سيد المولدات الكهربائية
كان اسم مَسئول مَحَطَّة الكَهرباء ذات المُولِّداتِ الثَّلاثةِ التي تَطِنُّ وتُقَعقِع لتُغَذِّيَ القِطارَ الكهربائيَّ في مدينة كمبَروِل هو جيمس هُولرُويد من مُقاطَعة يوركشير. كان فَنِّيَّ كَهرباء، فَظَّ الطِّباع، شَدِيدَ حُمرة الشَّعر، أعوج الأسنان، ذا نزعةٍ عملية، لكنه مولَعٌ باحتساء الوِيسكِي. كان يشكُّ في وجودِ إله، لَكِنَّه مُسَلِّمٌ بنَظَرية دَورة كارنو الفِيزيائية، كما قَرأ لشِكسبِير واكتَشَف أنَّه لا يَفقَه شَيئًا في الكِيمياء. أمَّا مُساعِدُه فقد قَدِم من بلاد الشَّرقِ الغامِضة؛ كان اسمه أزُوما-زِي، لكن هُولرُويد أطلق عليه اسم بُوو-با. راق ذلك الزِّنجِيُّ لهُولرُويد؛ لأنَّه كان يَتَحَمَّلُ الرَّكل — وهو إحدى عادات هُولرُويد — ولا يَستَطلِعُ الآلاتِ مُتَطفِّلًا ليَعرِف كيفيةَ عَمَلِها. تَمتَّعَ عقلُ هذا الزِّنجِيِّ بقدراتٍ غريبةٍ معينةٍ اتصلَت على نحوٍ غيرِ متوقعٍ بأسمَى ما وصلتْ إليه حضارتُنا؛ لم يَفهَم هُولرُويد طبيعةَ هذه القُدراتِ فَهمًا كاملًا قَط، لكِنَّه اطَّلَع على لَمحةٍ مِنها في النِّهاية.
كان وَصفُ أزُوما-زِي خارجَ حدودِ عِلم الأعراقِ البَشَرية. كان في ظَنِّي أقربَ إلى العِرْق الزِّنجِيِّ من أيِّ شيءٍ آخر، مع أنَّ شَعرَه كان مَعقُوصًا لا مُجَعَّدًا، وكان ذا أنفٍ أفطَس. أضِفْ إلى ذلك أن بَشَرَتَه كانت بُنِّيةَ اللون لا سَوداء، وبَياضُ عينَيهِ ذا صُفرة، وأَضْفَتْ عِظامُ وَجَنَتَيه العَرِيضة وذقنِه المُدَبَّبِ على وَجهِه شيئًا من سَحَناتِ الأفاعِي. كان رأسُه عريضًا هو الآخر لكن من مُؤخَّره، ومُنخَفِضًا وأقلَّ عَرْضًا عند الجَبهة، كما لو أنَّ دِماغَه قد لُوِيَت لتَصِير عَكسَ دِماغ الأُوروبِّي. اتسم أزُوما-زِي بقِصَر القامة وعِيِّ لسانه الإنجليزي؛ فقد حَفلتْ محادثاتُه بالعديد من الأصواتِ الغريبة التي لا مَعنَى لها ولا قِيمة، حتى لَيخيلُ إليك أن كلماتِه القليلةَ قد تجسَّدتْ في هيئة صُورٍ بشعةِ المنظرِ تُنذِرُ بالشؤم. حاول هُولرُويد أن يُفَسِّرَ مُعتَقَداتِه الدِّينِيةَ له، وأن يُحَذِّرَه واعِظًا، بالأخَصِّ بعد أن يَشرَبَ الوِيسكي، من الخُرافات والمُبَشِّرِين، إلا أنَّ أزُوما-زِي كان يَتَهَرَّبُ من أيِّ نقاشٍ حَولَ آلهته، رغم ما كان يَلقَى جرَّاء ذلك من الرَّكل.
أتى أزُوما-زِي إلى لندن في ثيابٍ بَيضاءَ رثَّة، قادمًا من مُستَعمَرات المَضِيق وما وراءها؛ حيث كان يَعملُ وَقَّادًا على متنِ باخِرة اللورد كلايف. سَمِع في شَبابِه عن عَظَمة لندن وثَرائِها وتَرَفِها؛ حَيثُ كلُّ النِّساءِ بِيضٌ حِسان، حتَّى المُتَسوِّلون في الطُّرُقات بِيضُ البشَرةِ. وَصَل، وفي جَيبِه عُملاتٌ ذَهبِية اكتَسبَها مُؤخَّرًا، ليَتعبَّدَ في ضَريحِ الحَضارة والتَّمَدُّن. كان اليوم الذي رَسَت فيه سَفِينَتُه يومًا كئيبًا؛ كانت السَّماءُ قاتمةً، وأسقط طَلٌّ دَفَعتْه الرِّياحُ رَذاذًا على شَوارعِ لندن الزَّلِقة، ومع ذلك انغَمَس في مَلذَّات شادوِل انغِماسًا جَريئًا. كان أزُوما-زِي قد حَطَّ رِحالَه لتوِّه على الشَّاطئِ، مُنهَكَ القُوى، مُتمدِّنًا في ثِيابِه، مُفلِسًا، أشَبَه بحيوانٍ أبلَه، فيما عَدا ما يخصُّ ضَرُوراتِ الحياة الأساسِيةَ، ليعمَل كادِحًا تحت إِمرة جِيمس هُولرُويد ويتَعَرَّضَ لتَنَمُّرِه في سقيفة المُولِّدات الكَهربائية بكمبَروِل. أمَّا بالنسبة إلى جِيمس هُولرُويد، فإن التنمُّرَ كان ضَربًا من ضُرُوب الاستِمتاع.
