيْهَا الاضطراب والانحلال فالروم يظهرون عليه من ناحية، والمرض يأكل صحته من ناحية أخرى، وإذن فأيسر الحزم كان يفرض على المتنبي ألا يفكر فِي حلب، وألا يطمع فِي بغداد، وما أظن إلا أنه قد انتهى إلى الكوفة وهو يريد أنْ يحيا فيها حياة الرجل الهادئ المطمئن، الذي جمع من المال مقدارًا ضخمًا يمكنه من أنْ يعيش عيشة أصحاب الثراء والجاه، وما أظن إلا أنه كان يريد أنْ يستمتع بهذه الحياة حينًا من الدهر، وأنْ ينتظر ما ستتكشف عنه الأحداث، ولست أدري، أأحس شيئًا من الحنين حين عاد إلى وطنه، ولست أدري، أثارت فِي نفسه ذكريات الصبا، ففكر فِي نشأته البائسة، وفي جَدَّته الكريمة، كما يظن الأستاذ بلاشير، ولكن الذي نعلمه هُوَ أننا لا نجد أثرًا لشيء من ذلك فِي شعره، فهو لم ينشئ قصيدة ولا مقطوعة، ولم يشر فِي قصيدة ولا مقطوعة إلى هَذَا العهد القديم فِي حياته، كما أنه لم ينبئنا فِي قليل أو كثير من شعره بما أحدثت عودته إلى وطنه الأول من أثر فِي نفسه.
والغريب أننا سنجد عنده حنينًا ولكن إلى الشام، وادِّكارًا ولكن لحمص ودمشق وصحاري الشام، فأما الكوفة وباديتها، فقد رأيناه يذكرها شيئًا ما حين كان مع سيف الدولة، أما بعد أنْ عاد إِلَيْهَا فقد أهملها الإهمال كله.
وإذن فقد نغلو إن ظننا، كما ظن الأستاذ بلاشير، أنه قد أحس شيئًا من الألم والحزن حين رأى هذه المدينة العظيمة وقد أخذ الخراب يسعى فيها، والانحطاط يسرع إليها، ولعله أحس شيئًا من الكبرياء حين رأى نفسه يعود إلى الكوفة غنيًّا موفورًا بعد أنْ خرج منها بائسًا معدمًا، لا يجد ما يحمله إلى بغداد، ولكن هَذَا أَيْضًا لا يظهر فِي شعره، ولعله شُغِل حَتَّى عن هذا، بغضبه على كافور وإذاعته الهجاء له.
على أني أرجح أنه لم يطمئن إلى حياته فِي الكوفة، ولم يرض لنفسه هَذَا الخمول الذي لم يُخلق له، فما هي إلا أشهر حَتَّى ضاق بالكوفة ورحل عنها فِي آخر سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة إلى بغداد.
رحل عنها ضيِّقًا بها من غير شك، فليس فيها أمير يمدح، ولا قائد يتقرب إليه، ولا غنيٌّ يطمع فِي ماله، ولعله كان من أغنى أهلها حينئذ، وهو كان قد علل نفسه بحياة العزلة التي يستمتع فيها بالحرية والاستقلال، وبالراحة وفراغ البال، ولكنه لم يكد يذوق هذه العزلة حَتَّى ضاق بها وفر منها أشد الفرار؛ لأنه لم يكن يعرف نفسه حق المعرفة، أو كان يعرفها ولكنه كان قوي الحس، سريع التأثر، فكان ذلك يخدعه عن نفسه، ويغريه بالتغرب والاضطراب، ويحول بينه وبين الهدوء والاستقرار.
وقد كان المتنبي فِي عنفوان قوته فِي الثامنة والأربعين من عمره، لم يبلغ بعد السن التي يحيل نفسه فيها على المعاش — كما يقول المعاصرون — فلا غرابة إذن فِي أنْ يضيق بالكوفة ويكره الإقامة فيها، وهو قد جرَّب حياة الشَّاعِر المتصل بالملوك والأمراء المنقطع إليهم، وقد زهد الآن فِي هذه الحياة واستيأس منها، ولكن أمامه لونًا آخر من ألوان الحياة الحرة المستقلة التي يملؤها مجد من طراز جديد، وهي حياة الشَّاعِر الفني المستقل الذي لا يكسب عيشه بالمدح، ولا يغضُّ من نفسه بالانقطاع لأمير أو وزير، ولكنه مع ذلك يحيا ظاهرًا نابهًا معروفًا، ينشد شعره للطلاب، ويفسره لهم على نحو أوضح وأجلى وأكرم مما كان يصنع فِي حلب أو فِي الفسطاط، وهو قريب من بغداد دار الخلافة، ومركز الحضارة الإسلامية، والتي لا يتوج المجد إلا فيها وقد زار بغداد بائسًا طريدًا، ثم خرج منها خائفًا يترقب، فما له لا يعود إِلَيْهَا غنيًّا كريمًا يحتاج الناس إِلَيْهِ ولا يحتاج هُوَ إلى أحد! وكذلك ارتحل المتنبي إلى بغداد سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة لا راغبًا ولا راهبًا، لا مُريدًا بأحدٍ شرًّا، ولا مريد من أحد خيرًا، وما أظن إلا أنه أنفق الأشهر التي قضاها فِي الكوفة مدبرًا أمره وأمر أسرته، مفكرًا فِي محنته المصرية، منشئًا للشعر فِي هجاء كافور ورثاء أبي شجاع.
ولست أدري، أوصلت إِلَيْهِ هدية سيف الدولة فمدحه بقصيدته اللامية:
في هَذَا العام، كما يظن الأستاذ بلاشير، أم بعد رجوعه من بغداد، كما يرى بعض الرواة، ولكني أميل إلى الرأي الثاني وأرجحه بما فِي هذه القصيدة من هجاء لأصحاب السلطان فِي بغداد، فقد كان المتنبي أحمق، ولكني أتردد فِي أنْ أراه من الحمق بحيث يهجو أولي الأمر فِي بغداد وهو يهم بالرحيل إليهم.
وإذن فلم تصل إِلَيْهِ هدية سيف الدولة فِي هَذَا العام، ولم يفكر هُوَ فِي استئناف الصلات مع الأمير فِي هَذَا العام أيضًا، وهو كما رأيت لم يقل من الشعر فِي هذه الأشهر إلا قليلًا، ولم يكن فِي حياته فِي الكوفة ما يدفعه إلى قول الشعر، فالناس يرونه فيلسوفًا مفكرًا حكيمًا، وكان خليقًا، وقد خلا إلى نفسه وفرغ لفلسفته وتفكيره وحكمته، أنْ يقول فِي ذلك شعرًا، ولكنك عرفت من كل ما قرأت إلى الآن أنه كان شاعرًا، وشاعرًا لا يقول إلا عن رغبة أو رهبة، ولا سيما بعد أنْ انتهى عهد الشباب.
(٢) في بغداد
ودخل المتنبي بغداد، فأقام فيها سبعة أشهر أو ثمانية، ولكنه لم يحدث فيها شعرًا ولولا أنَّ الرواة تحدثوا بقدومه إلى بغداد وانصرافه عنها، وببعض ما جرى له من الأمر فيها، لما عرفنا من قصته فِي بغداد قليلًا ولا كثيرًا، فهو كما رأيت لم يقل شعرًا فِي بغداد، ولما خرج منها لم يذكرها، ولم يذكر إقامته فيها فيما قاله من الشعر، وقد يظن بعض الناس، ومنهم الأستاذ بلاشير، أنه صوَّر بعض سخطه على بغداد فِي الميمية التي رثى بها فاتكًا، والتي أولها:
ولكني أستبعد هَذَا كل الاستبعاد، وأرجح أنه قال هذه القصيدة قبل أنْ يزور بغداد، وأنَّ ما فيها من الحزن والشكوى وإيثار السيف على القلم، وذم الزمان، والإخبار بأنه قد أدرك الدهر فِي أوقات هرمه، وأدركه القدماء فِي أوقات شبابه، كل هَذَا لم تُثره بغداد، وإنما أثاره إخفاقه فِي مصر، وغضبه على كافور، وحزنه على فاتك، وضيقه بحياة البطالة والفراغ فِي الكوفة، وإذا لم يكن بُدٌّ من التماس إشارة إلى بغداد فِي شعر المتنبي بعد خروجه منها، فأنا ألتمس هذه الإشارة فِي لاميته التي مدح بها سيف الدولة حين أهدى إليه، والتي يحذر فيها الحمداني من الروم الذين يناصبونه الحرب من أمامه، ومن أعدائه الذين خلف ظهره فِي مصر والعراق، والتي يقول فيها معرضًا بالسلطان فِي بغداد:
فهذه القصيدة، كما رأيت منذ حين، لم تَقلْ إلا سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة، بعد أنْ رجع المتنبي إلى الكوفة.
