بداءة عصر البطالمة
يحرص أعضاء هذا المجمع شديد الحرص على أن يحققوا ببحوثهم الأغراض التي أنشئ لخدمتها، ونشر الثقافة العلمية في اللغة العربية من أغراضه الأساسية، بل إنه الغرض الأسمى الذي يرمي إليه هذا المجمع وجمهرة المثقفين من أبناء هذه البلاد. لهذا قد يتبادر إلى البعض أن إلقاء محاضرة في «بُدَاءة عصر البطالمة» فيه إقصاء للمجمع عن أغراضه الأصيلة، على اعتبار أن مسائل التاريخ ومشكلاته من الأدب لا من العلم. ولعل للذين يذهبون هذا المذهب مبررات كثيرة، غير أن مشاكل التاريخ ومسائله إن كانت إلى الأدب أكثر منها إلى العلم، فإنها تحتاج إلى أسلوب البحث العلمي؛ تحتاج إلى الاستقراء والمقارنة ومناقشة المقدمات واستخلاص النتائج، وبذلك يستولي عليها العلم بسلطانه الواسع. ويمكن بذلك أن نبرر، من طريق اتصال التاريخ بأسلوب البحث العلمي، أن ندخل في أغراض هذا المجمع بحث مشكلات التاريخ والفَحْصَ عن مسائله.
ولكن من الواجب أن أشير هنا إلى حقيقة قد تكون مؤلمة بعض الشيء؛ فإننا في التاريخ — بل وفي كل فروع المعرفة التي ندرسها — لا نجد بين أيدينا من المراجع الأصيلة شيئًا يستعان به في الدرس والمقارنة والاستقراء. فكل المدونات التاريخية التي يُتخذ بحثها أصلًا للدرس، لم يُنقل منها إلى العربية غير كتاب أو كتابين، يفضل الباحث الرجوع إلى أصولهما الأعجمية، من أن يظل مُكِبًّا على فك تلك الألغاز التي يرميه بها أسلوب الجمل العربية فيهما. أضف إلى ذلك أن مكتبة المدوَّنات التاريخية — وبخاصة القديمة منها، وهي مادة التاريخ الأساسية — تعد مجلداتها بالمئات، ومن الواجب نقل هذه المدوَّنات إلى اللغة العربية. والمؤسسة التي ينبغي لها أن تضطلع بهذا العمل الكبير، هي الجامعة المصرية، وكلية الآداب منها خاصة. وإني لأعتقد أنه لا يكون لنا أدب خاص تتجلَّى فيه مظاهر الفكر المصري الصميم، إلا بعد أن نُعنى بنقل الأصول الصحيحة في مختلف فروع المعرفة؛ فإن جهلنا بهذه الأصول قيدٌ يقيِّد الفكر، ولا ينتعش الفكر إلا في جو الحرية، فلنبدد القيود! هذا إذا أردنا أن نحيي الفكر المصري، ونجعل له طَابَعًا خاصًّا.
•••
في خريف سنة ٣٣٢ق.م غزا مصرَ تحت إمرة الإسكندر المقدوني، جيشٌ من المقدونيين والأغارقة، عُدَّته أربعون ألف مقاتل.
ولقد استطاع المصريون، عقيب كل غزو دهمتهم به أمة أجنبية كالهكسوس وغيرهم، أن يستردوا حريتهم المرة بعد المرة، وأن يقيموا على عرش بلادهم أسرًا من الفراعنة، تحيي تقاليد الحكم والثقافة واللغة؛ تلك التقاليد التي نشأت ورَبَتْ في مدى عصور لا تعيها الذِّكريات. ولكن هذه الغزوة كانت آخر عهد الملوك — الذين تجري في عروقهم الدماء الفرعونيَّة — بالحكم على ضفاف النيل، وإلى آخر الدهور. فمنذ أن وفد الإسكندر إلى مصر، خضعت مصر ألف سنة لحكام هلِّينييِّ الحضارة من مَقدونيين ورُومان. وفي نهايتها اندمجت مصر في الإسلام فبُدِّلت تبديلًا، وأصبحت لها لغة أخرى، ونظام اجتماعي لا عهد لها به، ودين جديد، ونُبذ الآلهة الذين عُبدوا فيها على أنهم آلهتها الخواص الآلاف من السنين نبذًا أبديًّا، ثم دفنوا في ثراها.
وبقي المصريون طوال ثمانٍ وستين ومائتين وألفين من السنين، تتوالى عليهم وعلى بلادهم الأحداث. حتى هيَّأت لهم الظروف مرة ثانية أن يستردوا حريتهم سنة ١٩٣٦، وأن يعود الدم المصري الذي جرى من قبل في عروق الفراعنة إلى تقلد زمام الأمر على ضفاف النيل المقدس. وبهذا نضيف إلى سلسلة المجد التي أفرغ أول حلقاتها آباؤنا منذ ستة آلاف سنة أو تزيد، حلقة جديدة، لعلنا لا نخطئ إذا ترقبنا أنها ستكون أمجد الحلقات.
وما أجدرنا ونحن نستقبل عهدًا جديدًا؛ عهدًا من الاستقلال والحرية، ألَّا ننسى الماضي، وأن نتخذ من أحداثه عبرًا، تنير سبيلنا في عالم تتجمع في جوه عواصف القدر، عواصف أشبه بتلك التي أخذت تتجمع في جو الدنيا في أواخر عصر بطلميُوس الأول.
(١) وكان الملك الجديد، أخو الإسكندر من أبيه، أحمق ضعيف العقل، فانتقل السلطان كله إلى القُوَّاد المقدُونيين، الذين خدموا تحت إمْرة الإسكندر، وبخاصة في يدي «فَرْدِقَّاس» (٢) الذي إن ظلت حقيقة الوظيفة التي شغلها خفية على الباحثين في العصور الحديثة، فإنها كانت موضع خلاف وجدل بين عظماء المقدونيين في أثناء المعارك المهوشة، التي تلت موت الغازي الأعظم، وتركه الميدان فجأة. ولا خفاء في أن «فَرْدِقَّاس»، وكان أقوى رجل في بابل، قد عقد النية على أن يعمل بدعوى الوصَاية على القيصرية، ولكن حدث في تلك الآونة أن اتفق القواد في ندوة عقدوها على توزيع جديد للولايات؛ ليختص كل منهم بولاية منها.
•••
•••
كان «بَطْلَمْيُوس» على قدر ما نستشف الحقائق من حجب الزمان أَيِّدًا ذا مِرَّةٍ، من ذلك الطراز المقدوني المملوء فتوة، وفيه من النُّهى ما يتصف به زعماء الأمم التي يكون أفرادها زرَّاع الريف، فكان ثاقب الفكر أريبًا، حَذِرًا نافذ البصيرة، يجنح دائمًا إلى أن يكون في كل عمل يأتيه إلى جانب الأمن والسلام؛ ليفوز بغنائم مادية محققة الفائدة. وكان فوق ذلك حيواني الشهوات، فاستمتع وأرضى شهوته بكثير من النساء. ولكن كان فيه من الظَّرف وأنس المعشر ما جعل كثيرًا من الجنود البارزين يلتفون من حوله، وافدين إليه من نواحي العالم الإغريقي. وعلى الجملة كان رجلًا فتيًّا، بَدَنًا وعقلًا، وليس خوَّارًا ضعيفًا.
كان يتذوق الأدب الإغريقي ويحبه، شأن شباب المقدونيين من أهل الطبقات العليا، وكانوا قد عكفوا مدى أهل أو أهلَين، على تعلم الإغريقية كلامًا وقراءةً. ولم يكتفِ «بَطلميوس» بأن يستهبط أدباء الإغريق وفلاسفتهم وفنَّانيهم بلاطه الملكي، بل كان مؤلفًا أغنى أدب التاريخ الإغريقي بمؤلفات موثوق بها، وله في غزوات الإسكندر مؤلف امتاز بالصدق في رواية الحقائق، والاحتراز من الترسل الخطابي.
هذا مَثَلٌ من الرجل الذي هبط مصر واليًا عليها من قِبل الملك «فِيلِبُّس أرغيدايوس» والملك الإسكندر القاصر، وهو الطفل الذي أعقبه الإسكندر الأكبر، وكان «بطليموس» في ذلك العهد، يبلغ من العمر الرابعة بعد الأربعين.
•••
قضت القرارات التي أبرمت في بابل أن يبقى «إقليومنس» (١٨) وكان من صنائع «فِرْدِقَّاس» وكيلًا لبطلميوس، حتى يصبح سلطانه في مصر بمثابة عقبة تشل مطامع الوالي الجديد. ولكن «بَطْلَمْيُوس» استولى على جثة الإسكندر عنوة، متحديًا بذلك «فردقاس» مزدريًا به، فكانت الحرب المكشوفة بين الوالي ووصي الملك، كما كان منتظرًا أن يكون. ولا شك في أن «إقليُومَنَس» كان يستطيع أن يظل عقبة في وجه «بطْلَميوس»، ما دام هذا يخشى أن يجابه «فردقَّاس» علانية، أما وقد جابهه جهرة، فلا أقل من أن يوجه «بَطْلَمْيُوس» تهمة إلى «إقليومنس» تنتهي بإدانته، ثم بقتله. ولم يَرْتَبْ «بَطْلَمْيُوس» في أن «فردقاس» سوف يهاجمه بكل ما يستطيع من قوة، حالما تطلق يده في الأمر. ولكنه برغم هذا، مضى يوسع من أطراف مملكته على شاطئ البحر المتوسط الأفريقي بامتلاك «قورينا» (١٩)، المستعمرة الإغريقية القديمة، وربائبها من المدن.
ولا شك في أن إذلال دُوَيْلَة نَبُهَ ذكرُها ولمع سناها، بيد عامل مقدوني، ومن ورائها تقاليد قرن بطوله مُتِّعت فيه منذ أن سقطت أسرتها الإغريقية الحاكمة بالحرية الجمهورية، كان حدثًا له أثره البالغ في العالم الإغريقي. ولم يسبق لأهل «قورينا» أن عالجوا الخضوع وذِلَّة الحكم الأجنبي؛ ولذا قدر لأهل هذه المدينة أن يكونوا في مستقبل أيامهم شوكة حادة في جنب الملوك المقدونيِّين في مصر، بدل أن يكونوا مصدر قوة وعزةٍ لهم. ومع هذا فقد أمدت قُورِينا مصر البطلميَّة، كما أمدت أيرلندا بلاد بريطانيا، بعدد من الرجال النابهين مثل «قلِّيماخوس» (٢٤) الشاعر و«أراطوثنيس» (٢٥) الجغرافي، وعدد عديد من رجال الحرب. فإن قراطيس البردي تُحصي من القُوَّاد المستعمرين للفيوم ومصر العليا، عددًا من «القورينيين» تلفت نسبته الأنظار، وترك بطلميوس «أُفَلَّاس» حاكمًا على تلك البقاع إلى حين.
وحدث هجوم «فردقاس» على مصر في خريف سنة ٣٢١ق.م ولقد ظهر في تلك الآونة مقدار الحكمة التي أبداها «بَطْلَمْيُوس» في أن يتخذ لقوته قاعدة برية يصعب مهاجمتها؛ فإن «فردقاس» عجز عن أن يقتحم فرع النيل الشرقي، وقتل في معسكره. وكان من الجائز أن يظفر «بَطْلَمْيُوس» إذ ذاك إلى مكانته، ولكنه كان يعلم حق العلم، أن من الأصوب أن يظل حاكمًا لمصر، على أن يكون وصيًّا على القيصريَّة.
كذلك حدث في خريف سنة ٣٢١ق.م أن عقد المنتصرون من زعماء الحزب الذي كان ينابذ «فرقاس» اجتماعًا في «إتريفارَادِيسُوس» (٢٦)، وهي محلة يظهر أنها كانت في ناحية ما من شمال سورية، وأبرموا اتفاقًا جديدًا، أقروا فيه توزيع الوظائف وحكم الولايات في أنحاء القيصرية، وتم على أن يظل لبطلميوس الوَلاية على مصر وبَرْقَة.
في خلال أربعين سنة تلت ذلك العهد، وهي سنون اشتعلت فيها نيران الخلاف بين الزعماء المقدونيِّين الذين تعلموا فن الحرب تحت إمرَة الإسكندر، ظل «بطلميوس بن لاغوس» في ولايته الأفريقية، آمنًا أمن السلحفاة حوتها الصَّدفة، والجيوش تمر رواحًا وجيئة عبر آسيا، والأساطيل تَطَاحَن في بحر «أيغا».
غير أن «بَطْلَمْيُوس» كان يخرج بعض الأحيان من صدفته، ولكن بقصدٍ وقدَر؛ ليشترك في الملحمة الدائرة، ذلك بأن القوة الحربية التي حكمت مصر بعد الفراعنة كانت ذات صبغة هلِّينية (٢٧)، ولها علاقات عديدة — سياسية واقتصادية وثقافية — بغيرها من الدويلات الإغريقية الأخرى. وأخذت هذه القوة تولي وجهها شطر الشمال؛ أي في اتجاه البحر، ومن خلال الإسكندرية، وملء نفسها مصالح لم تَجِش في صدر أحد من وَطنيِّي الفراعنة.
وفي الوقت الذي رغب فيه «بَطْلَمْيُوس» رغبة صادقة في أن يظل كرسيه وقوته في أمن وسلام في داخل إقليم النيل، مضى يتطلع إلى أقاليم مجاورة يحتلها؛ لتكون لمصر ربائب وتوابع، وأن يكون له من الجزائر وشواطئ بحر الروم مواطن ارتكاز تأوي إليها قواته الحربية: برية وبحرية؛ ذلك بأن مصر البطلمية قد أصبحت دولة أكثر نشدانًا لمصالحها في حوض البحر المتوسط منها دولة أفريقية، على العكس من مصر الفرعونية، وقد كانت تمد سلطانها أحيانًا إلى جوف السودان؛ فإن البطالمة لم يعنوا أبدًا بأن يغزوا من أعالي النيل أرضًا تقع بعد الشلال الأول. ولكن «بَطْلَمْيُوس» أحب أن يملك جنوب سُوريَة، كما أحب ذلك الفراعنة الذين درجوا من قبله؛ لتصبح دريئته من الشرق، كما أن برقة دريئته من الغرب. وأحب أيضًا أن يملك جزيرة قبرص، كما فعل الملك «أحمس» (٢٨) في القرن السادس قبل الميلاد، وأن يتقدم خطوة أخرى فيبسط سلطانه على أغارقة الجزر الأيغيَّة (٢٩)، وعلى بقاع من آسيا الصغرى، بل على بقاع من إغريقية القديمة بالذات.
وإلى هذا الحد حاول «بَطْلَمْيُوس» أن يمتد إلى خارج صدفته، ليخاطر ويمعن في المخاطرة؛ فإن مصر إذا شاءت أن تصبح دولة قوية هانئة، معتدًّا بها في معترك السياسة والتجارة العالميَّين، فإنها لن تصل إلى ذلك إذا هي بقيت حبيسة في داخل حدودها، مكفية الحاجة بِغَلَّاتها، منها وإليها؛ فإن الخُشُب الضخمة التي ينتفع بها في بناء السفن، لا أثر لها في وادي النيل، وكانت ترد مصر من جبال «لبنان» ومن تلال «قبرص». والطريق التِّجاري الذي كان يُختط طوال النيل من الإسكندرية وإليها، كان له خَصِيم؛ هو ذلك الطريق الذي كان يمر من خليج العجم عبر بلاد العرب إلى «غزَّة»، ولا شبهة في أن من فائدة من يحكم مصر، أن يحتكم في الطريقين معًا.
•••
لما قفل «أنطيغونُس» (٣٣) عامل «فُرُوغْيَا» راجعًا من الولايات الشرقية في سنة ٣١٦ق.م بعد انتصاره على بقايا حزب «فردقاس» أصبح في نظر أحلافه القدماء في منزلة «فردقَّاس» خطرًا عليهم. وكان «سلوقوس» (٣٤) عامل «بابلونيا» (٣٥) قد هرب إلى مصر، وتكونت شعبة جديدة من الزعماء تنابذ «أنطيغونس». على أن احتلال «بَطْلَمْيُوس» سورية الخالية، قد زوَّد كل المتطلعين إلى الاستيلاء على الإمبراطورية بسببٍ للشكوى، له خطره ووزنه. ففي سنة ٣١٥ق.م غزا «أنطيغونس» سورية الخالية، فارتد «بَطْلَمْيُوس» أمامه مستهديًا ببصيرته النقادة، وانكمشت السلحفاة في داخل صدفتها، واحتل «أنطيغونس» مدن الشاطئ السوري حتى «غزَّة». ولكن أسطول «بَطْلَمْيُوس» تحت إمرة «سلوقوس» كان في الوقت نفسه يشن الغارات بحرًا على «أنطيغونس». وأنزل «بَطْلَمْيُوس» قوة حربية في قبرص، وكان سكان الجزيرة، وهم أخلاط من الأغارقة والفينيقيِّين، منقسمين شيعًا، وكل مقاطعة من مقاطعاتها العديدة خاضعة لحاكم مستقل استقلالًا جزئيًّا، وكان بعضهم من ممالئي «أنطيغونس». فاحتل «بَطْلَمْيُوس» ولايات صولي (٣٦) وسَلاميس (٣٧) وفافوس (٣٨) وخُتري (٣٩). ولما أن وطئت قوات «بَطْلَمْيُوس» ثرى الجزيرة، أخذ سلطانه يمتد ويثبت في أطرافها، وكان يريد أن يتخذها قاعدة بحرية يناجز بها «أنطيغونس» الذي تملَّك كل الموانئ الفنيقيَّة الواقعة على الشاطئ السوري.