يُوجَد في كمبَروِل من تلك المُولِّدات ثَلاثةٌ، ولكُلِّ مُوَلِّدٍ مُحَرِّكٌ خاص. كان المُولِّدان اللذان يَعمَلان مُنذُ إنشاء المَحَطَّة صَغيرَين، أمَّا المُولِّد الكبير فكان جَديدًا. كانت الآلتان الصغيرتان تُصدِران قدْرًا لا بأس به من الضَّوضاء؛ فسُيورُهما تَطِنُّ فوق أُسطواناتهما الدوَّارة، وفُرَشُ التَّوصِيلِ تَئِزُّ من وقتٍ لآخَرَ، فيَضطرِبُ الهَواءُ ويهتاجُ ووف! ووف! ووف! بين قُطبَي المَراكِم. كانت إحدى الآلتَين ذاتَ قاعِدةٍ غيرِ مُحكَمةٍ ومُرتَخِية؛ فكانت تُبقِي السقيفة في حالة اهتِزازٍ دائِم. لكنَّ المُولِّد الكبير طغى على كُلِّ تلك الضَّوضاءِ الخافِتة بأزيز لُبِّه الحَدِيدي الذي لا يَنقَطِع، والذي كان بطَريقةٍ ما مُختَلِفًا عن أزيز المصنوعات الحديدية. كان المَكان يُصِيب مَن يزوره بالدُّوار نَتِيجةً لخَفَقان المُحرِّكات وارتِجافها، ودَوَران الدَّوالِيب الكبيرة، والتِفاف الصِّمامات الكُرَوية، ونَفَثان البُخار المتقطع، وفوق كلِّ ذلك، النَّغمة العَميقة والعَرِمة التي لا تَنقَطِعُ للمُوَلِّد الكبير، التي كانت تُعَدُّ خَلَلًا من وِجهة نَظرٍ هَندَسِية، لكن أزُوما-زِي عَدَّها أمارةَ جَبَروتِ ذلك الوَحشِ وكبريائه.
لو كان بوسعي لجعلتُ القُرَّاءَ مُحاطِين على الدَّوام بضَوضاءِ تلك السقيفة بينما هُم مُستَرسِلون في القراءة؛ فجَميعُ أحداثِ قِصَّتِنا هذه تُصاحِبُها تلك الضَّوضاء، التي كانت تَيَّارًا مُستَمِرًّا من القَرقَعة والجَلجَلة؛ تَسمَعُه الأذُنُ فتَلتَقطُ أوَّلَ خُيوطِه ثُم خَيطًا آخرَ ثُم الذي يليه وهكذا، ويتخلَّلُه صوتٌ متقطِّع لنَخِيرِ المحركات البخارية وخَفَقانها وفَورانها، وصَوتُ سَحْبِ مكابسها وارتِطامها، والطرقات الرَّتِيبة التي تتعالى في الهواء كلَّما لَفَّ أحدُ أشِعة الدَّوالِيب، والنَّغمة التي تُصدِرها السيور الجِلدِية وهي تُشَدُّ وتُرخَى وسطَ ضَجِيجِ المُولِّدات المضطرب. وفوق كل ذلك، كان هناك صوتٌ غيرُ مَسموعٍ أحيانًا، كأنَّ الأُذنَ قد سَئِمَتْه، ثُم في أحايِينَ أخرى يَتسلَّلُ عائدًا ليُخيِّمَ على الحَواسِّ من جديد؛ كان هذا الصوتُ هو صوتَ الآلةِ الكبيرة الذي يُشبه نَفِيخَ البُوق. لم يَشعُرِ الواقِفُ أبدًا أنَّ الأرض من تحت قَدَمَيه ثابِتةٌ وساكِنة، بَل دائمًا ما تَرتَجِف وتَهتَز. كان مكانًا مُربِكًا ومُقلقَلًا بما يَكفِي ليُهيِّجَ أفكار أيِّ إنسانٍ فتقفز إلى عالَمٍ غَريبٍ من الخُطوطِ المُتَعرِّجة. وطَوال ثَلاثةِ أشهر، بينما كان الإضرابُ الكبير للمُهندِسِين ساريًا، لم يَخرُج هُولرُويد — الذي كان أحدَ مُفسِدِي الإضراب — ولا أزُوما-زِي، الذي كان مجرَّدَ شخصٍ أسودِ اللون، قَط من اضطرابِ تلك الضَّوضاء ودَوَّاماتِها؛ إذ كانا يَأكلان ويَنامان في كوخٍ خَشَبِي صَغِير يقَع بين السقيفة والبَوَّابات.