فزيارة المتنبي لبغداد إذن لا تكاد تعنينا؛ لأنها لم توح إلى الشَّاعِر شيئًا، ولم تترك فِي شعره أثرًا ما، فكأنها بالقياس إلى فنه لم تكن، ومع ذلك فالناس يكثرون فيها القول، وينوِّعون فيها الأحاديث، ولا يكادون يفقهونها على وجهها، أو لا يكادون يفقهون ما جرى للمتنبي فيها على وجهه، والأمر مع ذلك أيسر من كل هذا، فلم يقصد المتنبي كما رأيت إلى بغداد ليفيد بشعره مالًا أو مجدًا عند الخليفة أو الأمير أو الوزير، وإنما قصد إِلَيْهَا ليعيش فيها عيشة الشعراء والعلماء والنابهين من الأغنياء، ويقال: إنه زار الوزير المهلبي وشهد مجلسه، ورأى فيه جماعة من الأدباء والعلماء، وشارك فِي بعض ما كان بينهم من حوار، ولكنه لم يمدح الوزير، فأسرها له، وأغرى به الهجائين والمجادلين، ولست أدري، أزار المتنبي الوزير المهلبي أم لم يزره، ولكني أرجح، إنْ كانت هذه الزيارة قد وقعت، أنها لم تكن إلا زيارة رسمية — كما يقول المعاصرون — قد أبرأ الشَّاعِر بها ذمته ليأمن الكيد والغدر، وليعيش هادئًا مطمئنًّا فِي بغداد، وما أظن أنَّ المهلبي كان ينتظر منه مدحًا، وما أظن أنَّ المتنبي فكر فِي أنْ يجدد تجربته مع كافور، ويجبُ أنْ نُلاحظ أنَّ المتنبي كان لبقًا مؤثرًا للعافية، ومسيطرًا على نفسه أثناء إقامته فِي بغداد، لم يتح له أن يمدح معز الدولة، ولا أنْ يمدح المهلبي، ولا أنْ يصل إلى الخليفة، وما أشك فِي أنَّ كثيرًا من سراة بغداد وأشرافها كانوا يودون لو يمدحهم الشاعر، ولعل الشَّاعِر نفسه كان يود لو يمدح بعض هؤلاء السراة والأشراف، ولكنه لم يفعل اصطناعًا للذوق — فما ينبغي أنْ يمدح أحدًا من أهل بغداد وهو يمدح خليفتها وملكها ووزيرها — واحتفاظًا بمكانته، وضنًّا بمقامه أنْ يعيبه المقربون من السلطان بأنه لم يستطع أنْ يبلغ الرؤساء فاكتفى بمن دونهم.
آثر الشَّاعِر العافية إذن، وتجنب السياسة؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يدنو منها، وتجنب الساسة؛ لأنه لم يكن يحبهم ولم يكونوا يحبونه، وقد يظن —والأستاذ بلاشير يرى هَذَا الرأي — أنَّ المتنبي أعرض عن مدح الرؤساء فِي بغداد إبقاءً على ما كان بينه وبين سيف الدولة من الود، واحتفاظًا بما كان قد دبر من الشخوص إلى حلب، وكانت العلاقات سيئة بين الحمدانيين والبويهيين، فكان مدحه للبويهيين يفسد عليه خطته التي دبرها فِي نفسه، ولكني أستبعد هَذَا أَيْضًا كل الاستبعاد؛ لأني لا أقطع بأن المتنبي فكر حقًّا فِي الرجوع إلى حلب، وما أشك فِي أنه لو وجد سبيلًا إلى الرؤساء فِي بغداد لما تردد فِي سلوكها، ولكن هؤلاء الرؤساء احتملوا مقامه فِي العراق، ودخوله بغداد وإقامته فيها، وهذا منهم كثير، فما كان للمتنبي أنْ يطمع فِي أكثر منه.
وقد يظن الأستاذ بلاشير أنَّ المتنبي كان يفكر فِي السفر من بغداد إلى حلب، ولكن غارة الروم على شمال الشام واقتحامهم حلب، وإخراجهم سيف الدولة عنها وإقامتهم فيها وقتًا ما، كل هَذَا رد المتنبي عما كان قد عزم عليه، وكل هذه فروض لا يرجحها نص، بل لعل النصوص تباعد بينها وبين الحق، فقد دعا سيف الدولة شاعره إلى الرجوع إليه، وأجابه المتنبي فِي آخر سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة فِي بائيته المشهورة بأنه سامع مطيع، ولكنه لم يكد يمضي فِي القصيدة حَتَّى عرَّض بالاعتذار، وقد أنفذ القصيدة إلى سيف الدولة من الكوفة فِي ذي الحجة، وخرج من الكوفة فِي المحرم، ولكن لا إلى حلب حيث سيف الدولة، بل إلى أرَّجان حيث ابن العميد، ثم إلى شيراز حيث عضد الدولة، فلم يكن المتنبي يقدر الرجوع إلى حلب أو يفكر فيه، وإنما كانت له خطة أخرى سنراها بعد حين.
إذن ففي سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، لم تكن نفس المتنبي قد أبلت من ضيقها بالملوك والأمراء، ولم يكن قد زهد فِي حياة الهدوء والاستقلال، ولم يكن يريد فِي بغداد إلا هَذَا الهدوء والاستقلال، ولكنه لم يظفر بهما لسببٍ يسيرٍ جدًّا، فقد احتمله أولو الأمر فِي العراق، ولكن على أنْ يقيم بعيدًا عن بغداد، لا على أنْ يأتي فيقيم بين أسماعهم وأبصارهم، ويستقر على صدورهم كأنه الكابوس، لا يريدون أنْ يُدنوه، ولا يريد هُوَ أنْ يدني نفسه منهم، ولكنه مع ذلك مقيم بين أظهرهم يغدو ويروح، ويختلف إِلَيْهِ العلماء يحدثونه ويخوضون معه فِي ألوان الجدال.
كل هَذَا كان كثيرًا، والحق أنَّ المتنبي قد استمتع أمام السلطان السياسي فِي جميع الأقطار التي زارها وأقام فيها بحرية غريبة بالقياس إلى ذلك العصر، وبالقياس إلى ما كان مألوفًا من الظلم والطغيان، فهو قد أغضب الأمراء ومَنْ دون الأمراء، ولم يتعرض لعقوبة ظاهرة رسمية، وإنما كان آمنًا مطمئنًّا فِي حلب حَتَّى خرج منها، ولما ضاق به الحمدانيون لم يجاهروه بالعقوبة، وإنما هموا باغتياله، ولجأ إلى مصر، فلولا أنه طمع فِي غير مطمع لما لحقه أذى من كافور، ومع ذلك فلم يُلْحِق به كافور أذى، وإنما حاول أنْ يمنعه من ترك مصر ليرد على ملكه لسانه الحاد الطويل، ثم عاد إلى العراق، بعد أنْ قال فِي أصحابه ما قال، فلم يردوه ولم يزعجوه، وإنما تركوا له الحرية فِي أنْ يقيم فِي وطنه ما أراد، ثم هُوَ لا يكتفي بهذا، بل يذهب إلى بغداد نفسها وهو مع ذلك لا يتعرض فيها لأذى، فليس دمه مهدرًا، وليس السجن يدعوه وليست المراقبة تفرض عليه، ولكنه مع ذلك لم ينعم بالحياة فِي بغداد؛ لأن خصومه السياسيين خلوا بينه وبين الشعراء والأدباء يحاربونه بالنقد؛ أي يحاربونه بالسلاح الذي كان يحسن الحرب به لو أراد، فالشعراء البغداديون يهجونه فيسرفون فِي هجائه، وابن لنكك فِي البصرة يهجوه فيقذع فِي هجائه، وبعض الأدباء والعلماء يتعرضون له فيجادلونه فِي شعره متحدين له، مشنعين عليه.
والمتنبي يؤثر الصمت، ويصطنع الحلم، ويتكلف الكبرياء، ولكنه فيما أعتقد كان حذرًا محتاطًا، يخاف أنْ يطلق لسانه فيتجاوز حده، ويخرج عن طوره، ويحفظ سلطانًا لا يحتمله إلا فِي شيء كثير من الحلم المتكلف، والأناة المتصنعة، ولولا هَذَا لما صبر المتنبي على هَذَا الهجاء القبيح والتحدي الشنيع، وهو كما نعلمه ضيق الصدر، عاجز عن إمساك لسانه فِي فمه، بل لولا هَذَا لما سكت المتنبي حَتَّى بعد خروجه من بغداد عن هؤلاء الذين آذوه بأقوالهم وأعمالهم، ولكن المتنبي مصمم على أنْ يعيش فِي العراق، ولا بد له من أنْ يؤدي ثمن المعيشة فِي العراق، فيحتمل ما كان ينكره حين كان يقول، بعد أنْ فر من بدر بن عمار:
فلا بد له من أنْ يحتمل الأذى، ويرى جُنَاته ولا يدفعهم عن نفسه بيد ولا لسان، وأخرى لا ينبغي أنْ ننساها، فقد كانت السياسة مبغضة للمتنبي فِي العراق، وكان الأدباء الرسميون يصانعون السياسة، ولكن الأدب العراقي نفسه كان يضيق بهذا الشَّاعِر الأجنبي الذي كسب فنه ومجده بعيدًا عن العراق لأول مرة فِي التاريخ الأدبي، فقد كان الشعراء فِي القرون الثلاثة الأولى يظهرون وينبُه ذكرهم فِي العراق، فإذا ظهروا فِي قطر آخر، فلم يكونوا يكسبون المجد ونباهة الشأن إلا فِي العراق، فمروان بن أبي حفصة كان يعيش فِي اليمامة، ولولا أنه وفد بشعره على علماء البصرة وخلفاء بغداد لما عرفه الناس، وأبو تمام نشأ فِي الشام وشب فِي مصر وقال الشعر فِي الغرب، ولكنه لم يعرف ولم يشتهر حَتَّى وفد على العراق، والبحتري نشأ فِي شمال الشام، وقال الشعر فِي منْبِج ومما حولها، ولكنه لم يصبح شيئًا إلا بعد أنْ وفد على العراق.