في سنة ٣١٣ق.م فقد «بَطْلَمْيُوس» سورية الخالية، كما فقد «قورينا» إلى حين. فإن هذه المدينة بعد أن خضعت تسع سنوات لسلطان حاكم مقدوني غريب عنها، ثارت، وحاصر أهلها حامية «بَطْلَمْيُوس» في القلعة، ولكنه وجه إليها مددًا حربيًّا، قضى على الثورة، وأخضع المدينة لسلطة «أفلَّاس» حاكمها. وفي هذه السنة نفسها هبط «بَطْلَمْيُوس» جزيرة «قُبْرُص» وأتم غزوها، ثم قتل أمير «قطيوم» (٤٠) الفنيقي واسمه «فُومايَّاطون» (٤١) أو (فُغْمَالْيُون) وكان من صنائع أنطيغونس.
وتعتبر معركة غزة بدء عصر تاريخي، فإنه عقيب الهزيمة التي مُني بها «دمطريوس» وجد سلوقوس أن الطريق ممهود أمامه ليعود إلى بابل. ومنذ ذلك الوقت بدأ تاريخ الدولة السَّلُوقيَّة في آسيا، وللمرة الثانية تم امتلاك بطلميوس لفلسطين، وعاد سلطانه على المدن الفِنِيقيَّة.
وسرعان ما قلب الحظ لبطلميُوس ظهر المجن فجاءةً، شأن الحياة في تلك الأيام المرتجَّة الخئون. فإن «دمطريوس» هزم جيشًا لبطلميوس سنة ٣١١ق.م في شمال سورية، وسارع أنطيغونس بالزحف منحدرًا نحو فلسطين من الشمال. وللمرة الثانية انسحب «بَطْلَمْيُوس» من فلسطين، منكمشًا في داخل صدفته. وفي ذات الوقت ثارت قورينا مرة أخرى، ولكنها لم تثُر على أفلاس، بل تحت إِمْرَته وبزعامته.
وكانت فترة عصيبة على «بطلميوس»، ففي سنة ٣١١ق.م عقد وحليفاه من الزعماء المقدونيين؛ قَصَّنْدر (٤٣) حاكم مقدونيا، و«لوسيماخوس» (٤٤) حاكم «تراقيا» (٤٥) معاهدة مع «أنطيغونس» ترك ﻟ «لبطلميُوس» بمقتضاها سورية الخالية. ولم تكن إلا برهة تصعد فيها الأنفاس بعد طول الجلاد والعراك، لم تلبث الحرب أن عادت بعدها سجالًا، كما كانت من قبل. وانحصرت جهود «بَطْلَمْيُوس» حينذاك في أن يمد سلطانه على البحار. ولئن فقد سورية الخالية وفنيقية، فإنه كان مالكًا جزيرة «قُبْرُص».
ومضى الزعماء المقدونيُّون يَدَّعون الأمانة لمبدأ «الاستقلال الذاتي للهلينيِّين» (٤٦)، واعتمادًا على هذه الدعوى، كان كل منهم يطرد جيش زميله من أية مدينة إغريقية يحتلها؛ ليثبت مكانه قدم جيشه، بدعوى أنه حامي حُرِّيات المدينة.
في سنة ٣٠٦ق.م تحطمت قوى «بطلميُوس» البحرية، وحلت بها كارثة عظمى؛ فإنَّ «دمطريوس» هاجم جزيرة قُبرص على رأس أسطول، ونشبت معركة بحريَّة بالقرب من «سلاميس»، فأوقع «ببَطْلَمْيُوس» هزيمة، تشبه في مرارتها ونتائجها الهزيمة التي أوقعها به «بلطميوس» في «غزة» (٥٧) قبل ست سنوات، وراح كثير من رجاله أسرى، ومنهم أخوه «منلاوس» حاكم الجزيرة، و«ليونتسقوس» (٥٨) ولده من إحدى حظاياه الكثيرات، ومعهما عدد من كبار ضباطه. غير أن «دمطريوس»، بما عرف عن أشراف المقدونيِّين من نبل الأخلاق في معاملة بعضهم بعضًا، وتنويهًا بروح الفروسة، رد إلى «بَطْلَمْيُوس» كل من أسر من النبلاء، بغير فدية. وقُضي بذلك على حكم بطلميوس في جزيرة قبرص (٥٩) وأتت الهزيمة على قوَّته البحرية إلى حين.
كذلك فقد بطلميوس في معركة واحدة نتائج كل الجهود التي جهدها خلال ستة عشر عامًا ليملك في خارج أفريقية: (٦٠) سورية وقبرص. ولكن بقيت له «مصر وقورينا»، فظل السيد المطلق اليد في مملكة النيل، الغنية بالمال والأرواح، المقفلة الحدود أمام العالم كله بالصحاري القاحلة، والشواطئ الخشنة، التي لا تُئْوي سفينًا. وبالرغم من كل هذه الكوارث الشداد، استطاع «بَطْلَمْيُوس» أن يتريث، وأن ينتظر انقلاب دورة الحظ متلبِّثًا، فانسحب بسلام من وسط العاصفة التي كانت ترسل بأهازيجها في الخارج. ولقد بان أن حكمته في اختيار هذه الخطة، كانت أبلغ مما ظهر بديئة الأمر.
•••
•••
في سنة سبع (أي: في السنة السابعة من حكم الملك الصبي الإسكندر الرابع، الذي بدأ حكمه الشَّكلي بعد موت فيلبُّس أرغيدايوس) عند بدء الفيضان، لما كان الفتى المشمول بقداسة حُورُوس الكُلِّي القوة، صاحب التاجين، المحبوب من الآلهة الذين منحوه عظمة أبيه، حوروس الذهبي (٧٤)، سيد الدنيا بأسرها، ملك الوجهين البحري والقبلي، وصاحب الأرَضين، فرحة قلب آمِن (٧٥)، المختار من الشمس، ابن الإسكندر الخالد، صديق آلهة مدينتي «بي» (٧٦) و«تب» (٧٧)، ملكًا في بلاد الأجانب بداخلية آسيا، كان في مصر حاكم عظيم اسمه بطلميوس.
كان قويًّا فتيًّا، مفتول الساعدين، متزن العقل والروح، حازمًا بين الناس، شجاع القلب، ثابت القدم، يُنكِّل بالعابثين المرهبين، لا ينكص على عقبيه، بل يضرب أعداءه في وجوههم أثناء المعركة، إذا أمسك بالقوس، فإنه لا يصوب نحو عدوه من بعيد، بل يحارب بالسيف. ولم يكن في مستطاع أحد أن يقف أمامه في الوقيعة، فإن قوة ساعديه، لا تمكن أحدًا من الإفلات من ضربات يديه. لا ينقض أمرًا أمر به وتحركت به شفتاه، ليس له من مثيل في كل بلاد الأجانب. ولقد أعاد كل تماثيل الآلهة التي وجدها في آسيا، وكذلك أعاد الأثاثات والكتب التابعة لكل هياكل الشمال والجنوب إلى أماكنها. واتخذ من قلعة الإسكندر، المختار من الشمس وابن الشمس، وتدعى الإسكندرية، القائمة على شاطئ بحر اليونان الكبير، وكانت تدعى من قبل «رقوطيس» (٧٨) مستقرًّا ومقامًا. ولقد جمع كثيرًا من اليونان، منهم فرسان، وجمع سفنًا كثيرة العدد فيها ملَّاحوها، عندما ذهب مع زحفه إلى أرض السوريين الذين كانوا في حرب معه، فأخذ أرضهم وأوغل فيها، فحاكت شجاعته شجاعة الباشق بين بغاث الطير. وبعد أن أسرهم أجمعين، حمل أمراءهم وفرسانهم وسفنهم وآثارهم الفنية إلى مصر. وبعد أن غزا إقليم «مَرْمَرْتي» (٧٩) — «قُورَيْنِيقا»، وبسط يده على أهله، جلب إلى مصر رجاله ونساءه أسارى، كما سلب خيلهم؛ جزاء ما فعلوا بمصر.
ولما عاد إلى مصر أظهر فرحه بما أوتي من نصر، فأقام مِهْرَجَانًا وزينة. وكان هذا الحاكم يسعى دائمًا في أن يعمل كل خير يستطيعه، لعله يرضي آلهة الوجهين: القبلي والبحري، فكلمه الذين يتصلون به، ومنهم شيوخ مصر السفلى قائلين: «إن أرض البحر، واسمها بَطَانوت (٨٠)» كان قد وهبها الملك «خبَّاش» (٨١) الخالد ابن الشمس، لآلهة «بي» و«تب» بعد أن ذهب قداسته إلى «بي» و«تب»؛ ليرى أرض البحر ويرود إقليمها، وأوغل في داخلية المستنقعات، وامتحن بنفسه كل مصب من مصبَّات النيل التي تذهب بمائه إلى البحر العظيم؛ كي يعرف كيف يصد غارة أساطيل آسيا عن مصر، فتكلم قداسته لمن حوله قائلًا: «دعوني أرود أرض البحر لأحيط بها علمًا» فأجابوا قداسته قائلين: «إن أرض البحر (وتدعى أرض بطانوت) كانت ملك آلهة «بي» و«تب» منذ أزمان بعيدة لا تعيها الذكريات، فلما جاء العدو «إجْزَرْسِيز» (٨٢) قلب آيتها ولم يترك منها شيئًا لآلهة «بي» و«تب». فأمر قداسته أن يَمثُل أمامه حكام «بي» و«تِبْ» وكهنتهما؛ فأحضروا على عجل، وتكلم فيهم قداسته قائلًا: عرفوني ماهية آلهة «بي» و«تب» وصفاتهم، وماذا فعلوا اقتصاصًا من الفاسق على عمل فاحش أتاه، وقد رأيت أن «إجزرسيز» الفاسق قد أنزل ببلدتَي «بي» و«تب» شرًّا، واغتصب حقوقهما.
فتكلموا أمام قداسته قائلين: إن الملك سيِّدنا «حوروس» ابن «إيزيس» وابن «أُزريس» حاكم الحاكمين، وملك ملوك مصر العليا، وملك ملوك مصر السفلى، المنتقم لأبيه، سيد «بي»، بداية الآلهة ونهايتهم، الذي ليس بعده من ملك، قد طرد الفاسق «إجزرسيز» مع ابنه الأكبر، وتجلى بقدرته العلوية في هيكل «نيط» (٨٣) وفي مدينة «سايس» (صالحجَر) (٨٤) في نفس ذلك اليوم بجانب الأم المقدسة. فتكلم قداسته قائلًا: «إن هذا الإله القادر، الذي ليس بعده من ملك، سيكوت منار قداستي، وأسَّ شريعتي، هذا قسم أقسم به!» وهنا تكلم حكام «بي» و«تب» وكهنتهما قائلين: إذن، فلتأمر قداستك بأن توهب أرض البحر (الأرض التي تدعى بطانوت) لآلهة «بي» و«تب»، بخبزها وشرابها وثيرانها وطيورها وكل خيراتها وأطايبها، وليسجل تجديد الهبة باسمك تنويهًا بكرمك وجزل عطائك لآلهة «بي» و«تب»، وجزاءً لك عن أعمالك العظيمة.
وهنا تكلم الحاكم العظيم قائلًا: «فليصدر مرسوم بالكتابة في ديوان كاتب مالية الملك بالنص الآتي: «أنا بطلميوس الوالي، أعيد إلى حوروس المنتقم لأبيه سيد «بي» وإلى «بوطون» (٨٥) سيدة «بي» و«تب»، أرض «بطانوت» منذ الآن إلى أبد الآبدين، بكل ما فيها من القوى والسكان، مع كل حقولها ومياهها وثيرانها وطيورها وقطعانها ومنتوجاتها، كما كانت من الزمن السالف، مع كل ما أضيف إليها مذ ذاك بمقتضى العطية التي أعطاها سيد الأرضين «خباش» الخالد، على أن يكون حدها الجنوبي بلدة «بوطون» وبلدة «هرموبولس» (٨٦) الشمالية حتى المكان الذي يعرف باسم «نَاونِيبُو» (٨٧)، وعلى أن يكون حدها الشمالي كثبان الرمل التي تشرف على البحر العظيم، وعلى أن يكون حدها الغربي تعاريج النهر الصالحة للملاحة، حتى حدود تلك الكثبان، وعلى أن يكون حدها الشرقي إقليم «سبنُّوطس» (٨٨). ولتكن عجولها غذاء للبواشق العظيمة، وفحولها لوجه الآلهة «نبطاوي» (٨٩)، وثيرانها للبزاة العائشة، ولبنها للطفل الأعظم، ودجاجها لمن هو في «شعت» (٩٠) الذي حياته من ذات نفسه. وكل الأشياء التي تخرج منها تكون وقفًا على مذبح «حوروس» سيد «بي» و«بوطون» رئيس «رع هَرْمَاشيس» (٩١) إلى الأبد.
فكل الأرض التي منحها الملك سيد الأرضين، مثال «تانَن» (٩٢)، المختار من «فِتاح» ابن الشمس «خبَّاش» الخالد، جدد هبتها حاكم مصر العظيم «بَطْلَمْيُوس» لآلهة «بي» و«تِبْ»؛ لتكون لهم أبد الآبدين، ودهر الداهرين. فليجز تلقاءَ صنيعه نصرًا وقوة تملأ قلبه اطمئنانًا؛ حتى تستمر الخشية منه مالئة قلوب الأمم الأجنبية التي تعيش الآن! أما أرض «بطانوت»، فإن من يجرؤ على أن يغتصبها، فإنه سوف يستباح دمه لمن هم في «بي»، وسوف تحل به لعنة الذين هم في «تب»، ولسوف تتلقَّفه أنفاس الآلهة «أفطاوي» (٩٣) النَّارية، فتلتهمه في يوم فزعها الأكبر، ولن يغيثه بشربة ماء، ولدٌ له ولا بنتٌ.
منذ سنة ٣٠٥ق.م أصبح بطلميوس ملكًا، وفيه حصرت كل السلطة الدينية العليا في أرض مصر، وأضفى عليه الكهنة المصريون والكتاب كل الألقاب التي كانت تضفى على قدامى الفراعنة. وأوحيَ إلى الناس أنه كان في الحقيقة ملكًا، طوال المدة التي قضاها في مصر، منذ موت الإسكندر الأكبر، حتى لقد نرى أن التاريخ الرسمي للوثائق الحكومية لم يبدأ بسنة ٣٠٥؛ أي بأول سني حكمه التي انتحل فيها اسم الملك وألقابه، بل من سنة ٣٢٤-٣٢٣ق.م وإنا لنفهم كيف بدأ أغارقة ذلك الزمن العجيب يعتقدون في أن «الحظَّ» قوة مسيرة لا نهاية لأثرها في توجيه الأشياء الإنسانية وتصريفها؛ إذ يرون أن شخصًا لم يتطلع في صباه إلى نصيب من الحياة أكثر مما يتطلع إليه سيد مقدوني، غاية مرجوة أن يقضي حياته بين حقول بلاده وتلالها، يطفر وهو في الرابعة بعد الستين، فيصير فرعونًا في أرض مصر العظيمة!
•••
ولما آنس «دمطريوس» تعذر النزول إلى البر في «فلوسيوم»، أراد أن ينزل في مكان أبعد منها غربًا، وعالج النزول عبر مصب النيل الكاذِب (٩٧)، وهو ما يعرف الآن ببحيرة «المنزلة» ترجيحًا، ثم عدل عن ذلك إلى مصب دمياط؛ أي المصب الفطنيتي (٩٨). ولقد صُدَّ في كلا الموضعين، ثم عاجلته عاصفة أخرى حطمت ثلاثًا من أكبر سفائنه، ولم يتمكَّن من العودة إلى معسكر أبيه شرقيِّ المصب «الفلوسيومي» (٩٩) إلا بكل عناء.
ولم يبقَ أمام «أَنْطِيغُونُس» من حيلة إلَّا أن يرتد عن حدود مصر بأقصى ما يستطيع من سرعة. ولقد وضح للعالم بذلك قدر «بَطْلَمْيُوس» وقته، برغم ما نزل به من الهزائم والخسائر المادية من قبل. وكان القدر يخبئ ﻟ «أنطيغونس» كارثة أخرى؛ فإن «دمطريوس» كان قد هاجم «رودس» (١٠٠) في بداءة سنة ٣٠٥ق.م، ولا شك في أن دولة «رُودُس» العظيمة، باعتبارها دولة بحرية تجارية انتعشت في جوها الحرية الجمهورية قرونًا عديدة قبل عصر الإسكندر وبعده، كانت ذات علاقات وثيقة بسوق الإسكندرية، ومن هنا كان الرودسيون من أصدقاء «بَطْلَمْيُوس».
وبعد أن حاصر «دمطريوس» جزيرة «رُودُس» خمسة عشر شهرًا (٣٠٥-٣٠٤) عجز عن أن يفتحها عَنوة، وأذعن لصلح أساسه التفاهم. وكان الدفاع الموفق عن الجزيرة، راجعًا إلى المؤن والمدد الحربي الذي تمكن «بَطْلَمْيُوس» أن يمد الجزيرة المحصورة بهما، حينًا بعد حين.