ألقَى هُولرُويد خُطبةً لاهوتِية بشَأن آلتِه الكبيرة على مَسامِع أزُوما-زِي عَقِبَ وُصُولِه. كان عَليه أن يصرُخَ ليُسمَع كلامُه وسط طَنِينِ الضَّوضاء وقَرقَعَتها. قال هُولرُويد: «انظر هُنالِك! أين صَنَمُك الوَثَنِيُّ ليَقِفَ نِدًّا لها؟» نَظَر أزُوما-زِي إلى حيث أشار. لِلحَظاتٍ، كان كلامُ هُولرُويد غيرَ مَسموعٍ، ثمَّ سَمِع أزُوما-زِي جُمَلًا مُتناثِرة مِمَّا قاله هُولرُويد: «إنها قادرةٌ على قتْل مائة رجل. ما يُعادِل اثنتَي عشرة بالمائة، من حَمَلة الأسهُم العادية، وهي أشبهُ بالإله!»
كان هُولرُويد فخورًا بمُوَلِّدِه الكبير؛ فَأسَهَب في التَّغَنِّي بَضَخامَتِه وقوَّتِه أمام أزُوما-زِي، واللهُ وَحَده يَعلَمُ ما الذي فَعلَته هذه الأفكارُ الشَّاذَّة وذلك الدَّوَرانُ والصَّخَب السَّرمَديُّ بتلك الجُمجُمة السَّوداء ذاتِ الشَّعر المَعقُوص. كان يَشرَح له بكلِّ وضوحٍ وتفصيل عشراتِ الطُّرُق التي يُمكن للمُوَلِّد أن يَصعَق بها رجلًا ويَصرَعَه، وذات مرةٍ، عرَّض هُولرُويد أزُوما-زِي لصَعقةٍ كي يضرب مثالًا على قُوة المُولِّد، ما انفَكَّ أزُوما-زِي بعدها عن الجلوس في أوقات راحته من العمل — ويا له من عملٍ مُضْن! فلم يكن يُؤدِّي مَهامَّه فحسب، بل مُعظَم مَهامِّ هُولرُويد أيضًا — أمام الآلة الضَّخمة والتَّحدِيق بها. كانت فُرَشُ التَّوصِيل تَقدَح بين الفَينة والأخرى شَرَرًا ذا وميضٍ أزرقَ يُغضِب هُولرُويد، فينهمر منه السِّباب واللَّعَنات، ولكن فيما عَدا ذلك كان كُلُّ شيءٍ سَلِسًا ومنتظمًا كما التَّنَفُّس. كان السَّيرُ يَدور حول عمود المحور في جَلَبة، وتتعالَى خلفَ مَن يقفُ مُشاهِدًا أصوات سَحب المِكبَس وارتِطامه المُوحِية باللامبالاة. وهكذا كانت تَقبَعُ الآلةُ اليومَ بطوله في تلك السقيفة الكبيرةِ الواسِعة بصُحبَتِه هو وهُولرُويد ساهِرَين على خدمتها، ولكنها لم تكن تَقبعُ كَسَجِينٍ مُستَعبَد لتوليد الطاقة المُحرِّكة لسَفِينةٍ كغيرها من المُحرِّكات التي عَرفها — مُجَرَّد مسوخٍ ميكانيكيةٍ مستعبدةٍ لدى الإمبراطورية البريطانية — بَل كانت ملكةً مُتَوَّجة على عَرشِ الآلات. كان أزُوما-زِي يمقُت المُولِّدَين الصَّغِيرَين تحت تَأثِيرِ قوةِ التَّبايُن، أمَّا المُولِّد الكبير فقد خلع عليه سرًّا لقبَ سيد المُولِّدات. كان المُولِّدان الصغيران يعملان بطريقةٍ متقطعة وغيرِ منتظمة، أمَّا المُولِّد الكبير فكان مُطَّرِدًا ومُنتَظِمًا في عمله. كم كان عظيمًا! كم كان أداؤه سَلِسًا وباعثًا على السكينة! لقد كان أعظمَ من تماثيلِ بُوذا التي رآها في رَنجُون، وأشدَّ منها هدوءًا، غير أنَّ هذا المُولِّدَ الكبير ليس جامِدًا مِثلها؛ بل تَدِبُّ فيه الحياة دَبًّا! كانت لفائفُ الإشعال السَّوداء الضَّخمة تَدُور وتَدور وتَدور، وحَلَقاتُها تَلُفُّ من تَحت فُرَشِ التَّوصِيل، ونَغمَتُها العَمِيقة مُنتَظِمةٌ لا تَشُوبُها شائبة؛ كانت تُؤثِّر في أزُوما-زِي تأثيرًا غريبًا.