وهذا المتنبي يولد فِي العراق وينشأ فيه ويبدأ فيه قول الشعر، ولكنه يغرِّب بشعره ويطيل الإقامة فِي الغرب وينبغ هناك، ثم يعود إلى العراق كامل الفن ذائع الصوت باهر المجد، فمن حق الأدب العراقي أنْ يضيق به، ومن حق الأدباء العراقيين أنْ ينكروه ويعدوه دخيلًا.
وإذن فلم يكن التحالف بين السياسة والأدب على المتنبي غريبًا فِي بغداد، وإنما كان الغريب ألا يتحالفا عليه، ومع ذلك فقد وجد المتنبي عند شباب بغداد وعند جماعة من أدبائها وعلمائها، بل عند جماعة من أغنيائها وسراتها، حبًّا وإجلالًا، فتلقَّوه أحسن لقاء، وأنزلوه أحسن منزل، والتفوا حوله يسمعون منه ويكتبون عنه، ويقومون دونه ما وسعهم ذلك، ولكنهم كانوا قلة وكانوا مستضعفين.
ولم يكن بدٌّ من أنْ ينتهي الأمر بالمتنبي إلى إحدى اثنتين، فإما أنْ يتوب ويثوب إلى الذين هجاهم وآذاهم وأساء إليهم، ومن يدري! لعلهم لا يقبلون توبته لأنهم لا يأمنونه، وهل أمنه كافور؟ وإما أنْ يترك بغداد، ولكن إلى أين يتركها؟ لا إلى سيف الدولة، فهو لا يريد — ولا يستطيع — أنْ يعود إلى سيف الدولة؛ لأنه لا يثق بقدرة سيف الدولة على حمايته من أعدائه وحاسديه.
ومن يدري! لعله لو هم بالعودة إلى حلب لوجد الطريق مأخوذة عليه، فقد انتفع معز الدولة والمهلبي من قصة كافور، وما ينبغي أنْ يخليا بين المتنبي وبين الرجوع إلى الشام ليطلق فيهما لسانه كما أطلقه فِي كافور.
فليس له إذن إلا أنْ يعود إلى الكوفة ويستقبل أمره فيها بالروية والتفكير، فإما أن يقنع بالحياة الهادئة، وإما أنْ يجد طريقًا إلى الصلح بينه وبين السياسة والساسة فِي بغداد.
(٣) عَوْدٌ إلى الكوفة
وقد عاد إلى الكوفة فِي السنة نفسها، وهناك وصلت إِلَيْهِ هدية سيف الدولة فشكرها باللامية المشهورة، وهناك نعيت له أخت سيف الدولة فرثاها بالبائية المشهورة، وانقضى هَذَا العام ولا يحفظ لنا الديوان من الشعر الذي قيل فيه إلا هاتين القصيدتين، أقال المتنبي شعرًا لم يحفظ لنا؟ أم أعرض المتنبي عن الشعر؛ لأن دواعي الشعر لم تكن موجودة فنام شيطانه حَتَّى أيقظته هدية سيف الدولة، ثم عاد إلى النوم حَتَّى أيقظه موت ستِّ الناس.
هذا هُوَ الذي أرجحه؛ لأني كما قدمت لا أرى المتنبي يقول الشعر إلا حين تدفعه إِلَيْهِ الدوافع، ولعله كان يقول الشعر فِي هجاء البغداديين كما كان يقوله بمصر فِي هجاء كافور، ولكنه كان أشد احتياطًا من أنْ يذيعه أو يظهر عليه حَتَّى أخصَّ الناس به وآثرهم عنده من الذين تبعوه إلى الكوفة.
استقبل المتنبي سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة محزونًا كاسف البال، متدبرًا فِي أمره، ولكن الحوادث أبت إلا أنْ تمتحنه امتحانًا ليس أقل عسرًا من الامتحانات المختلفة التي تعرض لها فِي الشام ومصر، فهذه دعوة القرامطة تعود إلى الظهور فِي الكوفة، ويكثر فيها الحديث، وينشأ عنها لغط كثير، وإذا فقراء المدينة والبائسون من أهلها يسرعون إلى الدعوة ويستجيبون للدعاة، وإذا أغنياء المدينة وأوساط الناس فيها ينكرون الدعوة ويقاومون الدعاة، والمتنبي من الأغنياء طبعًا، ولكنه كان قرمطي النشأة، قرمطي الشباب، وهو الآن كاره للسلطان العراقي، كما كان مبغضًا له فِي صباه وشبابه، فإلى أي جانبيه يميل، أيميل إلى القرامطة فيرضي شهوته إلى الحركة والحرب؟ أم يميل إلى السلطان فيحفظ ماله، ولعله يصلح أمره مع هؤلاء الساخطين عليه فِي بغداد؟ مال المتنبي إلى السلطان، وجحد القرمطية فِي هذه المرة، كما جحدها من قبل، وإذا هُوَ من أغنياء الكوفة وأوساط الناس فيها يقاومون دعوة القرامطة، وإذا هُوَ يبدأ هذه المقاومة بلسانه، فيهجو داعية بدويًّا من دعاتهم، ضبة بن يزيد الكلابي، بقصيدته البائية المشهورة التي أولها:
وهي من أقبح شعر المتنبي وأقذع ما قال فِي الهجاء، ولكن دعوة القرامطة هذه لا تلبث أنْ تقوى، ويخيل إلى الداعين أنَّ الكوفة قد نضجت، وإذا هم يغيرون عليها، وهنا تتم خيانة المتنبي للقرامطة، فهو لا يكتفي بما قدَّم من المقاومة باللسان، ولكنه ينهض ومعه غلمانه، فيقاوم بالسيف والرمح، وينجح فِي هذه المقاومة، ويشق لنفسه ولغلمانه طريقًا حَتَّى يتصل بحاكم المدينة.
وتعود الغارة على المدينة، فيعود المتنبي وغلمانه إلى الاشتراك فِي ردِّ المغيرين، وتوفق المدينة لإبعاد المغيرين عنها، ولكن الخبر كان قد وصل إلى بغداد، وإذا هي ترسل جيشًا على رأسه أحد قوادها، دلّير بن لَشْكَرُوز، فلا يكاد هَذَا القائد يصل إلى الكوفة حَتَّى يعرف الذين آبلوا فِي رد القرامطة، فيخلع عليهم، ومنهم المتنبي، فإذا وصلت إِلَيْهِ الخلعة أنشأ قصيدة فِي مدح القائد، ثم ذهب فأنشده إياها، وهي اللامية التي أولها:
والتكلف أظهر شيء فِي هذه القصيدة، كأن الشَّاعِر كان خجلًا، مستخذيًا أمام نفسه وهو ينشئها، ومهما يكن من شيء، فقد أتم المتنبي انقلابه على القرامطة، أطلق فيهم لسانه، وأعمل فيهم سنانه، ومدح عدوهم، وتلقى منه الجائزة، وهو بهذا قد صان ماله من جهة، وخطا الخطوة الأولى إلى إرضاء السلطان العراقي من جهة أخرى.
ثم تريد الظروف، التي تحب المزاح أحيانًا، أنْ تمتحن المتنبي للمرة الأخيرة، فيصل إِلَيْهِ فِي وقت واحد أو فِي وقتين متقاربين كتابان، أحدهما من صديقه القديم سيف الدولة، وقد كتبه بخطة يدعوه إلى حلب، والثاني من فارسي صميم، هُوَ ابن العميد يستزيره فِي أرَّجان.
وأكبر الظن أنَّ المتنبي نظر فِي الكتابين، ثم نظر فيهما، ثم رد عليهما بعد قليل من الروية،فأما سيف الدولة فقد أرسل إِلَيْهِ بائيته:
وأما ابن العميد فلم يرسل إِلَيْهِ كتابًا منظومًا ولا منثورًا، وإنما أرسل إِلَيْهِ نفسه، وسافر من الكوفة فِي المحرم سنة أربع وخمسين مُوَجَّهًا نحو أرَّجان.
(٤) في أرَّجَان
وأي الرجلين بدأ بالكتابة إلى صاحبه، أو التماس الوسيلة إلى صاحبه، إنْ أردنا التعبير الصحيح: أهو ابن العميد أم المتنبي؟ أما إجماع الناس قديمًا وحديثًا فمنعقد على أنَّ ابن العميد هُوَ الذي كتب إلى المتنبي يستزيره، والناس يقولون أيضًا: إنَّ ابن عباد كتب إلى المتنبي يستزيره الريَّ حين كان الشاعر ببغداد، ولكن المتنبي لم يحفل به ولم يرد عليه، ولم يتأخر عن الاستجابة لابن العميد حين دعاه إلى أرَّجان.