•••
في سنة ٣٠٣-٣٠٢ق.م تألَّف حلفٌ جديد من قَصَّنْدَر ولوسيماخوس وبطلميوس وسلوقوس، ينابذ «أنطيغونس». وكان «سلوقوس» في فجاج الشرق يغزو أقاليم الإمبراطورية السحيقة حتى حدود الهند، ولكنه في شتاء ٣٠٢-٣٠١ق.م زحف بجيشه ميممًا نحو الغرب؛ ليزود أحلافه بعدد عظيم من فيلة الهند. ولقد مثل بطلميوس دورًا كان فيه إلى الحذر أدنى منه إلى طلب المجد والعظمة؛ فإن كل نصيبه من معاونة الثلاثة انحصر في أن يحتل «سورية الخالية» للمرة الثالثة، بينما كانت قوات أحلافه الثلاثة، تحشد ضد «أنطيغونس» في آسيا الصغرى. وتواترت الأنباء بأن «أنطيغونس» انتصر انتصارًا حاسمًا، وأنه زاحف على سورية، فانسحب بطلميوس بجيوشه، مرتدًّا من «سورية الخالية» للمرة الثالثة. ولكن الأنباء كانت كاذبة؛ فإن أحلافه الثلاثة هم الذين انتصروا في معركة فاصلة، دارت بالقرب من «إبسس» (١٠١) في صيف سنة ٣٠١ق.م، وتُرك جثمان الشيخ «أنطيغونس» مجدلًا في الميدان.
وكان انتصار الملوك الثلاثة سببًا في حدوث خلاف في ميدان السياسة موضوعه سوريَة الخالية، وهو خُلْف استمرَّ قائمًا طوال عصر البطالمة. فإن الظاهر أن المعاهدة التي عقدت بين الحلفاء الأربعة قبل المعركة الأخيرة ضد أنطيغونس، قد نصَّت على أن تكون سورية الخالية من نصيب بطلميوس، إذا تم لهم النصر. وكان من الطبيعي أن يستمسك الملوك الثلاثة الذين حملوا أعباء موقعة «إبْسُس» بالفعل بنظرية أن ملك مصر، بنكوصه عن الظهور في ميدان الحرب، وتحمل جانب منها، وانسحابه من سورية الخالية فجأة وبلا سبب، اللهم إلا ذيوع إشاعة كاذبة، لم يجعل له من حق في الاستمساك بما تحالف وإياهم عليه. وأعاد الملوك المنتصرون النظر في الأمر، واتفقوا على توزيع جديد وضعوا شرائطه بعد انتصار «إبسس»، أصبحت سورية الخالية بمقتضاه جزءًا من إمبراطورية «سلوقوس» الآسيوية. ورفض بطلميوس الاعتراف بهذا الاتفاق، كما رفض «سلُوقُوس» اعتبار الحلف الأصلي قائمًا، فكان ذلك سببًا في قيام خصام سياسي، قدر له أن يظل قائمًا بين بيت «بَطْلَمْيُوس» وبيت «سلوقوس» أجيالًا عديدة. ولما كانت فلسطين (أي سُورية) قد ظلت طوال العصر الفرعوني القديم، موضوع نزاع وخلاف بين كل دولة تحكم ما بين النهرين، والدولة التي تحكم على ضفاف النيل، فإنها استمرت كذلك بعد أن تبدلت الأسرات الملكية الوطنية، بأسرتين مقدونيَّتين دخيلتين.
بعد معركة «إبْسُس» احتل بَطْلَمْيُوس سورية الخالية للمرة الرابعة. ولما حاول «سلوقوس» أن ينفذ الاتفاق الذي عقده مع حليفيه، ووفد بجيشه ليحتل سورية الخالية، وجد أن «بَطْلَمْيُوس» قد سارع فاحتلها قبله، وأن مدنها تعج بجيوشه، وكانت شكوى «بطلميوس» أن «سلوقوس» قد انتهك حرمة الصداقة، بأن عقد عهدًا يكسبه حق امتلاك أرض، هي من نصيبه وتحت حكمه. وبالرغم من أنه أخذ في الحرب ضد «أنطيغونس» بضلع، فإن الأحلاف الثلاثة لم يخصوه بأي جزء من أرض الإمبراطورية المغزوة، فكان جواب «سلوقوس» أنه من المعقول أن يكون الذين كسبوا المعركة هم أصحاب الحق الثابت في توزيع الأرض باختيارهم، وأنه فيما يتعلق بسورية الخالية، لن يقوم بأي اعتداء؛ مراعاة لصداقتهما، وأنه سوف يفكر فيما بعد في أمثل طريقة يعامل بها أصدقاءه الذين يحاولون أن يأخذوا منه أكثر مما هو حقٌّ لهم.
في السنوات التي تلت الانتصار في معركة «إبسس»، وهي سنون ساد فيها سلام نسبي، مضى الشيوخ الثلاثة الذين بقوا من رجال الإسكندر؛ وهم: بطلميوس وسلوقوس ولوسمياخوس، ومن حولهم من صغار الملوك، ناشئة الجيل الثاني؛ وهم: قصَّندر في مقدونيا، وفورغوس (١٠٢) في أفيروس (١٠٣) ودمطريوس، وكان ما يزال ذا قوة، يحيكون من حول بعضهم البعض، شبكة من الدسائس السياسية، يتعذر علينا الآن تتبع أطوارها. وإن كنا نعرف أن الفتور بين حزب وآخر، كما كانت الصداقات والعداوات، محلًّا للتغيير والتبديل على مقتضى الظروف في كل آونة، وكان حدوث فتور في العلاقات ينذر دائمًا بحدوث حرب، كالحال بعد أن حصل «دمطريوس» على تاج مقدونيا سنة ٩٢٤ق.م بعد موت قصَّنْدَر، أو عندما هاجم دمطريوس مملكة لوسيماخوس سنة ٢٨٧ق.م أو في أثناء المعارك الكبيرة التي قامت بين سلقوس ولوسيماخوس، تلك المعارك التي لم تنتهِ إلا بعد موت بطلميوس. على أن بطلميوس لم يشترك بعد معركة «إبسس» في أية حرب ضد أي ملك من الملوك المتاخمين لملكه، واقتصر على أن يجعل السياسة ميدانه، فكان يناصر ذلك حينًا، ثم يناصر ذاك حينًا آخر، بحسب ما يرى من اتجاه دورة الحظ في رقعة الدنيا.
لما حاصر ديمطريوس أثينا (٢٩٦–٢٩٤) لم يمد بطلميوس أصدقاءه الآثينيين بمساعدة تذكر، فإن أسطوله ظل يجوب البحر خارج «أيغينا» (١١١)، ولم يفعل من شيء يحول دون سقوط المدينة. وفي سنة ٢٨٧ ثارت أثينا في وجه دمطريوس، فأرسل بطلميوس خمسين طالنطن (١١٢)، وكمية من العملة، ولكن أسطوله لم يقم بشيء يصد «دمطريوس» عن أغراضه.
•••
إن كل ما تطلع «بَطْلَمْيُوس» إلى إحرازه في خارج مصر، كان قد أحرزه فعلًا بعد موقعة «إبسس»؛ فإن «سلوقوس»، كما رأينا من قبل، وجده مالكًا سورية الخالية، عندما قدم ليحتل الجزء السوري من مملكة أنطيغونس. والظاهر أن احتلال «بَطْلَمْيُوس» فلسطين لم يكن كاملًا؛ فإن المدن الفنيقية الواقعة على شاطئ البحر كانت ما تزال محتلة بجيوش «دمطريوس»، كما أن هنالك إشارة إلى امتلاك «دمطريوس» لمدينة سمرية (١١٣) في سنة ٢٩٦-٢٩٥ق.م ولقد خيل لمسيو «بوشيه لكلار» — أو هو ظن عندما كتب الجزء الأول من كتابه سنة ١٩٠٣ — أن أملاك دمطريوس في فنيقية وفلسطين قد انتقلت إلى سلُوقُوس لا إلى بطلميوس، وهذا الظن يشعر بأن بيت بطلميوس لم يتيسر له أن يمتلك فلسطين قبل مدة من الزمن لا تقل عن ثمانين عامًا؛ أي بعد موت سلوقوس سنة ٢٨١. على أن «بوشيه لكلار» إنما يعتمد فيما يذهب إليه على المجادلات التي قامت بين ساسة السلوقيين سنة ٢١٩، وكان اعتمادهم فيما أخذوا به من وجهة نظر، على سيادة سلوقوس في تلك الأقاليم. والراجح كما يذهب جلة الباحثين الثقات أن بطلميوس قد ملك فلسطين منذ موقعة إبسس فصاعدًا، ما عدا بضعة مواضع ظلت تحت سيادة دمطريوس، وقد احتلها بطلميوس بعد أن أصبح دمطريوس عاجزًا عن الدفاع عنها. والراجح أن سيادة بيت سلوقوس في فلسطين، وهي التي أشار إليها سياسيو السلوقيين، كانت سيادة غير فعلية، بل سيادة اسمية، استمسك بها سلوقوس، اعتمادًا على الحق السياسي الذي خوَّل له بمقتضى التقسيم الذي تم بين الملوك المنتصرين في موقعة إبسس.
واسترد بطلميوس جزيرة قبرص سنة (٢٩٥-٢٩٤)، وكانت قوات دمطريوس قد احتلت هذه الجزيرة وظلت بها ست سنوات بعد موقعة إبسس. ولقد قام الدفاع عن الجزيرة هذه المرة تحت إمرة «فيلا» (١١٤) ابنة «أنطيفاطروس» (١١٥)، وزوجة دمطريوس، فكان دفاعًا مجيدًا، ولكنها اضطرت إلى التسليم في سلاميس. ولقد رد بطلميوس «فيلا» وأولادها إلى دمطريوس في مقدونيا، مثقلة بالهدايا، محوطة بالتشاريف، جزاء ما أبدى دمطريوس من نبل الأخلاق والشهامة سنة ٣٠٦ق.م.
حوالي سنة ٢٨٧، كان للأسطول المصري السيادة في بحر أيغا، واسترد بطلميوس حمايته الفعلية على مجموعة جزر «قوقلادس». ولعهد ما (حوالي ٢٩٤ و٢٨٧) كان بينه وبين مدينة مِيلَطوس (١١٦) صداقة وحسن اتصال، وكانت من أملاك لوسيماخوس، فاستغل بطلميوس نفوذه عند حليفه؛ فتظاهر بالسعي في أن يرفع عن المدينة ما عليها من الضرائب.
•••
لا تزودنا الكتب الإغريقية بغير نتف قليلة عن العمل الذي قام به بطلميوس في المعركة التي نشبت بين القوات العالمية، وظلت رحاها تدور أربعين عامًا بعد موت الإسكندر. أما إذا تساءلنا عما كان يحدث في داخل حدود مصر نفسها مدى ذلك الزمن، فإن المدوَّنات التاريخية تعجز عن أن تزودنا بمادة نحيك منها رواية كاملة، وكل ما نستطيع أن نصل إليه في هذا الصَّدد، استنتاجات ننتزعها من الحالات التي نصادفها قائمة، فنستدل منها على ما حدث في البلاد من تبديل.
إذا نظرنا في تاريخ مصر في ذلك العهد نظرة شاملة، وجدنا أن محوره يدور حول حقيقة بيِّنةٍ؛ هي أن سكان مصر قد تبدلوا من أمة متجانسة القومية نسبيًّا، كما كانت خلال حكم الفراعنة الأقدمين، أمةً مقسومة طبقتين، تعيشان داخل حدود أرضها: فالطبقة العليا تتألف من أفراد الأمة الأوروبية الحاكمة، والطبقة الدنيا من جمهرة الأمة المصرية المحكومة. وهي حالة لا تبعد كثيرًا عن الحالات التي تقوم في بعض الممالك في عصرنا؛ لأن حضارة الأمة الحاكمة في مصر البطلميَّة، كانت هي بذاتها الحضارة الإغريقية، أم الحضارة الأوروبية الحديثة، ولم يكن شعورهم بالتفوق والاستعلاء على أهل مصر مباينًا للشعور الذي يشعر به «البيض» في هذا العصر نحو الوطنيين. وفي الحق أن الإغريق كانت تجري على ألسنتهم كلمة معناها «الوطنيِّين» كلما أرادوا الإشارة إلى المصريين.
إن وجود الطبقة الإغريقية المقدونيَّة في مصر، لم يكن راجعًا إلى أن الإغريق والمقدونيين قد وفدوا إليها باختيارهم، أو مسوقين بأن حالات البلاد الطبيعية من شأنها أن تغري بالهجرة إليها شأن الأوروبيين في تدفقهم على أمريكا وأستراليا في العصور الحديثة، بل على الضد من ذلك، كانت نتيجة جهد متواصل بذله البيت المقدوني الحاكم؛ فإن بطلميوس منذ ما اختار مصر لتكون مقرًّا لحكمه، ومتبوأ له من الدنيا بعد الإسكندر، وجد أنها قد وهبته أشياء عديدة، وهبته أرضًا يسهل الدفاع عنها، وثروةً مادية عظيمة، سواء من مواردها الطبيعية، أم من المتاجر التي كانت تردها على ظهر النيل، وخلعت على ملوكيته فوق ذلك عظمة التقاليد المصرية القديمة وهيْبَتها ونضارتها. ولكنها مع كل هذا لم تعطه كل الضروريات؛ فإنها لم تزوده «بالقوَّة البشرية»، وكانت من أمس الحاجات إليه.
والحقيقة أن مصر كان فيها عديد وافر من الرجال، ولكنهم لم يكونوا من ذلك الطابع الذي يريده، الطَّابع الذي يستطيع قائد حربي أن يؤلف منه جيشًا يناجز كتائب مؤلفة من جنود مقدونيين وأغارقة، كالتي يسوقها «أنطيغونس» أو «سلوقُوس» إلى ميادين الحرب، فكان من الضروري أن يحصل «بَطْلَمْيُوس» على عدته من المقدونيين. وما كان ليغيب عن ذهنه أن صفوة الجيش الذي فتح نصف الدنيا، تحت إمرة الإسكندر، كان من رجال مقدونيا، فكان الفرسان من النبلاء، وحملة الحراب الذين اشتهروا بالصلابة والقوة من جمهرة العمال الذين يفلحون حقول البلقان في زمن السلام. ولقد رأى بطلميوس أنه مقطوع الصلة بمقدونيا؛ مرباه الأصيل، فخطرت له فكرة إنشاء «مقدونيا اصطناعية» في مصر العجيبة غير المتجانسة، بأن يكون طبقة من الفلاحين المقدونيِّين أو الأغارقة، فنشر ألوفًا منهم في عرض البلاد وطولها، يفلحون الأرض ويستولدون الماشية ما رفرف السلام في أجزاء من الأرض يُقْطَعُونَها، ويواتيها النيل بمائه، فإذا أذن مؤذن الحرب هبوا إليها، فحملوا الحراب راجلين، أو امتطوا صهوات جيادهم فرسانًا، وخرجوا فيالق أو صفوفًا يتبعون «بطلميوس»، أو أحد قواده إلى فلسطين أو قورينا. أما نشأة هذا النظام الاستعماري العسكري، وهو الطابع الظاهر في نظام مصر البطلميَّة، فيرجع تحقيقًا إلى عصر بطلميوس الأول.
ومن أجل أن تعمر المدن الإغريقية الجديدة، كالإسكندرية وإفطولمايس (١١٧)، وتثبت قدم العساكر المستعمرين في البلاد، استوفد بطلميوس ألوفًا من الأغارقة والمقدونيين إلى مصر. غير أنه لم يستطع أن يجلبهم جملة من إغريقية ومقدونيا، وهي بلاد خارجة عن سلطانه، كما كان يفعل ملوك الأشوريين في الزمن القديم، فينقلون جزءًا من رعاياهم، من بقعة إلى أخرى في أطراف دولتهم. ولا ريبة في أن فكرته هذه كانت تصبح عقيمة وغير عملية لو لم تكن قوات مقدونيا وإغريقية قد بعثرتها غزوات الإسكندر، ونشرتها في فجاج الشرق الأدنى كله، فوزعت في معسكرات أو بقيت حاميات في المدن تحت إمرة هذا أو ذاك من الزعماء المقدونيين.
ولا مراء في أن بطلميوس عندما هبط مصر سنة ٣٢٣، قد وجد بها حامية مقدونيَّة مستقرة فيها، وكانت العادة عندما يهزم قائد مقدوني قائدًا آخر، أن يخدم جنود المهزوم راية المنتصر، فإذا كانوا مقدونيِّين، فإن المنتصر يكون أحد قوادهم الوطنيين. ولا يبعد أن يكون جزء من جيش «فردقَّاس» (١١٨) المهزوم سنة ٣٢١ قد وجد بمصر حمًى في ظل «بطلميوس». ويقول «ديودورس» (١١٩): إن «بَطْلَمْيُوس» بعد وقعة غزة سنة ٣١٢، أرسل ما ينيف على ثمانية آلاف جندي من جنود الجيش المهزوم؛ ليوزعوا على أقاليم مصر. والظاهر أن إقطاع الأرض في مصر، قد أحكم الوصلة بين عدد عظيم من بقايا الجنود المقدونية و«بطلميوس»، وربط بينهما برباط لن تنال منه حتى الهزائم أي منال، فقد خبرنا أن عددًا كبيرًا من جيش «بَطْلَمْيُوس» الذي أسره دمطريوس في قبرص سنة ٣٠٦، قد عمل أفراده جاهدين على أن يعودوا إلى مصر، حيث تركوا أسرهم ومتاعهم، ورفضوا الخدمة تحت إمرة «دمطريوس».