لم يكن أزُوما-زِي مولَعًا بالعَمَل. حين كان هُولرُويد يَذهَب إلى حارس الفِناء ليُقنِعَه بجَلبِ الوِيسكي له، كان أزُوما-زِي ينتهزُ الفرصةَ فيجلس في حضرة سيد المولدات رانيًا، مع أنَّ مكانَ عمَلِه لم يكن في سَقِيفة المُولِّدات، بَل خلفَ المُحرِّكات؛ لذلك كان هُولرُويد يوسِعُه ضَرْبًا بقَضِيبٍ من أسلاك النُّحاس الغليظة إذا أمسَكَه مُتَسَلِّلًا إلى السَّقِيفة. ومع ذلك كان يَذهب إلى هناك ويَقفُ قُربَ صنمِه الضَّخم ويُطالِع السَّيرَ الجِلدِيَّ وهو يَدُور في الأعلى. كانت على ذلك السَّيرِ رُقعةٌ سَوداء، وكانت مُراقَبتها وَسط كل هذه القَعقَعة وهي ترجع كرَّةً بعد أخرى كُلَّما لَفَّ الحِزامُ ودار تَغمُرُه بالسَّعادة على نَحوٍ ما؛ كانت الأفكارُ الغَرِيبة تَدور في رأسه كلَّما دارت تلك الرُّقْعة. يُخبِرنُا العُلماء أنَّ الأجلاف يخلعون الحَياة على الحَجَر والشَّجَر، ولا شك أن الآلاتِ تفوقُ الأحجارَ والأشجار حيويةً ألف مرة، وكان طابع الأجلاف ما يزال يغلُب على أزُومازِي؛ فلَم يَنَل مِن التَّحَضُّرِ أكثَرَ من قِشرةٍ خارجية متمثلة في ثياب البَحرِ التي يرتديها، وبعض الرُّضُوضِ والكَدَمات، والشَّحم الذي يُلطِّخُ وَجهَه ويَدَيه. عَبَدَ أبوه قَبلَه حَجَرًا نَيزَكِيًّا، ولعل دماءه تناثرت على العجلات الكبيرة للعربة التي تحمل صنم الإله جوجرنوت حينما ألقى بنفسه أمامها قربانًا له.
انتَهَز أزُوما-زِي جَمِيع الفُرَص التي أتاحها له هُولرُويد كي يَلمسَ ذلك المُولِّدَ الكبيرَ الذي افتُتِن به ويتعامل معه، ودَأب على تنظيفه وتلميعه حتَّى تَبرُقَ أجزاؤه الحَديدِية تحت ضوء الشَّمس بَريقًا يخطف الأبصار. وبينما كان يؤدي تلك المهام، كان يراوده شعورٌ مُبهَمٌ؛ وكأنَّه يُقِيمُ قُدَّاسًا. كان يَعتَلِي المولِّدَ الكبير فيَتحسَّسُ لَفائفَ الإشعال الدَّوَّارة برفق؛ فمَن عبدَهم من الآلهة قبل ذلك كانوا جميعًا بَعيدِين، والنَّاسُ في لَندَن كانوا يُخفُون آلهَتَهُم.
وأخيرًا، تبلورت مَشاعِرُه الباهِتة وازدادت وضوحًا، وتجسَّدَت على هيئة أفكارٍ ثم أفعالٍ في نهاية المطاف. قَدِم في صَبِيحة يومٍ ما إلى السَّقيفة الهادِرة، فدَخَل وألقى السَّلام على سيد المُولِّدات، وعندما خَرج هُولرُويد ذهب وناجَى الآلةَ الرَّاعِدة مخبرًا إياها أنه عبْدُها ودَعاها أن تَرحَمَه وتُخَلِّصَه من هُولرُويد. وبينما هو مُنهمكٌ في مناجاته، تَسلَّلَ بَريقٌ رَقيقٌ عبرَ المدخل المقنطر لتِلك السَّقِيفة النَّابِضة، فتألَّق سيدُ المُولِّدات، وهو يَلُفُّ ويَزأرُ، غارقًا في ضوءٍ ذَهَبِيٍّ شاحِب. حينَها عَلِم أزُوما-زِي أن رَبَّه قد قَبِلَ صلاتَه. لم يَشعرْ بعد ذلك بتلك الوَحدة التي كان يُعانيها من قَبلُ، وقد كان بلا شَكٍّ يعاني فِي لَندَن وَحدةً قاتِلة. بل إنه كان يَحُوم ويَتَسكَّعُ حَول السَّقِيفة، بعد أن تَنتَهِيَ ساعاتُ عَمَله، التي لا تَنتَهِي إلا نادِرًا.