وقوام هذه الأحاديث كلها أنَّ المتنبي كان شديد الكبرياء مزهوًّا بنفسه، يترفع عن مدح الوزراء والكتاب، ولا يريد إلا أنْ يمدح الملوك والأمراء الممتازين الذين لا يقلون امتيازًا عن سيف الدولة وكافور.
ولكن هَذَا كله — فيما أعتقد — إنْ صوَّر شيئًا فإنما يصور حب أصحاب المتنبي للمتنبي وتصديق الناس لكل ما يقال، فقد مدح المتنبي فاتكًا فِي مصر، ولو امتدت بفاتك الحياة لا تصل مدح المتنبي له، ولجاز أنْ يستجيره المتنبي وينقطع إليه، ولم يكن فاتك أميرًا ولا ملكًا ولا وزيرًا ولا كاتبًا، وإنما كان قائدًا غاضبًا، قد حرم السلطان فانحاز إلى إقطاعه فِي الفيوم.
وكان ابن العميد عظيم الشأن نابه الذكر، ولكنه على كل حال لم يكن ملكًا ولا أميرًا، وإنما كان وزيرًا لأمير من أمراء الفرس أو سلطان من سلاطينهم، وقد رأيت أني لا أعتقد أنَّ المتنبي ترفع عن مدح الوزير المهلبي، وإنما أرجح أنه لم يجد سبيلًا كريمة إلى هَذَا المدح، وطبيعة المتنبي وسيرته تصوران لنا الأمر على غير ما فهمه أصدقاء الشَّاعِر ومؤرخوه، وأكبر ظني أنَّ الشَّاعِر هُوَ الذي سعى فِي التقرب من عظماء الفرس، ليصلح بهم أمره فِي الشرق الإسلامي، بعد أنْ فسد عليه أمره فِي الغرب الإسلامي، وأنَّ المتنبي رغب فِي أنْ يتقرب من ابن العميد ليقربه ابن العميد من ركن الدولة أو من عضد الدولة، حَتَّى إذا مدح هؤلاء العظماء وظفر برضاهم أولًا، وبجوائزهم بعد ذلك، استطاع أنْ يتقرب بهم إلى أصحاب السلطان فِي بغداد أو أنْ يستغنى بهم عن أصحاب السلطان فِي بغداد، وهذا من غير شك فرض من الفروض ليس فِي النصوص ما يدل عليه، ولكنه ملائم كل الملاءمة لطبيعة المتنبي وسيرته، فقد رأينا كيف ترك أرض الإخشيديين بعد خروجه من السجن، وأنفق ما أنفق من الوقت فِي شمال الشام، ثم اتصل ببدر عدو الإخشيديين، ثم فر منه وظل حينًا مضطربًا فِي الأرض، فلما عاد السلطان فِي الشام إلى الإخشيديين جعل المتنبي يبتغي إليهم الوسائل متقربًا من حكامهم وقادتهم، حَتَّى اتصل بأمير من أمرائهم، ثم رأيناه ينَهز ظفر الحمدانيين فِي شمال الشام فيسعى فِي الاتصال بهم، ويوفق لما كان يريد من الانقطاع إلى سيف الدولة، فإذا أخفق فِي حلب لم يتردد فِي أنْ يستأنف السعي ليعود إلى الإخشيديين، وهو يظفر بما كان يريد أيضًا، فيتصل بكافور بعد أنْ كان قد عرَّض به وشنع عليه، وهو قد أخفق عند كافور ففر إلى العراق، وما أشك فِي أنه لم يدخله إلا بعد أنْ استأمن لنفسه فأعطى الأمان، وقد كان يظن أنه يستطيع أنْ يحيا فِي العراق حياة الهدوء والاستقلال، فرأى بعد التجربة أنه مَا زَالَ شاعرًا محتاجًا إلى من يظله ويتلقى مدحه، ولم يتيسر له ذلك فِي بغداد، فالتمسه أو التمس المعونة عليه فِي الشرق، ولم يتردد ابن العميد فِي أنْ يتلقى هَذَا الطامع فيه، اللاجئ إليه، المستعين به، فقد كان المتنبي أكبر الشعراء المعاصرين وأبعدهم صوتًا من غير مراءٍ، وكان شعره كما قال لكافور، قد شرَّق حَتَّى ليس للشرق مشرق وغرَّب حَتَّى ليس للغرب مغرب، وقد أغضبه الأميران المتسلطان فِي الشام ومصر، ولم يحسن اصطناعه الأمير المتسلط فِي بغداد، وما ينبغي أنْ تضيع هذه الفرصة، ولا أنْ يموت أكبر شعراء العصر ولم يتغن البويهيين، ولم يذع فِي الأقطار العربية، وما ينبغي أن يخل بين هَذَا الشَّاعِر العظيم الضعيف وبين صاحب حلب الذي كان يغريه ويزين له العودة إليه.
انتهز ابن العميد إذن هذه الفرصة، ولعله هيَّأ أسبابها وهوَّنها على الشَّاعِر تهوينًا، وهذا المتنبي يرحل من العراق مشرِّقًا فيصل إلى أرَّجان فِي شهر صفر سنة أربع وخمسين وثلثمائة، وقد تلقاه ابن العميد أحسن لقاء، ومنحه من ظاهر الود والإكبار والإجلال ومن الهدايا والهبات، ما أرضى كبرياءه وطمعه معًا، وأقام المتنبي عند ابن العميد ومعه غلمانه وجماعة من أصحابه شهرين أو ما يقرب منهما، وخرج من عنده وقد ظفر من المال بشيء كثير، ولكنه ظفر بما هُوَ خير من المال، ظفر بالاتصال بعضد الدولة، والرواة يحدثوننا هنا أَيْضًا بأن عضد الدولة دعا الشَّاعِر فتردد، ثم اعتذر، ثم قبل، وهم يحدثوننا كذلك بأن ابن العميد أوحى إلى ابنه أبي الفتح أنْ يرغب الشَّاعِر فِي مدينة الريِّ حيث يقيم هُوَ فِي خدمة ركن الدولة، فآثر بعد التردد مدينة شيراز حيث يقيم عضد الدولة، وقوام هَذَا الحديث أَيْضًا إظهار الشَّاعِر مظهر الذي يتنافس فيه الملوك والأمراء، فيمتنع عليهم ولا يستجيب لهم إلا كارهًا.
ولكني أعتقد أنَّ ابن العميد لم يكن إلا واسطة يراد منه أنْ يقرِّب المتنبي إلى أمراء البويهيين، ولعل ابن العميد قد تردد فِي تقديم الشَّاعِر إلى ركن الدولة الشيخ أو إلى ابنه عضد الدولة الشاب، فاستقر رأيه على الثانية، لشباب الأمير المقيم فِي شيراز، ولما كان هَذَا الأمير يدبِّر لنفسه وما كان يدبر له من خطة فِي العراق، فقد كان هَذَا الأمير الجريء الذكي الطموح محتاجًا إلى من يدعو له فِي البلاد العربية ويمهد لقدومه على العراق حين تتاح له فرصة القدوم على العراق، وكان المتنبي أنفع أداة لهذه الدعوة وأقدر الناس على هَذَا التمهيد، فوجَّه إذن إلى شيراز، ولم يوجه إلى الريِّ.
على هَذَا النحو وحده أفهم تاريخ المتنبي فِي العام الأخير من حياته، ويخيل إِليَّ أَنَّ مِنَ السَّذاجةِ أنْ نقبل الأمور كما نقلها إلينا القدماء من رواة الشعر والأدب، وأنْ نهمل أثر السياسة فِي حياة شاعر كالمتنبي قد ارتفع شأنه وعظم أمره، وأصبح عنصرًا لا يقوَّم أثره الممكن فِي نشر الدعوة السياسية، ونحن نرى الآن ما تصنعه الحكومات مع الصحف، وقد رأينا فِي أول التاريخ الإسلامي ما كانت تصنعه الحكومات مع الشعراء، بل رأينا ما صنعته الحكومات الغربية مع المتنبي نفسه، فمن السذاجة أنْ نظن أنَّ ابن العميد لم يرغب إلا فِي شعر المتنبي، وأنَّ البويهيين المقيمين فِي الفرس لم يريدوا إصلاح الخطأ الذي تورطت فيه بغداد حين تجهمت لهذا الشَّاعِر العظيم.
(٥) شعره في ابن العميد
وقد مدح المتنبي ابن العميد بقصائد ثلاث، أولاها الرائية التي أولها:
والثانية الدالية التي أولها:
والثالثة الدالية التي أولها:
وقد قالها مودِّعًا للوزير حين ارتحل عنه إلى شيراز، وقال المتنبي لابن العميد مقطوعة سينية ارتجلها فِي مجمرة حشيت بالآس والنرجس، فلم تكن ترى نارها إلا من خلال هَذَا الزهر، وأولها:
وقال المتنبي أَيْضًا مقطوعة دالية لأبي الفتح ابن الوزير حين كتب إِلَيْهِ يدعوه إلى الريِّ، وأولها:
وقراءة هَذَا الشعر كله تُلقي فِي روع القارئ أنَّ المتنبي كان ضيقًا بإنشائه، يكلِّف نفسه منه ما لا تحب، ويحملها منه على ما لا تكاد تطيق، وأكبر ظني أنَّ ابن العميد كان عظيمًا فِي نفس المتنبي، عظيمًا من ناحيته العقلية والأدبية والفنية معًا، عظيمًا بحيث ينبغي أنْ يحسب الشَّاعِر له حسابًا، وأنْ يتقي نقده ويجتهد فِي إرضائه، وقد يكون هَذَا سببًا فِي إجادة الشاعر وظفره بالإتقان؛ لأنه يدعوه إلى التأنق والتحفظ وتجويد الصنعة، ولكنه قد يكون سببًا أَيْضًا فِي إخفاق الشَّاعِر وعجزه وتهالكه، فبالطبع الفني لا يستجيب إلى التكليف كلما دُعيَّ إليه، ولا يعطيك الإجادة كلما سألته إياها، وواضح جدًّا أنَّ طبع المتنبي عصاه وامتنع عليه حين أخذ فِي إنشاء الرائية، فلم يصنع شيئًا، ولم يأت بما يلائم ابن العميد ولا بما يرضيه، وقد أشعر ابن العميد صاحبنا بأن هذه القصيدة لم تعجبه، ولم ترض حاجته من شعر المتنبي، والرواة يزعمون لنا — معتذرين عن المتنبي فِي أكبر الظن — أنَّ الشَّاعِر كان قد أنشأ هذه القصيدة فِي مصر يمدح بها وزير كافور ابن الفرات، ولكنه لم ينشده إياها، فصرفها عنه إلى ابن العميد مع تغيير يسير فِي بعض الأبيات، ولكني أستبعد هَذَا كل الاستبعاد، وأعتقد أنَّ المتنبي كان أمهر وأشد احتياطًا من أنْ يصنع هَذَا بابن العميد، وإنما يصنع هَذَا بالجهال وأشباه الجهال، لا برجل اعترف له الشرق الإسلامي بالتفوق فِي العلم والأدب، والفن والنقد.
والذي يعنيني من هذه القصيدة الضعيفة السخيفة قول المتنبي فيها:
فالمتنبي فِي هذه الأبيات يتكلف ازدراء الأعراب والغض منهم، ويظن أنه يمدح ابن العميد بما يرضيه، والأعراب هنا هم سيف الدولة وأصحابه فِي شمال الشام.
ومن المحقق أنَّ ابن العميد قد ابتسم لهذا الكلام الذي لا يدل على شيء ولا يغني شيئًا، ولا يمتاز إلا بما فيه من التكلف السخيف فِي المعاني والألفاظ جميعًا، وأجود ما قاله المتنبي فِي ابن العميد من غير شك إنما هي الدالية التي هنأه فيها بالنيروز، وإذا قلنا إنها أجود ما قال فِي ابن العميد فنحن نريد ما نقول.
فالقصيدة جيدة، ولكنها ليست من روائع المتنبي، وقد أظهر الشَّاعِر فيها جهدًا وتأنقًا نحسهما ونرثى له منهما، وقد ارتفع فِي قصيدته هذه عما كان قد انتهى إِلَيْهِ فِي الرائية، فلم يضعف ولم يسف، وأعانته متانة القافية ورصانة الوزن على هَذَا الارتفاع، ولعله وفق بعض التوفيق فِي وصف العيد، وافتخاره بالوزير، وفي المقارنة بين هَذَا اليوم وبين غيره من أيام السنة، ولكن المهم فِي هذه القصيدة اعتراف المتنبي بتقصيره فِي الرائية، واعتذاره من هَذَا التقصير، وذلك حيث يقول:
فأما الدالية التي ودعه بها فليست أقل تكلفًا وتصنعًا من الرائية، وإنْ كانت أقل منها ضعفًا وتهالكًا وإسفافًا، والإنصاف يقتضينا أنْ نقول: إنَّ المتنبي أخذ من ابن العميد أكثر مما أعطاه، فقد قصر الشَّاعِر من غير شك عن مدح هَذَا الرجل الذي كان بعقله وأدبه وسياسته وكرمه زينة لمعاصريه.
(٦) في ظل عضد الدولة
على أنَّ المتنبي لم يكد يتقدم فِي طريقه إلى شيراز حَتَّى زال عنه الحرج وانحط عنه الثقل، وحطم القيد الذي كان يمسك خياله ويمنعه أنْ يطير، وإذا هُوَ يبلغ من الشعر طبقة خليقة باسمه، وخليقة بمكانه، وخليقة بما قال من شعره الرائع فِي سيف الدولة، لماذا؟ لأن عضد الدولة ألهمه أكثر مما ألهمه ابن العميد؟ أم لأنه كان يحس الغربة فِي بلاد الفرس، ولم يكن له بد من بعض الوقت ليذوق هذه الحياة الجديدة ويسيغها ويتمثلها، ويضطرب فيها حرًّا غير مقيد ولا مغلول؟ أم لأن طبيعة البلاد الفارسية والحياة الفارسية قد أظهرته على لون جديد من الحياة والطبيعة، لم يكن قد عرفه من قبل، فألهمته شعرًا قيِّمًا لم يقل مثله منذ عهد بعيد، ولعل منه ما لم يقل مثله قط؟ أم لأن عضد الدولة كان أشد إطماعًا للشاعر من ابن العميد؛ لأنه ملك، ولأن الشَّاعِر قد عوَّدنا أنْ يستجيب للطمع أكثر مما يستجيب لأي شيء آخر؟
أما أنا فأعتقد أنَّ هذه الأسباب كلها قد تعاونت على إطلاق الشَّاعِر من عقاله، ورده إلى الجو الطلق الحر الذي تعوَّد أنْ يحلِّق فيه.
ولم يُقم المتنبي عند عضد الدولة إلا ثلاثة أشهر، ولكنه مدحه فأكثر المدح، والغريب أنه وفق للإجادة فِي كل ما قال، وقد حفظ الديوان لنا من شعره فِي عضد الدولة ست قصائد وأرجوزة ومقطوعة.
فأما القصائد فأولاها الهائية التي أولها:
والثانية النونية التي أولها:
والثالثة اللامية التي أولها:
والرابعة الدالية التي يقول فيها:
والخامسة البائية التي رثى بها عمه الأمير، وأولها:
والسادسة الكافية التي ودعه بها، وهي آخر ما قال من الشعر، وأولها:
وأما الأرجوزة فطردية يقول فيها:
وقال المقطوعة فِي عيد الورد، وأولها:
فهذا الإحصاء اليسير يُظهر كثرة ما قال المتنبي من الشعر فِي عضد الدولة أثناء هَذَا الوقت القصير الذي أقامه فِي شيراز، وما عرف عهدًا من عهود الشَّاعِر فِي حياته كلها نشط فيه شيطانه هَذَا النشاط، إلا أنْ يكون عهد ثورته فِي الشباب، ومع ذلك فلم يحفظ لنا الديوان من شعر ذلك العهد مثل ما حفظ لنا من شعر هَذَا الطور الأخير، ونشاط الشَّاعِر لا يمتاز فِي هذه الأشهر الثلاثة بالخصب وكثرة الإنتاج فحسب، ولكنه يمتاز أَيْضًا بالتنوع والاختلاف، فقد طرق المتنبي فِي هَذَا الطور أكثر فنون الشعر من المدح والوصف والسياسة والرثاء والطرد، ومن الحق أنه لم يتعمق فِي شعره سياسة عضد الدولة، كما تعمق سياسة سيف الدولة وسياسة كافور، ولكنه مع ذلك قد ألمَّ بطرف من أطرافها، فوصف فِي قصيدتين ثورة الأكراد على البويهيين وانتصار هؤلاء عليهم.
وما أعرف أنَّ المتنبي أتقن وصف الطبيعة فِي طور من أطوار حياته، كما أتقنه فِي هَذَا الطور، فوصفه لشعب بَوّان رائع حقًّا، ولكنه إلى الغناء أقرب منه إلى الوصف الخالص، على حين تلتمس الغناء فلا تجده فِي أرجوزته اللامية التي وصف فيها الصيد، والتي أشرتُ إِلَيْهَا آنفًا، وهذه الأرجوزة لها عندي خطر عظيم حقًّا، فهي التي ارتقى فيها الشَّاعِر إلى أرفع ما أتيح له أنْ يبلغ من الإجادة الفنية الخالصة، وهي التي امتزجت فيها نفس الشَّاعِر بالطبيعة المادية امتزاجًا مدهشًا كاد ينسيه نفسه على قلة ما ينسى نفسه، وكاد يصرفه عن عضد الدولة، لولا أنه يقول الأرجوزة لعضد الدولة، وما رأيت طبيعة الشَّاعِر أخذت بحظ من الخصب والغزارة، والسهولة والجزالة، والاندفاع معًا، كما رأيتها فِي هذه الأرجوزة، وقد استعار الشَّاعِر إطار القدماء، فسلك وصفه فِي نظم الرجز كما كان يفعل أبو نواس وابن المعتز، وكما فعل هُوَ عند الأوراجي وعند صاحب الرملة الإخشيدي، ولكنه تجاوز ما كان مألوفًا عند القدماء من فن الطرد، واندفع مع الصائد والمصيد، كأنه الريح أو النسيم الذي كان يضطرب فِي تلك المروج، فيشهد ما كان يجزي فيها من طراد وصراع، ثم يجتمله خياله العنيف القوي إلى أبعد من مروج فارس، وإذا هُوَ يعود إلى نجد ويرى وحشها خائفة تلتمس الأمان.
وليس يكفي أن ألمَّ بهذه الأرجوزة إلمامًا سريعًا كهذا، ولكن هَذَا الحديث لا يتسع للدرس المفصل والبحث الدقيق، فلعلي أعود إلى هذه الأرجوزة فِي غير هَذَا المكان، إنما أردت أنْ أدل على أنَّ نفس الشَّاعِر وملكاته قد استردت فِي هذه الأشهر الأخيرة من حياته قوتها كلها، وأضافت إِلَيْهَا قوة لم تكن تعرفها من قبل، وأكبر ظني أنَّ نفس الشَّاعِر لم تمتلئ بالأمل فِي وقت من الأوقات كما امتلأت به فِي ذلك الوقت، وما أستبعد أنْ يكون الشَّاعِر قد وثق بالفوز آخر الأمر، واطمأن إلى أنه بعد اتصاله بعضد الدولة قد أصبح شاعر الدولة الإسلامية غير مدافع، لا شاعر أمير فِي شمال الشام أو فِي مصر، بل شاعر السلطان الأعظم، وما أستبعد أنه قد تمثل المستقبل المشرق، فإذا هُوَ يرى نفسه وقد ظفر من عضد الدولة بالمال الذي لا يكاد يبلغه الإحصاء، والتأييد الذي لا حد له، وعاد إلى بغداد مقربًا إلى معز الدولة برغم المهلبي وأشياع المهلبي، وإذا الشَّاعِر الإسلامي الفذ، الذي يقول من بغداد فيدوي صوته فِي أرجاء الدولة الإسلامية كلها شرقًا وغربًا، وإذا هُوَ يملي على الدهر قصائده حقًّا.
هذا الأمل الواسع العريض هُوَ الذي يفسر لي اندفاع الشَّاعِر فِي نشاط غريب لا نراه حَتَّى فِي مدحه لسيف الدولة، لا نكاد نستثني من هَذَا المدح إلا بعض قصائده للزوميات، وأغرب من هَذَا كله أنَّ هَذَا النشاط قد محا عن الشَّاعِر محوًا تامًّا ما كان يشعر به من ضيق وحرج عند ابن العميد، بل رد إليه حريَته كاملة، وَإِذَا هُوَ لَا يتحرج من أنْ يتغنى غربته فِي صراحة وجرأة لا حدَّ لهما ولا رقيب عليهما، فهو يتغنى حمصَ وما حولها فِي فتوة تذكر بشبابه العنيف، وهو يحمد شعب بوان ويصف جماله، ولكنه لا يتردد فِي أنْ يعلن حنينه إلى دمشق وغُوطتها، وإلى الشعب العربي النازل في الشام، وفي أنْ يُؤثرَ هَذَا الشعب الفصيح الكريم على الشعب الفارسي الأعجمي، الذي لا يقدر الضيافة ولا يحسن القرى.
بل هُوَ يتجاوز هذه الحرية الشخصية، إنْ صح هَذَا التعبير، إلى حرية أخرى لغوية، كان تعودها فِي عصوره الأولى، ولكنه يسرف فيها الآن، كأنه يريد أنْ يتخذها قاعدة، فاقرأ داليته التي أولها:
وأخص إعراضه فيها عن المألوف فِي نصب الاسم المصروف، فسترى أنه تجاوز المعقول واتخذ الضرورة أصلًا، ولا تقل: إنه استجاز هَذَا متبعًا للغة من اللغات أو مذهب من مذاهب النحويين، فإن الرجل لم يحفل فِي حقيقة الأمر بشيء من هذا، وإنما أطاع فنه وأرسل نفسه على سجيتها، واستذل النحو واللغة للشعر، وأعرض عما قد يكون من غضب النحويين أو رضاهم.
ثم قف عند هذه القصيدة نفسها، فسترى أنه اصطنع فيها الحرية لا مع النحو وحده، بل مع أصول العروض والقافية أيضًا، فقلما يصرِّع الشعراء في القصيدة الواحدة أكثر من مرة، والمتنبي يصرِّع فِي القصيدة الواحدة مرة أو مرتين، أما فِي هذه القصيدة فهو يصطنع التصريع مرات عدة، كأنما هُوَ يتبع فيه وحي الفن، وكأنما لا يريد أنْ ينتقل من معنى إلى معنى دون أنْ يستأنف التصريع؛ ليشعر بهذا الانتقال، ولينبئ السامع بأنه سيخرج به من حديث إلى حديث.
وأخرى لا نكاد نجدها إلا فِي شعر هَذَا الطور، وهي تحرر الشَّاعِر من القيود التي يأخذ الشعراء بها أنفسهم فِي نظم القصيد، فهو ينسب حينًا ويصف حينًا، وهو يتغنى دائمًا فِي أوائل قصائده فِي عضد الدولة، ولكن انظر إلى لاميته التي يصف فيها انتصار الفرس على الأكراد، والتي أولها:
فسترى كيف تبسط واصطنع حرية فِي الحوار لم يكن يألفها، ثم امض فِي القراءة وانظر كيف خلص إلى الأمير من طريق بديعة فِي شعره حقًّا، حين تصوَّر صاحبته وحيدة قد تحمَّل أهلها وحرَّاسها، ودهم الأمير ديارها، وإذا هُوَ يسألها مَا يريد أن يسألها، أفتراها كانت تمنحه ما تعودت أَنْ تضن به، أم تراها كانت تبخل عليه بما يطلب إليها، مع أنَّ هذا البخل محال؛ لأنه لا يكون حيث ينزل الأمير؟ وما أتردد في الجهر بِأَنَّ المتنبي لَوْ أطال الإقامة في فارس والاستمتاع بما كان يستمتع به فيها من الخفض والأمن والنعيم، لتغير مذهبه الشعري تغيرًا قويًّا جدًّا، وَلَجَازَ أَنْ يُحدث فِي الشعر العربي فنًّا جديدًا لم يُسبقْ إِلَيه، ولم يتح لأحد من العرب بعده أنْ يُحدثه؛ لأن نبوغه واستعداده لم يتاحا لشاعر عربي من الذين زاروا بعده هذه البلاد.
ومن هنا يدهشني حقًّا ألا يكون النقاد قد التفتوا إلى ما يمتاز به شعر المتنبي في شيراز من سائر شعره، وأنْ ينظروا إليه كما تعودوا النظر إلى الشعر العادي لا يلتمسون فيه إلا ما تعوَّدوا أنْ يلتمسوا من ألوان الجمال المألوف.
وأغرب من هذا أنَّ الأستاذ بلاشير لم يكد يشعر بهذا التطور العميق الذي أحدثته زيارة الشاعر القصيرة لفارس في شعره، مع أنَّ الأستاذ بلاشير أوربي، وكان خليقًا أنْ يحس ما بين هذا القسم من شعر المتنبي وبين العقلية الأوربية والفنية الأوربية من تقارب ليس شديدًا، ولكنه واضح كل الوضوح.
ولَشد ما أحببتُ أنْ أطيل الوقوف عند هذا القسم من شعر المتنبي، فهو من الناحية الفنية الخالصة آثره عندي، وأعجبه لي وأحبَّه إليَّ، وهو خليق أنْ نقف عنده قصيدة قصيدة، وأنْ نفصله ونستخرج دقائقه، ونضع أيدينا على مواضع التطور فيه، ولكن هذا شيء لا نفرغ منه إنْ أخذنا فيه إلا بعد إطالة لم يعد يحتملها هذا الكتاب.
وكل هذا الشعر مختار، قد تُصادف فيه بين حين وحين بيتًا لا يعجبك، ولكنك لا تستطيع أنْ تُلغي منه قصيدة أو جزءًا طويلًا من قصيدة، وإذا كان لنا أنْ نأسف لشيء لا يغني الأسف له، فقد كنا نتمنى لو فر المتنبي في شبابه إلى فارس لا إلى الشام، وقد كنا نتمنى لو سار عضد الدولة مع الشاعر سيرة كافور، فأمسكه في شيراز ولم يأذن له بالعودة إلى العراق، وذاد عنه مع ذلك الشعور بأنه أسير لا يستطيع أنْ يذهب ويجئ كما يحب، إذن لتغير شعر المتنبي تغيرًا تامًّا، ولوثب الشعر العربي في القرن الرابع وثبةً بعيدة المدى، وَلَفُتِّحَتْ للشعراء بعد المتنبي أبواب جديدة يلتمسها الشباب من الشعراء الآن فلا يكادون يظفرون منها بما يبغون.
(٧) في طريق العراق
ولكن عضد الدولة لم يرد أنْ يشق على الشاعر، ولا أنْ يمسكه في شيراز ويحبسه عن العراق، بل أضاف عطاءً إلى عطاءٍ، وإحسانًا إلى إحسانٍ، وخلى بين الشاعر وبين حريته، فاستأنف الشاعر سفره إلى العراق وهو يُقسم جهد أيمانه ليعودن إلى الأمير، أكان صادقًا في هذا، أم كان يذهب فيه مذهب الشعراء، ومذهبه هُوَ مع الذين ودَّعهم من الممدوحين؟ مسألة ليس من اليسير أنْ نجيب عليها، ولكني كما عرفتَ من سياق هذا الحديث أميل إلى الاعتقاد أنَّ الشاعر لم يكن كاذبًا ولا متكلفًا، وأنه كان يقدر في نفسه أنه سيلقى الأمير مرة أخرى في شيراز أو في غير شيراز، والشيء الذي لا أشك فيه، هُوَ أنَّ نفس المتنبي كانت قد خلصت للبويهيين، ولعضد الدولة منهم خاصة، وما أرتاب في أنه يَفصل من شيراز وفي نفسه الذهاب إلى الكوفة أو إلى حلب، وإنما فصل منها وفي نفسه الذهاب إلى بغداد، والاتصال بمعز الدولة والانتصار على خصومه كما قدَّمت.
وهنا يحسن أنْ نقف لحظة قصيرة لنستخلص في كثير جدًّا من الإيجاز، هذا التطور الأخير الذي طرأ على حياة المتنبي، فانحرف بها عن طريقها وقَلبها رأسًا على عقب، إنْ كان للحياة رأس وعقب، فقد رأينا الشاعر بعد محنته في شبابه يدفع شيئًا فشيئًا إلى طريق الشعراء من قبله، ويتهاون شيئًا فشيئًا في الاحتفاظ بما كان له من مذهب ورأي، رأيناهُ يُفرط في القرمطية، وإنْ احتفظ بشيء من الحنين إليها، ثم رأيناه يمدح غير العرب حين تدعوه الضرورة إلى ذلك، ثم رأيناه يتكلف الشعوبية في مدح الروزباري بدمشق، ثم رأيناه يعود إلى عربيته حين يتصل بالحمدانيين، ثم رأيناه بعد ذلك يُعرض عن هذه العربية، وينقطع إلى عبد زنجي أو نوبي في الفسطاط فيمدحه ما امتدت له أسباب الطمع فيه، ثم رأيناه يسترد عربيته ويعود إلى العراق وقد آثر الحيدة والهدوء، ثم رأيناه آخر الأمر يغلب على قرمطيته وعلى عربيته معًا، فإذا هُوَ يهجو القرامطة ويقاتلهم بالسيف والرمح من جهة، وإذا هُوَ يمدح دلِّير، ويؤثر ابن العميد وعضد الدولة على صديقه الحمداني القديم من جهة أخرى، هُوَ يعود الآن إلى العراق، وقد ضحى في سبيل المال والمجد الشخصي بالقرمطية والعربية معًا تحت أقدام البويهيين.
(٨) خاتمة المطاف
وقد انتهى إلى واسط، فيما يقول الرواة، في شهر رمضان من سنة أربع وخمسين وثلثمائة، بعد أنْ ألم بالأهواز، فلما انتهى إلى واسط نزل على صديقٍ له يُعرف بأبي نصر محمد الجبلي، وهذا الصديق هُوَ الذي كتب إلى الخالديين بما عرف من جلية أمر المتنبي، بعد أنْ فارقه وخرج من واسط قاصدًا إلى بغداد، وليس عندي ما يحملني على الشك في خبر أبي نصر الجبلي هذا، فالصدق ظاهرٌ فيه، وهو ملائم كل الملاءمة لطبيعة الأشياء، وخبر أبي نصر الجبلي هذا معروف، فهو قد أنبأ الخالديين في كتابه بأن فاتكًا الأسدي، خال ضَبَّة القرمطي، الذي هجاه المتنبي في الكوفة قبل رحيله إلى ابن العميد، قد نزل به قبل مقدم المتنبي على واسط بأيام، وجعل يسأل عن المتنبي حتى ارتاب الجبلي بسؤاله، ثم لم يشك في أنه يريد به السؤال لينقم لابن أخته ويردَّ عنه وعن نفسه عار ذلك الهجاء القبيح، وجعل الجبلي يرد فاتكًا عن هذا الشر الذي أضمره، فلم يبلغ منه شيئًا، فلما وصل المتنبي إلى واسط حذَّره الجبلي من فاتك هذا، ونصح له أنْ يستصحب الأحراس، فأبى مستكبرًا، وعرض عليه أنْ يتولى هُوَ حراسته بإرسال نفر من أصحابه يسيرون بمسيره وينزلون بنزوله، فأبى مستكبرًا أيضًا، وخرج وليس معه إلا ابنه وغلمانه، فلما كان في بعض طريقه إلى بغداد، قريبًا من دير العاقول، تلقاه فاتك وأصحابه من الأعراب، فكان بينهم شيء من قتال، ثم كثره فاتك بأصحابه فقتلوه وقتلوا ابنه وغلمانه جميعًا، وأخذوا ما كان معهم من متاع وكتب ومال.
أكان فاتك ثائرًا لابن أخته ولعرضه فحسب، أم كان ثائرًا لعرضه ولشيء آخر؟ أما القدماء فلم يترددوا في قبول الأمر كما قبله أبو نصر الجبلي، وكما قبله الخالديان، فهم يرون، ويرى معهم المحدثون أنَّ المتنبي ذهب ضحية للسانه، وتلقى الموت ثمنًا لهذه القصيدة البائية التي هجا بها ضبة في الكوفة على كره منه — فيما يقولون — وقد يكون هذا حقًّا، فهو ملائم للمألوف من عادات الأعراب، ولكني أحس من نفسي ترددًا في قبوله، وأراها تنبو عنه ولا تطمئن إليه، وأرى خاطرًا يلح عليَّ ولا يكاد يفارقني منذ درست شعر المتنبي وحياته في شيء من التدقيق والتفصيل، وأنا أعرض عليك هذا الخاطر كما يعرض نفسه عليَّ، فإن شئت فاقبله، وإنْ شئت فارفضه؛ لأني لا أجد بين النصوص ما يمكنني من ترجيحه فضلًا عن القطع به، وهذا الخاطر يُلقي في نفسي أنَّ المتنبي لم يذهب ضحية لهذه القصيدة، ولا ضحية لجشع الأعراب فيما كان يسوق من مال ومتاع، وإنما أدى بموته، إلى القرامطة من جهة، وإلى العرب من جهة أخرى، ثمن هذه الخيانة التي اقترفها في الكوفة، وسجلها في نفسه في شيراز، وعاد وفي نفسه أنْ يمعن فيها ويباهي بها، ويملأ بها الأرض إذا انتهى إلى بغداد.
والشيء الذي لا ينبئنا به الرواة هُوَ مصير أصحاب المتنبي الذين رافقوه إلى أرجان، ثم إلى شيراز، فقد كان معه جماعة من البغداديين، منهم ابن جني، فأين ومتى تفرَّق عنه هؤلاء الناس؟ أرحلوا معه من شيراز ثم تخلفوا في واسط؟ أتأخروا في شيراز؟ أسبقوه إلى بغداد؟ لا ندري، ولكنا نعلم أنهم حزنوا عليه أشد الحزن، وقالوا فيه كثيرًا من الرثاء، وعُنوا بشعره يذيعونه ويفسرونه، ولم يشهدوا موته، ولم يعرفوا من لحظاته الأخيرة أكثر مما كتب به أبو نصر الجبلي إلى الخالديين.
وكذلك أراد الله أنْ يعيش وحيدًا ويموت وحيدًا ذلك الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.
بعد الفراغ
… والآن وقد فرغت من إملاء هذا الكتاب منذ أشهر، وأتمت المطبعة صفحاته الأخيرة منذ ساعات، أحب أنْ أسجل أشياء أخرى من الخير ألا تضيع أولها، أني حين أقبلت على صحبة المتنبي في الصيف الماضي لم أكن جادًّا ولا صاحب بحثٍ ولا تحقيق، وإنما كنت عابثًا، أريد أنْ أداعب المتنبي أو أداعب خصومه وأصدقاءه جميعًا، وليس أدل على ذلك من هذه الصفحات التي تقرؤها في صدر هذا الكتاب، فهي لا تصور جدًّا ولا بحثًا، وإنما تصور عبثًا ولهوًا، ولكني لم أكد ألقى المتنبي وآخذ في الحديث معه، أو الحديث عنه، حتى صرفني عن اللهو والعبث، واضطرني إلى محاولة البحث والتحقيق، وأي غرابة في ذلك ولم يكن المتنبي صاحب راحة ولا ميالًا إلى اللهو، وإنما كانت حياته كلها جدًّا، وجدًّا ثقيلًا، ينتهي به وبقرائه إلى الملل أحيانًا!