وليس ببعيد أن يكون قد هبط مصر رجال من أطراف العالم الإغريقي؛ ليخدموا بطلميوس مرتزقين، ثم قبلوا الهبة التي تلجئهم إلى المقام الدائم بها. أضف إلى ذلك فرَق الجند التي كان يستوفدها بطلميوس جملة إلى مصر؛ فإن الجيوش التي كانت تؤلف من المقدونيين المقيمين فيها، لم تكن وحدها كافية، فكان لزامًا أن تعزَّز بجنود مرتزقة وأهل البلقان. وكانت صفة الجنود المرتزقة في ذلك الزمن، أن يأجر مغامر من المغامرين جماعات منهم في سوق من أسواق استئجار الجنود، مثل طايناروم (١٢٠) بجزر الفلوبونيسوس (١٢١)، أو أسفندوس (١٢٢) بآسيا الصغرى، وكانت ملتقى المرتزقين من الجنود، ومجتمع أخلاطهم، يؤمونها من أطرف العالم الإغريقي، أو ينضوي عدد منهم تحت لواء ضابط يمنيهم بأعظم ما يطمع فيه من المال أو التشاريف أو المجد، ومن ثم يبيع الضابط، ومن انضوى تحت لوائه من الجنود، خدمته لأي ملك من الملوك، أو لحكومة أية مدينة من المدن يختارها. وكانت أسلحة خاصة من أسلحة الجيوش تتكون من مرتزقين يفدون من جهات معينة، وليس من جند مقدونيا النظامي، فكان الرماة من إقريطش (١٢٣) (كريت) وحملة الحراب من «تراقيا» (١٢٤). ولقد استقر بمصر — على ما يظهر — كثير ممن وفد إليها من الكريتيين والتراقيين والآثنيين والإسبرطيين (١٢٥) والبوطيين (١٢٦) والصقليين (١٢٧) وأقاموا بها.
وقد نرى أن بطلميوس قد آثر أن يذاع عنه في العالم الإغريقي، أنه ذلك الجواد الكيِّس، والكريم الشهم، الذي يجدر بكل رجل أو فتًى، يريد أن يعيش جنديًّا، أن يعبر البحر ليكون تحت إمرته. ولقد هيأت له موارد مصر الطائلة، أن يكون كريمًا معطاءً على وتيرة لم يباره فيها أحد من خصومه.
•••
تفرد حكم بطلميوس بن لاغوس في مصر ببدعة قُدِّر أن يكون لها أثر في مستقبل العالم الإغريقي؛ تلك هي خلق عبادة جديدة. فإن إلهًا جديدًا لم يعرفه من قبل الأغارقة في خارج حدود مصر، أصبح من أعظم الآلهة الذين عبدوا في العصر الوثني؛ ونعني به «الإلهة» سرافيس (١٢٨). ولقد ظل الأصل في عبادة «سرافيس» موضع نقاش طويل وجدل بين الثقات من أهل العلم. غير أن هذا المشكل أنيرت ظلماته بعض الشيء، بعد أن نشر «فِلْكِن» (١٢٩) قرطاسًا من البردي، كتب في العهد البطلمي. وهنا يتعين علينا أن نلتفت بداءة ذي بَدء إلى هيكل مصري قديم بالقرب من «ممفيس»، عرف منذ ذلك العصر فصاعدًا باسم «السرافيوم»؛ أي معبد «سرافيس» عند الإغريق، وهو على أربعة أميال من «ممفيس» غربي النيل، بالقرب من التلال القاحلة التي تحصر الوادي من تلك الجهة.
ولقد أظهر «فلكن» أن الفروض التي فرضت في أصل «السرافيوم» (١٣٠)، منذ عصر «ماريت»، ونقلت عنه من كاتب إلى كاتب، كلها أوهام؛ فإنه لم يوجد «سرافيوم» إغريقي منفصل عنه السرافيوم المصري، بل سرافيومٌ واحد هو عبارة عن مجموعة من المباني الضخمة، قائمة على المرتفع المشرف على الأرض المزروعة. وحذاء النهر تقع الأرض المزروعة، ومن بعدها وعلى ارتفاع قليل تمتد الصحراء ثم التلال وعلى طرف الصحراء. وبالقرب من الحقول كان يقوم معبد «لأنوبيس» (١٣١) يحيط به فِناء، وفي هذا الفناء كانت تقيم فيما بعد نقطة للشرطة، وفيها سجن متصل بها، ومكتب رسمي وأماكن يقيم بها ممثلو حاكم إقليم «ممفيت»، وكان يقيم فيه إذا زار «السَّرَافْيُوم». وقد أقام أحد الحكام في إحدى الزيارات تحت حكم بطلميوس السادس يومين في هيكل أنوبيس، قضاهما لاهيًا ساكرًا. ومن هيكل «أنوبيس»، يمتد طريق مرصوف، تقوم على جانبيه تماثيل أبي الهول، فيخترق تلك الرقعة الصحراوية إلى «السَّرَافيوم».
أما نظرية «فِلكِن»، فمحصلها أنه في الفترة التي يكون العمال منهمكين خلالها في نحت حجرة تحت «السرافيوم»؛ لتكون مقرًّا لجثمان العجل العائش في «ممفيس» بعد موته، تبدأ عبادة هذا العجل في السراديب الأرضية على أنه شخص «أوزيريس» إله الموتى، لا على الصورة التي يتبدل بها أي ميت فيصبح «أويزيريسًا»، بل على صورة أكثر بيانًا وأدخل في الذاتية. فكان العجل العائش يدعى «أبيس-أوزيريس» ويدعى العجل الميت «أوزيريس-أبيس»، ويظن فلكن، أن العبادة في الهيكل القائم على سطح الأرض، كانت توجه إلى قداسة أوزيريس الشاملة الحالَّة فيهم أجمعين. وبهذه تتجه عقول المتعبدين إلى التفكير في «أوزيريس-أبيس» لا باعتباره عجلًا ميتًا، بل على أنه إله العالم السفلي نفسه، متقمصًا صورة موضوعية، وفي الغالب صورة إنسانية تُمثَّل متربعة من فوق عرش، ولا يبعد أن تحمل رأس ثور.
إن أقدم رقعة من رقاع البردي انحدرت إلينا من ذلك العصر، تتضمن «لعنةً» كتبتها امرأة إغريقية تدعى «أَرْتَمِيسيا» (١٣٦)، كانت في مصر، استدرَّت فيها انتقام السيد (القاهر) «أُوزَرَافيس» (١٣٧)؛ كي يَحُلَّ برجل كان لها منه ابنة. والراجح أن هذه القصاصة البردية، التي قدِّر لها أن تكون موضع العناية ومتجه الأنظار بعد قرون من كتابتها، وهي الآن في خزانة الكتب الملكية بمدينة فينَّا، قد ألَّفتها «أرتميسيا» بعد أن كتبت مباشرة — ولما يجف مدادها — عند قدمي الإله، قبل أن يكون لمصر ملك يدعى «بطلميوس»؛ أي في زمن الإسكندر الأكبر. وهذه الرقعة برهان على أن «أوزير-حابي»، صاحب هيكل «السرافيوم» في ممفيس، كان إلهًا ذا عظمة وجلال عند الإغريق المقيمين بمصر، قبل أن يؤسس بطلميوس عبادة «سرافيس» في مدينة الإسكندريَّة.
إذا جارينا وجهة النظر التقليدية اعتقدنا بأن عبادة «سرافيس» قد أُسست بدعاية قصر بطلميوس الملكي، غير أن «شوبرت» (١٣٨) يشك في ذلك، ويعتقد على الضد منه بأنها نشأت نشأة ذاتية كدين جديد، اعتنقه الإغريق المتمصرون. في حين أن البراهين التي يقيمها «فِلْكِن» تثبت على ما يلوح لي أنها أيدت بنفوذ متقدمي البطالمة، ونشرت بحمايتهم. وهنالك سؤال آخر: أكان «سرافيس» هو نفس الإله «أوزير-حابي»؟ ولقد حاول «لِهْمَن هُبْت» (١٣٩) أن يظهر أنه كان إلهًا بابليًّا هو «شَارْ-أَبْسِي»، غير أن هذه النظرية كما يظهر لا تتفق وما يراه غيره من ثقات المشتغلين بدراسة الآثار الآشورية. ونزع «فِلْكِن» بديئة إلى إنكار أية علاقة بين اسم «سرافيس» والاسم المصري «أوزير-حابي»، غير أنه يعتقد الآن بأن الاسم «سرافيس» هو تصحيف شعبي للاسم المصري «أوزير-حابي» جرى على ألسنة الإغريق المتمصرين، ويرى فوق ذلك أن سرافيس الذي عبد في مدينة الإسكندرية، هو نفس إله العالم السفلي الذي عبد في ذلك الهيكل، القائم من فوق جثث العجول المحنطة بالقرب من «ممفيس».
أما أن هنالك علاقة عرضيَّة ربطت بين الإله «سرافيس» وبين موضعين متباعدين، لهما اسم واحد، فأمر يخرج عندي من مجال الترجيح، وربما كانت العلاقة غير عرضيَّة. فلنفرض أن تمثال «سرافيس» قد جلب من مدينة «سينوفية» حقيقة، وأن هذا كان بوحي رؤيا رآها بطلميوس، فهل في ذلك ما ينافي أن يكون عقل الحاكم، وهو في جولة البحث عن أقوم سبيل يمكن أن يمثل به إله «سينوفيُون» للإغريق، قد اتجه سياله الخفي نحو «سينوفية»، لمجرد الاتفاق في الجرس بين الاسمين؟ ولا يغيب عنا أن القدماء كانوا يستهدون في مثل هذه الحالات بالأحلام، والأمثال على ذلك كثيرة، تثبتها قراطيس البردي والنقوش، وسواء أصنع هذا التمثال أصلًا ليكون في معبد «سينوفية» (١٤٧) أم في معبد الإسكندرية، فالغالب أن الخبر المنقول الذي ينسب صنعه إلى المثَّال المشهور «برويكسيس» (١٤٨) الذي اشتهر في القرن الرابع، صحيح غير مدخول بالشك.
وعلى قدر ما نستطيع أن نحدِس اليوم، أرى أن بطلميوس في العهد الذي قضاه واليًا على مصر كان يعتقد أن مصر ملكه الدائم، فخيل إليه أن يقيم عبادة دينية جديدة ينشرها في البلاد؛ ليؤلف بين قلوب الإغريق والمصريين. وكان له مستشارون منهم «طيموثوس الأثِيني (١٤٩)»، وهو أحد أفراد أسرة «أومولفي» (١٥٠) الكهنوتيَّة، وكان حجة ثبتًا في العقائد الإغريقية، والكاهن المصري «مانيثون» (١٥١)، وكان من أئمة العارفين بالديانة المصرية؛ ولذا يظهر أنه لم يكن هنالك من إله إلا الإله المصري «أوزيريس» الممفيسي، وأنه بعينه الذي اعتنق الأغارقة المتمصرون عبادته باسم «سَرَافيس»، فبادر بطلميوس إلى اتخاذ هذا الأمر ركيزة لإقامة دين جديد.
ويصعب أن يكون المصريون قد شعروا أن في هذا الدين شيئًا جديدًا؛ فإنهم عندما يتكلمون عن «سرافيس»، فكأنما هم يتكلمون عن «أوزير-حابي»، شأنهم في الزمن الخالي. ويقول «مقروبيوس» (١٥٢): إنَّ المصريين اعتنقوا عبادة «سرافيس» جبْرًا، ويأخذ من وجود هياكل «سرافيس» في خارج أسوار المدن المصرية الأصيلة، بضد ما كان في الإسكندرية دليلًا على ذلك. والغالب — كما يذهب فكلن — أن الفكرة في أن المصريين قاوموا عبادة «سرافيس» ليست أكثر من وهم، يدلَّل على فساده بقول «مقْرُوبيوس» نفسه، أو بقول كاتب إغريقي متقدم عليه، من أن هياكل «السرافيون» (١٥٣) المصرية جميعها كانت تقام في العادة في خارج أسوار المدن وعلى حافة الصحراء، والتعليل الثابت لهذه الحقيقة أن هذه الهياكل إنما تعتبر بيوتًا لإله الموتى؛ ولذا كانت تشاد بالقرب من المدافن.
لما أن ثبَّت «بَطْلَمْيُوس» قدم الإله «سَرَافيس» في مدينة الإسكندرية، على أنه الإله الرئيس للإغريق المتمصرين، وصوره لهم في صورة مشابهة لصورة الإله الإغريقي، أضفيت عليه صفات ونسبت إليه خَصِّيات مشابهة لتلك التي كانت تضفَى على غيره من آلهة الإغريق الأولين، وانتُحلت له على الأخص صفات «أسقلفيوس» (١٥٤)، فأصبح إله الشفاء، وما على المرضى إلا أن يناموا في داخل الهيكل فينزل عليهم من طريق الرؤيا إلهامات تبين عن أمراضهم. ولم يكن للإله «أوزير-حابي» الممفيسي — على قدر ما يبلغ إليه علمنا — شيء من ذلك، وهذه الصفات لا بد من أن تكون قد خلعها الإغريق على «سرافيس» منذ البداية. ولقد عثر في أنقاض معبد إغريقي صغير كان قائمًا بجوار الطريق المرصوف الذي يصل بين «السرافيوم» الممفيسي و«الأبيوم» على رقيم، يستدل من شكل حروفه على أنه كتب حَوَالَي سنة ٣٠٠ق.م وفيه أن إغريقيًّا يتقدم إلى «سرافيس» بالشكران؛ جزاء ما شفاه.
وبالرغم من أن الأغارقة قد صوروا «سرافيس» على مثال الإله الإغريقي، وألقحوا عبادته بعناصر إغريقية، فإن الجانب المصري فيه ظلَّ بَيِّن الطابع، حتى بعد أن ذاعت عبادته في البلاد الإغريقية فيما وراء البحار، فكان يشترك وآلهة مصرية أصيلة مثل إيزيس وأنوبيس وحُورُوس (١٥٥) والعجل أبيس. ولما كان «سرافيس» نفسه ليس إلا صورة محورة من «أوزيريس»؛ فإنه كان يحتل عند الإغريق مكان «أوزيريس»، إذ يظهر إلى جانب «إيزيس»، غير أن «أوزيريس» كان يظهر معهما بعض الأحيان. ويشير «فِلْكِن» إلى أن الآلهة المصرية التي كانت تشترك مع سرافيس، هم بعينهم الذين كانوا يشتركون غالبًا مع «أوزير-حابي» في السَّرَافيون الممفيسي. وكذلك كان يُقَدَّم «الإوز» قربانًا لسرافيس، وهو مما لا يتقرب به إلى إله من آلهة الإغريق الأصلية.
وشيدَ لعبادة سرافيس معبدٌ جديد؛ أي سرافيوم آخر في رقوطيس (١٥٦) وهو الحي الوطني من مدينة الإسكندرية أعظم وأضخم؛ ليستظهر به على الهيكل الذي أقام الإسكندر قواعده لإيزيس. وقد بقيت مسلات الهيكل القديم قائمة في خارج فِناء المعبد الجديد، وكان مهندسه إغريقيًّا اسمه فارمنسقوس (١٥٧)، وكان طابعه الهندسي — على قدر ما نعرف مما وصل إلينا من أوصافه ومن نقوش العملة — إغريقيًّا، وواجهته المعمدة الضخمة مشرفة على منحدر عظيم مكون من درجات. وكان هذا الهيكل معدودًا من أضخم هياكل العالم الحاف بحوض البحر المتوسط وأضخمها، ولا يفوقه كما يقول أَمِّيانوس (١٥٨) إلا الكابِتُول (١٥٩) في رومية. وأضحى سرافيس إله الإسكندرية الأعلى خاصة، ومصر عامة.
وفي عصر بطلميوس الثالث كان القسم الرسمي؛ أي القسم الذي كانت تصوغه الحكومة ليقسم به أمام المحاكم وفي المعاملات الشرعية، يتضمن ذكر الملوك، وسرافيس وإيزيس وكل الآلهة والآلهات الأخر، ولا يذكر بالاسم غير سرافيس وإيزيس، دون غيرهما من الآلهة. غير أنا نستطيع أن نظهر أنه منذ بداية العهد الذي كان بطلميوس فيه واليًا على مصر، كان بلاط الإسكندرية قد أحل عبادة الإله الجديد محلًّا رفيعًا. نثبت ذلك برقيم كتبته أَرْسِنْوِيَة (١٦٠) في هَلِيكَارَنَاسُّس (١٦١) هذه عبارته: «بنعمة بطلميوس المخلص الإله، أقامت أرسنويةَ الهيكل لسرافيس وإيزيس.» والظاهر أن تاريخ هذا الرقيم يرجع إلى عصر لم يكن بطلميوس قد أخذ فيه اللقب الملكي. كذلك أظهرت ورقة زينون البرديَّة (١٦٢)، أن عبادة سرافيس كانت من التقاليد المرعية بشكل خاص، في قصر بطلميوس الثاني.