في المَرَّة التَّالِية التي أغلَظ له هُولرُويد فيها القَولَ وعامَله مُعامَلةً فَظَّة، لجَأ أزُوما-زِي إلى ربِّه وناجاه هامسًا: «أنت شاهِدٌ على ذلك، يا إلهي!» ثمَّ خُيِّل له أنَّ أزِيزَ الآلةِ الغاضِب هو جوابُ ربِّه. بدا له بعد ذلك أنَّه كُلَّما دَخل هُولرُويد إلى السَّقِيفة، برزت نَغمةٌ مُختَلِفة في ضَوضاء المُولِّد. هَمَس أزُوما-زِي مُحَدِّثًا نفسَه قائلًا: «إنَّ إلهي مُتَربِّصٌ به؛ فَلم يُبالِغ الظَّالِمُ في شَطَطِه بَعدُ!» وظَلَّ يترقَّب ويَنتَظِر يوم الحِساب. في يومٍ من الأيام، كانت هناك دلائلُ لحدوثِ عُطلٍ كهربائي، وكان هُولرُويد يفحص الأمر وَقتَ الظَّهِيرة بتَهَوُّرٍ وقِلَّة حَذَر، فنَالَته صَعقةٌ عَنِيفة. كان أزُوما-زِي يُشاهِد من وَراء المُحرِّك، فرآه ينتَفِض فَزِعًا ويَنهال باللَّعَنَاتِ على لَفائف الإشعال الآثِمة تلك.
قال أزُوما-زِي في قرارة نفسه: «لقد حُذِّر وأُنذِر؛ إنَّ إلهي لصَبُور!»
في البِداية لَقَّنَ هُولرُويد زِنجِيَّه عدَّةَ مفاهِيمَ أساسِية حول آلِيَّة عَمل المُولِّد بما يَكفِي ليحُلَّ محلَّه مؤقتًا حين يَغِيبُ، ولكن ساوَره الشَّكُ عندما لاحظ سلوكَ أزُوما-زِي وهو يحومُ حول المُولِّد الضَّخم. اختَلَج في صدره شعورٌ خافِت بأن مُساعِدَه الزِّنجِيَّ «يحيك» شيئًا ما، ثمَّ رَبَط بينه وبين ما حَدث من دِهانِ لفائفِ الإشعالِ بالزَّيتِ مَمَّا أفسَد الطِّلاءَ العازِل لجزءٍ من الأجزاء، فأصدَرَ قرارًا؛ صَرَخ صُراخًا طغى على ضوضاء الآلة، وقال: «إيَّاكَ أن تقتَربَ من ذلك المُولِّدِ الكبير بعد الآن يا بُوو-با، وإلا فسَأسلُخُ جِلدَك!» ثمَّ ما دام البَقاءُ قُربَ الآلةِ الكبيرة يُسعِدُ أزُوما-زِي، فمن البَديهِي إذن ومن حُسنِ التَّصَرُّفِ أن نُبقِيَه بعيدًا عنها.
أطاعه أزُوما-زِي حينها، لكنه شُوهد بعدها راكِعًا أمام سيدِ المُولِّدات، وبَينَما همَّ بالفِرار، أمسك هُولرُويد ذراعَه ولَواها ثمَّ رَكلَه. سرعان ما هَرَب أزُوما-زِي ليَقفَ خلفَ المُحرِّكِ مُحدِّقًا في ظهر هُولرُويد البَغِيض، والشَّرَرُ يتطايرُ من عَينَيه، وعندها تَغَيَّر إيقاعُ الضَّوضاء الصادرة من الآلة واتخذ نغمةً جديدة بدتْ كأنها أربَعُ كلماتٍ يعَرفُهُنَّ في لُغَتِه الأُم.
من الصعوبة بمكان أن نُعطي تعريفًا دقيقًا للجنون، لَكنِّي أتصور أنَّ أزُوما-زِي كان مجنونًا. لرُبَّما كان لِضجيج السَّقيفة ودورانها غيرِ المنقطعَين أثرٌ على مَركز المَعرِفة الضَّئيل في دماغه ومركزِ الخُرافات الضَّخم فاختَلَطا معًا ليَمَسَّه شيءٌ من الجنونٍ في نهاية المطاف. وأيًّا ما كان، عندما وَسوَستْ إليه نَفسُه بفِكرة تَقدِيم هُولرُويد قُربانًا لسيد المُولِّدات، اعتَرَته حالةٌ غَريبةٌ من الانتشاء.
في تلك الليلة، لم يَكن يُرافق الرجلَين في السقيفة سوى ظلهما القاتِم، وكانت السَّقيفةُ مُضاءةً بنُورِ مِصباحٍ قَوسِيٍّ كبير يومِضُ ويَخفِقُ بلونٍ أرجواني، وكانت الظِّلال السَّوداء جاثمةً خَلف المُولِّدات، وكُراتُ تنظيمِ سُرعة المُحرِّكات تروحُ وتجيء في دورانها بين الظلمة والنُّور، كما كانت المَكابِس تَخفِقُ خَفقانًا هادرًا ومطَّردًا. بدا العالَمُ في الخارج كما يُرَى من نهاية السَّقِيفة المفتوحة بَعيدًا وباهِتًا، والصَّمتُ مُطبِقًا؛ فقد أَسكَتَت ضَجَّةُ الآلات ما دونها من أصواتٍ خارجية. تَرى هُنالِك السِّياجَ الأَسود للفِناء وخَلفه مَنازلُ رَماديةٌ تكسُوها الظِّلال، ومن فَوقِها تجثمُ السَّماء الزَّرقاء بَعِيدة الأغوار تَملؤها النُّجُومُ الشَّاحِبات. عَبَر أزُوما-زِي فجأةً من مُنتَصَف السَّقِيفة حيث تعلُوها السيور الجِلدية الدَّوارة متوجِّهًا نحو المُولِّد الكبير ومغمورًا في ظلاله. سمِع هُولرُويد صوتَ نَقِيرٍ تغَيَّرَت على إثِره وَتِيرةُ دَوران قَلب المُحرِّك.