ولست أدري، ماذا صنع المتنبي بي، أو ماذا صنعت أنا بالمتنبي، فقد كنت أريد أنْ أمضي معه متباطئًا، وأتحدث إليه أو أتحدث عنه متثاقلًا، ولكني لم أكد آخذ في الإملاء حتى دفعت إليه، ودفعت فيه دفعًا عنيفًا، لم أستطع له مقاومة ولا عليه امتناعًا، وإذا أنا أجري في الإملاء أو أعدو فيه أشد العدو، حتى لا يتابعني صاحبي إلا بجهد كل الجهد ومشقة كل المشقة، وإذا أنا أملي إذا أصبحت وأملي إذا أمسيت، وأملي بين ذلك، وأبغض الراحة أشد البغض، ولا أكاد أنصرف عن المتنبي إلى أحد غيره أو إلى شيء غير حديثه، حتى إذا انتهيت إلى حيث انتهيت، وجدتني مكدودًا قد انتهى بي الإعياء إلى أقصاه، ووجدتني لم أقل للمتنبي ولم أقل عنه كل ما كنت أريد أنْ أقول، فطويت الصحف، وأرجأت الحديث حتى أعود إلى القاهرة.
وكنت أريد أنْ أستأنف الحديث متى عدت، فأفصل القول في فن المتنبي بعد أنْ فرغت من تفصيل القول في حياته، وأقف بنوع خاص عند أشياء لم أزد على أنْ ألممت بها إلمامًا، ولكن الحياة المصرية، كما قلت في غير موضع، لا تلائم البحث الهادئ ولا الدرس المطمئن، ولعلها لا تلائم بحثًا ولا درسًا، فما أكاد أبلغ القاهرة حتى تتلقاني الأعمال الجامعية، فتستغرق أكثر جهدي ووقتي، والحياة الاجتماعية، فتستنفد ما بقي لي من وقت أو جهد، وإذا أنا أصرَفُ عن المتنبي صرفًا عنيفًا كما دفعت إليه دفعًا عنيفًا، وإذا المعنيون لا يكادون يظفرون بي لحظة بين حين وحين، ليسألوني عن هذه الكلمة أو تلك، وليقرءوا عليَّ هذا الفصل أو ذاك.
ومع ذلك فما أكثر ما بقي في نفسي من المتنبي، والله وحده يعلم، أيتاح لي أنْ أشفي من حديثه نفسي، أم تحول بيني وبين ذلك الحوائل والخطوب!
والأمر الثاني: أني أبعد الناس عن حسن الرأي فيما أمليت، ولا تظن أني أريد أنْ أصطنع التواضع، أو أنْ أغض من هذا الجهد الذي أنفقته حين كان ينبغي أنْ أستريح، وإنما أريد أنْ ألاحظ أنَّ هذا الكتاب إنْ صور شيئًا، فهو خليق أنْ يصورني أنا في بعض لحظات الحياة، أثناء الصيف الماضي، أكثر مما يصور المتنبي، وإنه لمن الغرور أنْ يقرأ أحدنا شعر الشاعر أو نثر الناثر، حتى إذا امتلأت نفسه بما قرأ أو بالعواطف والخواطر التي يثيرها فيها ما قرأ، فأملى هذا أو سجله في كتاب، ظن أنه صور الشاعر كما كان، أو درسه كما ينبغي أنْ يُدرس، على حين أنه لم يصور إلا نفسه، ولم يعرض على الناس إلا ما اضطرب فيها من الخواطر والآراء.
وأكثر من هذا أني أخذت أرى أيامًا ما أظن إلا أنَّ كثيرًا من الناس سيضيقون به، ولعلهم أنْ ينكروه عليَّ، وقد ضقت به أنا وأنكرته على نفسي، ولكني لم أزد إلا إمعانًا فيه واطمئنانًا إليه، وتعجبًا من أني قد انتظرت هذه السن وهذا الطور من أطوار الحياة، قبل أنْ أفطن له أو أطيل التفكير فيه، وهو أنَّ شعر المتنبي لا يصور المتنبي، وأنَّ شعر الشعراء لا يصور الشعراء تصويرًا كاملًا صادقًا يمكننا من أنْ نأخذهم منه أخذًا مهما نبحث، ومهما نجدُّ في التحقيق، وما أريد أنْ أطيل الاستدلال على ذلك، ولا أنْ أسلك إلى هذا الاستدلال هذه الطرق الملتوية التي يسلكها الفلاسفة والعلماء والأدباء أيضًا، وإنما أريد أنْ ألفتك إلى شيء يسير، وهو أنَّ ديوان المتنبي إنْ صوَّر شيئًا فإنما يصور لحظات من حياة المتنبي، لا أكثر ولا أقل، كما أنَّ هذا الكتاب الذي بين يديك إنْ صور شيئًا فإنما يصور لحظات من حياتي أنا، لا أكثر ولا أقل، فكما أنك لا تستطيع أنْ تزعم أنك تستخلص من هذا الكتاب صورة صادقة لي تطابق الأصل وتوافقه، بل لا تستطيع أنْ تزعم أنك قادر على أنْ تستخرج من كتبي كلها صورة صادقة لي تطابق الأصل وتوافقه، فأنت كذلك عاجز عن أنْ تخرج من ديوان المتنبي صورة صادقة تلائم حياة المتنبي كما كانت في النصف الأول من القرن الرابع للهجرة.
وما أكثر ما أعجب، وما أضحك أيضًا، حين أقرأ ما يكتبه الناس عني بعد أنْ يفرغوا من قراءة هذا الكتاب أو ذاك من كتبي؛ لأنهم يحصِّلون لأنفسهم، ويَعرضون على الناس صورًا يزعمون أنها تمثلني، ولست أدري، وليس المتصلون بي من قريب، يرون أنَّ بينها وبيني سببًا، وما أشك في أنَّ المتنبي لو أنشر اليوم وقرأ هذا السخف الكثير الذي نكتبه عنه منذ قرون، لأنكر نفسه أشد الإنكار، أو لأنكر هذا السخف أشد الإنكار ولرأى أننا لم نكتب عنه، وإنما كتبنا عن أنفسنا، ولم نصوره، وإنما صورنا أنفسنا.
وإذن فقد يكون من الخير أنْ نقتصد، وألا نتشدد في هذه النظرية التي يحبها المحدثون ويشغفون بها، وهي أنَّ الشعر مرآة الشاعر، وأنَّ الأدب مرآة الأديب.
صدقني أني أصبحت لا أطمئن إلى هذه النظرية، ولست أشك في أنَّ الشعر مرآة لشيء، ولكني لا أدري، أهذا الشيء هُوَ نفس الشاعر أم هُوَ شيء آخر غيرها! ومهما أغلو في تصديق هذه النظرية وفي الثقة بنقد النقاد وبحث الباحثين، فلن أتجاوز أنْ أقول: إنَّ نقد الناقد إنما يصور لحظات من حياته قد شُغل فيها بلحظات من حياة الشاعر أو الأديب الذي عُني بدرسه.
وإذن فما أقل ما نظفر به حين نخصص لحظات من حياتنا للحظات من حياة شاعر أو أديب، وإذن فما أعرضه عليك في هذا الكتاب ليس حياة المتنبي كما كانت، ولا هُوَ حياة المتنبي كما أعتقد أنها كانت، وإنما هُوَ حياة المتنبي — أستغفر الله — بل لحظات من حياة المتنبي كما تصورتها في أثناء شهر ونصف شهر من الصيف الماضي، ومن المحقق أني كنت أرى في المتنبي قبل إملاء هذا الكتاب آراء عدلت عنها أثناء الإملاء، ومن يدري؛ لعلي أرى في المتنبي غدًا أو بعد غد أو اليوم آراء غير ما أثبته في غير هذا الكتاب، إنما نحن عبيد اللحظات لا نملكها ولا نستطيع تصريفها ولا دعاءها ولا ردها عنا حين تُقبل علينا، وهي تقبل علينا بشيء كثير لا نحصيه، ولما تقبل علينا به آثار لا تحصى في تهيئة مزاجنا للفهم والحكم وللتأثر والتأثير.
ما أحق فكرة اللحظات هذه بشيء من العناية، وما أجدر العناية بها أنْ ترد النقاد والأدباء الباحثين إلى شيء من التواضع، هم في حاجة إليه.
وشيء ثالث لا بُدَّ من تسجيله، وهو أني مدين بأخلص الشكر وأجمله لصديقين، أرى من الجحود ألا أسجل اسميهما في آخر هذا الحديث، ومن يدري؛ لعلي أتخفف عليهما من بعض التبعات، ولعلي أسجل اسميهما إيثارًا لنفسي بالعافية لا وفاءً لهما ببعض الحق.
فأما أولهما ففريد شحاته، الذي تكلف في هذا الكتاب جهدًا ليس من اليسير تصويره، فقد ضحى في سبيله براحة الصيف كلها، كان يكتب حين كنت أملي أكثر النهار وطرفًا من الليل، وكان يختلس من ساعات نومه ما ينسخ فيه الصحف ليهيئها للمطبعة.
والآخر صديقي عبد العزيز أحمد الذي قام على الطبع ونهض بأعباء التصحيح، وإنها لثقال.
فلأجدِّد هذا التقليد، إنْ صح هذا التعبير، ولأشكر هذين الصديقين فأنا كأبي العلاء رجل مستطيع بغيره، وأنا مدين لهما بظهور هذا الكتاب.