ومن الإسكندرية انتشرت عبادة سرافيس وذاعت في غيرها من المدن الإغريقية، وأخذت معابد سرافيس — أو بالأحرى سرافيس وإيزيس — تشاد في مكان بعد مكان على مدى قرون تالية من حول حوض البحر المتوسط. ولقد استمدت هذه العبادة عونًا جديدًا في خلال القرن الأول من التاريخ الميلادي، عندما استغل القصر الإمبراطوري في رُوميَة نفوذه، منذ بداية عصر القياصرة الفلاويين (١٦٣) فصاعدًا؛ لتأييد عبادة سرافيس وإيزيس في رومية وفي أنحاء الإمبراطورية.
ولقد أُلِّهَ الإسكندر، وربما كان تأليهه برغبة أبداها. وبعد أن مات الإسكندر وأصبح قُوَّاد جيشه محور القوة العالمية، ورغبت المدن الإغريقية في أن تصيب شيئًا من عطفهم وحمايتهم، أو التقرب من أولئك الذين هزت تلك المدن نحوهم هزَّة الشعور بوجوب الاعتراف بالفضل، أو التعبير عن الشكران تلقاء فائدة جنيت، أو حاجة قضيت، سارع أهلها إلى إضفاء الألوهية عليهم، ورفعوا إليهن القرابين، وحرقوا البخور، وأسسوا الكهنوتيات. وكانت الخطوة الثانية أن تؤسس القصور الملكية الهلينة الجديدة، عبادات رسمية يعبد فيها أعضاءالأسر المالكة أمواتًا كانوا أم أحياء؛ ليعبر الرعايا بذلك في أطراف كل مملكة منها عن خضوعهم، ويبينوا عن ولائهم.
وكان الإسكندر عند الإغريق المقيمين بمصر إلهًا منذ بداءة أعماله، وسرعان ما أصبح ملوك بيت بطلميوس وملكاته آلهة وآلهات. غير أننا لا نرتاب في أن المستنيرين من الأغارقة، كانوا ينظرون إلى العبادات الرسمية نظرة المعتقدين بأنها صورة رمزية لا أكثر ولا أقل. ولقد أضحى من الهين في تلك الأزمان أن يصبح أي إنسان إلهًا، ولكن من غير أن يكون لألوهيته كبير قيمة.
- (١)
عبادتهم في الهيكل المصري، وعلى الشعائر المصرية التقليدية التي عُبِدَ بها الفراعين المصريون. وكان الكهنة المصريون يقومون بطُقُوس هذه العبادة للإسكندر، ولا شك في أنها وجهت إلى بطلميوس منذ صار ملكًا على مصر من بعده. ولم يكن للأغارقة من صلة بهذه العبادة المصرية، فكان كل ما يحدث في داخل المعابد المصرية، وكل ما يكتب في الهيروغليفيَّة من العبارات المقدسة خارج عن عرفهم، ولو أن القصر البطلميَّ، لا بد من أن يكون قد اتخذ من الوسائط كل ما يحقق لديه بإشراف عيون من الأغارقة أن الكهنة المصريين يدأبون على تلاوة العبارات الدالة على الخضوع والولاء.
- (٢)
العبادة التي كان يباشرها الأغارقة على الشعائر الإغريقية، فإما أن يقوم بها أفراد مستقلون، بأن يشيد الواحد منهم مذبحًا أو محرابًا للملك أو المملكة، وإما من طريق جمعيات تتخذ الملك أو الملكة معبودًا، فيحل أحدهما محل أحد المعبودات التي تعكف الجمعية على عبادتها. ومثل هذه العبادات الخاصة قد تتشكل في أي شكل يختاره المتعبد، كما أنه حرٌّ في أن يخلع على الملك أو المملكة — موضوع العبادة — أيَّ لقب أو نعت فيه، فيدعوه «المُخَلِّص» أو «المُنْعِم» أو غير ذلك؛ مما يثبت به الطاعة والولاء له، من غير تقيد بالنعوت الرسمية.
- (٣)
العبادات التي نشأت كعبادة مدنيَّة، وهي الخاصة بحكومات المدن الإغريقية التي كانت حرة اسمًا، كالإسكندرية وإفطولمايس، أو المدن الإغريقية الخاضعة لسلطان بطلَميوس في الخارج، أو كحكومات أثينا ورودُس، عندما تريد أن تُضْفِي التشاريف على حكام مصر.
- (٤)
عبادة الإسكندر: وهي العبادة التي أقامتها الحكومة البطلميَّة كشعيرة رسمية لمصر جمعاء. وكان لها كلَّ سنة كاهن رئيس، يعين بدء السنين لتأريخ الصكوك الرسمية. ولم تؤسس في حكم بطلميوس الأول عبادة رسمية ثابتة توجه إلى الملك الحاكم يتعبد بها الأغارقة خاصة. هذا برغم أن بطلميوس كان يعبده أفراد من الأغارقة، بله مدن إغريقية.
ويروى عن ديودورُس أن أهل رودُس أرادوا أن يظهروا لبطلميوس ما تكنه صدورهم لهم من شكران، بعد أن فشلت محاولة «دمطريوس» في أن يفتح مدينة رودس عنوة سنة ٣٠٤، فأرسلوا بعثًا إلى واحة سيوه؛ ليسأل هاتف آمون: أيشير على الرُّودسيين بأن يكرموا بطلميُوس باعتباره إلهًا؟ فلما أجاب الهاتِف بالإيجاب، شيدوا في مدينتهم محرابًا قائم الزوايا أوقفوه عليه، وأقاموا على جانبيه عمدًا بطول «إستاديوم» (١٦٤) وسموا هذا المحراب «إفطولمايوم» (١٦٥).
ويقول «فاوزَنْيَاس» (١٦٦): إنه من ذلك الوقت أضفى الرودسيون على بطلميوس — باعتباره إلهًا — ذلك اللقب الذي عرف به من بعد في التاريخ، فلقبوه «سوطر»؛ أي المخلِّص. ولكن نقشًا محفورًا، يثبت لاتحاد جزر «قوقلادس» خطر السبق إلى عبادة بَطْلَميُوس كإله. وكان بطلميوس — كما تقدم — قد بسط على تلك الجزر ضربًا من الحماية سنة ٣٠٨ق.م وإذا ثبت أن الإهداء الذي أمرت أرسنوية بإثباته، وذكرناه قبلًا، يرجع تاريخه إلى فترة تقع بين ٣٠٨ و٣٠٦ق.م؛ فذلك مما يثبت أن بطلميوس كان قد لقب «بالمخلص الإله» قبل أن يفقد سلطانه على بحر أيْغا، بهزيمته في سلاميس وقبل أن ينتحل لقب «الملك». وإنا إذ نرى أن أحد أفراد أسرته قد نعته بالألوهية، نثق بأن رجال الحاشية في الإسكندرية قد فعلوا مثل ذلك. وفي نقش طبعت صورته حديثًا، أن الثلاثة من الأغارقة كرَّموا الملك بطلميوس والملكة برنيقية على أنهما إلهين مخلصين؛ وفاء لنذر نذروه جزاء النجاة من خطر أحدق بهم.
•••
في سنة ٢٨٥ق.م شعر بطلميوس بأن الوقت الذي يُنصِّب فيه وريثه للعرش قد حان. وكان شيخًا بلغ الثانية بعد الثمانين، وقد سلخ جلها في مخاطرات فذَّة، منذ أن هجر سكنه في البلقان شابًّا صغيرًا، فقاد الجحافل للجلاد إلى جوف آسيا، ومن فوق تلال الأفغان، وعلى ضفاف أنهر الهند، وتزوج من أميرة فارسية في «سوسه». وانتهى به الأمر أن يكون فرعونًا للمصريين، وإلهًا للأغارقة. وأعقب أولادًا كثرًا من زوجاته وحظاياه المختلفات. وكانت أول زوجاته المعروفات «أرتقاما» (١٦٧) الأميرة الفارسية، وقد تزوج منها في ذلك العرس التاريخي العجيب، الذي أقيم مهرجانه في «سوسه» سنة ٣٢٤ق.م؛ إجابة لرغبة الإسكندر في أن يتخذ عدد كبير من ضباطه المقدونيين والأغارقة زوجات فارسيات. غير أننا لا نسمع عن «أرتقاما» من بعد ذلك شيئًا، ويرجح أن بطلميوس قد نبذها بغير جلبة عندما غادر بابل إلى مصر بعد موت الإسكندر. وإذا صح هذا فإن فعلته هذه تكون على النقيض من سلوك صديقه سلوقوس، وقد احتفظ بزوجته «أفاما» (١٦٨) الفارسية، التي تزوج منها في «سوسه» وظلَّت معه، فكانت جدة ملوك الأسرة السَّلوقيَّة والجدة الأولى من طريق زيجة ملكية وقعت في المستقبل لآخر سلالة ملوك البطالمة وملكاتها: من كان منهم باسم بطلميوس، ومن كانت منهن باسم إقليوفطرا.
ولم يمضِ على موت الإسكندر غير بعيد حتى تزوج بَطْلَمْيوس من «أورديقية»، ابنة الشيخ «أنطيفاطروس»، الذي كان ملكًا على مقدونيا. وربما كان ذلك قبل اتفاقية «إتريفاراديسُوس» (١٦٩)، سنة ٣٢١؛ فاستولدها ابنان، كان أحدهما — ويرجح أنه الأكبر — يدعى بطلميوس، وابنتان هما «إفطُولمايس» (١٧٠) و«لوسندرا» (١٧١). أما إذا كان بطلميوس لم يتزوج منها قبل سنة ٣٢١، كما يظن «مَهَفي»، فإنه مما يبعد أن تكون قد أنجبت منه أكثر من أربعة أولاد؛ لأن بطلميوس لا بد من أن يكون قد تزوج من «برنيقية» قبل سنة ٣١٦. اللهم إلا أن يكون بطلميوس قد استولد الأولى، بعد أن تزوج من الثانية.
ولم يكن لبطلميوس من زوجات شرعيات في مصر إلا «أورديقية» و«برنيقية». أما المصادر التي بين أيدينا، فلا نعرف منها أَطلَّق بطلميوس «أورديقية» قبل أن يتزوج من «برنيقية»، أم كان له بعد سنة ٣١٥ زوجتان جمع بينهما؟ أما ملوك الأسرة، بعد بطلميوس الأول، فلم يكن لهم أكثر من زوجة شرعية واحدة في وقت واحد؛ مراعاة للعرف السائد في العالم الإغريقي. غير أن ملوك مقدونيا قبل عصر الإسكندر كانوا يتزوجون بأكثر من واحدة، ومن خلفاء الإسكندر دمطريوس وفورغوس (١٧٤)، وكان كلاهما من هذا الطابع، ولا يبعد أنَّ بطلميوس كان من هذه الناحية مقدونيًّا، لا إغريقيًّا.
لو أراد بطلميوس أن يتبع سنة الإسكندر، أو سنة ملوك مصر الأقدمين الذين كوَّنوا أسرًا جديدة، لكان لزامًا عليه أن يتزوج من العترة الملكية؛ ليسبغ على حكمه صبغة شرعية في نظر رعاياه، ولكنه لم يفعل، ولم نسمع أن أحدًا من بيت بطلميوس الملكي كان له صلة بامرأة مصرية إلا مرة واحدة، وكانت حظية لا زوجة.
ولما بلغ بطلميوس الثانية بعد الثمانين، أراد أن ينزل عن عرشه لخلَفه، وهو أشد رغبة في أن يرى خليفته آمنًا من فوق العرش، ثابت القدم في الملك، منه في طلب راحة الجسم والعقل. وكان أكثر حبًّا لبرنيقية منه «لأورديقية». وبالرغم من أن «بَطْلَمْيُوس» ابنه من «أورديقية» كان أرشد الاثنين، فإنه اختار بطلميوس ابن «برنيقية»؛ ليكون ملكًا من بعده.
ولا ريبة في أن «أُورُديقيَة» قد نبذت بعد أن ظفرت برنيقية — إحدى وصيفاتها — بمكانتها من قلب بطلميوس؛ ولذا تركت «أورديقية» مصر سنة ٢٨٦، وعاشت في «ميلطوس» (١٨٥)، ومعها ابنتها إفطولمايس. وهنالك، بعد أن سقط دمطريوس عن عرش مقدونيا، حضر بأسطوله وتزوج من إفطولمايس، وكان بطلميوس قد وعده بها قبل ثلاثة عشر عامًا مضين.
في أوائل سنة ٢٨٤ق.م نودي «بطلميوس الأصغر» ابن «برنيقية» ملكًا في الإسكندرية. والظاهر أن «بَطْلَمْيُوس» لم ينزل عن ملوكيته نزولًا تامًّا، بل أشرك ولده معه في الملك. أما بطلميوس ابن أورديقية، ويكنى قراونوس (١٨٧)؛ أي «الصَّاعقة»، فلم يجد بعد ذلك في مصر مكانًا يسعه، فسافر لاجئًا إلى بلاط «لوسيماخوس»، وكان قد أصبح ملكًا على مقدونيا، وكانت الملكة زوجة لوسيماخوس أختًا شقيقة لملك مصر الصغير، وهي «أرسنوية» ابنة بطلميوس من «برنيقية». أما شقيقة بطلميوس قراونوس، «لوسندرا» ابنة بطلميوس من «أورديقية»، فكانت زوجة «أغاثوكلس»، ولي عهد مقدونيا، وأرشد أولاد لوسيماخوس من زوجة سابقة.
وأرادت «أرسنوية»، وكانت في ذلك العهد شابة في الأولى بعد العشرين من عمرها، أن تحتفظ بالعرش لولدها، وكانت من طراز الأميرات المقدونيَّات، جريئات القلوب محترات الأرواح، اللواتي لن يحجمن عن عمل، مهما كان فيه من عنف وقسوة، إذا كان في الإقدام عليه وتنفيذه ما يقربهن من أغراضهن التي يرمين إليها. وكانت «إقليوفطرا» (١٨٨) المعروفة، مثالهن الأخير، فوشت بأغاثُوكْلَس وشاية كاذبة انتهت به إلى الموت قتلًا، بعد أن هبط «بطلميوس قراونوس» مقدونيَا بفترة وجيزة. وترملت «لوسندرا»، ففرت هاربة إلى بلاط سلوقوس، وفر معها شقيقها «قراونوس»، أو هو لحق بها هنالك.
•••
إن ما طمع فيه «سَلُوقوس» من الاستيلاء على كل الإمبراطورية التي خلفها الإسكندر، قد قرب بين بلاط مصر وبلاط مقدونيا، وحينذاك هبطت مصرَ شقيقةُ أغاثوكلس، أو أخته من أبيه: «لوسيماخوس»، وكان اسمها أرسنوية على اسم زوجة أبيها، قادمة من مقدونيا؛ لتتزوج من ملك مصر الفتى.
كانت عواصف القدر تتجمع في جو الدنيا، ولكن بطلميوس الشيخ لم يعش ليرى انفجارها العظيم، فمات وهو في الرابعة بعد الثمانين (٢٨٣ أو ٢٨٢ق.م)، ولقد تفرد من بين القواد الذين شيدوا إمبراطورية الإسكندرية بأن يموت في فراشه ميتةً طبيعية.
وإن في ذلك دليلًا قاطعًا على بُعد تلك النظرة التي استشف بها مذ كان في بابل حجب أربعين عامًا من الزمان، فطلب مصر ورغب عن سواها.
•••
كان بطلميوس الابن من طابع يختلف عن بطلميوس الأب كل الاختلاف؛ فإن الخَوَر الذي أخذت آثاره تظهر شيئًا بعد شيء في كثير من أعقاب ذلك البيت، قد تجلى منه طرف في ابن القائد المقدوني الصلب الشديد المراس. وفي ذلك أسوة بما بين داود وسليمان من فروق؛ فإن المترف ذا النعمة، المفتون بالعقليات والفنون، كان لرجل الحرب خليفة. وقد نُشِّئ بعناية «أسطراطون» (١٩٠) أحد أعيان المدرسة الأرسطوطاليَّة، وصنع على عينه. وكان شغف بطلميوس الثاني بعلمي الجغرافية والحيوان صفة نماها استعماق أرسطوطاليس وحواريوه في الدراسات العلمية، وعكوفهم عليها. ومع هذا، فإن إقليم مصر لم يكن قد أثر في حيوية تلك العترة المقدونية ومِرَّتِها، فكان أثره في بطلميوس الثاني أقل منه فيمن أتى بعده من الأعقاب.
كان أشقر الشعر فأضفت عليه هذه الصفة صبغة أوروبية. ويغلب أنه كان ربلًا ممتلئ الجسم، وفي ملوك هذا البيت نزعة إلى الربالة، تصيبهم في أخريات أيامهم. أضف إلى ذلك ضعفًا تكوينيًّا، وإن شئت فقل: ميلًا إلى الإفراط في العناية بأمر صحته، صرفه عن الجهد البدني وكره بسببه الكد والنصب.
ومضت أكثر أيام حكمه ومصر في حروب متعاقبة، ولكنها كانت تحت إمرة قواد جيوشه البرية، أو أمراء بحريته. ولم يقد بطلميوس الثاني جيشًا، متأسيًا بما فعل أبوه من قبل أو بما كان معاصروه من الملوك، مثل أنطيوخس الأول (١٩١) أو أنطيغونس غوناطس (١٩٢)، إلا مرة واحدة، زحف فيها حذاء النيل إلى مصر العليا.