صاح هُولرُويد في عَجَبٍ وقال: «ما الذي تَفعَله بمِفتاح التَّحوِيل؟ ألم أحَذِّرْكَ …»
ثمَّ رأى نَظَراتِ عينَي أزُوما-زِي عندما خَرَج الآسيويُّ من الظِّل ماشِيًا قُبالتَه.
وفِي لحَظاتٍ، كان الرَّجلان يتَصارَعان بضراوة أمام المُولِّد الكبير.
قال هُولرُويد متُحَشرجًا بينما يدٌ بُنِّيةٌ قابضةٌ على عنُقِه: «أيها الغَبِيُّ ذو الوَجهِ الأشدِّ تفحُّمًا من القَهوة! حاذِرْ تِلك الحَلقات المُوَصِّلة للتَّيار!» ثُم ما لَبِث أن تعثَّرَت قَدماه وتَرَنَّحَ جسدُه إلى الخَلفِ فوق سيد المُولِّدات، ثُم سرعان ما أرخَى قَبضَته تلقائيًّا مِن على غَريِمِه ليُحاوِلَ النَّجاةَ من الآلة.
جاء المُفَتِّشُ الذي أُرسِل على عَجَل حانقًا من المحطة ليَقِفَ على ما حَدَث داخل سَقِيفة المُولِّدات وقابَل أزُوما-زِي عِند كُوخِ حارس الفِناء بجانب البَوَّابة. حاول أزُوما-زِي أن يشَرح له، لكنَّ المُفَتِّشَ لم يَفهَمْ شيئًا من إنجليزية هذا الزِّنجِيِّ المُتَهافِتة وأسرَع باتِّجاه السَّقِيفة. كانت الآلاتُ كلُّها تَعمَل في صَخَبٍ وبَدا كلُّ شيءٍ في مَكانِه الصَّحيح. ومع ذَلِك، كانت رائحةٌ غريبةٌ لشَعرٍ مُحتَرقٍ تَفُوح في المكان. ثمَّ رأى المفتشُ كتلةً مكَوَّمةً غريبةَ المنظر ملتصقةً بمُقدِّمة المُولِّد الكبير، وعندما دَنا مِنها، استطاع أن يتعرف على بَقايا جُثَّة هُولرُويد المُشَوَّهة.
حدَّق الرَّجل للحظاتٍ مترددًا، ثمَّ نَظَر إلى الوجه فأغمض عينَيه مختلجًا واستدار قبل أن يفتحَهما لكيلا يَقَعا على جُثَّة هُولرُويد مرةً أخرى، وغادر السَّقِيفة يَنشُدُ النَّصِيحة والمُساعَدة.
عندما رأى أزُوما-زِي هُولرُويد في قَبضة المُولِّد العَظَيم صريعًا، دَهَمَه شيءٌ من الخوف بشأن عَواقِب فَعلَتِه هذه، ومَع ذلك شَعَر أن صَدرَه قد مُلِئ حُبُورًا لم يَعهَدْه، وأيقَن أنَّ فَضَلًا من سيد المُولِّدات قَد أصابَه. كانت خطَّتُه قد اكتَمَلت عِندَما قابَل الرَّجُل المُبعُوث من المَحطَّة، ثمَّ المُدِير العِلمِي الذي وَصل سريعًا إلى مَسرَح الحادِث وخَلص سريعًا إلى التَّفسيرِ البديهيِّ القائل بأنَّ هُولرُويد قد مات مُنتَحِرًا. لَم يكد ذلك الخَبيرُ يلتفت إلى أزُوما-زِي مُطلقًا، اللَّهُمَّ إلا ليَطرح عليه بضعةَ أسئلة. هَل رأي هُولرُويد وهو يَنتَحِر؟ أجاب أزُوما-زِي بأنَّه كان غائبًا عن مسرح الحادث عند فُرنِ المُحرِّك إلى أن لاحَظ تَغَيُّرًا في ضَوضاء المُولِّد. لم يَكن استِجوابًا عَسيرًا كَونَه شخصًا بعيدًا عن الشُّبُهات.