ولم يلبث غير قليل حتى اكتنفت سياسته أعاصير عنيفة، رجفت منها الممالك الحافة بشرقي البحر المتوسط. ففي سنة ٢٠١ق.م اشتبك الشيخان الباقيان من جيل الإسكندر، «سلُوقوس» (١٩٣) و«لوسيماخوس» (١٩٤)، وقد حطم كلاهما الثمانين في حربهما الأخيرة، وسقط «لوسيماخوس» وبقي «سلوقوس» بغير خصيم — كما لاح إذ ذاك — يصده عن أن يتبوأ مكانة الإسكندر من الدنيا. وكان موقف أقضَّ مضجع بطلميوس الصغير، وبخاصة أن أخاه «بطلميوس قراونوس» (١٩٥) كان مع «سلوقوس»، ومما لا يبعد، بل مما هو قريب أن يؤيد «سلوقوس» دعواه في الأحقية بعرش مصر. ولكن الآية انقلبت سراعًا، وسادت الدنيا فوضى غامرة عندما اغتال «بطلميوس قراونوس» الشيخ «سلوقوس» في الدَّرْدَنيل، فأنقذ هذا الحدث ملك مصر وأيَّد موقفه؛ فإن الخطر كل الخطر، كان في «سلوقوس» ولكن مطامع «بطلميوس قراونوس» قد انصرفت عن مصر، واتجهت نحو مقدونيا. وكانت «أرسنوية» أرملة «لوسيماخوس» وشقيقة بطلميوس الثاني، وأخت «بطلميوس قراوْنُوس» من أبيه، لا تزال من مقدونيا عاقدة العزم على أن تحتفظ بالعرش الشاغر لولدها. وكانت قد تخطت طور الفتوة، وهي بعد أميرة مقدونية على ما وصفنا الأميرات المقدونيات من قبل، وفيها من افتراس النمرات أثر غير قليل. ولكن «قراونوس» بذَّها مكرًا وافتراسًا، فتزوج منها أول الأمر، ثم قتل ابنها من «لوسيماخوس»، ولجأت «أرسنوية» إلى معبد «سموثراقية» (١٩٦).
وتبع ذلك تعقيدات مروعة، فقد أغارت جماهير من أهل الغال (١٩٧) المستوحشين مما وراء البلقان، واكتسحت مقدونيا وإغريقية وآسيا الصغرى. وفي فيض هذه البربرية قضى «بطلميوس قراونوس» نحبه سنة ٢٨٠، وقامت معارك متشابكة متهاوشة فترة من الزمان، تسنم خلالها «مَلْيَاغار» (١٩٨) أحد أبناء بطلميوس الكبير ذروة الملك شهرين اثنين، ثم انحدر إلى حيث طواه ظلام القرون.
وظهر في الميدان شخص آخر هو «أنطيفاطروس» (١٩٩)، من أبناء عمومة «قَصَّنْدَر» (٢٠٠)، تسنم عرش مقدونيا أشهرًا قلائل، فلما سقط فر لاجئًا إلى الإسكندرية، وفيها عرف باسم «أطسياس» (٢٠١)، وهي كنية أطلقت عليه، وأصلها اسم رياح موسمية تعصف خمسًا وأربعين يومًا. ولقد عثر بالمصادفة على قرطاس بردي، ثبت منه أنه كان ظهير رجل يصنع كعوب النَّرد للعبة تدعى لعبة العاشق (٢٠٢).
أما في آسيا الصغرى وشمال سورية، فقد عمل «أنطيوخس الأول» ابن سلوقوس من زوجته «أفاما» الفارسية جاهدًا في أن يثبت قدمه في ملوكية أبيه؛ فإن سلطانه في آسيا الصغرى كان مرتجًّا غير مستقر، وكان مظهر سلطانه الرئيس يتجلى في حروب يشنها على دويلات نشأت حديثًا من إمارة وطنية تظهر هنا، أو أسرات فارسية تطفر هنالك، إلى الإمارة الإغريقية التي نشأت تحت إمرة «فرغَامُن» (٢٠٣)، ناهيك بجماهير أهل الغال بغارتها التخريبية. وفي النهاية، وبعد نصف قرن من الزمان قضاه العالم في فوضى غامرة بعد موت الإسكندر، قرت الدنيا الحافة بشرقي البحر المتوسط في ظل مجموعة من الدول مستقرة استقرارًا نسبيًّا، فحكم في مقدونيا بيت «أنطيغونس»، وفي آسيا الصغرى وما بين النهرين وبابلونيا وفارس بيت «سلُوقُوس»، وفي بقاع أخرى من آسيا الصغرى أسرات موضعية جديدة، وفي مصر وفلسطين وقبرص بيت «بطلميوس». أما في إغريقية، وفي الجزر المنشورة على شواطئ بحر أَيْغَا (٢٠٤)، وفي البوسفور (٢٠٥) والبحر الأسود، فإن دويلات المدن القديمة كانت تعيش في ظل حريات، قد يزيد قدرها أو يقل بنسبة ما تهيئ لها الظروف أن تنفض عن عاتقها عبء الخضوع لإحدى الدول الملكية.
وفيما بين هذه الدول العظمى نشطت المنابذات السياسية والحربية طوال حكم «بطلميوس الثاني». وكانت مصر «المقدونية» (٢٠٦) في أوج قوتها وعظمتها. ولكن الأخبار التي كان من الممكن أن نحيك منها رواية كاملة في الدور الذي مثَّله «ملك الشمس» وقواده وسفراؤه في رقعة الدنيا قد عدمت جميعًا، وكل عمدتنا في ذلك على خلاصات غير وافية حررها كتَّاب متأخرون، فكانت إشارات تذكر عرضًا، أو مُحرَّرات شتيتة متفرقة، غاية مستطاعنا أن نستخلص منها إلمامة، يصدع فيها النقصُ الكمالَ ويرهق فيها الإبهامُ اليقينَ.
إن مطامع بيت «بَطْلَمْيُوس» في أن يبسط سلطانه على بقاع معينة من آسيا الصغرى، وفي أن تظل له السيادة البحرية، وفي أن يتدخل تدخلًا فعليًّا في سياسة العالم الإغريقي، قد منع عليه أن يظل بعيدًا عن مغامرات السياسة الخارجية. وفي فترة بين سنتي ٢٧٩ و٢٧٤ق.م تسلطت على البلاد الإسكندري إرادة أقوى من إرادة «بطلميوس»؛ فقد هبطت مصر شقيقته «أرسنوية» بعد أن ضاع كل أمل لها في أن تكون ملكة في مقدونيا، وفي نفسها — على الأرجح — عزم على أن تصبح ملكة في بيت أبيها. وكان في مصر ملكة هي «أرسنوية» ابنة «لوسيماخوس» (٢٠٧) وزوجة «بطلميوس»، غير أن هذا الأمر لم يكن عقبة تقف في وجه امرأة من طراز أرسنوية ابنة «بطلميوس الأول»؛ فإنها استطاعت من قبل سنوات أن تكتسح «أغاثوكلس» من طريقها بأن حملت أباه على أن يقتله؛ جزاء تهمة كاذبة. وكانت «أرسنوية لوسيماخوس» قد أنجبت من بطلميوس ثلاثة أولاد؛ ابنان: بطلميوس ولوسيماخوس، وابنة: هي برنيقية. ولكنها — برغم هذا — اتهمت بالتآمر على حياة الملك زوجها، وقُتل اثنان اتهما غدرًا بالتواطؤ معها: شخص يدعى «أمنتاس» (٢٠٨)، و«خروسبوس الرودسي» (٢٠٩) طبيبها الخاص، ونفيت الملكة إلى بلدة «قفطوس» (٢١٠) بمصر العليا.
هذا تذكار «سنخرود» (٢١١) المصري، الذي أثبت في سيرة كتبها عن نفسه أنه كان حارسها، وأنه شيد لها محرابًا وجمله. وعلى الرغم من أن هذه السيدة كانت تدعى: «زوجة الملك العظيمة التي تملأ جوانب القصر بجمالها، وتغمر قلب الملك بطلميوس بالطمأنينة والغبطة»، فإنها لم تنعت بأنها «محبة أخيها» (٢١٢). ومما هو أنكى من ذلك أن اسمها لم يُحْوَ في خرطوش ملكي، كما يجب أن يصنع في أسماء الملكات.
ولما أن تخلَّصت «أرسنوية» ابنة بطلميوس الأول من أرسنوية ابنة لوسيماخوس، تزوجت من شقيقها بطلميوس وأصبحت ملكة مصر. ولم يسمع من قبل في العالم الإغريقي أن زواج شقيقين أمر مشروع، برغم شيوعه بين الوطنيين من المصريين اتباعًا لتقاليد الفراعنة؛ فخزي الناس من جراء ذلك، وطال همهم. وكانت أرسنوية في ذلك الوقت قد أشرفت على الأربعين من عمرها، وهي تكبر زوجها الشقيق بضع سنوات. ولكن الإغريق ما لبثوا أن ذكروا أن بطلميوس وأرسنوية من الآلهة، وأن زواج «زُوس» (٢١٣) من «هرا» (٢١٤) أَحلَّ للآلهة ما حُرِّم على الناس.
•••
إذا جاز لنا أن نؤرخ تلك الفترة معتمدين على ما عرض لنا من عبارات «فاوزنياس» (٢٢٠) المختصرة، انبغى لنا أن نثبت أنه كان من نتائج النظام الحازم الذي أقامت «أرسنوية» فيلادلفوس قواعده، أن يقضى على كل أفراد البيت الملكي غير المرغوب فيهم؛ فقُتل «أرغايوس» (٢٢١) شقيق بطلميوس بتهمة التآمر على حياة الملك. وما دامت «أرسنوية» هي اليد المحركة، فليس في مقدور أحد أن يعرف: أملفَّقة كانت تلك التهمة أم صحيحة؟ كذلك اتهم أخوه من أبيه — ابن بطلميوس الأول من «أَرُديقيَة»، ولا نعرف اسمه — بأنه سبَّب قلاقل في جزيرة قبرص، وقتل جزاء ذلك.
وكانت مشكلة سُورية الخالية مثار منازعات مستمرة قامت بين بيت «سلوقوس»، وبيت «بطلميوس»، ويرجح أنها انتهت بحرب فعلية في ربيع سنة ٢٧٦ق.م عندما غزا «بَطْلَمْيُوس» سورية، على ما يظهر لنا من رقيم بابلي كتب بالخط المسماري (٢٢٢). وهذه ما يدعوها محدثو المؤرخين «الحرب السورية الأولى»، ومن المتعذر أن نصوغ لها تاريخًا، وغاية مستطاعنا أن نلمع إلى بعض وقائعها إلماعًا، ونلم بها إلمامات تكتنفها الريب. ويوجز «فاوزنياس» في الإشارة إليها، فيقول: إن القوات المصرية انتهجت خطة الهجوم المتفرق بأن تضرب هنا ضربة تلحقها بأخرى هنالك، متخذة من الإمبراطورية السلوقية الفسيحة هدفًا لضرباتها، فاستطاعت أن تشغل «أنطيوخس» عن أن يهاجم مصر نفسها.
ومن الظاهر أنه تولد في مصر شعور بتوقع الهجوم عليها من الخارج، فإن اللوح المعروف بلوح «بيثوم» (٢٢٣) يثبت أن بطلميوس زار «هيرنبولس» (٢٢٤) (تل المسخوطة) على برزخ السويس في يناير من سنة ٢٧٣ق.م؛ ليتفقد معدات الدفاع، ورافقته «أرسنوية» كما يجب أن نتوقع، فكانت المشرف الأعلى. أما عن المصادر البطلمية فإن ما وصلنا عن هذه الحرب — لسوء الحظ — يتألف في الأكثر من صيغ تقليدية، انحدرت إلى ذلك العصر عن الفراعنة الذين غزوا آسيا، وعرفناها من نقش هيروغليفي محفوظ الآن في متحف اللوفر، ثم عبارات من قصيدة ألفها «ثيوقريطوس» (٢٢٥)، تقربًا من بلاط الإسكندرية.
نعم، لقد اقتطع أطرافًا من فنيقية (٢٢٧)، وبلاد العرب، وسورية، وليبيا، وبلاد الأثيوبيين السود، يذعن لأوامره الفمفوليون (٢٢٨) والقيليقيون (٢٢٩)، وكذلك اللُّوقيون (٢٣٠) والقاريون (٢٣١)، أهل الحرب المحبين له وأهل جزر قوقلادس، ذلك أن أساطيله أقوى الأساطيل التي تحملها الأمواج، على أن كل البحار والأراضي والأنهار الهادرة تعترف بأن بطلميوس ربها وسيدها.
أما النقش البابلي (٢٣٢)، فينص على أن الجيش السَّلوقي، هزم جيش بطلميوس في سورية سنة ٢٧٦، ولا يبعد أن يكون أنطيوخس قد استرد دمشق إذ ذاك من «ديون» (٢٣٣)، قائد جيش «بطلميوس». ومن الظاهر أنه كان ثابت القدم، تام السلطان في فِنِيقية. وقد نصب عقيب مهلك الملك «أشموناصر» (٢٣٤) الثاني قائده البحري «فيلوقلس» (٢٣٥)، ملكًا في صيدا، ويرجح أنه فِنِيقي انتحل الجنسية الإغريقية، كما يذهب «كليرمون جانُّو» (٢٣٦). ولكن لا يبعد أن يكون «فيلوقلس» قد مات، قبل أن تنشب الحرب.
وكانت مدينة «صور» قد أخذت في الانتعاش، واستقبلت عهدًا جديدًا من الاستقلال السياسي في سنة ٢٧٣-٢٧٢، بعد أن قمئت وذلت، حتى صارت من ملحقات «صيدا» (٢٣٧)؛ إثر ما نزل بها من الكوارث والأحداث الجسام في خلال ستين عامًا متوالية. وهذا يدل على انقلاب في السياسة البطلميَّة إزاء فنيقية في أثناء الحرب السورية الأولى. أما «طرابلس» (٢٣٨)، فقد ذكر أنها كانت خاضعة لبطلميوس في سنة ٢٥٨-٢٥٧ق.م.
على أننا نستخلص من إطراء الشاعر الإغريقي، أكثر مما نأخذ من الكهنة المصريين؛ فإن «ثيوقريطوس»، إذ يذكر أقوامًا يقطنون شواطئ آسيا الصغرى، وجزائر بحر «أيغا»، ويمضي على أنهم خاضعين لبطلميوس، إنما يثبت أن الأساطيل المصرية في الناحية البحرية من الحرب، قد نجحت في إرغام كثير من مدن الشواطئ في قِلِيقيا (٢٣٩) وفمفوليا (٢٤٠) ولوقيا (٢٤١) وقاريا (٢٤٢)، على الاعتراف بسيادة «بطلميوس». وكان لبطلميوس الثاني غزوات في البقاع التي تستطيع فيها القوات البطلمية، مستندة إلى البحر، أن تناجز جيوش «سلوقوس» الزاحفة من داخلية البلاد. ولم تكن سيادة «بَطْلَمْيُوس» على اتحاد جزء قوقلادس شيء جديد؛ ذلك بأنها ميراث ورثه «بطلميوس الثاني» عن أبيه. وليس ضم جزيرة «ساموس» (٢٤٣) إلى ذلك الاتحاد في سنة ٢٨٠، إلا دليلًا جديدًا على نماء قوة بطلميوس البحرية، وامتداد سلطانها. والظاهر أن «ميلطوس»، وكانت ما تزال ثغرًا ذا قيمة من ثغور آسيا الصغرى قد خضعت لحكم «بطلميوس» قبل نشوب الحرب السورية الأولى؛ أي في سنة ٢٧٩-٢٧٨ق.م وفي محراب «ديدُومَا» (٢٤٤) على مقربة من تلك المدينة تمثال لأخت بطلميوس «فيلوطرا» أقامه لها أهل المدينة. أما «هليكارناسُّس»، فكانت في سنة ٢٥٨-٢٥٧ق.م مستعمرة بطلميَّة.
وكانت سلطة «بَطْلَمْيُوس» في «إقريطش» (كريت) ثابتة الأركان، وصلاتها وثيقة بمدينة «إطانوس» (٢٤٥)، على الأخص. وفي نقش أن «فطروقلوس» كان حاكمًا على الجزيرة، ولكن الراجح أنَّ ذلك وقع فيما بعد، ومن طريق علاقته بالقيادة البحرية في الحرب «الخرمونيديَّة» (٢٤٦) أو بعدها.
إن الاضطراب الذي أصاب مصر من جراء الحرب السورية زاده قيام ثورة في «برقة» تعقيدًا وتهاوشًا. فقد أعلن «ماغاس» (٢٤٧) أخو بطلميوس من أمه استقلاله، وكان حاكمًا لذلك الإقليم منذ سنة ٣٠٨، وزحف من هنالك ليغزو مصر (في صيف سنة ٢٧٤)، ولكنه اضطر إلى النكوص؛ لأن بدو ليبيا، ويسمون «المرماريدا» (٢٤٨)، هبوا من ورائه ثائرين. وطارت في مصر ثورة أذكى نارها أربعة آلاف من برابرة الغال المستوحشين، كانوا قد أُجروا مرتزقين، فمنع ذلك على الجيش المصري أن ينتفع بتلك الفرصة السانحة. ولا بد من أن يكون الرعب قد خيم على الإسكندرية في خلال تلك الفترة، بدليل أن حصر الغاليين في جزيرة وسط النيل، وقطع الموارد عنهم؛ ليقضى عليهم فيها جوعًا، عُدَّ انتصارًا عظيمًا. أما الدور الذي مثله الملك المسالم البعيد عن الطبع الحربي، فما كنا لنعرف عنه شيئًا لولا أن ذكر أحد شعراء البلاط — فيما بعد — أن ما عمل «بَطْلَمْيُوس» في هذه الثورة، كان المأثرة الفريدة التي تؤثر عنه في عالم الحرب. وظلت «برقة» منفصلة عن مصر فترة ما. وتزوج «ماغاس» من إحدى بنات «أنطيوخُس الأول»، وكانت تدعى «أفَامَا»، على اسم جدتها الفارسية. وتبدل من لقب حاكم لقب «ملك»، وكان هذا بمثابة حلف ودي بين «ماغاس» والملك السَّلوقي، منابذًا بطلميوس.