بالنسبة إلى بَقايا جُثَّة هُولرُويد فقد غَطَّاها الحارسُ على عَجَلٍ بمِفرَشِ طاولةٍ مُبَقَّعٍ بالقَهوة، بعد أن أزالها فَنِّيُّ الكَهرباء من الآلة، واستَدعى شَخصٌ ما، بنَفسٍ آمِلةٍ، طَبِيبًا. كان الخَبِيرُ مَهمُومًا باستِعادة عَمل الآلة مرةً أخرى، فلقَد تَوَقَّفَت سَبعةُ أو ثَمانيةُ قِطاراتٍ في منتصف الطَّريق داخِلَ أنفاقِ السِّكة الحَديد الكَهربائية الرديئة التهوية. أما أزُوما-زِي، الذي كان تارةً يُجِيب عن أسئلة الوافدِين إلى السَّقِيفة بحكمِ سُلطاتهم أو بدافعِ الوقاحة وتارةً يُسيءُ فَهمها، فقد أرسَله المُدِيرُ العِلمي في الحال إلى فُرن المُحرِّك. وبِلا رَيبٍ، كان هُنَاك حَشدٌ مُتجَمهِرٌ خارج بَوَّابات الفِناء؛ هذا الحَشدُ الذي دائمًا ما يَحُوم ليومٍ أو يَومين — دون سَبَبٍ مَعروف — بالقرب من مَسرَح أيِّ وفاةٍ مفاجئة تَقَع في لَندَن؛ منهم صحفيَّان أو ثَلاثةٌ تَسَلَّلوا بطريقةٍ ما إلى داخلِ سَقِيفةِ المُحرِّك، بل وَصل أحد الصحفيَّين إلى أزُوما-زِي نفسِه، إلا أنَّ الخَبِيرَ العَلمِي طَرَدَهم خارجًا؛ فهو يعرف تِلك الألاعيبَ جيِّدًا لأنَّه صحفِيٌّ هاوٍ هو الآخر.
سرعان ما حُمِلَت الجُثَّة بعيدًا ورَحَل مَعها فُضُولُ الجُمهور. ظَلَّ أزُوما-زِي هادئًا عند فُرِن المُحرِّك يَرى المَرَّة بَعد الأخرى شيئًا يتَلَوَّى في الفَحمِ أمامه ثمَّ يَسكُن. بَعدَ أن مَرَّت ساعةٌ على جَريمة القَتلِ، عادَت السَّقِيفة في نَظَر أيِّ إنسانٍ يَدخُل إليها تمامًا كما كانَت وكأنَّ شَيئًا لم يَحدثُ فيها. استرقَ الزِّنجِيُّ النَّظَرَ من غُرفَته، غُرفةِ المُحرِّك، فرَأى سيد المُولِّدات يَدور ويَلُفُّ إلى جانب أخَوَيه الصَّغيرَين، والدَّوالِيب تَندَفِع في دَورانِها، وبُخار المَكابِس يعلو مُجلجلًا تمامًا كما كان الحال قَبلًا في المَساء. برغمِ كلِّ ما حدث، كان الحادِث من وِجهةِ نَظَرٍ ميكانيكيةٍ بَحتة أمرًا لا يُعتَدُّ بِه مطلقًا؛ فَما هو إلا انحرافٌ عارضٌ في مَسار التَّيار. لكن حَلَّتِ الآن بِنيةُ المُدِير العِلمِي النَّحِيفة وظِلُّه النَّحِيلُ مَحلَّ جَسد هُولرُويد القوي البنية، وصار يَذرَع المَمَرَّ المُضِيء بين غُرفة المُحرِّكات وسَقِيفة المُولِّدات جِيئةً وذهابًا، ويَخطو على الأرضية المُرتَعِشة تحت وَطأة السُّيور الدَّوَّارة.
قال أزُوما-زِي هامِسًا من مكانه وسط الظِّلال: «ألم أخدمْ سيدي حَقَّ الخِدمة؟» وتعالت نَغمة دَوَران المُولِّد الكبير تامةً واضحة. ولمَّا أمعن النَّظَر إلى أجزاء تِلك الآلة الضَّخمة وهَي تَدور في تَناغُم، وجد فيها سِحرًا غريبًا يأسِرُه؛ ذلك السِّحرُ الذي خبتْ جذوتُه قليلًا منذ أن قُتِل هُولرُويد، ولكنَّه استَعاد بَريقَه من جديد.
لم يَشهَد أزُوما-زِي في حياته رجلًا قُتِل بهذه السرعة وبهذه الدرجة من القسوة؛ فلقد أجهَزَت الآلة الطَّنَّانة الضَّخمة على ضَحيَّتِها دون أن يَتغَيَّر إيقاعُ ضَوضائها ولو لثانيةٍ واحدة. كانت الآلة بلا رَيبٍ إلهًا عَظِيمًا جَبَّارًا.
وقف المُدِير العِلمي شاردَ الذهن وظَهرُه تِجاه أزُوما-زِي وراح يخُطُّ شيئًا على ورقة. كان ظِلُّه مُمتَدًّا عند قَدمِ الوَحشِ الكبير.
«هَل ما زال سيد المُولِّدات تَوَّاقًا لقُربانٍ آخرَ؟ إنَّ خادمَه مُستَعدُ.»
خطا أزُوما-زِي خُطوةً إلى الأمام خِلسةً ثمَّ تَوقَّف. فَجأةً، تَوَقَّف المُدِير العِلمِي عن الكِتابة وتَمَشَّى في السَّقِيفة حتَّى وصل إلى الطَّرَف الأقصى للمُوَلِّدات وأخذ يَفحَصُ الفُرَش.
تَرَدَّد أزُوما-زِي، ثمَّ انسَلَّ في صَمتٍ تامٍّ إلى بُقعةِ ظِلٍّ بجانبِ مِفتاح التَّحوِيل، وانتَظر هُناك. سرعان ما سَمِع صوتَ خَطَوات المُدِير عائدةً، ثمَّ تَوقَّف في مكانه السَّابِق غافِلًا عن ذلك الوَقَّادَ الذي يَربِضُ في الظِّلِّ على بُعد عشرة أقدامٍ منه. أصدر المُولِّدُ الكبير أزيزًا مفاجئًا، وفي اللحظة التالية انقضَّ أزُوما-زِي من تحت جُنحِ الظَّلام واثِبًا على المُدِير.
في البِداية، التفَّتْ ذِراعا أزُوما-زِي حول جَسَد المُدِير العِلمِي دافعًا إياه إلى الأمام باتِّجاه المُولِّدِ الكبير في تَرَنُّح، فأخَذ المُدِيرُ يَرفُسُ برُكبتَيه جاذبًا رأسَ مُهاجِمِه إلى أسفلَ حتى استَطاع أن يُرخِيَ قَبضَتَه حول خَصرِه وانتَفَض مُبتَعِدًا عن الآلة، لكنَّ الزِّنجِيَّ هاجمه مرةً أخرى واضعًا رأسَه ذا الشَّعر المَعقُوص في مواجهة صَدرِه، وظلَّا يترنَّحان ويَلهَثان مدةً طويلة، ثمَّ لم يَجد المُديرُ العِلمِي بُدًّا من أن يُطبِقَ أسنانَه على إحدى أُذُنَي الزنجي السوداوَين وعَضَّ عليها بشَراسة، فصَرَخ الزِّنجِيُّ صُراخًا مُروِّعًا.
وَقَعا على الأرض وتَدَحرَجا، وإذا بالزِّنجِيِّ — الذي تساءل المُدِير حينها كيف تَمَلَّصَ ونهض، أيكون قد أفلَت أُذُنَه من بين فَكَّيه المُطبَقَين أم ضَحَّى بنِصف أُذنٍ ليُحَرِّر نفسَه؟ — يحاول أن يَخنُقَه. بذل المُدِيرُ بعضَ المحاولات غير المجدية لكي يلتقطَ شيئًا يُدافعُ به عن حياته حين سُمِعَ صَوتٌ مبشِّرٌ بالنجاة وهو قَرْعُ نِعالٍ مُسرِعةٍ على الأرض. أفلَتَه أزُوما-زِي من فَورِه وألقى بنَفسِه في أحضان المُولِّد الكبير الذي أصدَر بَقبقةً وسَط زَئيره الهادِر.
تَسَمَّر أحد مسئولي الشَّرِكة، الذي دَخل عَلَيهِما لتَوِّه، مُحَدِّقًا في أزُوما-زِي وهو مُمسِكٌ بالأسَلاك المَكشُوفة بيَدَيه. انتَفَض جَسَد أزُوما-زِي انتِفاضةً واحدة مُرعِبة، ثم خَرَّتْ جُثَّتُه هامِدةً متدليةً من الآلة. كان وَجهُه مُشوَّهًا على نحوٍ فظيع.
قال المُدِير العِلمِي وهو ما زال جالسًا على الأرض: «كم أنا سَعِيدٌ بقُدُومكَ في هذا التَّوقِيت!»
نَظَر إلى الجُثَّةِ التي كانت ما تَزال تَرتَجِف.
«ليست مِيتةً رحيمة كما هو واضحٌ، لكنَّها سَرِيعة.»
كان المسئول ما زال يُحدِّق في الجُثَّة؛ فقد كان رجلًا بطيء الفَهم.
ثمَّ ساد الصَّمت.
نَهَض المُدِير العِلمي واقِفًا وهو مُحرَجٌ بعضَ الشيء، ثمَّ مَرَّر أصابِعه بعِنايةٍ على طول ياقة قَمِيصِه ليُسَوِّيَها، وحَرَّك رَأسَه إلى الأمام والخَلف عِدَّة مراتٍ.
«يا لهُولرُويد المِسكِين! لقد فَهِمتُ الآن.» ثمَّ ذهَب بطَريقةٍ تكادُ تكون آليةً باتِّجاه مِفتاح التَّحويل القابِع في الظِّل ليُعيدَ التيَّار الكَهربائي إلى دائرة السِّكة الحَدِيدية مَرةً أخرى. وعندما عاد التيَّار، أَرختِ الجُثَّة المحروقة قَبضتَها مَن على الآلة وسَقَطَت مُكبَّةً على وجهها. زَأر لُبُّ المُولِّدِ زَئيرًا عاليًا صافيًا وأخذ يَخفِق ضاربًا الهَواءَ من حَولِه.
وهكَذا وُئِدت عِبادةُ المُولِّد في مَهْدِها. رُبَّما كانت أقصرَ الديانات عُمُرًا، ومع ذلك فَلَها أن تَفتَخِرَ باثنَين؛ قُربانٍ بَشَريٍّ قُدِّم لها، وخادِمٍ مُخلِصٍ استُشهِد في سَبِيلها.