وفي سنة ٢٧٢-٢٧١ق.م عقد «أنطيوخس» صلحًا، جعل كفة مصر في الحرب راجحة؛ فإنه فضلًا عن إخفاق جيوشه في ميدان الحرب، انتشر في بابلونيا — على ما يظهر — وباء الطاعون، فشغله ذلك كما هو محتمل عما عداه.
•••
كانت «أرسنوية فيلادلفوس» قوة استرضاها في ذلك الوقت كثير من الرجال، ونشدوا أن يكونوا وإياها في سلام. ولم تحظَ ملكة أخرى بعدد أكبر من العدد الذي أقيم لها من النصب التذكارية في العالم الإغريقي. فقد أقامت لها «أثينا» التماثيل، وأضفت عليها «ساموثراقية» التشاريف، وخصت بالتكريم في «بوطيا». وقد سميت إحدى مدنها باسم «أرسنوية»، عندما كانت ملكة «تراقيا» في شبابها. ونقع — خلال ذلك — على نقوش رصدت لتكريمها في دلوس وأمورغوس وثرا ولسبوس وقورينا وقُبرُص وأدرفوس، ومما لا شك فيه أننا سوف نقع على كثير غيرها. أما ما رصد عليها في مصر من التذكارات فكثير، وما هي غير الجزء الباقي من التشاريف التي أضفاها عليها زوجها الشقيق، وكان لها تمثال من مدينة «ثسافيا» بإغريقية، أقيم هيكله من فوق نعامة، وعلى الرغم من أنها لم تكن شريكة في الملك، كما كان كثير غيرها من الملكات، اللواتي أتين من بعدها، فقد شاركت الملك في كل ما خص به من الأسماء والتشاريف. ولاحظ «فِلْكِن» «بولي-فِسُّوفا» من النسخة التي نقلها «نافيل» من لوح «بيثوم» أن الكهنة المصريين، قد خصوها باسم ملكي؛ إضافة على الخرطوش المعتاد، وفي ذلك تشريف قلما خصت به الملكات. وثمة نقود لم يطبع عليها غير صورة وجهها فقط، بجانب النقود التي كان يطبع عليها وجه الملك. وقد اعتبر كلاهما من آلهة «دلفي» وألِّهت وأخوها، وتدرج الأمر من ذلك شيئًا بعد شيء، حتى قرنتها المحاريب العظمى في طول مصر وعرضها بالآلهة الأقدمين.
•••
- (١)
أن الملك الصغير الذي أُشرك في الملك كان ابنًا غير معروف، أنجبه بطلميوس الثاني من أرسنوية فيلادلفوس، ومات سنة ٢٥٨. وهذا الفرض يناقض ما ورد في الشرح المعلق به على «ثيوقريطوس»، وفيه أن «أرسنوية فيلادلفوس» ماتت من غير أن تعقب، وأنها تبنَّت أولاد «أرسنوية» الأولى. وما ورد في ذلك الشرح تؤيده الصكوك التي كتبت في عهد «بطلميوس الثالث»، وهو أنه كان من غير شك ابن «بَطْلَمْيُوس» من «أرسنوية» الأولى، إلا أنه ينعت دائمًا بأنه ابن «الأخ والأخت الإلهين».
- (٢)
أنه كان ابن «أرسنوية فيلادلفوس» من زوجها الأول لوسيماخوس، وأنه هرب عندما قتل بطلميوس إقراونوس ابنًا آخر لها، وأنه هبط مصر معها، فتبناه «بطلميوس الثاني»؛ جعله وريثًا للعرش، وأن اختفاء أخباره فجأة في سنة ٢٥٩-٢٥٨ يرجع إلى موته. وهذا ما يرجحه «بيلوخ» على الفرضين الآخرين، غير أنه كسابقه لا يتفق وعبارات الشرح الذي ذكرنا. وبالرغم من أن مراجعنا قليلة وجزئية، فإنه مما يبعد تصديقه أن حادثًا فذًّا كتنصيب ابن «لوسيماخوس» وريثًا لعرش مصر، لا يذكره مؤلف واحد من قدامى المؤرخين.
- (٣)
أنه كان بعينه الملك «بطلميوس الثالث» وأن اختفاء ذكره من الصكوك في سنة ٢٥٩-٢٥٨ إنما يرجع إلى سبب غير معروف. ويظن «مَهَفي» أنه ترك مصر في تلك السنة إلى «قُورينا»؛ ليكون حاكمًا لها، وهذا الرأي لا يرجحه «مَهَفي» وحده، بل يؤيده فيه «بوشيه لكلار» و«جرنفيل»، ولكنه يلقى اعتراضًا في أن سني «بطلميوس الثالث» تعود فتبدأ رسميًّا بشهر نوفمبر سنة ٢٤٧، عندما أُشرك مع أبيه في الحكم، وعلى هذه النظرية ينبغي أن تبدأ سِنوه بالسنة التي أُشرك فيها مع أبيه في الملك أول مرة، اتباعًا للسابقة التي جرت عليها التقاليد، في إشراك «بطلميوس الثاني» مع أبيه «بطلميوس الأول».
ربما استطعنا أن نضع فرضًا رابعًا أقل من الفروض الثلاثة الأخر تقبلًا للاعتراض، وأكثر منها بساطة، ومحصله أن الملك الذي أشرك في الملك من سنة ٢٦٦ إلى ٢٥٨ق.م كان أخًا أكبر لبطلميوس الثالث «أورغيطس»، وأنه ابن بطلميوس الثاني من أرسنوية الأولى، وأنه توفي سنة ٢٥٨؛ وبذلك لم يترك أي أثر في التاريخ. وكل نظرية تقول بأن الملك الذي أشركه بطلميُوس الثاني معه في الملك هو ابن أرسنوية الثانية، سواء أمن لوسيماخوس أم من بطلميوس، إنما يؤدي إلى نتائج متضادة، لم يفطن لها «بيلوخ» وغيره من الكتاب.
•••
عرفت الحرب التالية التي اشتبكت فيها مصر بالحرب «الإخرمونيديَّة»، نسبةً إلى «إخرمونيدس» الأثيني، الذي قاد الثورة في إغريقية متحديًا مقدونيا، وكان بيت «أنطيغونس» في هذه الحرب ممثلًا في ملك مقدونيا «أنطيغونس غوناطس بن دمطريوس المحاصر» خصيم بيت «بطلميوس»، وكان الحلف المنابذ لمقدونيا يتألف من عدد من أعظم المدن الإغريقية، وعلى رأسهم أثينا وإسبرطا. وقد لاحت لهم فرصة يستردون فيها حريتهم التي فقدوها منذ قرن من الزمان. وانضم بطلميوس إلى هذا الحلف، منفذًا بذلك سياسة أخته على ما ينص نقشٌ أطِّيقي؛ وفي ذلك دليل على أن عقل أرسنوية كان يحتكم في الإسكندرية حتى بعد موتها. وطارت أول شرارة للحرب من أَثينا بأن نفضت عنها سلطة مقدونيا (في أواخر سنة ٢٦٦ق.م)، وكان الأغارقة يعلقون آمالًا كبارًا على تأييد مصر لهم، وأسطولها سيد بحر «أيغا».
واستطاع «أنطيغونس غُونَاطس» أن يحمي مقدُونيا، فهزم جيوش «أفيرُوس»، ومزقها تمزيقًا من غير أن يرفع الحصار عن أثينا، وسقط ملك «إسبرطا» في الميدان قتيلًا، وهو يحاول أن يقتحم صفوف جيش «أنطيغونس»؛ ليتخذ أهل أثينا. واضطرت «أثينا» إلى التسليم في النهاية (٢٦١ق.م)، وهرب «إخرمونيدس» وأخوه «إغلاوقون» لاجئَين إلى مصر، حيث أقيم «إغلاوقون» رئيسًا لكهنة الإسكندرية، وكهنة الأخ والأخت الإلهين في سنة ٢٥٥-٢٥٤ق.م كما تنص على ذلك ورقة من البردي استكشفت حديثًا. وكانت الحرب الإخرمونيديَّة عنوانًا سيئًا أبان عن ضعف بطلميوس وجبنه ونزعته إلى الفنون دون الحرب … ومن ذا الذي في مكنته أن يتكهن بالنتائج، لو أن «أرسنويَة» كانت على قيد الحياة، مشرفة على أخيها في تنفيذ سياستها؟
•••
إن الفترة الواقعة بين سِنِي الحرب الإخرمونيديَّة، واعتلاء «أنطيوخس الثالث» العرش السَّلوقي في سنة ٢٢٣ق.م من أشد فترات التاريخ غموضًا وإظلامًا، إذ لم يصلنا شيء من المؤلفات التاريخية التي كتبت فيها، وكل ما نستطيع أن نصل إليه في صوغ تاريخها أن نجمع رقعًا من الآراء العامة عنها، أو إشارات عرض لذكرها كتَّاب متأخرون، أو بعض النقوش أو أوراق البردي التي نقع عليها اتفاقًا، ثم نرأب صدوع هذه جميعًا لنحيك منها عبارة تاريخية.
فالحقيقة الأولى عن بحر «أيغا»، والحالات التي قامت فيه عقيب الحرب الإخرمونيديَّة، أن الجلاد قام حواليه بين مصر ومقدونيا؛ لتفوز إحداهما بسيادة البحار، وفي هذا الشأن لا يعوزنا اليقين. كذلك نعرف أنه دارت معركتان بحريتان عظيمتان، هما معركة «قوص» ومعركة «أندروس»، وأن «أنطيغونس غوناطس» هزم الأسطول المصري في أولاهما، ونشبت معركة بحرية على بعد من «أفسُوس»، هزم فيها الأسطول الرُّودُسيُّ الأسطولَ المصري بإمرة «إخرمونيدس»، وكانت رودس على ما يُظَنُّ قد حالفت مَقَدونيا. أما أن نعرف أيهما قاد الأسطول في موقعة «أندروس» أهو «أنطيغونس غوناطس» بنفسه، أم «دوصون» ابن عمه وخليفته في الملك، أو أن نعرف في عصر مَنْ مِنَ البطلميوسَين وقعتا، أفي عصر بطلميوس الثاني، أم في عصر بطلميوس الثالث؟ أو أن نقطع في موقعة «أندروس» بقول، أهزمت فيها مصر أو انتصرت، على ما يقول «مَهَفِي»؟ فعامتها أمور تتسع فيها شقة الخلاف، وتتباين فيها الأقوال والآراء.
وفي نقش ذي شأن تاريخي نشره «رِهْم» ما يدل على أن «مِيلَطوس» قضت فترة ما في عصر بطلميوس الثاني، استمسكت فيها بصداقته، وذادت عن مصالحه، ولكن نيران الحرب كانت قد حوطتها برًّا وبحرًا، وعصرتها عصرًا. ومن الظاهر أن هذا النقش يرجع إلى سنة ٢٦٢ق.م أو بالأكثر إلى السنتين اللتين تليانها؛ ولذا يصعب أن نتصور أن تحصر «ميلَطوس» بحرًا، ما لم نُقدِّر أن قوة مصر البحرية كانت قد ضعفت بالفعل. لهذا يذهب «رِهم» إلى أن معركة «قُوص» لا بد من أن تكون قد وقعت من قبل ذلك؛ أي في الفترة التي تقدمته مباشرة. ولعهد ما، على ما تهدينا إليه النقوش، تبدل اتحاد جزر قوقلادس من حماية «بطلميوس» حماية مقدونية (من سنة ٢٦٠ إلى ٢٤٧ على ما يقول «كوليه»)، على الرغم من أن الغالب أن مصر استردت مركزها ذاك قبل موت بطلميوس الثاني، بدليل أن نقش «أدوليس» يحصي جزر قوقلادس بين الحمايات التي ورثها بطلميوس الثالث عن أبيه، لا بين البقاع التي ضمها إلى ملكه بالفتح.
في النقش المِيلَطِيِّ الذي أشرنا إليه آنفًا، يُنَوِّه «بطلميوس الثاني» في رسالة إلى أهل ميلطوس بالأنباء السارة التي وصلت إليه عن ولائهم الذي ذكره له ابنه وإقليطرخوس (أمير البحر المصري في بحر أيغا حوالي ٢٧٤ إلى ٢٦٦)، وغيرهما من الأصدقاء (أي الأشخاص الملحقين بالبلاط البطلمي) الذين معهم.
•••
من هو ذلك الابن؟
•••
منذ نهاية الحرب السورية الأولى، حالت الأحداث والقلاقل التي وقعت في نواحي الأملاك السَّلوقية دون القيام من جانبهم بأي عمل في البحر المتوسط. وفي سنة ٢٦١ اشتبك أنطيوخس الأول (سوطر) في حرب مع «أومنس» الأول ملك «فرغامن»، وسقط في المعركة قتيلًا، فخلفه ابنه «أنطيوخس الثاني» المكنى «ثيوس». وبعد أن اعتلى الملك السلوقي الجديد عرش السلايقة، خيل إليه أنه من القوة بحيث يستطيع أن يسترد من البطالمة خسائر بيته في الحرب السورية الأولى. والظاهر أنه نشبت حرب بين مصر وسورية، اتفق محدثو المؤرخين على تسميتها الحرب السورية الثانية. على أن معرفتنا بتاريخ هذه الحرب ووقائعها ومداها أقل من معرفتنا بوقائع الحرب الأولى. ويقول «بيروم» — ولكن في غير بيان: إن أنطيوخس حارب ومعه كل قوات بابلونيا والشرق، ولكن المحقق أنه لم ينجح في أن يسترد سورية الخالية، وربما لم يستطع أن يجتاز حدود الولاية التي طمع فيها. ولا شك في أنه نشبت معارك متهاوشة، في ميداني الحرب والدس السياسي، طوال شاطئ آسيا الصغرى، وكان الأسطول المصري عاجزًا عن أن يؤثر تأثيره الأول بعد أن فقد سيادته في البحار. والراجح أنه كان بين «أنطيغونس المقدوني» وبين «أنطيوخس الأول» اتفاق وديٌّ، لما بينهما من صلات المصاهرة من طريق زيجتين ملكيتين بين أسرتيهما. وكانت «ميلطوس» حينذاك في حيازة أفَّاق يُدعى «طيمارخوس» استبد بالمدينة وتسلط عليها. ولا يبعد أن يكون امتلك «ساموس» أيضًا، ولم يكن على التحقيق صديقًا «لأنطيوخس»؛ ذلك بأن قمع «طيمارخوس» جعل الميلطيين يضفون على أنطيوخس الثاني لقب الإله تعبيرًا عن شكرانهم، واعترافًا بجميله. كذلك لم يكن على ما يظهر صديقًا لمصر؛ بدليل أنه حالف «بطلميوس اللَّصيق»، وهو ابن غير شرعي كان له اسم أبيه بطلميوس الثاني. والمدرك من حوادث هذه الحرب استنتاجًا، أن مصر غنمت «أفسوس»، وأن ملك مصر نصَّب ابنه غير الشرعي قائدًا هنالك؛ فثار «بطلميوس اللصيق» على أبيه، متحالفًا مع «طيمارخوس»، ولكن لم يلبث غير قليل حتى قتله التراقيون الذين أجرهم مرتزقين.
في سنة ٢٥٣ بعد وقوع هذه الحوادث ترجيحًا، كانت «أفسوس» في يد السَّلايقة، كما يستدل على ذلك من نقش عثر عليه. ولا شك في أنها كانت إحدى مقار البلاط السَّلوقي في أواخر عصر «أنطيوخس الثاني». ويستنتج فوق هذا أن البقاع التي فتحتها مصر في الحرب السورية الأولى، حوالي قيليقيا وفمفوليا قد فقدتها في الحرب السورية الثانية؛ ذلك بأن «ثيوقريطوس» نوه بخضوعها لبطلميوس الثاني، ولم تذكر في نقش «أدوليس» ضمن التراث الذي ورثه «بطلميوس الثالث» عن أبيه.
أما أن المهر قد تضمن التنازل عن أية أرض، فذلك ما ليس لنا به من علم، وكل ما نعلم في شأنه أنه كان باهرًا عظيمًا، حتى إنه أضفى على «برنيقية» نعت «فرنوفورس». ولقد تُخْبَر أن «بَطْلَمْيُوس» استمر يزود ابنته على غير انقطاع بكميات من ماء النيل، بزعم أنها تزيد الخصب والقدرة على الإنتاج. ولقد توقَّع «بَطْلَمْيُوس» أن «برنيقية» إذا أنجبت من أنطيوخس ابنًا، فإن بيت «سلوقوس» سوف يرتبط ومصر برباط الدم، وهو رباط وثيق، ذلك بأن ملك آسيا المقبل سيكون حفيده … ولو أنه عاش إذن لشهد الكارثة التي تبدد أحلامه، تلك الأحلام التي دلَّت شواهد الأحوال على أن الطريق قد مهدت لتحقيقها.
•••
هنالك اتجاهات أخرى في السياسة الخارجية التي انتحاها بلاط الإسكندرية في خارج مصر، نستطيع أن نلحظ طرفًا منها في خلال حكم «بطلميوس الثاني». ففي سنة ٢٧٣، عندما اشتبكت «رُومية» في حرب مع فرغوس الأفيروسي، هبط «إيطاليا» سفير من الإسكندرية ليعبر لرومية عن صداقة بيت بطلميوس. وكانت هذه أول مرة غشي فيها سماءَ مصر خيالُ دولة فتية تنشأ في الغرب. ولا ريبة في أن «الإسكندرية» مضت تنشئ في ذلك الحين علاقات تجارية مختلفة في حوض البحر المتوسط كله، تبعًا لازدياد متاجرها زيادة متواصلة.
كانت أَرْسِنْوِيَة فيلادلفوس في سنة ٢٧٣ ما تزال قابضة بيدها على دفة السفين، على العكس مما كان في سنة ٢٦٤، عندما نشبت الحرب «البُونيَّة» الأولى بين رومية وقرطاجنَّة، ولجأت قرطاجنَّة إلى مصر جارتها الإفريقية، تسألها قرضًا ماليًّا. وكان البلاط الإسكندري حينذاك وبعد موت «أرسنوية» قد نزع إلى سياسة وضع الأشياء في نصابها الحق، ما دام وضع الشيء في نصابه معناه الإخلاد إلى السكون والراحة. ويغلب أن أقرب السياسات إلى الحكمة في مثل هذا الموقف كان الاحتفاظ بالحياد التام. فرفض «بَطْلَمْيُوس» أن يعقد للقرطاجنيين القرض الذي طلبوا، بدعوى أن كلا الطرفين صديق له، وأنه يكون سعيدًا لو أتيح له أن يخدمهما بالوساطة الحِبيَّة، إن كانا في حاجة إليها.
ومما ينبغي لنا أن نعيه، إذا كانت ورقة البردي التي يرجع تاريخها إلى ٢٥٢-٢٥١ق.م قد أحسن قراءتها، أن رومانيًّا اسمه «دنِّيُوس» أو دنُّوس خدم جنديًّا في جيش بطلميوس، ومعنى هذا أن رومانيًّا أغراه ما يتوقع من خير تلقاء الخدمة تحت راية ملك مصر، فركب إليه متن العباب.
•••
إلى الملك «بَطْلَمْيُوس» تحية من «طُوبياس» وسلام، أرسلت إليك حصانين وستة كلاب، وحمارًا مهجنًا (من أصل وحشي وآخر أليف)، وجملين من دواب الحمل، وفَلْوَين من أصل مهجن من الحمر الوحشية، وفَلْوَ حمار وحشي … إلى الملتقى.
إذا قارنا عبارات أخرى من العهد القديم بعبارات من «يوسيفوس» عرض فيها اسم «طُوبْيَا»، فإذن نرجح أن قائد فرسان بطلميوس في تلك البقاع كان رأس عشيرة قوية سكنت «عمَّانيطس»، وكانت صلتهم بقدامى الرؤساء من الكهنة في أورشليم سببًا في أن يصبحوا نصف عبرانيين. والغالب عندي أن طوبيا «العمَّاني» الذي ذكر في سفر «نِحِميا»، وتزوج من ابنة كبير كهنة اليهود، ثم خاشنه «نِحِميا» وطرده من أورشليم، جد أول لطوبيا البطلمي. والاسم «طوبيا» ومعناه «يَهْوَه طيِّب» عبراني رسيس، كاسم «عِنِثْيَاس» والد جندي من الجنود الفارسيين الذين خدموا في كتيبة الفرسان في فلسطين، وهذا محل للعجب والتأمل!
وفيما بعد؛ أي في عهد أنطيوخس أففانس، مثَّل أولاد «طوبيا» دورًا ذا خطر في عراك الأحزاب في أورشليم، وقد تحصن أحدهم سنة ١٨٣ق.م، في قلعة جبلية في الأقاليم «العَمَّانية»، وفي مفاوز جبال ما وراء الأردن ومنعرجاتها، مغاور نحتت في الصخر، تصلح لأن تتخذ قلاعًا وحصونًا منيعة. فكان لهم فيها حظائر تسع أكثر من مائة رأس من رءوس الخيل، وقد حفر على مدخل أحدها اسم «طوبيا» بحروف عبرية لا تزال مقروءة حتى اليوم.
•••
تمخضت الأيام في قورنيا عن حوادث جديدة في السنين الأخيرة من حكم بطلميوس الثاني. ولا ريبة في أن هذه الحوادث كانت ذات علاقة بمجرى الأحوال في بقاع أخر: في مقدونيا وإغريقية، وفي بحر أَيْغا، والأملاك السَّلُوقية. ولكن الحكم على طبيعة هذه العلاقات أمر لا مفر فيه من التخمين المشوب بكثير من الشك، ذلك بأن تاريخ الحوادث التي نقيم عليها وجوه الرأي، فرضيٌّ صرفٌ.
كان «مَاغَاس» قد كبر واكتنز لحمًا صيَّره مضرب المثل، فلما مات بعد أن سلخ خمسين عامًا يحكم قورينا، قضى منها عهدًا عاملًا وعهدًا ملكًا، ترك وراءه أرملة هي الأميرة السَّلوقية «أفاما» وابنة سميت «برنيقية» على اسم جدتها من ناحية، وعلى اسم ابنة عمها من ناحية أخرى. وكان ذلك سنة ٢٥٩-٢٥٨ق.م واستطاع قبيل موته أن يتفاهم مع أخيه من أمه — ملك مصر — على أن يتزوج ابنته ووريثته «برنيقية» من ابن بطلميوس ولي عهد المملكة المصرية، وبذلك تسنح الفرصة التي تعود بها العلاقة فتتوثق بين مصر وقورينا. ولكن حدث بعد موته أن أرسلت زوجته «أفامَا» إلى مقدُونيا، وكانت بطبعها أميل إلى الاتفاق القائم بين سورية ومقدُونيَا منها إلى مصر، باحثةً عن زوج لبرنيقية في تلك الأصقاع، فوقعت على «دمطريوس الجميل» وكان أخًا «لأنطيغونس غوناطس» من أبيه، وابن إفطولمايس أخت بطلميوس من أبيه. وكان مفرط الجمال، حتى إن «أفاما» لم تقوَ بمجرد أن هبط قُورينا على أن تتردد في أن تزوج ابنتها منه. وأصبح زوج برنيقية في الرسميات، وخليل «أفَامَا» في الواقع.
وكانت «أفاما» من حيث الجرأة والإقدام على تحقيق شهواتها ومطامعها غير أوليائكن الأميرات المقدونيات المرهبات، اللواتي نصادفهن الواحدة بعد الأخرى في سياق تاريخ البطالمة. ولكن «برنيقية» — وهي صبية لم تتخطَّ دور المراهقة بعد — كانت أميرة مقدونية، فأنفت أن تركب هذا المركب، وائتمرت ورجال الحرس الملكي، وقُتل «دمطريوس» في مخدع أمها، وأشرفت بنفسها على تنفيذ المؤامرة، وراقبت حوادثها؛ لتنقذ حياة أمها، بعد أن تثق من مقتل «دمطريوس». ولقد قال الشاعر «قليماخوس» الذي عرف برنيقية فيما بعد، عندما صارت ملكة مصر: إنها على الرغم من طفولتها قد عبرت بعملها أبين تعبير عن روح السلالة التي انحدرت منها.
ولم يبقَ أمام «بَرَنيقية» من حائل يمنعها من أن تتزوج من ابن عمها الأكبر؛ بطلميوس الصغير، تنفيذًا لاتفاق أبيها مع عمها بطلميوس الثاني، فتحقق بذلك أمنيتها وتصبح ملكة مصر. ومع هذا، فإن زواج برنيقية من بطلميوس «أورغيطس» لم يتحقق إلا عشية زحفه على رأس جيشه؛ ليشهد الحرب في سورية سنة ٢٤٥.
أما «مَهَفي» فيفرض أنه ظل حاكمًا على قورينا من سنة ٢٥٩-٢٥٨، حتى مصرع أبيه، وإنه ليصعب أن نعلل — مع قبول هذا الفرض — السبب في أن يتأخر زواجه من برنيقية ثلاثة عشر عامًا. ولئن كان هذا الفرض ضروريًّا لنخلق من «أورغيطس» ذلك الملك الخفي، الذي أُشرك في الملك من سنة ٢٦٦ إلى سنة ٢٥٨، فإن هذه الحقيقة تحول دون ذلك.
أما مدى حياة هذا الاتحاد، وما وقع أثناءه للملكة الصغيرة، فأمران غامضان. ويفرض «بوشيه لكلار» أن بطلميوس الثاني أعاد فتح برقة قبل موته، بدليل أن نقش «أدوليس» يروي أن «ليبيا» كانت إحدى البلاد التي ورثها بطلميوس الثالث لا إحدى البلاد التي جناها، ويرى «تَارْن» أن هذا الاتحاد ظل قائمًا حتى حكم بطلميوس الثالث؛ لأنه لم ينتحل اسم «أورغيطس» إلا في السنة الخامسة من حكمه، ولا يبعد أن يكون إضفاء هذا الاسم عليه، راجعًا إلى إعادة بلاد برقة إلى حكمه. غير أن هذا ليس أكثر من تحسس في الظلام، على ما يقول بوشيه لكلار؛ لأن انتحال اسم أورغيطس لا علاقة له إطلاقًا باسترجاع برقة، والأرجح قول «يِيروم» أنه ذا علاقة بإعادة الأنصاب إلى مصر، ذلك بأن استرجاع جزء من مملكة أبيه كان منفصلًا عنها، إنما يعود نفعه عليه وحده، دون أي من الناس.
ومهما يكن من أمر ذلك، فإن زواج بطلميوس الثالث من برنيقية قد وقع في أيام حكمه، ولا يبعد أن يكون قد وقع قبل موت أبيه. والغالب أن تغيير أسماء ثلاث مدن في برقة قد حصل بعد إعادة فتحها، فسميت «هسبريدس» باسم «برنيقية» وطوخيرا باسم أرسنوية، وبرقة باسم إفطولمايس.
•••
كان الفراعين في الأزمان الأولى يحملون أسلحتهم ضاربين بجيوشهم في البقاع الواقعة جنوبي الشلال الأول، حيث البلاد التي يدعوها الإغريق «أثيوبيا» (بلاد المحروقة وجوههم)، والتي نعرفها الآن باسم السودان. وكان العدد الأكبر من سكان بلاد النوبة ومصر العليا من سلالة تَمتُّ إلى المصريين بسبب، وليسوا من دم الزنوج، ولو أن لقاحًا زنجيًّا كان يجري في عروقهم. ذلك بأن الزنوج الذين كانت تأهل بهم داخلية تلك البلاد، كثيرًا ما كانوا يغيرون على مصر العليا ويختلطون بالأهلين. ولقد أصبحت الثقافة المصرية ثقافة تلك البلاد، أو على الأقل ثقافة البيوت المالكة فيها، وإنك لواجد «هياكل مصرية الطابع» كانت منتشرة إلى ما بعد الموقع الذي تشغله مدينة الخرطوم الآن. ولقد ذكر سير «فلندرزبتري» أن ملوك «أثيوبيا» في خلال القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، قد أخضعوا لصولجانهم مملكة النيل جميعها حتى الدلتا، وأنه لما وقعت مصر تحت نير الحكم الآشوري والحكم الفارسي، كان الفراعين الأثيوبيون وكهنة «آمُن» لا يزالون يمتعون بالحكم والسيادة في أقاليم مصر العليا.
بعد أن ذلل الحكم الفارسي السبيل للحكم الإغريقي، ومحيت مظاهر الملوكية الفرعونية من قصور الإسكندرية وممفيس، كان الملك «نِسْتاس» يحيي في «نباطة» عاصمة الأثيوبيين — وكانت بالقرب من جبل بركل الآن — التقاليدَ الفرعونية. ولم يكن عند البطالمة نفس الرغبة التي كانت تجيش في صدور الفراعين، فتنزع بهم إلى ضم «أثيُوبيا» إلى دولتهم. وكانت نظرتهم كإغريق، إنما تتجه دائمًا من خلال البحر المتوسط صوب الشمال، فقنعوا بأن تنتهي حدودهم عند الشلال الأول ولا تتخطاه إلا قليلًا.
ولقد نَعْرِف أن قوَّات الإسكندر الأول احتلت «إلفنطينية» كما ترك لنا الأغارقة والمقدونيون، الذين عهد إليهم بطلميوس الأول بالدفاع عن المملكة هنالك، بعضًا من أقدم أوراق البردي التي حصلنا عليها. وغير بعيد أن «إِلْفَنْطِينيَة» كانت في ذلك العهد أقصى نقط الحدود الجنوبية، ولكن «ديودورُس» ينبئنا أن بطلميوس الثاني قاد زحفًا من قوات إغريقية، وأمعن في أثيوبيا غزوًا؛ وبذلك فتح أعين الأغارقة على بقاعٍ لا عهد لهم بها من قبل. وقد ترجح أن التطلع إلى الاستكشاف الجغرافي، والرغبة في الحصول على حيوانات غريبة غير معروفة، كانا من الأسباب التي حرَّكت في بطلميوس الرغبة في قيادة ذلك الزحف.
ومهما يكن من أمر ذلك، فليس عندنا ما يؤيد أنه رغب في ضم «أثيوبيا» إلى أملاكه. والغالب أنه بعد موت «نِسْتَاس» سنة ٣٠٨ق.م (على ما يحسب رِسْنَر) انقسمت «أثيوبيا» مملكتين، ونشأت أسرة جديدة اتخذت «فيروبي» (المعروفة الآن باسم يَجْرُويَة وهي على ١٣٠ ميلًا من الخرطوم جنوبًا) مقرًّا لحكمها، موغلة بذلك في أعالي النيل، وكانت هذه الأسرة أقوى من الأسرة التي حكمت في «نَبَاطة»، ولكن هذه استمرت تحكم إلى حين.
وبدأ الأغارقة يضربون في جولاتهم إلى أقاصي الجنوب، ويقال: إن إغريقيًّا اسمه «داليون» كان أول من اخترق تلك الأقاليم إلى جنوبي «فيروبي»، والراجح أن رحلته كانت في أوائل حكم بطلميوس الثاني، ولقد ألف كتابًا عن «أثيوبيا» بقي من بعده.
إلى الملك بطلميوس، سلام وتحية من أرنوفس … حضر الأثيوبيون وحاصروا … وابتنوا دريئة وأنا وأخواي … كمدد حربي … وقاومنا …
يدل أسلوب هذه القصاصة على أنها كتبت في النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد، ولا يبعد أن تكون ذات علاقة بزحف بطلميوس الثاني إلى «أثيُوبيا».
•••
في اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر من نوفمبر سنة ٢٤٧ قبل الميلاد، أُشرك بطلميوس الصغير (بطلميوس الثالث) مع أبيه في الملك، والغالب أنه اضطلع بمهام الملك مذ ذاك.
•••
ربما كان بطلميوس الثاني أقل شبهًا بسليمان الحقيقي منه بسليمان المثالي الذي ذكر في سفر الجامعة، وهو كتاب ألفه يهودي متبرم بالدنيا في عصر لا يبعد كثيرًا عن عصر بطلميوس، فقد قيل: إن بطلميوس كان ملكًا «جمع الذهب والفضة وكنوز الأرض وكنوز الملوك»، تلك التي وهبته «المغنين والمغنيات والمباهج التي يُسَرُّ بها أبناء البشر كالآلات الموسيقية، وكل الأشياء على اختلاف ضروبها … والتي أدخلت الفرح على قلبه وأمتعته باللذائذ … والتي صنعت له أعمالًا عظيمة، وابتنت له القصور … والتي أوزعت قلبه أن يبحث، وأن ينقب بالحكمة عن الأشياء التي تظلُّها السماء.»
كذلك روي أن بطلميوس شعر في النهاية بأن كل هذه الأشياء «باطل الأباطيل»، ولقد خبرنا أنه كان يتطلع ذات يوم من نافذة القصر، إثر أزمة نِقْرِسية شديدة أخذته، فرأى جمهرة من الدهماء وخشاش الناس على حافة قناة يأكلون كِسَر الخبز التي جمعوها، ويفترشون الرمال الدافئة مضطجعين، فتأوَّه متبرمًا وفي نفسه مرارة، ونعى الدنيا إذ شق عليه أنه لم يكن أحدهم.
وقد تكون هذه القصة مكذوبة، كالكلمات التي ينسبها كاتب سفر الجامعة إلى سليمان، ولكن في كلتا القصتين يختار كاتب متخيل مَلِكًا بين يديه مُلك الأرض جميعًا، ولا ينقصه من مطالب العقل أو القلب شيء؛ ليقرأ على الناس من صفحة حياته، مثلًا من غرور الدنيا.
واعتمادًا على العبارة التي وصلت ديودورس عن ديانة المصريين (وقد نقلها هذا عن هقطاوس Hecatæus) قيل: إن روح أوزيريس حلت في ثور، وأنها ظلت تنتقل من ثور إلى ثور، منحدرة بذلك من الأسلاف إلى الأخلاف، ولا شك في أن هذه العبارة — على ما يقول الأستاذ بيفن — هي التي حملت الشاعر ملتن الإنكليزي على أن يدعو الثور «أوزيروس» فيقول: