سجن العمر
١
لم يرني والدي يوم ولدت … كان مُتغيبًا في عمله بعيدًا، في بلدة صغيرة من بلاد الريف … كان وقتئذ وكيلًا لنيابة مركز «السنطة»، فترك والدتي تذهب لتلدني في بلدها «الإسكندرية» حيث تتوفَّر لها العناية الصحية. وهناك … في هذا الثغر، وفي حي «محرم بك» بمنزل أختها الكبرى هبطْتُ إلى الدنيا … وقد بعث زوجُ الأخت — أي عديل والدي — بخِطابٍ إليه يقول فيه بالنص:
«أرسلنا إليكم اليوم تلغرافًا تبشيرًا بقدوم نجلكم السعيد … وتفصيلُ الخبر أنه في الساعة العاشرة مساء الأمس شعرت السيدة حرمكم بألم يُشبه الطَّلق، فأردتُ إرسال الخادم إلى القابلة، فامتنعت بقولها: ربما لا يكون الأمر كذلك … ولم نزل مُترقِّبين حالتها إلى الساعة الثانية بعد مُنتصف الليل حيث اشتدَّ الألم، ولم يعد هناك شك في اقتراب الوضع. وعندها أرسلنا الخادم … وفي الساعة الثالثة حضرت القابلة وباشرت أعمالها … إلى أن كانت الرابعة، أقبل «أخينا» مصحوبًا بسلامة الوصول وقد رأيته صباح اليوم فوجدته مثل أبيه، ولكن دون «شوارب»!»
انتهى كلام العديل الفاضل … وقد أشَّر والدي على هذا الخطاب بالقلم الرصاص، موضحًا بما فُطر عليه من دقَّة سنرى دلائلها فيما بعد … كتب يقول:
وقد كنت في ذلك الوقت في أودة الجلسة أتكلَّم مع القاضي علي بك جلال في شئون مختلفة، وكانت الساعة وقتئذ ١٢ ونصف إفرنجي.
ونقَل والدي هذه التأشيرة إلى دفتر صغير خاصٍّ اعتاد أن يدون فيه بعض شئونه — عثرت على هذا الدفتر بين مخلفاته بعد وفاته — أضاف فيه إلى ما تقدم هذه العبارة: «تحرر إليَّ خطاب آخر من عديلي يطلب تسمية المولود، فلم أُوفَّق إلى اسمٍ له، فحررتُ إليه جوابًا بأني فوضت الأمر إلى والدته في التسمية. ثم ذهبتُ إلى الإسكندرية وزرتُ زوجي فوجدتها مُتحسِّنة الصحة وأخبرتني أن الغلام سُمي باسم «حسين توفيق الحكيم» فلم يَرُق هذا الاسم عندي، وصمَّمت على تغييره بالطريقة القانونية. وفي نفس اليوم توجَّهت إلى المصوراتي. «مظهر حاوي»، وطلبتُ منه أن يُصوِّرني في ستِّ لوحات، لأني أردتُ الاشتراك في السكة الحديدية بين محل عملي في الريف والإسكندرية.»
هذا ما كتبه والدي في دفتره خاصًّا بمولدي … ولستُ أعرف شيئًا بالطبع عن اللحظة التي ولدتُ فيها … وهذا من سوء حظي؛ بل من سوء حظِّ البشر جميعًا أن نولد في غيبوبة تامة من عقولنا. فكلُّ عضو من أعضائنا يتحرَّك حين نولد، إلا ذلك الجزء منا الذي ندرك به الحياة التي هبطنا إليها. تُرى ماذا كان يحدث لو أننا واجهنا الحياة بعقول مدركة منذ اللحظة الأولى؟ كان يحدث العجب … كنا نفقد عقولنا للفور من هول الأعجوبة … أعجوبة الحياة في انكشافها المفاجئ أمام القادم من عالم الظلام والعدم!
ولكن الحياة تَنكشِف لنا على مهل سترًا بعد ستر وحجابًا بعد حجاب، وتتمزَّق من حولنا الأغلفة، غلافًا بعد غلاف … فنعتاد الحياة، ونغفل عن الأعجوبة فيها.
روت والدتي — فيما بعد — أني هبطت إلى الدنيا في صمت، دون بكاء أو صخب أو عويل، شأن الكثير من الأطفال، فحسبَتْني نزلتُ ميتًا، فارتاعت وهي على فراش وضعها، وسألت القابلة، التي ألقت بي بعيدًا لتُعنى بالأم: «لماذا لا يَبكي ويَصيح ككل المواليد الأصحاء؟» والتفتَ الجميع إلى ناحيتي فوجدوني أنظر — كما زعموا — إلى ضوء المصباح وإصبعي في فمي شأن المتعجِّب! … يا له من زعم! إن كل أم تُريد أن ترى في ابنها معجزة كمعجزة المسيح! لأنها في هذه الحالة ستكون هي مريم! … إذا ثبت حقًّا أني نزلت بغير صياح، فلعلَّ السبب هو أني كنت مجهدًا تعبًا مكدودًا من شدة الجذب إلى هذه الدنيا، أو أنه كان بلساني علَّة من العلل، أو أنه الضعف العام. وربما كان أفضل من ذلك جميعًا أن يقال — كما قيل في الكبر — إني آثرت الصمت والسكون بخلًا أو اقتصادًا في صياح لا طائل تحته! … ومع ذلك، فلماذا لا تحاك مثل هذه الأساطير عن ساعة الميلاد إلا فيما بعد دائمًا … عندما تُحدَّد لنا صورة ما في المجتمع الذي نعيش فيه. كذلك الحال في ساعة الوفاة … ساعة نولد وساعة نموت … ساعتان يلعب فيهما خيال الآخرين، لأنهما ليستا في حوزتنا.
لا أستطيع كذلك بالطبع أن أصف الحُجرة التي ولدت فيها. ولكن الذي أعلمه أن منزل العديل — زوج خالتي — الذي هبطتُ إلى الدنيا فيه لا بدَّ مِن أن يكون مناسبًا لوضعه الاجتماعي؛ فقد كان على شيء من اليسار … كان موظفًا بالدائرة السنية ومُستحقًّا في وقف. رأيت هذا المنزل فيما بعد عندما بلغت الخامسة أو السادسة، وبدأتُ أعي. إنه منزل صغير مكوَّن من طابق واحد؛ به حديقة صغيرة فيها تكعيبة عنبٍ خُيِّل إليَّ يومئذ أنها حرش من الأحراش.
وكان يُنفق كثيرًا، خصوصًا على شرابه وسهراته؛ فقد كان وقت مولدي في شبابه يحبُّ الكأس والطاس وعِشرة الظرفاء من الناس يَسمُرون ويُعمِّرون الليالي بالفكاهات والنكات، وكان هو نفسه — كما قيل لي وكما رأيت بنفسي فيما بعد — شائقَ الحديث بارع الدعابة، على قدر طيب من التعليم والاطلاع، يبدو ذلك من أسلوبه في الخطاب الذي أرسله إلى والدي مُعلنًا قدومي «بغير شوارب»!
كان العهد عهد «كرومر»، وكل من وفد على مصر يومئذ اعتبر نفسه سيدًا لنا أو مرشحًا للسيادة.
يروي زوج خالتي هذا أنه كان جالسًا بين أصحابه ذات يوم فجاءَه ماسح أحذية من الأجانب الوافدين، فبعد الانتهاء من مسح حذائه، أخرج مع الأجر بطاقته وقدَّمها للماسح الأجنبي قائلًا بنبرة الجد: «هاك اسمي وعنواني لتتذكَّرني وتشملَني بنظرة عندما تُصبح في بلادنا من أصحاب الجاه والمال والمناصب.»
أما زوجته الأخت الكبرى لوالدتي فكانت أميةً لا تقرأ ولا تكتب، بل ولا تُحسن غير التفكير في الخرافات الشائعة بين نساء جيلها … كانت على غرار — أمها جدتي — ولعلَّ هذا كان السر في فرار زوجها المتعلِّم الأريب إلى مجالس السهر والسُّكر والظرفاء والأدباء … أما والدتي فكانت الابنة الصغرى، بينها وبين أختها الكبرى ستة أولاد ماتوا كلهم قبل الوضع، ولهذا الموت المُلِحِّ سرٌّ في رأي جدتي؛ إنها تعزو ذلك إلى «جنية» تحت الأرض اسمها «القطاية» … تظهر أحيانًا في صورة قطة سوداء … وفي ذات ليلة ظهرت أمامها ساعة العشاء، وكانت تأكُل سمكًا مشويًّا. فماءت القطة تَطلُب قطعة، فلطمتها جدتي بظهر كفها فاختفت … منذ تلك الليلة ما حملت مرةً إلا وشعرت كأن لطمة تُصيب بطنها فيسقط الحمل لتوه … إلى أن جاء الحمل السابع، فنصَحها الناصحون أن تأتي بمُنجِّم معروف وقتئذ اسمه «أبو عجيلة» ليُحجِّبها بالأحجبة التي تَدرأ عنها السوء … فجاءت به وحَجَّبها بسبعة أحجبة، وعاشت والدتي … كانت هذه الجدة طيبة القلب هادئة الطبع، هكذا بدت لي عندما أخذتُ أعي وأشب وأترعرع، لقد بدَت لي على نقيض ابنتَيها الكبرى والصغرى بما رُكِّبَتا عليه من طبعٍ حادٍّ، تُثير أعصابهما أقل كلمة وأتفه حادث … على أني لم أعرف الجدة إلا في كهولتها … أما في شبابها، فقد كانت — كما قيل لي تُماثل الابنتين في الطبع الحاد والخُلُق الناري … ولم أرَ قطُّ — منذ وعيتُ — الأختين على وفاق، كانت الخصومة والمقاطعة بينهما هي الحياة العادية … أما لحظات الصلح فكانت عابرة كسحب الصيف، أو استثناءً أو شذوذًا لا يُصدَّق إمكان بقائه الطرفان، وهل يمكن أن يقوم بردٌ وسلامٌ بين نار ونار؟! لن أنسى أبدًا حيرة جدتي المسكينة بين ابنتَيها المتخاصمتَين على الدوام. كان لا همَّ لها ولا شاغل إلا التوفيق بينهما دون جدوى.
كانت أسرة والدتي من أهل البحر … ممَّن أُطلق عليهم اسم «البوغازية». ويظهر أن أصل هذه الأسرة من الترك أو الفرس أو ألبانيا … لا أدري بالضبط، إن سحنة والدتي وجدتي وما لهما من عيون زرقاء تنمُّ عن أصل غريب على كل حالٍ. ولم أَرِث أنا ولا شقيقي هذه الزرقة ولا ما يقرب منها؛ لأن سحنة والدي الفلاح القُح كانت فيما يبدو قديرة على صبغ بحر أزرق بأكمله. وكان جد والدتي لأمها يُسمَّى «كَلَا يوسف» وقيل إنه من «قولة»، وجدها لأبيها كان يُسمى الحاج «ميلاد البسطامي»، وابنه وهو أبوها اسمه «سليمان البسطامي». وقيل إنه كانت لدَيه شجرة نسب تُلحقه بأبي يزيد البسطامي الصوفي المعروف … وقد ذكرت لي والدتي أن أصلهم من فارس، ولكن أهلهم نزحوا إلى تركيا ثم وفدوا بعد ذلك إلى مصر … كل هذا سمعته دون أن ألقيَ إليه بالًا أو أُعيره اهتمامًا … إنما أنا أروي هنا ما لحق بذاكرتي مما حُكي حولي وأنا صغير … كان رجال البوغاز هؤلاء يَتوارثون المهنة أبًا عن جدٍّ، ويَحذقونها بالممارسة. وكانت لهم قواربهم البخارية التي يقودون بها السفن إلى البوغاز … كانوا يشترونها بأموالهم الخاصة شركة بينهم، ويقتسمون أرباح العمل بمُقتضى حصص تُوزَّع على الأسرة بعد وفاة عائلها … فلما مات جدي لوالدتي ورثَتْ عنه حصة.
وكانت هي صغيرة السن، لم تجاوز عامها الثالث يوم مات والدها، وهو لم يزَل شابًّا في الخامسة والثلاثين … مات ولم ترَه ولم تعرفه … فظلَّت طول حياتها تسأل عنه من رآه ومن عرفه: ما شكله؟ ما صورته؟ ما خلقه؟ ما صفاته؟ قالت لي إنه كان ممن أطلق عليهم الخديوي في ذلك العهد اسم «العصاة» لأنه كان من أنصار عرابي. ولبثت عمرها كله ترسم له في مخيلتها صورة الأبطال والأنبياء والقديسين، فما كان عندها قسَم أغلظ ولا أهم من القسَم «بسيدي البسطامي» هكذا كانت تُعلِّمني وأنا صغير. وربما كان قولي يحتمل الكذب عندها إذا قلت: «وحياة النبي». أما إذا قلت: «وحياة سيدي البسطامي» فما كان يُغتفَر لي أن أحنث به. كان لا بدَّ لقولي أن يكون صادقًا؛ وإلا فهو الجرم في نظرها الذي لا جرم بعده.
كانت جدتي أيضًا في أوج شبابها حين مات عنها زوجها … فنصحها الناصحون أن تَقبل الاقتران بزوج أختها المُتوفاة. بذلك ترعى أولاد أختها كما ترعى أولادها في كنف زوج ليس بالغريب عنها ولا الدخيل على الأسرة … رأي طيب ومعقول … ولكن الذي حدث، كما يحدث في كثير من الأحيان، هو أنَّ الآراء الطيبة والمعقولة تنقلب إلى نقيضها عندما تتحوَّل إلى واقع … فقد احتضنَت جدَّتي أولادها هي، أي: «البنتين» وخصتهما بكل رعاية وإعزاز، ونبذت وأهملت أولاد الأخت، وعاملتهم كما تُعامل أولاد الأعادي، وكان الزوج يَلحظ ذلك ويتغاضى … وقد بلغ من تدليلها لابنتَيها أن والدتي لم يكن يحلو لها أن تَنصب «أرجوحتها» إلا على باب حجرة زوج أمها، وتظلَّ معلَّقة بحبال الأرجوحة، تهزُّها هزًّا عنيفًا حتى تَنخلع مفاصل الباب، فإذا عاد الرجل إلى بيته مُتعبًا مكدودًا بعد عمل مرهق في البحر، ورأى ما حلَّ بباب حجرته، وأبدى ملاحظة، هبَّت في وجهه البنت الصغيرة باكية وسارعت إلى أمها شاكية، فتقوم قيامة الأم لإغضابه «اليتيمة» ابنتها! … أما الابنة اليتيمة فكانت تخرج لتوِّها إلى الحارة تتباكى وتصيح كذبًا «زوج أمي ضربني! زوج أمي ضربني!»
فيمصمص الجيران بشفاههم قائلين مترحمِّين: «لا حول ولا قوة إلا بالله! مسكينة البنت! طبعًا زوج أم … وماذا يُنتظر من زوج الأم؟!»
كان مِن بين أولاد هذا الزوج ابن شاب قد تعلم القراءة، وهوى قراءة القصص … فإذا فرغ من المطالعة جعل يقصُّ على الأسرة ما قرأ من أعاجيب قصص ألف ليلة وغيرها … وكانت والدتي تُسَر لسَماع هذه القصص سرورًا كبيرًا؛ فكانت بدلالها على جميع أهل البيت وبقوة شخصيتها منذ صغرها ترغم ابن خالتها هذا على أن يترك عمله في البوغاز، أو يتأخَّر عنه قليلًا، ويسهر الليل، ليقص عليها المزيد ممَّا في تلك الروايات والقصص.
ويبدو أن الفضل كان له في دفعها إلى تعلم القراءة والكتابة. ذلك الأمر المعيب بالنسبة إلى فتاة في ذلك العصر … إن كل ما كان يُسمَح لبنت مثلها أن تتلقَّاه من ضروب التعليم هو الإلمام بمبادئ التطريز والحياكة والتفصيل عند «المعلمة»، وكانت بالإسكندرية وقتئذ مُعلِّمة أجنبية فتحت مدرسة أو شيئًا كهذا ذهبت إليها أمي مع أترابها فتلقَّت عندها ضربًا من التعليم.
لكن هذا الشاب ابن الخالة ظلَّ بأبيه والبنت وأمها حتى سمح له بأن يحضر لها شيخًا يحفظها القرآن ويُلقنها حروف الهجاء.
وانتهى بها الأمر إلى تعلم مبادئ القراءة والكتابة، وتكفل بالباقي طبعها الحديدي وما فيه من عناد وإرادة وإصرار مع ذكائها الفطري، وروحها المتوثِّب الطامح ورغبتها الجامحة في أن تقرأ بنفسها القصص والروايات التي سُحرت بها … فلم يمضِ عليها قليل وقت حتى كانت قد تعلَّمت فك الخط، واستطاعت أن تصلَ إلى شيء من العلم بالقراءة والكتابة، مكنها من الاطلاع على ما تُريد الاطلاع عليه.
وبذلك أصبحت أكثر تنورًا من كل نساء جيلها في أسرتها. وكان هناك بون شاسع وهوة سحيقة بينها وبين أمها وأختها الكبرى؛ إذ لم يكن العلم أو التعليم كلمات لها وجود في دنيا تلك الأم والأخت. قد يبدو غريبًا في عصرنا أن نتصوَّر عالمًا بأسره عاش يومًا وربما ظلَّ يعيش حتى الآن في مكانٍ ما وليس في قاموس لغته كلمة علم أو معرفة. فنحن اليوم في عالم يتميز بأنَّ الناس فيه يُريدون أن يفتحوا عيونهم كل صباح على شيء جديد يعرفونه … والمعرفة تأتيهم كل صباح مع فنجان القهوة أو الشاي، في صورة جريدة من الجرائد، أو إذاعة من إذاعات الراديو. فمَن لا يستطيع القراءة، يستطيع الاستماع.
ما من أحد يستطيع اليوم أن يكون بمعزل تامٍّ عن مصادر المعرفة الجارية كما يجري الماء في الأنابيب … ولقد تغير معنى المعرفة تبعًا لذلك، فأصبحت أنواعًا ودرجات … منها العميق ومنها الضحل … منها الهامُّ، ومنها التافه … والخيار للناس فيما يتناولون من ألوان المعرفة … هذا الخيار لم يكن معروفًا لأهل العصور السابقة … وهذه الوسائل السهلة لم تكن مهيأة لهم … فدونهم وأي نوع من أنواع العلم أو المعرفة حواجز قائمة لا بد لهم من اجتيازها بالكفاح والإرادة … لذلك أدرك قيمة إرادة كإرادة والدتي في أن تتعلم لتقرأ … كما أدرك الصعوبات التي قامت في وجهِ امرأة كجدتي لتكون شيئًا آخر غير ما كانت عليه.
وهي لم تكن الوحيدة في بيئتها وعصرها … كان كل اهتمامها مُنحصرًا في وسائل السيطرة على بيت زوجها وعلى أولاده، وقد تمَّ لها ما أرادت … فقد فهمتُ عن والدتي أنها هي وأختها الكبرى كانتا حقًّا الآمرتَين مع أمهما في البيت.
ولم يكن الجميع — من زوج الأم إلى أولاده العديدين — إلَّا رهن إشارتها في كل رغبة ونزوة. كانت الهدايا واللعب وعرائس الحلوى في الأعياد والموالد لا تأتي إلا لهما … وكان كل هذا مُحتملًا ويؤدَّى عن طيب خاطر … إلى أن حدث ما ألقى ستار الختام على هذا الحال: فقد تزوَّجت الابنة الكبرى، أخت والدتي، وجُهزت وزُفت إلى زوجها في بيته … منذ ذلك الحين طار ما تبقى من عقل في رأس جدتي؛ فإذا هي لا تُوجد إلا في بيت ابنتها الكبرى … تجلس بجوارها وتعاونها وتُدلِّل كل مولود لها جديد، وكانوا بحمد الله كثيرين، كل منهم فوق رأس الآخر كما يقولون … هذا فضلًا عن تَشابُه الأم وابنتها الكبرى في العقلية، وإنفاق وقتهما الخالي في السحر لزوج الأم حتى يدبَّ الخلاف بينه وبين أولاده فيخلو لهما الجو … وبلغ الحال من السوء حدًّا لم يستطع معه زوج الأم صبرًا، ففي ذات يوم ذهبت زوجته تمضي أيامًا عند ابنتها الكبرى؛ فإذا هي تباغت بورقة الطلاق مرسلة إليها مع خادم.
طول طفولتي وأنا أسمع من والدتي وجدتي مأساة الطلاق هذه، وكأنها مأساة مقتل الحسين في كربلاء.
كنتُ وأنا غلامٌ أجلس إلى جوارها وهي تصنع قهوتها بنفسها؛ أصغي إلى مأساتها وأتحسر معها … كانت تُحبني كثيرًا لأني كنت أحسن الإصغاء إليها وإلى أملها الوحيد في الحياة وقتئذ، وهو أن يسود الوفاق بين الأختَين … إذ لم يكن لها من مأوًى غير بيتَيهما.
٢
تلك هي جدتي وابنتها الكبرى. أما الابنة الصغرى، وهي والدتي فقد سارت حياتها على النحو الذي تقدَّم وصفه، إلى أن تزوجت هي الأخرى. وحكت لي قصة هذا الزواج فقالت: إنَّ عمة العريس وأخته وهما من أهل الريف حضرتا إلى الإسكندرية للبحث عن عروس؛ لأنَّ أمه متوفاة، وإذا القدر أو المصادَفات أو الحكمة الخفية المجهولة حتى الآن لبني الإنسان، تلك التي تَنجلي دائمًا في هذه الظروف، فتجمع بين اثنين من دون الملايين لينتج عن اجتماعهما من النتائج ما لا يخطر على بال. قادَهما القدر إلى والدتي، أبصراها في فرح من الأفراح فإذا هي في نظرهما المطلب والبُغية؛ فهي يتيمة لا أب لها، ومثلها يعيش في كنف الزوج بلا تدلل ولا تكبر … جاءت العمة والأخت مُرتديتَين «الملس» لامعًا جديدًا، يفوح منهما العطر الفلاحي من الخزام والزعفران، وأحضرتا معهما صورة شمسية على الصفيح — شأن التصوير في ذلك العهد — للعريس وهو متَّشح بوسام عضو النيابة. فما كادت أمي بطموحها ترى هذا الوسام حتى ذهب لبها وعقدت العزم في سرِّها على التمسك به … ذلك أنها كانت تعلم معنى هذا الوسام؛ فقد كان لمنزل أسرتها نوافذ تُطلُّ على ما كان يُسمى «سكة الباشا»، أي الطريق الموصل إلى سراي رأس التين؛ حيث كانت تمر يوم العيد مواكب رجال الحكومة الكبار في ملابس التشريفة، ومن بينهم رجال القضاء بمثل هذه الأوسمة؛ من يومها وهي تُمني نفسها بزوج له مثل هذا الوسام. تلك كانت أحلامها كفتاة، لقد تقدم إليها تجار وبوغازية من رجال البحر فكانت تبكي وتُرغم أمها على الرفض … أما هذا المتشح بالوسام فقد تهلَّل له وجهها؛ إلا أن أهل هذا العريس لم يتقدموا بمهر محترم … قالوا إنه شابٌّ في مستهل حياته، عظمه ما زال طريًّا. لا يَحتمل كاهله المبلغ الطائل بعد … وهاجت الأم وماجت … ورفضت وهي تضرب على صدرها: «يا شماتة الأعادي أسلم بنتي بتراب الفلوس؟!» ويظهر أن المهر كان ضئيلًا حقًّا … لا يجاوز الخمسين «بنتو»، والبنتو هي العملة الذهبية في ذلك الوقت التي تقلُّ عن الجنيه … طردت الأم أهل العريس، ولكن البنت الراغبة أرسلت خلفهم خفية خادمة لها تقول لهم سرًّا أن ارجعوا؛ فالأم قد قبلت … ولم يسَعِ الأم إلا النزول آخر الأمر على إرادة ابنتها المصرَّة … ولم يَنفع التعنيف ولا التقريع … ولا صياحها بلهجتها الإسكندرانية القحة: «ما بجاش (أي ما بقاش) غير البنات يحكِّموا رأيهم ويختاروا العرسان.»
لكن ما من شيء كان يقف أمام إرادة والدتي إذا طلبت شيئًا وصمَّمت عليه فلا بد من أن تناله … وإن لها لمقدرة عجيبة في إخضاع جميع من معها لإرادتها … كان هذا شأنها مع أمها وزوج أمها وأولاده جميعًا، ثم زوجها هي فيما بعد … لم يقف أحد في وجهِها إلا أختها، ولهذا خاصمتها وعادتها طول العمر.
أما والدي فقد كتب بالقلم الرصاص في دفتره الصغير المعهود صفحة عنوانها «تاريخ الزواج»، قال فيها بالنص والحرف: «ليلة الدخول كانت ليلة الجمعة، أي مساء الخميس الموافق ٢٥ أبريل الموافق ليلة ٧ محرم بالإسكندرية بمنزل حضرة زوج الأم.» وأقمت بالمنزل بصفة ضيف مع العروس إلى يوم الخميس الموافق ٢ مايو … ثم قمت قاصدًا العزبة بصفط الملوك «يقصد عزبة والده الشيخ أحمد الحكيم»، وفي نفس اليوم سافرتُ إلى ناحية زرقون للاحتفال بعرس أولاد الحاج … «من الأقرباء» ورجعت مع والدي إلى العزبة يوم السبت ٤ منه … وفي يوم الأحد قمت قاصدًا المحلَّة الكبرى؛ حيث محل وظيفتي، لانتهاء الإجازة المصرح بها لمدة عشرين يومًا، وفي يوم الأربعاء مساءً قمت قاصدًا الإسكندرية وقابلني على المحطة حضرة عديلي وذهبت معه توًّا إلى منزله، وهناك كانت عروسي، فأقمت إلى يوم السبت ٩ مايو؛ ثم حضرنا جميعًا أنا وعروسي وحماتي إلى المحلة الكبرى.
«بيان ما صرف بسبب الزواج ابتداءً من ١٥ أبريل من جيبي الخاص.»
ولم يذكر في دفتره مُناسبات هذه المصروفات فلستُ أدري أين ركب هذا الحمار المدون أجره بقرشَين؟! … ولماذا كان ركوب الحمار بسبب الزواج؟! … كما أنه لم يُوضِّح من هم الخدم الذين نفحهم الخمسة القروش؟! … لكن ما دام هذا كله قد دون تحت بند الزواج وبسببه فلا بدَّ من أن يكونوا من خدم أهل العروس، أي ممن يخدمون في بيت زوج الأم وبيت العديل؛ لأنه كان قد تنقل بين البيتين بصفة ضيف!
لست أعتقد مع ذلك أن والدي كان بخيلًا بطبعه … لأن البخل الحقيقي يجب أن يقترن بالرغبة في كنز المال … وهو لم يكن لديه مال ليكنزه … كان فقيرًا، كل اعتماده على مرتبه البسيط في ذلك الوقت … حقًّا كان والده يَمتلك في صفط الملوك بمديرية البحيرة نحو ثمانين فدانًا … لكن ما نفع ذلك والوالد له على ذمته أربع زوجات، عدا المطلَّقات … ولكل زوجة ومُطلقة أولاد منه بلغوا في مجموعهم عددًا كبيرًا؟ لقد كان يحكي أن المزواجين في الريف، ما كان يعرف الواحد منهم أولاده أو يُميِّز بعضهم من بعض … كان إذا جلس على المسطبة ومر أمامه صبي منهم أو غلام سأله: «أنت ابن مين يا ولد؟» فيجيبه مثلًا: «أنا ابن ستوتة أو خديجة أو هانم أو خضرة» وهلم جرًّا … وما كانت هناك طريقة للفرز أو التمييز سوى ملابس الأولاد … يكفي النظر إلى ثياب الولد فإذا كانت سابغة متقنة التفصيل فهو من أولاد زوجة جديدة. أما من كانت أثوابهم لا تغطي الركب فهو قطعًا من أبناء القديمات! فالوالد الكبير في الريف كان يأتي أيام الأعياد بالقماش ويُسلِّمه كله للجديدة المحظية على أنه للجميع، فتبدأ هي بنفسها وأولادها فتُفصِّل منه ما شاءت، ثم تُلقي بما فضل للأخريات.
كان والدي ابن الزوجة الأولى … وقد ماتت وهو صبي … ولست أعرف بالضبط تفصيلات طفولته، ولا ظروف تربيته الأولى؛ فقد كان بطبعه قليل الكلام كثير الكتمان فيما يتعلق بشخصه وشئونه … كل ما سمعت في هذا الصدد هو أنَّ فكرة التعليم أو الاستمرار فيه كانت تلقى دائمًا مُعارضة من أكثر الآباء في الريف في ذلك العهد … كانوا يُريدون من أبنائهم البقاء في الأرض يزرعون. غير أنَّ والدي كان يَصف أباه دائمًا بأنه رجل متنوِّر، وأنه جاور في الأزهر وزامل الشيخ محمد عبده في مبدأ الدراسة، ثم عاد إلى بلدته يزرع الأرض التي ورثها عن آبائه، وأنه لولا هذه الأفدنة التي آلت إليه لاستمر في العلم كما استمرَّ زميله القديم العظيم … ولقد أدركت جدِّي هذا في أواخر حياته، فرأيت فيه شيخًا جليلًا مهيب الطلعة، يرتدي الجبة والقفطان والعمامة، ويضع على عينيه نظارة سميكة. كانت هيئته حقًّا أقرب إلى صورة الشيخ محمد عبده التي نَعرفها جميعًا.
وكان والدي بارًّا بأبيه مُعظِّمًا له مدافعًا عنه وعن تصرفاته. كان يذكر مثلًا أنه لم يُكثِر من الزواج إلا لعدم توفيقِه إلى الزوجة المرتفعة إلى مَدارِكِه، وأنه كلَّما ظن أنه وُفِّق خاب أملُه. وإذا هو يخرج من خطأ إلى خطأ، وهو مُصرٌّ على تصحيح الأخطاء؛ لأن تصحيح الخطأ فضيلة. إلى أن اهتدى ووُفِّق آخر الأمر إلى الزوجة المتمدِّنة فسكن إليها. وهو قولٌ معقول.
ولقد كان والدي يَصف لي دائمًا ما كان يقتضيه حب العلم والتعليم يومئذ من جهد وجهاد … فما كان يصل إلى آخر الشوط فيه إلا المُصرُّ المتشبِّث. فقد كان هو وبعض إخوة له ممَّن أحبوا كتاب القرية وتعلَّقوا بالتعليم، يأتون في كل عام دراسي جديد بمن يتشفَّع لهم لدى والدهم كي يستمرُّوا عامًا آخر … فكان — مع رغبته في تعليمهم — يَقبل بشرط أن يكون العام المطلوب هو العام الأخير ثم يعودون بعده إلى الزراعة … فإذا مضى العام عادوا إلى الرجاء مرة أخرى مُقْسمين أنه الأخير. ويظلُّ العام يلد العام إلى أن اجتازوا مراحل الدراسة التجهيزية، وأصبح والدي على أبواب مدرسة الحقوق … فسكَت عنه والده وقد طمع في أن يرى أحد أولاده من الحكام! … كانوا شبابًا يُجاهد جهاد المُستميت في سبيل الحصول على التعليم … كل القوى كانت ضدهم: أهلهم ومجتمعهم وحكومتهم! … وكانوا يقنعون بالقليل، بل بأقل القليل … كان والدي مع بعض إخوته وأقاربهم وزملائهم ممَّن نزحوا إلى القاهرة لطلب العلم، يعيشون في سكن واحد؟ ويَطبخون لأنفسهم الطعام مرة كل أسبوع. هو يوم الجمعة: يوم العطلة … أما في بقية الأيام فكان طعامُهم مما يُجلَب من السوق كالجبن أو الفول. لأن انهماكهم في الدراسة كان يشغلهم عن إعداد طعام منزلي … أما يوم الجمعة فهو يوم الترف والتنعُّم عندهم: يُقبلون فيه على الطبخ. وماذا كانوا يطبخون؟ صنفًا واحدًا لا يتغيَّر لرُخصِه. وحسبه فخرًا ولذة وإمتاعًا أنه مما يُطبَخ على نار … وهذا وحده يكفي: إنه العدس.
وفي يوم جمعة اضطرُّوا إلى ترك حلة العدس فوق النار، في عهدة أخيهم الأصغر وخرجوا لبعض شأنهم، فما إن ذهبوا حتى خرج أخوهم هذا بدوره يلهو مع رفاق له كان هو من دونهم الذي يُكثِر من اللعب والهرب من الدراسة، ولم يُفلح في مدرسة رغم تعنيفهم له وضربهم إياه، فلما تذكَّر حلة العدس التي في عُهدته وعاد إليها وجد ما فيها قد علا وفاضَ على أرض الحجرة وامتزجَ بتُرابها، فما كان منه إلا أن غرَف بكفيه العدس المُمتزج بالتراب وأعاده إلى الحلة، ورجع إخوته بالفجل والكرات يُمنُّون النفس بالأكلة الشهية، وأقبلوا على الطعام فاكتشفوا التراب في أفواههم أكثر من العدس، فانقضُّوا على أخيهم وظلُّوا به حتى اعترف. فضربوه — وقد أضاع عليهم طبيخهم الأسبوعي الوحيد — فهرب. وكان جهدهم في البحث عنه أشق من جهدهم في تقويمه وحثه على الدرس. وأخيرًا وجدوه. ورأى والدي بعدئذ — كي يأمَن هروبه مرةً أخرى — أن يَربطه من وسطه بحبل ويُعلِّقه بواسطة بكرة في سقف الحجرة! … وهكذا كانوا إذا تركوه وحده كتفوه ثم شدوا الحبل المتصل بالبكرة فإذا جسمه قد ارتفع ولاصق السقف كأنه مِصباح «كلوب» غاز! فكرة عجيبة تدلُّ على عبقرية والدي، لست أدري كيف خطرت له! على أن كل هذا التأديب لم يمنع أخاهم هذا من ألاعيبه؛ فقد حدث يومًا أن عاد أحدهم من البلد؛ أي القرية، ومعه قدر من الأرز وأزواج من الحمام، فاحتفلوا جميعًا بالأكلة الباذخة النادرة، وجاءوا بقصعة كبيرة يُسمُّونها في الريف «المنسف». فوضعوا فيها الأرز بعد طهوه، فصار كومة كبيرة عالية وسلقوا الحمام، وكان نصيب كل واحد منهم حمامة، جعلها أمامه فوق الأرز، واجتمعوا كلهم حول القصعة، وأخذوا في الأكل. فما كان أسرع الأخ الأصغر إلى التهام حمامته بعظمها، ثم دس يده بخفَّة تحت كومة الأرز. وتسلَّل بأصابعه في شبه نفق أو شبه غواصة حتى صارت تحت الحمامة التي أمام الجالس في مواجهته، فسحبها بمهارة إلى أسفل وجنَّبها ناحيته … وكان صاحبها مشغولًا بازدراد الأرز، فما شعر إلا وحمامته قد اختفَت من أمامه فجأة دون أن يرى يدًا امتدَّت إليها، ولم يتبين الحقيقة إلا عندما لمحها في فم ذلك الأخ الأصغر. فهاج وماج، وهاج الجميع لهياجه.
وقام والدي يصيح: «هاتوا كمَّاشة أخلع أسنان هذا الملعون!»
وخاف الأخ الأصغر من تنفيذ الوعيد فهرب … ترك لهم القُطر كله هذه المرة ومضى إلى الشام على مركب شراعي، عمل به نوتيًّا … ثم ظهر بعد سنوات في بلدته وعاش فيها يَزرع ويمرح، ويَمرح أكثر مما يزرع.
أما والدي فقد استمر مع البقية في الدرس باجتهاد وصبر، ولم يذهب. مع ذلك إلى مدرسة الحقوق مباشرة كأغلب الزملاء؛ بل فضل الالتحاق بمدرسة الألسن مع زميل له هو «عبد العزيز فهمي» إلى أن تبيَّن لهما فيما بعد أن مستقبل مدرسة الحقوق أفضل؛ فسارعا بترك الألسن إلى الحقوق.
وكان فيما يبدو من خيرة طلبة مدرسة الحقوق … عثرتُ بين أوراقه وأشيائه وأنا صبي على قطعة نحاسية كنتُ ألعب بها ولا أعرف معناها. فلما بدأتُ ألمُّ بالقراءة طالعت منقوشًا عليها: «مجلة الشرائع». وإذا هي ختمٌ مما يُختم به إيصالات الاشتراك. ثم وقع بين يدي عدد قديم من هذه المجلة، قرأت عليه أن مؤسِّسيها هم ثلاثة من طلاب الحقوق: «إسماعيل صدقي» و«لطفي السيد» و«إسماعيل الحكيم» … كان هؤلاء الطلاب إذن على جانب من النضج وسعة الأفق … ما من شك أن كثيرًا من طلبة ذلك العهد كانوا يُدركون قيمة التكوين الثقافي، وكان لهم جلد عجيب على الاطِّلاع والتحصيل — بعضهم ومنهم والدي و«عبد العزيز فهمي» — كانوا ممَّن اتصلوا بالأزهر بعض الاتصال وداوموا القراءة في القرآن وكتب الفقه وغاصُوا في كتب الشعر والأدب القديمة. وجدتُ في بيتِنا من تلك الكتب الصفراء عددًا يملأ صناديق وصحاحير، انتفعت ببعضها فيما بعد. كان جيلًا مُدهشًا في رجولته. يبدو ذلك حتى في مداعباته ومعابثاته. ما أرى صورة تبرز هذا الجانب الفكه خيرًا من تلك الصورة التي رسمها «عباس محمود العقاد» … ونشرها في أخبار اليوم «يونية ١٩٥٤م» يوم شاء لي القدر العجيب أن أُنتخب عضوًا في المجمع اللغوي في كرسي «عبد العزيز فهمي» بالذات. كتب العقاد يقول:
«هذه فكرة تأتي في أوانها بعد استقبال زميلنا «توفيق الحكيم» بالمجمَع اللغوي. وبعد استقباله في مكان «عبد العزيز فهمي» رحمه الله. لم يكن يدور بخلد الأديب الفقيد الكبير أن يُقدم إلينا خليفته في المجمع حين حدثني نحو ساعة عن توفيق الحكيم وإسماعيل الحكيم … قال: «الله يرحم والده … كان مثل ابنه صاحب «تواليف».»
ومضى يحدثني عن إسماعيل زميله في المدرسة، ثم في سلك القضاء، فقال: إنه «طلع في رأسه» ذات مرة أن يَخترع نوعًا من التبغ غير الذي يُدخِّنه الناس، وتساءل: من ذا الذي فرض علينا تبغ أمريكا وحرم علينا أن ندخن تبغًا من زرع بلادنا؟!
وكانت تجربته الأولى في «السعتر الجاف»، وبعض الأعشاب التي يَبيعها العطارون، ولكنه لم يُثابر على هذه التجربة غير أيام. قال الأديب الفقيه الكبير رحمه الله:
وكان زميلنا في المدرسة محمود عبد الغفار مفلوقًا من زميلنا إسماعيل كرامة لهذه التواليف أو لهذه «الفلسفة، أو لهذه «القنزحة». فتعمد يومًا — عندما جاء دوره في طبع المذكِّرات المدرسية — أن ينقص منها واحدة، ووزع المذكرات على طلبة الفصل جميعًا، «وعددهم اثنا عشر طالبًا» ما عدا إسماعيل. وجاء دور إسماعيل في طبع المذكرات بعد أسبوع، فلم ينسَ ثأره القريب، وأحال الأمر على قِلة الغراء في المطبعة. ولكنه كشف السر ببيتَين من نظمه، أثبتهما على ذيل المذكرة وقال فيهما:
وقهقه الشيخ الوقور ضاحكًا وهو يستطرد في حديثه قائلًا:
واطَّلعتُ على النسخ وعلمتُ أنها «عيطة» بين محمود عبد الغفار بسَطوته الريفية وإسماعيل الحكيم بتقاليعه الشعرية، وذهبت إلى عبد الغفار أقول له: «إلحق! ليس لك مذكرة في هذا الأسبوع.»
فهجم عبد الغفار على حجرة المطبعة وانتزع الأوراق وبسَطها جميعًا أمامه وانتقى أوضحها وأنظفها ومضى بها، وإسماعيل ينظر إليه ويَستمع له وهو يُناديه بعد أن تخطى الباب: «امضغ الستتين يا حضرة الفيلسوف!»
ثم روى لي قصة من قصص كثيرة بينه وبين لطفي — يعني الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد — وإسماعيل الحكيم، قال: كنا نجلس على قهوة بميدان الأوبرا؛ وإذ أقبل علينا إسماعيل من بعيد فناديتُه مداعبًا: «يا مرحبا بالفلسفة.»
فما كان أسرع منه أن قال مجيبًا: «إن لم يكن فيها سفَه.»
وعقب الأستاذ عبد العزيز فقال: «وهكذا غلبنا، وكان يغلبنا دائمًا بسُرعة الجواب وارتجال الشعر والخطاب».»
انتهى مقال العقاد.
غير أنه عاد فكتب في نفس هذا الموضوع بمناسبة أخرى في جريدة الأخبار بتاريخ ٢١ أغسطس ١٩٦٣م ما نصه:
«قرأتُ اليوم في الصحف بشرى للمدخنين؛ لأنهم يستطيعون قريبًا أن يُدخِّنوا سجائر محشوة بالتفاح والبنجر والخضر والفاكهة بدلًا من السجائر المحشوَّة بالنيكوتين. وقبل أكثر من عشر سنوات سمعتُ عن خلطة جديدة للسجاير من اختراع «إسماعيل الحكيم» والد زميلنا «توفيق الحكيم»، وقوامها نخبة من الأعشاب، والزعتر على الخصوص، على أثر معركة من معارك اللغة في المجمع دعاني زميلنا الكبير عبد العزيز فهمي «باشا» إلى تناول الغداء معه بمنزله في شارع بطرس باشا المُجاور للشارع الذي أسكن فيه.
وجد شيخ القضاة عند دخوله حجرة الاستقبال نسخة من كتابٍ جديد للأستاذ توفيق الحكيم، فقال متمتمًا: «الله يرحم والده. هل صاحبكم يا تُرى كأبيه في فلسفته؟»
قلت: «وهل كان أبوه فيلسوفًا؟» قال: «على نحوٍ ما نعم … كان يحب أن يَبتدع له بدعة في كل شيء حتى التدخين. وخطر له يومًا أن يسأل نفسه لماذا يصنع الناس السجائر من الدخان ولا يصنعونها من الأعشاب الكثيرة التي تَمتلئ بها أحقاق العطارين عندنا؟ من الزعتر مثلًا، وهو أطيب رائحة وأحسنُ مذاقًا. وجاءَنا يومًا وكنت أنا ولطفي على قهوة بميدان الأوبرا، وفي يدِه سيجارة من تلك السجاير الفلسفية. ثم أخذ في شرح فلسفتِه التدخينية مع فلسفات أخرى في شتَّى مسائل القانون والاجتماع، وقد كُنا نَدرسها معًا بمدرسة الحقوق.» انتهى كلام عبد العزيز فهمي.»
ويختم العقاد مقاله بقوله: «ذكرت ذلك الاختراع القديم حين قرأت هذا الاختراع الأمريكاني الجديد، وأحببتُ أن أُذَكِّر به زميلنا توفيق الحكيم لكيلا تفوتَه المطالبة بحق الاختراع الأول إذا نجحت التجربة. وليسَت حُجته القانونية بالتي تخفى عليه.»
هذه الصورة الغربية التي نقَلها العقاد عن عبد العزيز فهمي لم أرَها أنا في والدي مع الأسف. فسُرعة الجواب والخطاب. كانت فيما يظهر قد انتهت واختفَت عندما شببت ووعيت. اختفت صورة الشاعر الفيلسوف المُتفنِّن بعثنونه أو لحيتِه الصغيرة التي كان يُربيها — كما علمت — ويتحدَّى بها الجميع … إلى أن حلَقَها له زملاؤه إسماعيل صدقي والآخرون ليلة زفافه «رحمة بالعروس كما قالوا» … اختفَت معالم تلك الشخصية بطرافتها.
ولم أجد أنا أمامي إلا رجلًا رزينًا وقورًا مُطيلًا في التفكُّر، مُتأمِّلًا في الكلام قبل النطق به إلى حدٍّ يكاد يُوحي ببطء الفهم والبديهة، مما أطمع والدتي وأثار فيها شعورًا بالتفوق، فكانت تقول لي دائمًا: «أنا أذكى من أبيك … أنا أسرع فهمًا من أبيك.»
كانت صورة والدي حقًّا أقرب إلى الانطفاء. أما تواليفُه وتفانينه وفلسفته فإني لأعجب أنها كانت له يومًا! … فإن الأب الذي عرفته كان أبعد الناس عن كل هذه الأوصاف … أتُرى مسئوليات القضاء والزواج والأسرة قد حطَّمت فيه كل شاعرية؟! لست أدري … هنالك مع ذلك لحظات وتصرُّفات وأحوال تبدو منه أحيانًا فتكشف عن المعدن القديم، إلا أنَّ لونها قد تغيَّر، كما تغير إطارها، فهي هنا تنصبُّ على الواقع اليومي … واقع حياته العملية والوظيفية والزوجية، ولا علاقة لها بالشِّعر والفِكر والتفنُّن، ولم أسمع منه هو قطُّ وصفًا أو ذكرًا لأيام شبابه تلك، وكأني به قد نسيها أو تناساها.
ما الذي حدث له بالضبط؟ أهو مجرَّد الزواج وأعبائه؟ أهي والدتي بشخصيتها القوية الثائرة العنيفة المسيطرة وجهت مصير زوجها كما أرادت هي؟ فحصرت نشاطه داخل الإطار العائلي المادي وحده؟ لقد كانت والدتي فعلًا شديدةَ القلق دائمًا على أمر معاشها، ولم يكن والدي يملك غير مرتبه. فإن أمه كانت مُعدَمة، وأبوه لم يَرِث عنه غير خمسة أفدنة مرهونة ضاعت في ديون التركة. مُرتَّب وظيفته كان إذن هو كل الضمان عند والدتي. ظل هذا هو اعتقادي الذي نفَّرني من الزواج زمنًا طويلًا. لكن والدتي أكَّدت لي أنها لم تكن مسئولة عن ذلك، وأن طبيعة والدي هي المسئولة، إنه فعلًا ينطوي على قلبٍ طيب يأبى عليه أن يسير في طريق يتعارض مع واجباته كرب أسرة. إن الشعور بالمسئولية والواجب أقوى عنده دائمًا من كل شيء، ولكي يحتفظ بصورته المتحرِّرة القديمة، كان لا بد من أن يصدر عنه من المخاطرات ما قد يزعزع الحياة الزوجية. وهو لا يرضى أن يحدث ضررًا بأهل بيته الأبرياء. هناك طريق يحتاج أحيانًا إلى الحركة الجنونية. لاحظتُ ذلك في بعض مواقف الحياة، وكنت أقول: «إن ما لا يُحلُّ بالعقل يجب أن يُحلَّ بالجنون.»
ولكن هناك أيضًا طبائع تأبى هذا الحل مهما يكن الأمر إذا أضرَّ بالآخرين. وهذه طبيعة والدي. إنَّ شعوره القوي بالواجب والمسئولية كربِّ أسرة كان يتضاءل أيضًا أمام شعوره بالتبعة. والواجب كقاضٍ، امتحن هذا الشعور يوم عُرضَت أمامه قضية التعذيب المشهورة في البحيرة خلال الحرب العالمية الأولى: يوم دبر الإنجليز مؤامرة ضد مدير البحيرة وحكمدارها تنكيلًا بهما؛ لأنهما لم يُظهرا روح التعاون معهم. وشمَّ والدي رائحة التهديد والإرهاب تحُوم حوله، وأحسَّ بأن منصبه مُهدَّد إذا عارض أو اعترض. فما التفتَ إلا إلى صوت ضميره وحده وحكَم بعكس ما أراد الإنجليز. فكسَرُوا حُكمه وجاءوا بمن أعاد النظر فيه وحكم لهم بما أرادوا. وتأخَّر والدي بسببها في الترقية.
ثم ما كان من أمره يوم رأس محكمة أحد أعضائها إنجليزي، فلمَّا دقَّت ساعة الظُّهر طلب العضو الإنجليزي وقْف الجلسة ليذهب إلى منزله ويتغدَّى مع زوجته، فقال له والدي بحزم: «جلستنا مُستمرَّة حتى الثالثة، وربما الرابعة. واعمل حسابك على ذلك يا مستر ما دمتَ معنا هنا. أما وَقفُ الجلسة من أجل أن تتغدَّى في بيتك فمُستحيل!»
وكظَمها القاضي الإنجليزي، وجاء صاغرًا في اليوم التالي يَحمل سلَّة صغيرة فيها وجبة خفيفة يتناولها في الاستراحة.
احترامه للواجب وطبعه الذي يُنكر الدَّوران مع المصلحة والوصول. هذا الطبع كان من أهم أسباب تخلُّفه عن زملائه في سلك الوظائف، فهو ما قفز فيها قطُّ قفزة، ولا روعي أي مراعاة أو حُوبي أي محاباة، إنما هو قد سار فيها من أول الطريق إلى آخره ببطء السائر الطبيعي. الذي لا يُسنده غير مجرَّد عمله.
ولنَعُد إلى دفتره أيام شبابه، فهو وحده الذي نجد فيه بعض الإشارات إلى حياته الماضية، كتب يقول في إحدى صفحاته:
«خرجت من مدرسة الحقوق، وحصلت على الشهادة النهائية في علم الحقوق «ليسانسيه» وانسلكت ضمن مستخدمي الحكومة، وعُينت كاتبًا «ظهورات» في محكمة طنطا مع قاضي التحقيق محمد بك صالح وأحمد أفندي عبد الرازق.» … انتهى كلامه.
ولعلَّ ما يَستلفِت النظر فيه هو أنَّ الحاصلين على الليسانس في ذلك الوقت على نُدرتهم — كانت الدفعة تَتراوح ما بين عشرة واثني عشر طالبًا — كان المُتخرِّج منها يوضع أول درجات السلم. فلم يكن هناك من هو دونهم كما ترى، غير السعاة والفراشين، ومن هنا جاءت ولا شك متانة تكوينهم؛ فقد عرفوا العمل من أساسه، وفي مراتبه الدنيا، وكانوا يصعدون بعد ذلك درجة درجة … يقول والدي في نفس الصفحة:
«وعُيِّنت معاونًا للنيابة، ونُقلت إلى ملوى، وأقمت بها ثلاثة شهور، ثم نقلت إلى أسيوط، ثم إلى جرجا. ثمَّ عينت مساعدًا للنيابة في إيتاي البارود، ونظرًا لكون بلدنا «صفط الملوك» هي في دائرة تلك النيابة نُقلت إلى سوهاك. واعتراني مرض الدوسنطاريا ولازمني ثلاثة أشهر؛ فحرَّرت خطابًا بالعربية إلى جناب النائب العمومي «كوربت بك» لنقلي إلى نيابة في الوجه البحري، فنُقلت إلى نيابة بنها … ومكثت بها إلى أن نقلت إلى نيابة المحلة الكبرى.» وفي صفحة أخرى من الدفتر كتب يقول:
«قررت نظارة الحقانية ترقيتي مساعدًا للنيابة بمرتب عشرة جنيهات شهريًّا.»
ويظهر أنَّ والدي منذ أن بلغ مُرتَّبُه هذا المقدار بدأ يُفكر في الزواج.
ولعلَّ ما كان فيه من وحدة، وما اعتراه مِن مرض دفعه إلى ذلك دفعًا، وكان لا بد للبحث عن العروس من معاونة الأهل. ولم يكن بين النساء من أهله في الريف من تستطيع القيام بهذه المهمة في البنادر غير واحدة، هي زوجة أبيه الجديدة: سيدة إسكندرانية الأصل، بيضاء البشرة، على جانب من الجمال والتمدُّن جعل منها سيدة الناحية ذات الحظوة عند رب الأسرة وأولاده ونسائه القديمات جميعًا. فأوصاها والدي كما أوصى العَمَّة والأخت السابق ذكرهما بالبحث عن بغيته.
وأوضح طلبه قائلًا: إنه لا يُريد زوجة من بيوت الباشوات التي يَجلس على أبوابها الأغوات.
كان المعروف وقتئذ أن رجال القضاء تتخاطَفُهم الأسر الكبيرة الثرية، لما ينتظرهم من مُستقبل في حكم البلاد، وقد تزوج أكثر زملائه بالفعل من بنات الباشوات. ولكنه هو — ربما لطبيعته الشعرية — لم يكن ذا مطامع من هذا القبيل. كان كل مطلبه زوجة ذات وجه حسن وعلى قدر من التعليم والتنور.
وهكذا تم العثور على والدتي.
٣
ذهبت العروس إلى المحلة الكبرى. وما كانت تدخل بيت زوجها حتى صُدمت. لم تجد هناك شيئًا يؤكل. اللهم إلا علبة صغيرة بها قليل من السمن، قد أَغلق عليها بالقفل والمفتاح كأنها علبة جواهر! وسألت زوجها عن مرتَّبه الحقيقي فقال: عشرة جنيهات. فصرخت من الفزع وقالت: فقط؟! إنَّ أهله عند خطبتها قالوا: «مرتبه أكثر من عشرين جنيهًا، غير اللي يخش له!» فصاح فيها: «يخش لي؟ … أنا وكيل نيابة؟! … أيُمكن لوكيل نيابة نزيه أن يَدخُل له شيء غير مرتبه الرسمي؟ ومع ذلك فالعشرة الجنيهات مخصوم منها أيضًا احتياطي المعاش.»
وهنا لطمت صدغَيها، كما قالت لي، وشعرت بالخوف من المستقبل … فقد كانت ذات طبيعة متناقضة؛ فيها جرأة وفيها خوف في نفس الوقت. جرأة على الناس، وخوف على نفسها. وجعَلَت تفكر طويلًا في طريقة تُؤمن بها حياتها. قالت في سرِّها: إذا مات هذا الرجل في اليوم التالي فماذا تصنع؟ أما والدي فكان يرى الأمر طبيعيًّا؛ لأنَّ هذا هو الوضع بالنسبة إلى أكثر زملائه. فقال لزوجته: «احمدي ربك أني لم أتزوَّجك بعد تعييني كاتبًا «ظهورات» بخمسة جنيهات كما فعل بعض الزملاء! … ماذا كنت ستفعلين إذن؟!»
على أن الأمور أخذت بعد ذلك في التطور الحسن. فلم يلبث أن رُقي وكيلًا للنيابة من الدرجة الرابعة بمرتب خمسة عشر جنيهًا. ورأى أن يُرفِّه عن زوجته فعرض عليها السفر معه إلى أهله في «صفط الملوك» ليقدمها إلى أبيه، لعله يظفر منه بشيء من المساعدة. وكنت قد وُلدتُ منذ شهور؛ فحملَتْني والدتي بين ذراعيها وركبت القطار، ووالدي إلى جوارها. وهي فَرِحة بالرحلة تُمَني نفسها بنزهة في الريف جميلة: شهر عسل حقيقي وإن جاء متأخرًا. ولم تكن — وهي التي عاشت طول حياتها أمام البحر — قد شاهدت الريف قط؛ فكانت تخلط بين البقرة والجاموسة وهي تراهما في الحقول من نافذة القطار. وفجأةً أحسَّت كأن زوجها يريد أن يقول لها شيئًا ويتردَّد. ثم رأته قد تشجع ومال على أذنها قائلًا: «عندي كلمة أحب أن تَسمعيها» فأصغت إليه وقد توجَّسَت من نبرته ما أثار قلقها. قال: «إذا وجَّهَت إليك زوجة أبي كلمة جافية فتحمَّليها.»
شعرت والدتي عندئذ — كما وصفَت لي فيما بعدُ — بالدم الحارِّ إياه يصعد إلى رأسها وأجابت على الفور: «والله لو قالت لي كلمة لأرد عليها بعشرين!»
فجعل والدي يستعطفها: «أرجوك! … لأجل خاطري وخاطر أبي!
فلم تجب … ولبثت طول الرحلة مغلقة الشفتين منغصة البال، وقد ضاعت منها لذة السفر وبهجته … ووصلت إلى العزبة، فوجدت هناك بيتًا كبيرًا، أنزلوها هي وزوجها وطفلها في حجرة منه … بالجناح الذي تقيم فيه الزوجات القديمات … كانت كلُّ واحدة منهنَّ تختص بحجرة هي وأولادها … أما الجناح الآخر الأنظف في حجراته الأحسن في موقعه فقد كان مخصَّصًا لرب الأسرة الكبير وزوجته الجديدة المتمدِّنة وأولادها … ولم تلبث الزوجات القديمات أن أحَطن بوالدتي وجعَلْن يُحذِّرنها من غطرسة الجديدة وكبريائها … وكانت إحداهنَّ تُفصل ثوبًا بمقص في يدها وهي تقول: «غدًا تَرشقك بكلامها الحاد كالسيف.»
فأجابت والدتي في انطلاقة السهم: «والله لأقطع لسانها بهذا المقص الذي في يدك!»
ولم تمضِ ساعة حتى كانت هذه الكلمة قد نُقلَت بنصها إلى سيدة المكان! … ولا تدري والدتي كيف نُقلت ولا مَن التي نقلتها من بين الحاضرات … كل الذي تعلمه وتذكره دائمًا طول حياتها ولا تنساه هو أن الدنيا قامت وقعدت … وإذا بمحكمة تُنصب، وإذا بسيدة البيت تصيح بأعلى صوتها: «نادوا سيدكم الكبير.»
وإذا بربِّ البيت يَحضر بوقاره وشيبته وجبته وقفطانه، ويجلس في صدر المكان ويطلب والدي، ويأمره بإحضار زوجته لتُسأل هل تلفَّظت حقًّا بهذه الكلمة!
وحضرت والدتي تحملني بين ذراعيها. ووقف بجوارها والدي يهمس في أذنها أن تُكذِّب ما نُقل عنها … ولكنها قالت له بعصبيتها: «قلتها وأقولها مرةً أخرى في مواجهتها.»
فأفهمها والدي أنها إذا أصرَّت على هذا الموقف فإنه سيُضطرُّ إلى طلاقها … كانت والدتي تذكر لي مركزها هذا الدقيق وهي مُهدَّدة بالطلاق وعلى ذراعها طفل … وليس أمامها إذا وقعت الواقعة إلا شماتة زوج أمها الذي كان يَعتقِد دائمًا أن مثلها لن يُفلح في زواج. لن يكون لها مصير إلا المعيشة في بيت أختها التي تكرهها، والموت أهون لها من ذلك … لكنها على الرغم من هذا كله لم تُفكِّر في تلك اللحظة إلا في موقفها المهين أمام تلك المحكمة العجيبة المنصوبة لإذلالها، وهي العروس الضيفة! … وجعلت تنظر إلى الوجوه المحيطة بها؛ إن جميع من في هذا البيت الكبير قد حضَر المحاكمة؛ كل الزوجات القديمات وأولادهن ومن كان بالعزبة من إخوة زوجها ونسائهم لم يبقَ أحد لم يَحضُر ليُشاهد، أو ليشهد بالحق وبالباطل إرضاءً لسيد البيت ونفاقًا لزوجته المفضلة. لم يكن لها وقتئذ … وهي الغريبة … من سند وظهير بين كل هؤلاء إلا زوجها، ولكن زوجها كان كل همِّه أن يثير أزمة، كان يريدها أن تَكذب أو تَعتذر. وكانت هي تنتظر منه أن يقف إلى جانبها، وأن يثُور لها، وأن يُنافح عنها ضد زوجة أبيه … ولو أدَّى الأمر إلى انسحابه والعودة معها فورًا من حيث جاءا … لكنه وقف إلى جوارها كي يحثها على الإنكار أو الاعتذار. ولم تقبل هي واحدًا منهما. لقد أصرَّت على أنها قالت ما قالت، وأن مَن يتجرأ على إهانتها فإنها تقطع لسانه بالمقص … وكررت الكلمة وعند ذاك صرخت سيدة البيت وأهابت بالسيد الكبير أن يُنزل سخطه ونقمته على زوجة ابنه السليطة.
تقول والدتي إنَّ والدي سحبها من يدها وهو يُهمهم بكلمة الطلاق أو يُهدِّد بها. وخرج بها إلى حجرتها. كانت والدتي تقصُّ عليَّ هذا الموقف وهي منفعلة وتختم بقولها: «خذلني أبوك يومها … خذلني بنذالة!»
لم أكن مع الأسف في السن التي تعي ما حدث، لأُصدر رأيي، ولم أسمع القصة من والدي ولا رأيه فيها … ولكن الذي أعلمه أن والدي كان بارًّا بأبيه، شديد الحرص على إرضائه، وعلى إرضاء زوجة أبيه كرامةً لأبيه … قالت والدتي إنَّ الموقف لم يُنقِذه إلا السيد الكبير نفسه … فقد احترم فيها الشجاعة … وأدرك أنها ليست من طراز أولئك الزوجات القديمات، وأنه لا بدَّ لها من معاملة أخرى … فسعى إليها في حجرتها، ولاطفها وأصلح الأمور بينها وبين زوجته.
ولكن والدتي خرجت من رحلة الريف هذه بأمرَين؛ الأول تثبيت نظرتها المتشائمة إلى مثل هذه الحياة الزوجية … والثاني ضرورة إيجاد مَورد مالي لها يحميها من غوائل الدهر … فما إن عاد الوفاق بينها وبين زوجها على أتمِّه، وآنست منه إخلاصًا وعطفًا، حتى فاتحته بهدفها، فقال لها إنه فلَّاح ولا يفهم إلا في الأرض! … وكان لها من حصتها في البوغاز ومن نصيبها في البيت الكبير الموروث عن أبيها قدر من المال، استطاع زوج أختها بما طُبع عليه من شهامة ومروءة وأخلاق كريمة أن يَستخلِصه ويدَّخره لها … جُهزت بجزء منه، والجزء الباقي اشترى لها به عقارًا صغيرًا في حي رأس التين … ولم يكن جهازها قد تم نقله كله إلى المحلة الكبرى، فكتبت إلى زوج أختها تسأله أن يعرض الجهاز المتبقي للبيع وكذلك العقار … وقد تجمَّع لها من كل ذلك ما يقرب من ألف جنيه، وعاونها والدي خير معاونة وأصدقها في هذا المشروع. وجعل يبحث لها طويلًا عن بغيتها.
«١٥٧٠ (ألف وخمسمائة وسبعون فدانًا) … بناحية البلقون تعلق المرحوم أمين باشا سيد أحمد صهر حضرة إسماعيل بك صدقي … الوصول إليها بطريق الترمواي من كفر الدوار إلى محطة سيدي غازي … الأرض المذكورة هي بجوار عزبة الخواجة متري وعزبة الخواجة بابا المعروفة بعزبة شاكر شقير وعزبة الخواجة صيدناوي، الثمن المطلوب خمسة جنيهات للفدان … ولكنَّ المراد أخذها من ٢ جنيه إلى ٣ جنيهات.»
هذا ما سطره والدي بالحرف … ولم يتم بالطبع شراء هذه الصفقة … لكن من جهة أخرى هذا الفدان الذي عُرض للبيع بمبلغ خمسة جنيهات، وأراده والدي بجنيهَين أو ثلاثة، ماذا كان نوعه وصفته؟ … وماذا كان يمكن أن يثمر؟ لا شك أنه كان سيحتاج إلى استصلاح بأضعاف ثمنه، وكان سيغرق في رماله وسبخه وملحه ما ادَّخرته أمي وما يُمكن أن تدَّخره طول حياتها. ووالدي له من النصائح المالية ما يغرق للآذان، كما سنرى فيما بعد. فعلها معي أنا نفسي مرة عقب الحرب العالمية الأولى … عندما هبطَت قيمة المارك الألماني بعد هزيمة ألمانيا. كنت قد ادخرت عشرة جنيهات، جمعتُها مِن مصروفي طول عهود دراستي بالصبر والحرمان … فجاء ذات يوم يزفُّ البُشرى ويقول: «إنَّ المليون من الماركات سعره الآن في البورصة عشرة جنيهات.» … وظلَّ بي يُغريني حتى دفعت له الجنيهات العشرة مدخري كله، فذهب بها وعاد إليَّ بشيك طويل عريض على «الدويتش بنك» تحرَّر عليه بالألمانية مليون مارك. قدَّمه إليَّ وقال بلهجة الانتصار: «أنت الآن يا ولد مليونير!» … كان دائمًا يناديني بلفظ «يا ولد» أو «يا ولد يا توفيق» … حتى بعد تعييني عضوًا بالنيابة! … وجعل يَحسب لي بالقلم والورقة وهو يقول: «لا بد من ارتفاع سعر المارك غدًا … لأنه من غير المعقول أن يظلَّ هكذا في ألمانيا عندما تستتبُّ الأمور … فلنَفرض مثلًا أن قيمته ستُصبِح قرشًا واحدًا … إذن سيصبح معك عشرة آلاف جنيه … فلنَفرض أسوأ الفروض ولنقل إنه أصبح بنصف قرش؛ إذن سيكون عندك خمسة آلاف! … خمسة آلاف جنيه على أسوأ فرض! … ما رأيك؟»
وجعلت أحلم بهذه الآلاف … إلى أن أُعلنت الحقيقة ذات يوم … الحقيقة المرة … لقد قررت ألمانيا إلغاء هذا المارك … وأصبح الشيك الطويل العريض الذي في يدي حبرًا على ورق! وضاعت جنيهاتي العشرة!
لم أغتفر لوالدي يومئذ تلك النصيحة المالية التي خربتني! … لذلك لستُ أشك في أن تلك السطور التي دونها في دفتره هي من وحيه المالي، وأن اتجاهه إلى البحث عن الأطيان التي تعدُّ بالألوف وتُشترى بالقروش إنما هي من بنات أفكاره … ولكنَّ الله سلم! … لم يتحقَّق حلمه الذهبي … بل تحقق شيء آخر.
ظهر في ذلك الوقت قريب لإحدى زوجات جدي القديمات، كان رجلًا طيبًا يحب والدي وأراد أن يخدم والدتي … سمع بنُصح مَن نصحها بشراء عشرة فدادين فقط جيدة بمبلغها هذا … فرفض هذا الرأي وقال لوالدتي: «والله لأعثر لك على عزبة لا تقلُّ عن سبعين فدانًا يُمكن مع العمل أن تُصبِح جيدة.» وكان ما قال، وعثر لها فعلًا على عزبة بهذا القدر بناحية أبي مسعود … كانت تُسمى عزبة نوري، معروضة للبيع بثلاثين جنيهًا للفدان صالح أكثرها للزراعة.
وهنا برزت عقبة كبرى، جملة المبلغ المطلوب ٢١٠٠ جنيه وكلُّ المتحصل الموجود في يد والدتي حوالي ألف لا غير … ما العمل؟ لم يكن هنالك من سبيل لشراء هذه الأرض إلا اقتراض الباقي من البنك العقاري … وتمَّ السعي لدى البنك فقبل بشرط أن يُوفد خبيرًا يُقدِّر قيمة الأطيان … وكان الخبير — لحسن المصادفة — من أصدقاء والدي منذ عهد الدراسة … كانا مُتجاورَين في الحارة المذكورة التي سكنوا فيها أيام الطلب … أصبح مهندسًا ومقاولًا وخبيرًا … وقد ظلَّ صديقًا للعائلة طول حياته … سيأتي ذكره هنا فيما بعد، فلأذكر اسمه الأول فقط «يوسف» … هذا المهندس الصديق «يوسف» قدَّر الأرض تقديرًا طيبًا سمح للبنك أن يُقرِض المبلغ على أن تُرهَن له الأطيان، ويُسدَّد الدين على مدى ثلاثين عامًا بالفائدة. أسرد هذه التفاصيل؛ لأني عشتُ طول شبابي الأول، وتخرجت في مدرسة الحقوق، وسافرت إلى أوروبا وعدتُ منها وعُيِّنت عضوًا بالنيابة، والرهن قائم والفوائد تُدفع والأقساط تُسدَّد، وهذا القرض لا يزال راسخًا عتيدًا لا يُريد أن يزول! ووالدتي تعترف دائمًا لوالدي بجميل سعيه وجريه واجتهاده بكل همة وإخلاص في موضوع شراء هذه الأرض، حتى تمَّت كل تلك الإجراءات المُضنية اللازمة لعقد شراء الأطيان وتسجيله … غير أنها فوجئت — كما تقول — ذات يوم في غيبة والدي باستلام أوراق، ما إن اطَّلعت عليها حتى جُنَّ جنونها: لقد اكتشفت أن زوجها كتب لنفسه ثلاثين فدانًا من الأطيان وكتَب باسمها الأربعين. ولكنها ليست باللقمة السائغة ولا الفريسة الهينة … إنها لم تكَدْ ترى وجهه حتى استقبلته بالصراخ والزعيق واتهمته بسوء استغلال التوكيل عنها، ورمته بألفاظ النصب والاحتيال، وظلَّت به تنكد عليه عيشته بما طُبعت عليه من صلابة إرادة حتى استسلم وأذعن … ونهض يُصحِّح الوضع كما شاءت هي … وبذلك أصبحت حُجَج الأطيان كلها باسمها هي وحدها.
٤
كل هذا وقع وأنا في السنوات الأولى من عمري. في تلك السنِّ التي لا تَستطيع معها الذاكرة أن تخترق الضباب الكثيف المُحيط بها. فنحن عندما نُريد أن نرتد بذاكرتنا إلى الطفولة نجدها قد انتهَت إلى شبه جدار أسود أصم نَصطدم به، لا نُبصر بعده شيئًا. اللهم إلا بعض صور مبتورة غامضة، نحار في معناها، ومهما يُحاول الكبار تفسيرها لنا، فإن هذا التفسير يبدو أضأل بكثير من الحجم الهائل الذي تبدت لنا فيه. ذلك أن كل شيء تحرك في عالم الطفولة اتخذ أشكالًا لا يستطيع عقل الكبار أن يحيطوا به ليفسروه على حقيقته التي ظهر بها في ذلك العالم الصغير الكبير الغامض. من ذلك منظر تلك العفاريت، المتدثِّرة في البياض أو السواد، التي كانت تظهر لي خلف الأبواب، ثم تختفي بسرعة البرق! كنت أرتاع منها أشد الروع، وكنت أحار في تعليل طريقة ظهورها واختفائها. قيل لي فيما بعد إنها الخادم والمُرضِعة كانتا تتدثران في ملاءة الفرش البيضاء أحيانًا وفي ملاءة سوداء، لتخيفاني وتُسكتاني. ذلك أنى كما يَروون كنت طفلًا مزعجًا، «بشقاوته وعفرتته» … كان همي إلقاء أدوات المنزل وأوانيه من ملاعق وشوك وسكاكين وأطباق وغيرها من النافذة. والفرجة عليها والمرح بمَنظرها وهي مُلقاة بالطريق. وتعدى الأمر ذات يوم إلى «نميسة» ذهبية للمرضع اشترتها بكلِّ ما ادَّخرته من أجرها، غافلتُها وانتزعتها من صدرها وألقيت بها في الطريق. وكان باب المنزل قد أغلقته علينا والدتي بالمفتاح، كعادتها عند خروجها لزيارة، حتى لا تنزل بي المرضعة إلى الطرقات. فلما ألقيتُ بالحلية الذهبية. وقفت صاحبتها في النافذة تنظر إليها وهي ملقاة في الشارع وقد أصابها الخبل، وجعلت تصيح وتستغيث بالمارة والجيران. وأنا أنظر إليها ضاحكًا من منظرها كما قالوا.
لا أذكر تمامًا مثل هذه الحوادث. إنها وقعت ولا شك في مرحلة خارج منطقة الوعي عندي. كل ما أستطيع أن أذكره وأعيه في تلك المرحلة هي صورة العفاريت المتدثرة في البياض أو السواد! هذا ما استطاع أن يَعلق بذاكرتي على نحو باهت غامض.
ثم عقب هذا العهد مرحلة أخرى أكثر وضوحًا: مرضي الطويل. لقد وُلدت فيما علمت ممتلئ الصحة. ولكن هذه الصحة لم تدم أكثر من سنوات قلائل، أربع أو خمس. ثم ألمت بي الأمراض … إني أذكر هذه المرحلة … يُخيَّل إليَّ أن المرض كان مقيمًا بجسمي لا يزول إلا ليعود … لستُ أدري أي نوع من الأمراض … لم تكن فقط مجرَّد أمراض الأطفال المُعتادة، من حصبة وسعال ديكي وإسهال ونحو ذلك … إنها كانت أمراضًا أخرى، علاوة على أمراض الطفولة تلك، استغرقت عندي سنوات متتالية … كانت فترات الشفاء أندر من فترات المرض … أذكر أن جدَّتي قالت لي يومًا ونحن في الإسكندرية ذات صيف: سآخُذك لزيارة مقام سيدي الطرطوشي! … وهو مشهور بشفائه للأمراض، وخاصة للحمى التي كانت تُلازمني ملازمة الرفيق السوء … كان هنالك شرط لا بد منه: أن أفيَ بنَذرِه المعروف؛ وهو الامتناع التام عن أكل الجبن الرومي … كان يقال إنه يمقت الجبن الرومي … وكنت بالطبع أصغر سنًّا من أن أُناقش هذا القول، وأسأل: هل سيدي الطرطوشي، وهو مِن أولياء الله الغابرين، كان مُعاصرًا لظهور الجبن الرومي؟!
نذرتُ له ذلك النذر بكل إخلاص الطفل المؤمن الساذج، ونفذته بكل أمانة ودقة … أذكر أني لبثت مدة طويلة لا أقرب هذا الجبن ولا أمسُّه بشفتي مع حبي الشديد له … وشُفيت فعلًا!
صورة أخرى أذكرها باهتة هي الأخرى في تلك المرحلة … هي مرض أمي الطويل … فقد رأيتها صفراء الوجه، كثيرة الرقاد في فراشها، نحيلةً إلى حدٍّ مخيف … قيل إنها منذ ولدتني أصابتها العلل … كانت قبل حملها فيَّ مُمتلئة بالصحة إلى حدٍّ جعلها لا تَشبع من الطعام … وكانت تخجل من إظهار جوعها أمام زوجها، وهي العروس الجديدة في بيت الزوجية … فكانت تُكمل وجباتها خفية في غيبة زوجها بما تقع عليه يدها من أي شيء يُؤكل تُصادفه … ولكن الحمل الأول بي، ثم الولادة، قد أضرَّت بها ضررًا بليغًا … قال لها أحد الأطباء إنَّ كليةً من كليتَيها انخلعت من مكانها، وإنها ربما ارتدَّت إلى موضعها بحمل آخر … وتَعلق بذاكرتي حتى الآن صورة سلة صغيرة بها فاكهة كانت دائمًا بجوار فراشها … فقد كان موصوفًا لها الإفطار بالفاكهة … كنت أختلس النظر إلى هذه الفاكهة ويَسيل لها لُعابي ولا يُباح لي الدنو منها … فقد قيل لي إنها دواء من الأدوية … وكان والدي طول مرض والدتي لا همَّ له إلا العمل على شفائها واستشارة الأطباء في كل مكان … ولما طال المرض وتغير شكل والدتي نصَحَه أقرباؤه في الريف أن يكف عن شغل نفسه بامرأة مريضة، وأن يُفكِّر في الزواج من أخرى صحيحة سليمة … فكان يأنف من الإصغاء إلى هذا الكلام … وعكف على الاطلاع بنفسه في كتب الطب ليتحرَّى عن دائها، بعد أن يئس من الأدوية والأطباء … رأيت كتابًا بالفرنسية جاء به والدي ضخمًا من ثلاثة أجزاء — لم يزل عندي حتى الساعة — يبحث في الجسم البشري، ويُصور أعضاءه الداخلية في لوحات ملونة مكبرة … فالكلية تملأ صفحة ظهرت فيها كل تفاصيل تكوينها مع شرح لوظيفتها وما تحتاج إليه لاستمرار عملها بانتظام … كان والدي الذي لا يكلُّ ولا يملُّ يأتي من عمله القضائي فيطالع هذا الكتاب بدقته المعهودة، ليقف بنفسه على سر المرض. كل شيء كان يدرسه بنفسه — بما فُطر عليه من صبر وجلد ومُثابرة وقوة احتمال — دراسة دقيقة مستفيضة، كأنها قضية القضايا، لعل ذلك أيضًا أثر من آثار التكوين الأول لجيله المَتين، القديم الدءوب على البحث والتمحيص.
وكنت أنا ألهو بصور هذا الكتاب أحيانًا، وتجذبني إليه ألوانه الزاهية وجلدته المذهبة، يُدهشني أن هذا الكتاب بقيَ حتى اليوم في حوزتي، يَنتقِل معي من بيت إلى بيت، ومن عمر إلى عمر، دون أن يُفقد، وبغير أن يلقى منِّي عناية خاصة في الاحتفاظ به. يظهر أن للكتب أقدارًا وأعمارًا مماثلة لأقدار الناس وأعمارهم يعمر منها ما يعمر بغير ما سبب، ويختفي منها ما يختفي بغير ما سبب أيضًا! … هذا الإخلاص من والدي كان له أعمق الأثر في نفس والدتي، كما تقول … فقد أدركت منه مبلغ تقديسِه للواجب وحرصه على الزوجية. وقد أخلصت له هي أيضًا وأحبَّته كثيرًا، وبعد ميلادي بعدة سنوات وضعت والدتي أخي الأصغر والوحيد … وسماه والدي «زهير». تيمنًا باسم الشاعر الجاهلي «زهير بن أبي سُلمى» الذي كان يحفظ معلَّقته المشهورة. ما من شك أن والدي لو كان حاضرًا ولادتي لأسماني باسم من هذه الأسماء! فكنت اليوم أدعى «امرؤ القيس الحكيم»، أو طرفة أو لبيد ونحو ذلك … ولكن الله سلَّم!
وتريد سخرية القدر أن يكون «زهير» أخي هذا من أبعد أهل الأرض عن الشِّعر وسيرته! … لم ينطق فمه يومًا، ولو على سبيل المصادفة، ببيت واحد من الشعر … كان اتجاهه في الحياة منذ نعومة أظفاره إلى نقيض الشعر والأدب والفن وكل ما يقترب من هذه المنطقة … وجهاته في الحياة — كوالدتي — مادية عملية بحتة … وهواياته هي الرماية والصيد والسباحة والرقص ولعب الورق، وغير ذلك مما لا أستطيع أنا وصفه أو التفكير فيه.
وظلَّت أمي بعد ولادته على مرضها قليلًا، ثم أخذت في التحسُّن البطيء إلى أن اقتربت من الشفاء. وكانت تحبُّ الحلوى وتأكلها بعد وجبة الغداء، وتقول لي عندما أمد يدي إليها بخوف ورجاء: إنها أيضًا دواء وصفه لها الطبيب. ولكن يظهر أني لم أَعُد أقتنع بهذا القول فكانت إزاء وقفتي الطويلة المستجدية كشحاذ صغير يَلتمس الحسنة، تُلقي إليَّ بقطعة منها قائلة: «خد ورُوح في داهية!» فإذا جاء موعد الغداء التالي ذهبت إليها أمد يدي وأقول: «أعطيني واحدة وقولي لي روح في داهية!» أما أخي الأصغر فإنه عندما كبر قليلًا لم يكن يمد يده بالسؤال، بل كان يَقتحم ويخطف من يدها خطفًا ما يراه قبل أن يَختفي في فمها … فعمدت إلى غلق حجرتها عليها بالمفتاح عندما تتناول حلواها، تحاشيًا من هجومه وخطفه … لكنه كان أحرص وأمكر … فما … يكاد موعد الوجبة يقترب حتى يكون هو أسبق إلى الحجرة، يختفي تحت فراشها ويتربَّص بها حتى إذا أغلقت بابها واطمأنَّت وأخرجت الحلوى ودنت بها من فمها، خرج هو من مكمنه منقضًّا خاطفًا ناهبًا كالصقر. لا يُفلت منه شيء!
كان أخي منذ طفولته عنيفًا جريئًا … ولعله ورث ذلك عن والدته ميراثًا كاملًا. فكانا بذلك من معدن واحد. مما سبب لها هي كثيرًا من المتاعب … أما أنا فكنت كلَّما كبرتُ ملتُ إلى الهدوء والتأمُّل، واتخذت الكثير من سمات أبي، لكن مع بركان داخلي في أعماقي هو «والدتي» مثل بركان «فيزوف» ينشط ويخمد في فترات ودورات. كانوا في صغرنا يضعونني أنا وأخي في سرير واحد، لضيق المساكن التي كنا نقطنها … فإذا جاء الشتاء تنازعنا طول الليل الغطاء … وما كنت أشعر إلا وأخي قد شد عليه الغطاء كله بعنف وتركني في العراء، ثم ما يلبث هو أيضًا من كثرة حركته العصبية العنيفة أن يترك الغطاء ينحدر من فوق جسمه … فكان يُصاب كلانا بأمراض البرد، مما ألجأ أهلنا إلى اختراع عجيب، طالما ضايقنا: فصَّلوا لنا غطاءنا من البطاطين على شكل كيسين مثل أكياس القطن، يُدخلون كل واحد منَّا في كيسٍ بجسمه وذراعيه فلا يظهر من فتحته إلا الرأس فقط، ثم يشدُّون على العنق رباطا كرباط التكة، ويُلقون بالكيسين فوق السرير، ليَمكثا هكذا ونحن داخلهما بلا حراك حتى الصباح … كنت أدخل أنا كل ليلة في زكيبتي وأنا أكتم تضرُّري وضيقي ولكن أخي ما كان يكتم شيئًا … طبيعته في هذا أيضًا كطبيعة والدته … وعلى عكس طبيعة والدي … لا يستطيع أن يكتم أو يكظم … لذلك كان يَصيح ويحتجُّ ويلعن ويسبُّ ويحرن ويأبى الدخول في كيسه … ويظلون به يلاطفونه ويحتالون عليه بمختلف الحيل حتى يرضى ويلين … كان له من الصياح والزعيق طريقة يخيف بها والديه أحيانًا ويُضحكهم أحيانًا، فينتهون دائمًا إلى النزول على إرادته … كنت أرتكب أنا وهو نفس الذنب … كأن نتسلَّق معًا جدارًا للجيران لنَسرق ليمونة من شجرة، أو نتقاذف شيئًا فنصيب به لوح زجاج فيكسر … ويأتي أبي بالفلَقة ليضربنا … فإذا أنا الذي أتقبل العقوبة وأُضرب بالفعل، أما أخي فما يكاد يجيء دوره حتى يَصيح ويتشنَّج ويبكي ويلعن، مما يحمل والدي على الذهول عنه أو الضحك منه، ويفسد بذلك موقف الجد، فيُضطرُّ إلى أن يتركه ويمضي.
على أن طفولتنا بوجه عام لم تكن طفولة مدلَّلة … فأنا لا أذكر أني تلقيت من أهلي لعبة من اللعب … إلا مرة: دخل علينا والدي وفي يده وابور صفيح صغير في حجم الإصبع، يُباع في الشوارع بنصف قرش، قدمه إليَّ بزهو وهو يقول: «خد العب يا وله!»
فلم أفرح به كثيرًا؛ لأنه كان ضئيلًا جدًّا، ولا يسير إلا دفعًا باليد … لا يُملأ بمفتاح، ولا يُبهِر لونه النظر … ولم نكن نعرف هذا الذي يسمونه اليوم عيد الميلاد، ويصرُّ على الاحتفال به أولادنا وأحفادنا، ويطالبون فيه بالحلوى والشموع والهدايا وإرسال الدعوات … ما كنا نذكر قط أو نعرف لنا أيام ميلاد. ما كنا قط نعطي ولا كان أحد يعطي لحياتنا أو تاريخ وجودنا مثل هذه الأهمية … اليوم الوحيد الذي كنا نشعر فيه بجديد هو يوم العيد، الكبير أو الصغير؛ فقد كنا نتلقَّى فيه خمسة قروش «عيدية»، كنت أنا شخصيًّا أكتفي باللعب بها طوال أيام العيد؛ ثم أردُّها بعد ذلك إلى أهلي دون أن أنفقها.
غير أن قدوم العيد كان هو حقًّا كل فرصتنا لشراء ما يلزمنا من ملابس جديدة تنفعنا طول عامنا … فكانوا يأخُذُوننا إلى محل يُسمى «ماير»، ثم إلى آخر يُسمى «ستاين»، وهناك يقوم دائمًا بيننا العراك والصراع … فوالدي يبدأ أول ما يبدأ بقراءة بطاقة الثمن … ثم يأخذ في تقريظ وتحبيذ النوع الأرخص، أما نحن فلا نَنظر في بطاقات، ولكن نتجه بأبصارنا توًّا إلى ما يحلو لنا، فإذا بنا قد وقعنا على الأصناف الغالية! … لكن من ذا الذي كان يستمع إلينا؟ كان والدي يُشير من طرف خفي إلى البائع فيلفُّ لنا في الورق بسرعة ما اختاره هو لنا … فنَمضي به صاغرين.
نأتي بعد ذلك مرحلةً أكثر وضوحًا؛ مرحلة عجيبة لا أدري كنهها حتى الآن … ظاهرة لم أستطع لها حتى اليوم تعليلًا طبيًّا … كنت أُصاب بحمى تُلزمني الفراش نحو ثلاثة أيام، كلما وقع بصري على جنازة مارة في الطريق. وعرف أهلي ذلك مني فكانوا يحرصون على تجنيبي منظر الجنازات … أذكر يومًا كنت مع جدتي في مركبة عائدة بنا من السوق إلى البيت، وكنت في أتمِّ صحة وسرور، وإذا بجنازة تظهر فجأة عابرةً شارعًا بعيدًا، أبصرتها عين جدتي فسارعت تهمس للحوذي أن يَحيد بمركبته عن ذلك الشارع، وحسبت المسكينة أنها قد أفلحت في إنقاذي من الحمى هذه المرة … ولكنها شعرت برعدتي ورأت وجهي يسحب ويتصبب منه العرق، فأدركتْ أني لمحتُ الجنازة ساعة لمحَتْها هي، وأن الحمى سرت في جسمي وانتهى الأمر.
ما العلاقة بين شيء معنوي خارجي كمنظر جنازة مارة، وهذه الإصابة السريعة بمرضٍ مادي جثماني كالحمى؟! … لم يخطر على بال أحدٍ هذا السؤال … كانوا يَكتفون بعلاج الحمى بمكمدات الملح والخل ونحو ذلك حتى أبرأ، وتتكرَّر الإصابة لعين السبب، ويتكرَّر عين العلاج، وهكذا دواليك … أتراها قصة ملك الموت … التي رواها «جوته» في إحدى قصائده الرائعة؟ … حكى أن طفلًا تعلَّق بصدر أبيه ليحميَه من صوت خفي يُغريه برائع الهدايا واللعب والأزهار كي يذهب إليه … ويمضي معه، وحسبَ الأب كلام ابنه عبث أطفال فلم يأخذه مأخذ الجد؛ فما بلغ به عقبة البيت حتى كان الطفل قد فارق الحياة!
أترى الأطفال في صفائهم الملائكي يُحسُّون ويسمعون دبيب أقدام ملك الموت؟! … أذكر في طفولتي أيضًا مثل هذا الحدث الغريب وقع لطفلة لطيفة رقيقة هي عمتي … ابنة الزوجة المتمدنة لجدي … ذهبنا إلى عزبتهم في صفط الملوك مرةً أخرى ذات صيف، وقد صفَت المودة بين تلك الزوجة ووالدتي … وكان أطفالها أي أعمامي وعماتي يقاربونني في السن … فكنا نُمضي يومنا في اللعب بجوار ساقية مهجورة تحفُّ بها زراعة قصب وذرة … وجعلنا فيما أذكر نصطاد العصافير ونجري خلف طائر أبي الفصاد … لكن تلك العمة الطفلة الجميلة كانت ترغمنا إرغامًا على لعبة واحدة لا تتغيَّر، تُصر على تكرارها هي بعينها كل يوم: كانت تقع على الأرض مُمثِّلة دور المريضة ثم تتصنَّع كأنها تموت. ما من مرة لعبنا فيها معًا إلا ومثلت دور الموت! … أذكر أن قلبي كان يَنقبِض انقباضًا شديدًا لهذه اللعبة … إلى أن رحلنا وفارقنا عمتي الطفلة … فما كاد يَمضي عام حتى سمعتُهم يقولون إنها ماتت.
إني فيما وقع لي أعتقد أني كنت محلًّا لصراع عنيف بين قوتين؛ قوة الموت وقوة الحياة … وكانت الحرب بينهما سجالًا … ولكن الجسم كان يتخاذل منهوكًا محمومًا في ميدان ذلك الصراع الخفي، انتصرت قوة الحياة … وولَّت أيام الطفولة، وأسدلَ العقلُ ستاره الصفيق على صفاء الروح، فلم تَعُد تسمع دبيب خطوات ملك الموت، ولم يَعُد منظر الجنازات يهزني … وشُفيت من الحمى، لكنَّ داءً آخر بدأ ينمو عندي بنمو العقل: إنه القلق. لم أستطع منه فكاكًا طول عمري، إني في حالة قلق دائم طول حياتي، حتى عندما لا أجد مبررًا لأيِّ قلق، سرعان ما ينبع فجأة من تلقاء نفسه. هذا القلق الرُّوحي والفكري لا ينتهي عندي أبدًا ولا يهدأ. إنِّى سجينه سجن الأبد … ولا أدرى له تعليلًا.
شيء آخر لا تعليل له عندي أيضًا؛ كنت أنطق أحيانًا بكلام يشبه التنبؤ. من ذلك أننا كنا نقطن — بمدينة ريفية صغيرة — بيتًا يُشرف على السكة الحديدية. وفي ذات يوم وذات ساعةٍ مَرَّ قطار من تلك القطارات التي تمر بنا كل يوم كل ساعة، ولكني أشرت ساعتئذ إلى ذلك القطار بالذات وصحتُ بلا مناسبة: جدَّتي في هذا القطار! وما كان أحد يذكرها أو يتوقع حضورها. فقد كانت مُقيمة منذ شهور طويلة عند بنتها الكبرى في الإسكندرية. ولم تمض لحظات حتى ظهرت جدتي بالفعل داخلة بحقيبتها على غير انتظار! وفي يوم آخر جاءنا تلغراف بأن أحد أعمامي الكبار تُوفي … كان يُدعى محمود … لم يذهب إلى مدارس كما فعل أبي … بل اشتغل من أول الأمر بالزراعة … ثم استأجر أطيان والدتي التي اشترتْها لمدة خمس سنوات كما اشترط … فزع والدي ووالدتي للخبر، وقاما فلبسا السواد للتعزية، وجهزت الحقائب لسفر والدي … ولكني ضحكت … كما قالوا — وصحتُ بهم: «لا تُسافروا … إنه لم يمت!»
ولم تمض ساعات إلا وكان عمي هذا داخلًا علينا يحمل سلة كبيرة بها بيض وجبن وطواجن الحمام بالأرز الفلاحي … واتَّضح أن التلغراف محرف: كان المقصود «محمود توجَّه اليوم …» فأخطأ عامل التلغراف وكتب «تُوفي» بدلًا من «توجه» … في ذلك الزمن كان الخطأ شائعًا في التلغرافات لحداثة العهد بها وقلة مران الموظفين عليها.
روى لي أهلي فيما بعد أنهم كانوا يَعجبون لمثل هذه الحوادث مني. أما أنا فما كنت بالطبع أرى فيما أفعل عجبًا … لأني ما كنتُ أعي أو أعقل ما أقول وأفعل.
٥
لستُ أعتقد أني كنتُ مختلفًا عن غيري من الأطفال في تلك السن، التي هي دون العاشرة، أو على أبوابها … لعلَّ تلك هي إحساسات الجميع في مثل هذا العالم الصغير العميق العجيب … حاولتُ أن أرجع بذاكرتي إلى حدود تلك المنطقة لأعرف: هل كان لي وقتئذ نوع من الإحساس بالجمال والشعور بالحب؟ يبدو لي أني شعرت بشيء كهذا … على نحو غامض بالطبع … يُخيَّل إليَّ أني كنت أحسُّ بإحساسٍ خاصٍّ نحو طفلة في مثل سني أو أصغر قليلًا … أذكر أنها كانت شقراء الشعر … هي ابنة لإحدى الأسر في الأقاليم، كان بيننا وبينها تزاوُر. كنت أحلم ليلًا بهذه الشقراء الصغيرة! وكنت أتلهَّف على لقائها واللعب معها، والغضب المكتوم والحسرة والحزن والاكتئاب كلما لمحت منها اهتمامًا بغيري من الأطفال، كما كنت أشعر بسعادة دافقة إذا أقبلت عليَّ وفضَّلتني في اللعب معها على سواي … ثم كان أن أحضروا من الريف طفلة في العاشرة لتعمل خادمًا لدينا … تأمَّلت وجهها فوجدته دقيق القسمات خمري اللون … لستُ أدري ماذا حدث في قلبي الصغير يومئذٍ … كل ما أعرف هو أن ميلًا غامضًا جذبني إلى هذه الصبية اللطيفة، فصرتُ أعطف عليها عطفًا خاصًّا، وأحميها ممَّن يُغضبها أو ينتهرها … إلى أن اختفت يومًا من حياتي … جاء أهلها فيما يظهر ذات يوم في غفلة مني وأخذوها … فحزنت كثيرًا على ذهابها.
في تلك المرحلة كنت أذهب إلى الكتاتيب في كل بلدة نحلُّ بها، ولا بد أنهم أرسلوني إليها منذ سن مبكرة جدًّا … لأني أذكر صورًا غامضة عن حاجتي الملحَّة الضاغطة إلى التبوُّل والمرحاض، ولكن خشيتي من المقرعة الجريد المرفوعة في يد شيخ يحفظنا القرآن كانت تُفزعني وتلجم لساني عن الإفصاح بحاجتي، فكنتُ أكتم ما بي وأعود إلى البيت كل يوم وقد فعلتها في سراويلي! … إلى أن كبرت قليلًا واستقرَّ بنا المقام في مدينة صغيرة … هي دسوق فيما أذكر … فالتحقت بمدرستها الكبرى الوحيدة في البلد: مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية … لم تكن هناك يومئذ مدرسة أميرية … وبدأت أحلُّ رموز حروف الهجاء … كان والدي قاضي البلد … وكنا نقطن بيتًا بينه وبين المدرسة أرض خلاء تتخذها المدرسة فناءً تجتمع فيه الطوابير … ولا أنسى ذات يوم وقفنا فيه صفوفًا بطابور الصباح والناظر يُشرف علينا … وإذا رجل قد مر أمامنا فحياه ناظرنا باحترام، ثم نادى في الطوابير: «سلام أل» — نداء التحية بالتركية في ذلك العهد — فدقَّت المدرسة كلها بأرجلها في الأرض وارتفعت الأيدي إلى الطرابيش بالسلام … لم يكن هذا الرجل الذي حياه الناظر والمدرسة سوى والدي … خرج من البيت مُصادفةً ساعة وقوفنا في الطابور فأدَّى خروجه إلى هذا الاستقبال بالاحترام من المدرسة وناظرها … إنه قاضي البلد … كان شعوري وقتئذ مزيجًا من فخر داخلي قليل مع الكثير من الخجل والحياء … لستُ أدري لماذا كنتُ أودُّ لو أختفي في باطن الأرض … وأن يجهل التلاميذ كل علاقة لي بهذا الرجل الذي يُحيُّونه بالسلام الرسمي! ولو كان الناظر قد خطر له تلك اللحظة أن يخرجني من الصف ليضعني إلى جوار والدي أمام الحشد من الطوابير لكنتُ قد سقطت ولا شك مغشيًّا عليَّ … لستُ أدري تعليلًا لهذا الشعور … إني لم أزل حتى الساعة محتفظًا بصورة منه … لذلك لم أدهش كثيرًا لما حدث لابني في موقف مماثل … جاء يروي ذات يوم أن مدرسًا ناداه من بين صفوف فصله، وأصعده إلى المنصة ووقف بجواره يلقي خطبة طويلة عريضة تقريظًا لوالده الفائز بتقدير أدبي رسمي … أردتُ أن أعرف شعور ابني … وقد كان هو أيضًا في العاشرة … خجل أن يُفضي إليَّ مواجهة … لكني استطعت أن أعلم أنه كان متبرمًا أشد التبرم … لم يكن مُضطربًا ولا مُرتبكًا ولا فَزِعًا كما كنت … وتلك مزية الجيل الحاضر … لكنه كان يقول في نفسه أثناء خطبة المدرس: «وأنا مالي أنا؟!»
لم يكن يشعر أن الأمر يُهمُّه على الإطلاق … إلى أن اختتم المدرس كلامه الطويل بقوله: «وعسى أن يكون الابن مثل أبيه.»
فإذا بزملائه الخبثاء يصيحون: «دا بليد في العربي!»
فأشار إليهم بقبضة يده متوعدًا من خلف ظهر المدرس: أن اصبروا حتى أخرج لكم في الفسحة! … ولم يتغيَّر شعوره عندما كبُر قليلًا … فقد ظل يشعر بالضيق كلما أثار لفت النظر إليه بسبب أبيه.
لستُ أذكر بالضبط متى كان أول انفعال لي بالجمال الفني؟ … لعلَّ أول مظهر من مظاهره اتخذ صورة التلاوة القرآنية الجميلة، يوم كنت في الريف بأبي مسعود … أحضروا لي شيخًا يحفظني القرآن ويُعلمني مبادئ القراءة والكتابة، في ذلك الوقت من العام … وقت الصيف حيث نُغادر البنادر بمَدارسها … ولا يوجد في ناحيتنا تلك من الريف وقتئذ كُتاب من الكتاتيب … كان ذلك الشيخ الذي أحضروه جميلَ الصوت … يُعلمني ويُحفظني ساعة … ويتلو القرآن ساعة ويؤذن للصلاة في المصلَّى القائم على حرف الترعة … كان الإعجاب بصوت هذا الشيخ في كل الناحية حافزًا لي على محاكاته … فكنتُ أحفظ ما يُلقِّنني إياه من الآيات لأتلوها مثله بصوت جميل … ويظهر أنه كان لي مثل هذا الصوت … إذ كنت أسمع من يُطريه ويُثني عليه، فيَزيدني ذلك إقبالًا على التلاوة وتجويدًا لها … وشعرت لأول مرة في قرارة نفسي بما يُشبه الشعور باللذة الفنية … ذلك الذي نصفه اليوم بإحساس الفنان وهو يقوم بعمل فني.
كان من عادة ذلك الشيخ أن يَنام ساعة القيلولة تحت شجرة سنط قرب الترعة … فإذا أفاق ليؤذن للعصر مسح وجهه بكفَّيه مُستشهدًا وهو لم يزل مغمض العينَين … ولاحظ أخي الصغير ذلك منه بما جُبل عليه من روح المداعبة الخبيثة، فتربص به حتى غرق في النوم مادًّا كفَّيه إلى جنبَيه، فذهب وأحضر من الترعة قطعتَين من الطين ملأ بهما هاتين الكفين للشيخ النائم! … فلما أفاق لصلاة العصر ومسح وجهه بكفَّيه على عادته تلطخ وجهه بالطين فأثار ضحك الحاضرين … وقام الشيخ غاضبًا لاعنًا ساخطًا على قلة الأدب وعبث الصغار وسُخرية أهل العزبة، وأقسم ألا يَبيت فيها ليلته … وبذلك فقدتُ ذلك المنبع الأول من منابع إحساسي الفني.
ثم شعرت بعد ذلك بالفن في صورة أخرى … مولد سيدي إبراهيم الدسوقي … والموكب الذي كان يمر من تحت نوافذنا، يركبه الخليفة على حصانه شاهرًا سيفه تحف به البيارق والأعلام والبنادير والرايات بمختلف الألوان والطبول الكبيرة والمزامير بمختلف الأحجام، ثم عربات النقل الكثيرة، يتلو بعضها البعض في صفٍّ طويل لا ينتهي، تجرها كل أنواع الدواب من خيول وبغال وحمير وبقر وجواميس وثيران، كل عربة تُمثِّل حرفة من الحِرَف بكل أدواتها وأهل «الكار» فيها … فالحدادون على عربتهم أمامهم الكور والسندان يَضربون بالمطارق مُمثلين عملهم … ثم يأتي النجَّارون بالمناشير، والبناءون بالمسطرين، والفخرانية بالقلل والأباريق، والسمكرية بالكيزان وفوانيس رمضان … كلُّهم يُمثلون أدوارهم في الحياة … حتى الفكهانية لهم عربتهم قد علَّقوا عليها الأغصان يتدلى منها التفاح والبرتقال. نوع من كرنفال ساذج ولكن تأثيره على نفسي في تلك السن كان عجيبًا. كان شيئًا لا يُمكن وصفه.
على أن بدء اهتمامي الحقيقي بالفن، في صورته المباشرة. كان يوم هبَطَت وقتئذ بمدينة دسوق جوقة الشيخ سلامة حجازي أو لعلها — وهو الأرجح — إحدى الفرق التي كانت تُقلِّده وتطوف برواياته وتتَّخذ اسمه في تنقلاتها بالأقاليم. نصبوا لهذه الجوقة مسرحًا من الخشب، في إحدى وحبات البلد، غطَّوه بقماش الصواوين رُفعت عليه الزينات، وتدلَّت «كلوبات» الغاز، وارتدى أفراد الجوقة ملابس «شهداء الغرام»؛ أي روميو وجولييت لشكسبير «مُطَعمة بالقصائد والألحان التي لا تَخطُر له على بال». وجعلوا منذ الصباح يطوفون بشوارع البلد في ملابس التمثيل المزركشة هذه، وقد تدلَّت شعورهم الشقراء المُستعارة على الأكتاف، تعلوها قبعات القرون الغابرة المحلاة بالريش الطويل، والخناجر والسيوف تبرز من أحزمتهم، فيجري خلفهم الصبية والغلمان ويترك أهل الحِرَف أعمالهم وحوانيتهم، وتقف صفوف الجموع تتفرَّج عليهم، وتُطلُّ المحجبات من النساء يشاهدن من خلف النوافذ، ويصبح البلد ولا حديث للناس فيه إلا قدوم جوقة الشيخ سلامة … وكان مأمور البندر وأعوانه والمحكمة والنيابة في طليعة من يَحضُرون لياليَه وتُحجَز لهم خير الأمكنة … وذهب والدي بالطبع ذات ليلة وأخذني معه بعد تردد طويل … خشيَ عليَّ من السهر … ولو لم يَصطحِب مُعاونوه في المحكمة أولادهم، ويسمع إلى من قال له منهم: «لماذا لا تأتي بأولادك يتفرَّجون؟» لولا ذلك لما فكر في اصطحابي إلى ليلة كهذه! لا أنسى تلك الليلة: رُفع الستار عن الفرقة كلها بملابسها البراقة تخطف الأبصار، وقد اصطف رجالها ونساؤها صفوفًا وجعلوا يُنشدون جميعًا نشيد الافتتاح. ثم تفرَّقوا وبدأ التمثيل … لم أفهم يومئذ بالطبع شيئًا كثيرًا من تفصيلات المسرحية … كل الذي همَّني وخلب لبي هو المُبارَزات بالسيوف … فكان أول ما صنعتُ في اليوم التالي أن كسرتُ يد المكنسة وجعلتُها سيفًا وطلبت إلى المبارزة خادمًا كان عندنا … (على ذكر المكنسة ظهر حوالي ذلك العهد مُذنَّب «هالي» المشهور في السماء. فكان أهلي يقومون بالليل إلى السطح لمشاهدته وقمت معهم ذات ليلة، وسألتهم عنه فقالوا لي مشيرين إلى السماء: هذا النجم الذي له ذيل مثل رأس المكنسة). المكنسة التي اتخذنا منها سيوفًا لنا … وكان هذا الخادم الذي أبارزه بيد المكنسة يذهب في الليل إلى مقهى بلدي به شاعر بربابة يروي عليها قصة أبي زيد الهلالي ودياب بن غانم والسفيرة عزيزة. فكان يحلو له هو أيضًا أن يُمسك بقطعة طويلة من الخشب ويَصيح بي قائلًا: أنا أبو زيد الهلالي وأنت الزناتي خليفة! ثم يَسرد على ما سمعه من الشاعر ليلًا. فكانت تقع هذه القصص من نفسي موقعًا حسنًا، ونُمضي أوقات العصر كلها نمثلها ونتبارز. على أن الذي جعلني أعيش القصص بكل وجداني على نحو أعمق هو ظرف آخر، هو طول رقاد والدتي. فقد اضطرَّها إلى شغل الوقت بقراءة قصص ألف ليلة، وعنترة، وحمزة البهلوان، وسيف بن ذي يزن، ونحوها، كانت في أجزاء طويلة، ما تكاد تنتهي من جزء حتى تقصَّ علينا ما قرأت عندما نجتمع حول فراشها. كان يحلو لها ذلك … وكانت تُجيد سرد هذه القصص علينا. لا تترك تفصيلًا إلا حاولت تصويره، فكنت أنا وجدتي نجلس إليها وكلنا آذان تُصغي بانبهار. وأحيانًا، وأحيانًا كان ينضمُّ إلينا والدي بعد أن يفرغ من دراسة قضاياه، وكأنه أصيب بالعدوى منا. فإذا انتهى السرد بأبطال القصة في موقف لم يزدنا إلا اشتياقًا إلى البقية قالت والدتي: انتظروا حتى أقرأ الجزء التالي. وتتركنا على أحر من الجمر، ونحن نعيش بكل أرواحنا على أولئك الأبطال ننتظر العودة إليهم. وكانت لا تكتفي بمجرد السرد، بل تُصاحبه بتعليقات من عندها لتقرب الشخصيات من أفهامنا. فتقول مثلًا إن هذه الشخصية الطيبة تُشبه فلانًا الطيب من أقاربنا أو معارفنا، وإن هذه الشخصية الشريرة تشبه فلانًا أو فلانة الشريرة ممن نعرف في محيطنا. فكنت بذلك أعير في مخيلتي لأبطال القصص سحنًا ووجوهًا ممَّن نعرفهم في الحياة. وفرغت كل تلك الملاحم الشعبية القديمة بطبعاتها الرخيصة المشوَّهة، وبدأت تظهر في السوق روايات أوروبية مترجمة بأقلام الشوام الذين حذقوا اللغات ونشئوا في مدارس الرهبان، فتعلَّقت بها والدتي أيضًا، وقصتها علينا كما فعلت بسوابقها. كان لهذا ولا شكَّ فضل كبير لوالدتي لا ينكر في تفتيح خيالي منذ الصغر. وظلَّ حالها معنا على هذا النحو إلى أن شُفيَت وغادرت الفراش، ثم اتَّجهَت هي بعد ذلك إلى أمور معاشها، وشُغلت بمشكلات الأطيان التي اشترتها، فانقطع عنا هذا المورد السهل الذي كان يُغذينا بالقصص دون جهد منَّا.
على أني كنتُ قد بدأت أقرأ، فلم أر بدًّا من الاعتماد على نفسي. صرت أبحث عن القصص والروايات التي كنتُ أراها في يد والدتي فأستخرجها من صناديق الأمتعة القديمة وأعكف على قراءتها بسرعة. كلمة أفهمها وكلمة تَستغلِق على فهمي. لعلَّ هذا ما ساعدني على إجادة اللغة العربية قبل الظفر بتعليمٍ مُنظَّم. فقد كان لتنقُّل والدي المتكرِّر بين بلدان الأقاليم، تبعًا لتعاقب حركات التنقُّلات القضائية بين العام والعام ما حرمني الانتظام في سلك مدرسة واحدة سنة دراسية كاملة. لقد مسَح والدي خريطة القطر المصري مسحًا في مدى أعوامٍ قلائل. فكان يمرُّ بالبلد الواحد مرات. مرةً كمساعد للنيابة، ومرة كوكيل، ومرة كقاضٍ وهكذا. ولم يكن في أكثر هذه البلاد مَدارس أميرية على الإطلاق، كل ما كان بها إما كتاتيب بسيطة أو راقية أو مدارس أهلية مثل مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية أو مدارس الأقباط ونحوها. وقد مررتُ بها كلها مرًّا خاطفًا أو متأنيًا على حسب الظروف والأحوال. لم يستقرَّ بي الحال إلا يوم استقرَّ والدي قاضيًا بالقاهرة، فأصبح في المقدور عندئذ أن ألتحق بمدرسة أميرية. كانت سني وقتئذ قد جاوزت العاشرة، فنصَح لوالدي بتقديمي إلى السنة الثانية الابتدائية مباشرة. فقدم طلبًا بذلك إلى مدرسة محمد علي الابتدائية في حي السيدة زينب … لكن المدرسة اشترطت امتحاني … وامتحنوني … فوجدوني مُتفوِّقًا في اللغة العربية. إلا أني فوجئت بهم يسألونني في علم الجغرافيا عن البرزخ والأرخبيل. أشياء أجهلها تمام الجهل. عندئذ قرروا أن أبدأ من البداية وألتحق بالسنة الأولى؛ لأنَّ هذا العلم يُدرس في السنة الأولى. وقد صدمني هذا القرار صدمة ما زلتُ أذكر وقعها. والتحقتُ بالمدارس الأميرية مبتدئًا بالسنة الأولى، وأنا أحوج من غيري إلى تعويض ما ضاع عليَّ مِن سنوات عمري بعيدًا عن التعليم الأميري المنتظم. كان والدي قد استأجر مسكنًا في شارع الخليج المصري. فكنتُ أنفذ منه إلى مدرستي مخترقًا حارة ضيقة طويلة. منذ ذلك الوقت غدوت تلميذًا نظاميًّا. كنت في سنتي الأولى تلميذًا مجتهدًا. وقد جذَبني علمٌ لم أُمارسه من قبل، لكنَّني أحسست أنه قريب إلى نفسي، إلى تلك النفس التي كان يستهويها شيء بالذات مجهول الكُنهِ لي وقتئذ، عرفت فيما بعد أنه الفنُّ أو النزعة الفنية.
كان هذا الشيء الجديد الذي انجذبت إليه هو الرسم. كنتُ أحبُّه وأجتهد أن أبرز فيه. فقد كان ذلك يملؤني سرورًا داخليًّا غريبًا. ذلك السرور الذي كنتُ أحسه وأنا أتلو القرآن بترتيلٍ جميل، ولكني لم أستمرَّ في هواية الرسم إلى حدٍّ جدِّي. إنما هي تلبية لذلك الصوت الخفي، أو اتجاه غريزي إلى أقرب موارد تلك النزعة الكامنة في أعماق كياني. كانت هذه النزعة تتَّخذ صورًا مختلفة بحسب الأَردية التي تُتيحها لها الظروف.
كانت تقترب بسرعة كالمنجذبة بمغناطيس إلى كل ما يلائمها من أوضاعٍ تَظهر لها، كأنها روح شبح يتحسَّس الأجساد التي كتب عليه أن يحلَّ في أحدها. لماذا كانت هذه النزعة عندي؟ الإجابة عن هذا السؤال: هي أحد الأسباب التي من أجلها أكتب هذه الصفحات. فأنا دائم السؤال لنفسي: أكان من الممكن أن أتَّخذ طريقًا آخر في الحياة؟
ما هو منبع هذه النزعة الدفينة التي سيطرت على وجودي منذ الصغر وتطلبت لتحقيقها من المواهب أكثر مما عندي واقتضتني من الجهود ما كدتُ أنوء به؟ هل أنا وحدي مسئول عن إيجادها؟
أهي بذرة تلقَّيتها عن أبٍ وأم، لم تنبت عندهما بفعل الظروف، فألقيا بعبء إنباتها على كاهلي، دون وعي منهما، عن طريق رسالة خفية، ضمَّناها تلك النطفة التي منها خلقت؟! لست أريد التعجُّل بالجواب. ولكني أكتفي بأن أعرض هذه التفصيلات عن طباع أبي وأمي، لعلي أجد فيها المنبع للإجابة عن سؤالي.
لم تستمرَّ هواية الرسم طويلًا؛ لأنَّ شيئًا آخر بدأ وقتئذ يظهر لي في الأفق: الموسيقى.
كانت أسرتي قد عرفت جماعة من «عوالم» الأفراح، بمُناسبة زفاف عمٍّ لي يُدعي «علي». عقَد قرانه منذ سنوات … عندما كنت في التاسعة أو الثامنة … كان قد وصل في سلك البوليس إلى وظيفة مأمور بندر شبين الكوم، وشبع من حياة العزوبة اللاهية العابثة، وانقطعت صلته بأوساط اللهو المألوفة في ذلك العصر، وأراد الزواج.
فالتجأ إلى أمي يُوسِّطها في البحث له عن عروس. كان شرطه الوحيد — على عكس والدي — أن تكون العروس غنية، حتى ولو كانت قِردةً عجوزًا. وبحثَت له والدتي واهتدت إلى بغيته: سيدة قد قاربت الخمسين من الجواري البيض الأتراك تَملِك مائة فدان من أجود الأطيان. كانت حكاية الزواج هذه مصدر خير لي أنا وأخي الصغير؛ ذلك أن عمي وقد استخفه الفرح بالثروة المنتظرة الهابطة عليه، صار لا يَدخُل دارنا إلا ومعه الهدايا من حلوى وفاكهة ونحوها. فلما اقترب يوم القران دخل علينا بهدية عظيمة لي ولأختي: هي دراجة بعجلات ثلاث، وبندقية أطفال فخمة بكلِّ لوازمها، فباركنا هذا الزواج وفرحنا به.
على أنَّ الحدث الهام في هذا العرس بالنسبة إليَّ أنا خاصة كان أمرًا آخر: أصرَّت العروس على ألا يزفَّها إلا «عوالم» من القاهرة لا من بلدة صغيرة مثل شبين الكوم! فهذا في نظرها هو الذي يَليق بمقامها! فأوفدوا الأخ الأصغر للعريس ولأبي، ليذهب إلى القاهرة و«يُقاول» جماعة من «العوالم» ويأتي بهنَّ إلى شبين، وذهبت أنا معه. ولست أذكر بالضبط مناسبة ذهابي معه؟ ومَن الذي أوفدني؟ هل أنا الذي طالبت و«شبطت»؟ أو أنهم أرسلوني من تلقاء أنفسهم؟ كل ما أذكر هو أني ذهبت إلى القاهرة مع عمي الأصغر هذا ومشَينا طويلًا في شارع محمد علي، نقف بين كل خطوة وأخرى على دكَّان صغير ضيِّق عُلِّقت على جدرانه آلات الطرب من عود ورق ودربكة. كانت تجري بين عمي وأصحاب تلك الحوانيت مناقَشات ومساومات طويلة لا تنتهي وأنا واقف أتململ من الضجر. إلى أن انتهى بنا المطاف إلى حانوت أخير تمَّ فيه الاتِّفاق على شيء، علمت فيما بعد أن هذه الدكاكين هي أمكنة «المطيباتية» والمختصين بتوريد عوالم الأفراح.
هذا كل ما شاهدته، وكل ما فعلناه في ذلك اليوم. وعدنا في نهارنا إلى شبين الكوم ولم أرَ نساءً ولا عوالم إلا يوم الفرح ذاته. في هذا اليوم المشهود كنتُ أنا أيضًا ضمن الوفد المكلَّف بإحضار العروس من بلدها إلى شبين. أذكر تلك الصورة ولا أنساها. ركبنا عربة قطار خاصَّة ألحقت بمؤخرة العربات. كانت تُسمَّى عربة «صالون» خصوصية. اعتادت مصلحة السكة الحديد في ذلك العهد أن تُؤجِّرها للأفراح الكبيرة، وقد أصرَّت العروس للزهوة بثروتها على أن يكون انتقالها إلى شبين في صالون خصوصي يضمُّ «المعازيم»، من السيدات وأهل الفرح من الجانبين. ولستُ أدري ما الذي حشَرني أيضًا بين هؤلاء في هذا الصالون ذلك اليوم، ولكني أذكر أني سافرتُ بذلك الصالون ووصلنا إلى شبين الكوم بالسلامة. وهنا قامت القيامة، سمعت صياحًا وصخبًا وزعيقًا يملأ الجوَّ في المحطة. إنها العروس بسلامتها! ما كادت تنظر حولها وهي نازلة من القطار حتى صاحت: أين الموسيقى الميري؟ ورفضَت رفضًا باتًّا أن تنقل قدمًا من المحطة إلا إذا سارت الموسيقى الميري أمام عربة العروس «الكوبيل» بخيولها المزوَّقة بالورد. ولم يكن أحد قد فكَّر في ذلك ولا عمل له الترتيب؛ لأنَّ العروس لم تكن صغيرة السن ولا كان هذا أول عرس لها، فقد سبق لها الزواج أكثر من مرة. ولكن مخها التركي أبى إلا أن تزفَّ في شوارع المدينة بالموسيقى الميري. لم أفهم إلا فيما بعد سبب هذا الضجيج والزعيق. وأكبَّ الجميع على يد العروس يَلثُمونها مُتوسِّلين مُتضرِّعين أن تغفر لهم هذه الزلة وأن تركب العربة الكوبيل وتَمضي في هدوء إلى بيت الفرح، منعًا للفضيحة وتجمُّع المارة وأهل الفضول. وأخيرًا ركبت وسارت معهم وهي تَشتُمُهم باللغة التركية، وهم يَشتُمونها في سرهم باللغة العربية!
وما جاء المغرب حتى وصل «تخت العوالم». وقد سمعتُ منهنَّ دورًا أو دورين وغلبني النعاس، فنمتُ قبل أن أشاهد الزفة.
على أنَّ أَواصر المعرفة كانت قد عُقدت بين والدتي وجدتي وبين الأسطى حميدة العوَّادة المُطربة، رئيسة العوالم أثناء هذا الفرح. كانت تلك المطربة خفيفة الروح لطيفة المعشر تَحمل نفسًا كريمة وإن كانت ليست حسَنة الصورة. آنسَت في أمي وجدتي ما ارتاحت إليه نفسها، وقالت عنهما بخفَّة رُوحها المعهودة إنهما وحدهما «البني آدم من دون أهل الفرح والعروسة الكرب!»
ودَعَتْها والدتي إلى زيارتنا مع «تختِها». فلم يكد يمضي العام وذهبنا إلى الإسكندرية في الصيف كعادة والدتي التي لا تستغني عن موطنها أبدًا حتى جاءتنا الأسطى حميدة مع بعض المقرَّبات من تختها. نزلت علينا ضيفة معزَّزة مُكرَّمة، إلا أنها ما كانت تبخل علينا أو تضن بأغانيها وتقاسيم عودها. ثم ازداد تردُّدها على منزلنا عندما انتقلنا بعد ذلك بسنوات إلى القاهرة، وأصيبت جدتي بالفالج، ونصَح لها الطبيب بصفاء البال والسرور، فتعهَّدَت بها الأسطى حميدة كلَّما خلا وقتها من العمل. فما كان يمضي أسبوع دون أن تبيت عندنا ليلة أو ليلتين، إلى أن يأتي «المطيب» فيَطلبها من عندنا لسهرة أو فرح. كان صوتها يشجيني. وحفظت كثيرًا من الأغاني التي كانت تغنيها. واشتدَّ إعجابي بها إلى حدٍّ خيَّل إليَّ أنها جميلة، وشعرت نحوها بإحساسٍ يكاد يُشبه الحب … وكانت تُشجعني على الغناء معها، قائلة لي إن لديَّ قدرة على تأدية النغمات كما أتلقَّاها منها. وفي ذات يوم عدتُ مِن مدرستي — محمد علي الابتدائية في سنتي الأولى — فوجدتُها في البيت، وهي تضرب على عودها. كانت وقتئذ بمفردها في الحجرة فرجوتُها أن تُعلمني العود. فشرَعَت تُعلِّمني بالفعل مطلع «بشرف» ولم يمضِ قليل حتى استطاعت يدي أن تُخرِج من الأوتار نغمًا منسَّقًا لمطلع البشرف. ودخلت علينا والدتي وهي تَحسب العود في يد العوَّادة. فلما أبصَرتني أنا مُحتضنًا العود والأنغام تخرج منه منسجمة أطلقت في البيت صرخةً واعدةً غاضبةً، وهجمت عليَّ تَنتزع العود مني وتصيح: «لو عرف أبوك يذبحك!» وجعلت تقول إني لن أفلح في مدارس إذا أمسكت بالعود مرةً أخرى، وسيكون مصيري أن أطلع «مغنواتي»! … وأرغمَتني على القسَم بسيدي البسطامي — الذي ليس بعد الحلف به من يمين — ألا ألمسَ العود بيدي طول حياتي … وأقسَمتُ وبرَرت بالقسَم … على أن ذلك لم يمنعني من حفظ الألحان والأغاني حتى الصعب من الأدوار القديمة التي كانت تُؤديها الأسطى ذاتها بمشقَّة كأدوار عبده الحمولي … كانت والدتي تُحب أدوار عبده الحمولي بنوعٍ خاصٍّ، وتروي لنا عنه الكثير … وتقولي إن أغنية «تمخطري يا زينة» كانت لها خاصَّة بمناسبة زفافها … ذلك أن صلة عبده الحمولي بجدي «سيدي البسطامي» والدها كانت فيما روَت وثيقة … نشأت ذات يوم رأى فيه والدها عند خروجه من بيته عربة «حنطور» بها رجل يبدو عليه المرض يتَّكئ على وسائد وُضعت له. كانت العربة واقفة أمام منزل مُغلَق مواجه. وعاد والدها من عمله بالبوغاز إلى البيت ظهرًا فوجد العربة ما زالت واقفة في موضعها وبها الرجل المريض … فعجب للأمر، واقترب يسأل، فعلم أنه عبده الحمولي اشتدَّ به مرض الكبد، وجاء يصيف بالإسكندرية، واستأجر المنزل المُغلَق الذي يَبحثون عن مفتاحه وصاحبه الغائب … فتقدم إليه في الحال ودعاه إلى بيته وأنزله في «المنظرة» … وهو المكان المنعزل عن بقية البيت الذي كان يُعدُّ للزوار والضيوف من الرجال، وقام على خدمته بنفسه، ورفَض انتقاله إلى المنزل المستأجَر، وهو على هذا المرض، مُحتاجًا إلى الخدمة والعناية … كان جدي هذا فيما تروي والدتي مختلفًا عن بقية أهله من رجال البحر … فقد طالَما حدَّثتني عن حبِّه للكتب وعن مكتبتِه الثمينة التي فرَّطت فيها جدتي — لجهلها — بأبخس الأثمان بعد وفاته، وعن صلته وصداقته بالعالم اللغوي الشيخ حمزة فتح الله — الذي كان أيضًا زوجًا لإحدى خالات والدتي — وعن حبِّه لفن الطرب الذي تجلى في تمسُّكه بصداقة «سي عبده» كما كانوا يَدعون عبده الحمولي … وقد نمَت هذه الصداقة وترعرعت، فما كانت تَنقطِع زيارات المطرب العظيم، حتى بعد وفاة صديقه جدي … فقد أبى عليه وفاؤه إلا أن يسأل عن الأسرة كلَّما جاء إلى الإسكندرية، ويتقصى أخبار ابنته اليتيمة الصغيرة، ويحملها بين ذراعَيه ويُقبلها … إلى أن تزوجت جدتي، فقام زوجها — لازدرائه الفن وأهله — بإغلاق الباب في وجه الماضي … فاختفى من حياتهم … ولم يَظهر إلا يوم زفاف والدتي … رأى ذلك واجبًا عليه أمام ذكرى صديقه الراحل الذي كان يُقدِّره حقَّ قدره.
٦
لا تَعلق ذاكرتي بشيء ذي بال في سنتي الأولى الابتدائية سوى أني عرفت زميلًا كان يلعب معي أيام العطلة الأسبوعية. وفي يوم جمعة جاء إلى منزلنا بشارع الخليج المصري يحمل نفيرًا كبيرًا مكسورًا لفونغراف قديم صِرنا نَلعب به ساعة، وإذا بوالدي يُقبل علينا في طريق خروجه متكئًا على عصاه، فلما رأى زميلي وكان يصغرني في السن قال له: «أنت مع الولد توفيق في الفصل؟» فأجابه بالإيجاب. فسأله عني هل أنا مُجتهد! فما كان من زميلي وصديقي الذي كنتُ أُلاعبه منذ لحظة ويُلاعبني بكل صفاء وهناء، إلا أن قال بكل بساطة: هو بليد!» ثم أردف قائلًا عن نفسه: «وأنا شاطر.» وعندئذ لم أشعر إلا وعصا والدي قد رُفعت في يده لتنهال على جسدي، دون سؤال أو تحقيق، ففرَرت جاريًا هاربًا، واختبأت تحت سريري. وتبعني والدي بالعصا وهو يَصيح: «يا خايب يا تنبل والله لأوريك!» وسمع صياحه من في البيت، وأقبلت والدتي وجدتي تسألان عن الخبر، فقال لهما والدي وهو يبعدهما عن طريقه: «الولد بليد وغير فالح في المدرسة. الولد الأصغر منه شاطر وهو خائب!» وانحنى يبحث عني بعصاه تحت السرير، فكنتُ أبصر طرف العصا يُلاحقني فأتفاداه وأنا أرتعد من الخوف. ولم أذرف دمعة ولم أُصدِر شهقة. فقد جمَّدت الرهبة والدهشة كل مشاعري. لم أبكِ إلا بعد أن ابتعد عني والدي، على أثر دفاع جدتي عني وسحبها إياه من عصاه خارج الحجرة، بكيتُ لا لشعوري بألم، فأنا لم أُضرب ولم تمسسني العصا، ولكني بكيتُ لشعوري بالظلم. وجاء امتحان آخر العام للنقل إلى السنة الثانية. فإذا أنا ناجح منقول بتفوق … وإذا زميلي من الساقطين الراسبين. وعجب والدي … واعترف أنه ظلَمَني في ذلك اليوم.
سِرتُ في السنة الثانية الابتدائية سيرًا حسنًا يُؤذن بالتفوق إلى أن جاء منتصف العام، فإذا بنا نَنتقل من شارع الخليج المصري إلى منزل آخر في الحلمية الجديدة. وعند ذاك نقلوني من مدرسة محمد علي إلى مدرسة المُحمَّدية لقُربها من منزلنا الجديد … وهنا اختلَّ كل شيء في حياتي الدراسية. لم تكن الدروس تسير بخُطًى واحدة في المدرستَين، فوجدت نفسي — خصوصًا في الحساب — أمام مسائل جديدة لا عهد لي بها. كانوا مُتقدِّمين في البرامج، فكنت أجلس أحملق في السبورة ولا أفهم شيئًا. وتعاقبت الدروس وأنا على جهلي. وتراكم الجهل على الجهل، فإذا أنا أتدهور تدهورًا سريعًا كان يُشعِرني بمرارة شديدة وألم نفسي فظيع. ولم أجسر بالطبع على مصارحة أهلي بشيء … لأنهم ما كانوا قد عوَّدوني على مصارحتهم بشئوني … كنت أعرف مقدَّمًا ردَّهم على كل ضعف عندي: إنه التعنيف والتهديد بالعصا … خفت أقول لهم إني غير مُستطيع تتبُّع الدروس، حتى لا أسمع صياحهم المألوف: لأنك بليد، لأنك تلعب! … لا مناص إذن من كتمان ما بي … وكنتُ أتلفَّت بحسدٍ إلى زملائي الذين يرفعون أصابعهم بنشاط ليُجيبوا إجابات صحيحة عن تلك المُسميات في القسمة والمسائل الحسابية العويصة، بينما كنت أتضاءل في مقعدي بمذلة وفزع، حتى لا تقع عين المدرس على إصبعي المختفية تحت الدرج … وحاولت أن أطلب إلى أحد زملائي المجتهدين أن يُفهمني ما لم أفهم فلم يَستطِع إفهامي … فقد كانت الفجوة قد اتسعت بين ما أعرفه وما وصلوا إليه هم … ولم أجرؤ على سؤال المدرس لئلا يتضح له مقدار جهلي … كنتُ بليدَ الفصل بحقٍّ هذه المرة … وكان مآلي السقوط الذي لا ريب فيه عند امتحان آخر السنة … لولا عناية الله التي أنقذتني في الوقت المناسب؛ فقد نُقل والدي إلى دمنهور. فحوَّلوني إلى مدرسة دمنهور الابتدائية، وفي مثل هذه المدينة من مدن الأقاليم كان من الطبيعي وجود صلة بين قاضي المدينة وناظر مدرستها … فلما علم الناظر بتكرار تنقلي في عام واحد بين مدارس مختلفة بعد أن لحظ تخلُّفي بنفسه نصح والدي أن يُحضر لي مُدرِّسًا من بين مُدرِّسي المدرسة يعطيني دروسًا خاصة في المنزل بعد العصر إلى أن أتمكن من متابعة الدروس في فصلي … وتم ذلك … وكان فيه الإنقاذ لي … وعدتُ إلى التفوق … وعادت إلى نفسي الثقة والروح المعنوية القوية … ونجحت آخر العام ونُقلت إلى السنة الثالثة … وسرت في دراستي سيرًا طبيعيًّا طيبًا.
على أن إقامتي في المدرسة المحمدية بالقاهرة، رغم ما أحمله لها من ذكريات سود، كان لها ناحية أخرى لا أنسى محاسنها؛ كان من زملائي فيها تلميذ في مثل سنِّي صادقتُه لطول ما كان يُحدِّثني عن المسارح التي ارتادها … أذكر أنه حدثني بتفصيل أدهشني عن مسرحية فيها شيء كنار الجحيم بلهبِه وأبالسته تَظهر في منظر جعل يصفُه وأنا فاغر فمي كالمخبول … قال فيما أذكر إنها رواية «تليماك»، في جوقة الشيخ سلامة حجازي … كما حدثني أيضًا من بين روايات تلك الجوقة عن رواية «عطيل» بألحانها وقصائدها كما كانت تعرض وقتئذ في تلك الفرقة. لست أدري هل يذهب إلى تلك المسارح وحده أو مع أهله! ومن أين كانت له النقود؟ … كل ما أعرف هو أنه كان يُحدثني صباح كل سبت عما يكون قد رآه ليلة الجمعة من مثل تلك الروايات … وقد دعاني مرة إلى الذهاب معه؛ ولكني لم أجرؤ على طلب الإذن من أهلي … فقد كنتُ أعرف مصير مثل هذا الطلب … غير أني تشجعت وسألت أهلي ذات جمعة أن يذهبوا بي إلى مشاهدة الشيخ سلامة، حتى أستطيع محادثة صديقي ذاك فيما رأيت أنا أيضًا … وقد كنت في المرحلة التي أستطيع فيها فهم تمثيله وتقدير غنائه وقصائده أكثر مما استطعت في دسوق منذ سنوات عدة … وكان لي ما أردتُ … فقد صحبَتْني والدتي مع جدتي ذات ليلة إلى رواية «شهداء الغرام» فتتبَّعتُها جيدًا وسمعت فيها غناء الشيخ سلامة في قصيدته المشهورة «أجولييت ما هذا السكوت». إلا أنَّ الشيخ في ذلك الوقت كان يَعرج قليلًا على المسرح ويتَّكئ على كرسي، كان قد أصيب بالفالج.
أما في دمنهور فقد ابتعدنا عن كل فُرجة … وانقطعنا عن كل فن … وهنا بدأ عهد قراءتي الحقيقية واستغراقي في القصص على نطاق واسع. جعلتُ ألتهمُ التهامًا كل ما يقع في يدي منها؛ الجيد والرديء على السواء … كنت قد اجتزتُ تلك المرحلة الأولى للقراءة المتعثرة، تلك التي ذكرتها آنفًا … عندما كان الكثير من معاني الكلمات يغمض عليَّ … من ذلك كلمة «نَص» … كنت أقرؤها بضمِّ النون وأفهمها على أنها «نصف» فإذا صادَفَتني قصة مفتاحها في خطاب يقول فيه مرسله الذي سيكشف لنا السر الرهيب وصدر بعبارة: «وها هو ذا نَص الخطاب» ثُرتُ في نفسي من الضيق وقلت: ولماذا نُصُّه؟ نحن نريد الخطاب كله لا نُصه، أي نصفه. أما في دمنهور فقد بلغت مرحلة التمكُّن من لغتي إلى درجةٍ حسَنة. ومهما يكن من أمر فإن لشغفنا بقراءة القصص فضلًا في تعلُّمنا اللغة والإنشاء بأمتع وأقرب الوسائل … ذلك أنه على الرغم من قيمة تلك القصص فإن أسلوبها، وخاصة المُترجَم منها بأقلام أولئك الشوام العارفين بلغتهم كان لا يخلو من رصانة ونصاعة وإشراق.
إلا أن والدي ما كان يُرضيه مثل هذه المطالعات، وما كان يُشجع عليها قط … والويل لي إذا لمح في يدي رواية منها! … إنه كان يُريد مني شيئًا آخر … أذكر ذات يوم — قبل التحاقي بالتعليم الأميري المنتظم — كان يوم جمعة … وقد ارتدى والدي جلبابه المنزلي وتناول إفطاره وقرأ جريدته، ولم يجد بعدئذ ما يفعل بوقته فناداني قائلًا: «تعالى أمتحنك!» … وناولني كتاب «المعلَّقات السبع» … ذلك الكتاب الذي كان يحبه هو ويترنَّم بأبياته … وأخرج لي معلقة زهير بن أبي سلمى. وطلب إليَّ أن أقرأها بصوت مرتفع. فلما وصلت إلى ذلك البيت:
سألني عن معنى «يصانع» … فلم أوفَّق إلى إجابة صحيحة، وأين لمَن كان في مثل سنِّي وقتئذ أن يعرف حقيقة المصانعة في الحياة، وهو يجهل الحياة نفسها، وعلاقة الناس بعضهم ببعض في ذلك المجتمع المعقَّد المتشابك، فلما لم أُجب بما يُقنعه رفع كفه وضربني على وجهي ضربة أسالت الدم من أنفي … وجاءت على الصوت جدَّتي التي كانت تُحبني، فصاحت به، وأخذتني من يديَّ إلى حجرتها … وأنا ألعن المعلَّقات وأصحابها … بل ألعن الشعر كله، وكان من الطبيعي والمنطقي أن أحبَّه كما أحبَّه أبي، ولكن الدم الذي سال من أنفي بسببه بغَّضَه إلى نفسي مدة طويلة … وكيف كان يُمكن أن أحبه وقتئذ وبيني وبينه دم مسفوك! … كرهت الشعر في تلك المرحلة، كما كرهت السباحة بسبب أبي أيضًا. ذلك أنه يوم أراد أن يعلمني العوم في الإسكندرية ذات صيف، لم يفعل غير أن جذبني من يدي إلى حيث يَسبح هو … في الأعماق دفعةً واحدة … فكنتُ أتحسس القاع بقدمي فلا أجده فأرتاع ارتياعًا شديدًا … وكنت كلما جاءت موجة أشعر كأنها تَقتلعني اقتلاعًا لتقذف بي بعيدًا عن والدي … ولم يكن بالإسكندرية وضواحيها في ذلك العهد ما يُسمَّى «البلاج» … كانت شواطئ رملية وحشية شبه مهجورة. لكن أبي على كل حال كان في إمكانه أن يبدأ بتركي أداعب الماء بقدمي قليلًا في بقعة قليلة الغور على الشاطئ … كما يحدث لأطفال اليوم … يعطون الجرادل الصغيرة الملونة يلعبون بها على مقربة من الماء … فلا يزال بينهم وبين البحر مداعبة وملاعبة، يتقدَّمون إليه بحذر ثم يبتعدون عن موجهِ الهادر، ويتدرَّبون كل يوم على ملاقاته إلى أن تتمَّ الأُلفة بينهم وبينه ويجدوا أنفسهم ذات يوم أكْفاءً للعوم على سطحه دون خوف أو مشقَّة … أما أنا فلم أعرف البحر إلا وحشًا يَنتزعني موجُه بعنف إلى القاع العميق، وأنا أتجلَّد وأكتم الصياح حتى لا ينتهرني أبي … كل ما فعلت هو أني أقسمتُ في قرارة نفسي أنها آخر مرة، وأني إذا خرجتُ منها سالمًا فلن أضع قدمي في ماء بحر أبدًا. وخرجت وبرَرْت بالقسَم، فلم تَعرف قدمي البحر حتى اليوم. كان من الممكن أن أحب الشعر والبحر في سنٍّ مُبكرة لو أن أبي أخذني إلى شاطئيهما برفق، ولم يدفعني دفعًا إلى الأعماق.
لم يكن والدي يُدرك أن لكل سنٍّ قراءاتها … كان يُعاملني، كأغلب آباء تلك العهود، كما لو كنتُ في مثل سنِّه … كان يَفرض عليَّ ما يُحبه هو وما يُقدره من مطالعات … فكان أهون ما وضع في يدي من كتب وقتئذ هو كتاب «إميل القرن العشرين» ترجمة أحد زملائه في القضاء «عبد العزيز بك محمد»، وكذلك مسرحية «الإيمان» ترجمة زميل له في القضاء «صالح بك جودت» عن المسرحي الفرنسي «أوجين بريو» … ظهرت الترجمتان في ذلك الوقت. وكان كلٌّ من الزميلين قد عهد إلى والدي بعشرات النُّسخ للمعاونة في توزيعها؛ إذ لم يكن هناك عندئذ ناشر أو دور نشر، كان المؤلف أو المُترجم يطبع ويوزع بنفسه لنفسه. وكنت أجد أكداس هذه الكتب التي لم يتمكن والدي من توزيعها متراكمة في أركان حجرة مهملة … طالعت هذين الكتابين إرضاءً لأبي … ووجدتهما على كل حال أكثر احتمالًا من المعلقات.
إني عندما أجد اليوم كتب الأطفال الملوَّنة بما فيها من قصص وأساطير دينية وتاريخية ومغامرات خيالية … عندما أجد في متناول يد ابني وقتما كان في السادسة والسابعة والثامنة قصص الأنبياء ملونة الرسوم في أسلوب لطيف، وقصص الفراعنة واليونان والعرب … والإلياذة والأديسية كلها ومغامرات «سويفت» و«روبنسون كروسو» وأقاصيص «أندرسن» وغير ذلك من المطالعات المُمتعة الموسعة للخيال مبسطة سهلة التناول، أغبط هذا الجيل.
بل إني عندما أرى الروايات والقصص والمسرحيات يَقرؤها الشباب دون رقابة أو اعتراض من أولياء الأمور … بل على العكس … أصبحت قراءتها اليوم مما يُنصحون به ويُدفعون إليه، على اعتبار أنها مُطالعات جدية محترمة، بعد أن ارتفعت اليوم كلمة الرواية أو القصة أو المسرحية إلى مواضع التبجيل لدى الناس جميعًا من رسميين وآباء. عندما أرى ذلك كله أغبط كذلك شباب هذا الجيل وأُطالبه أيضًا بأن يَقرن ما حبَتْه به العصور الحديثة من معاونة وتيسير بإجادة منه أكثر وإتقان أعظم … فهو لم يتخبط على الأقل في مطالعاته، ولم يجد من يقف في طريق سيره العقلي الطبيعي.
إني كنت أختفي بمطالعاتي القصصية عن عيون أهلي، كما لو كنت أرتكب وزرًا من الأوزار … مع أنها في أغلبها كانت على مستوى جيد من حيث التأليف والترجمة … كنت أتسلَّل حاملًا الكتب لأقرأها تحت سريري. كان ذلك السرير مفروشًا بملاءة تتدلى أطرافها إلى الأرض، حاجبة من يَختفي تحته كأنها ستارة مسدلة، فما كان أحد يراني أو يكتشف مكاني. لكن تلك الملاءة أو الستارة كانت تحجب عني النور. فما كنت أبالي أحيانًا، وكنت أمضي أقرأ في الظلام حتى أعجز عن تمييز الأسطر، فأخرج خفية وأحضر «شمعة» أُشعلها وأعاود القراءة على ضوئها. هكذا كانت تسير الأمور … إلى أن حدث ذات يوم أن جاء موعد الغداء، فجعلوا ينادون عليَّ وأنا مستغرق في قراءتي ثم فطنتُ إلى ندائهم المتكرر، فخرجت من تحت السرير مُهرولًا تاركًا من ارتباكي الشمعة موقدة. وبينما نحن منهمكون في طعامنا إذا بصراخ يتعالى في الطريق والجيران يَتصايحون: «حريقة! حريقة!» فارتاعت والدتي وأرادت النهوض لتتحرَّى الخبر، فأجلسها والدي مطمئنًا قائلًا: لا ترتاعي إنها ولا شك حريقة في الشارع بأحد الحوانيت الصغيرة والجيران والمارة من دأبهم التهويل! لكن، لم تمض لحظة حتى كان الطرق على بابنا نحن والناس يَصيحون بنا: «عندكم حريقة! عندكم حريقة!» وهنا أفاق أهلي ونهضوا فزعين مرتاعين يبحثون في أنحاء المنزل. وإذا الحجرة التي أنام فيها قد تصاعد منها الدخان وتأجج فيها اللهب … وظل الجميع يكافحون النيران حتى أطفئت … وظلَّ والدي يبحث عن سبب هذا الحريق ويسأل ويتحرَّى بدقته وتحقيقه، وأنا ساكت مُنكمش لا أنبس بحرف.
لم تطُل إقامتنا بمدينة دمنهور نفسها … فقد تُوفي عمي محمود الذي كان مُستأجرًا لأطيان والدتي بأبي مسعود … مات حقيقةً هذه المرة … بعد أن ابتلع إيجار الأطيان طول مدة استحواذه على الأرض … فلم يكن يدفع إلا ما يُسدِّد قسط الرهن مع الفوائد للبنك العقاري. كان هو المالك الحقيقي طول تلك المدة. والويل إذا سألَتْه والدتي دجاجة أو إوزة أو صفيحة سمن. وكان يبدو عليه الضيق والتبرُّم إذا فكرنا في الذهاب إلى هذه العزبة لتمضية ولو أسبوع واحد بها، وكانت زوجته لا تتحدَّث إلى الناس عن هذه الأرض إلا بقولها «عزبتي» مما جعل أمي تكاد تُجنُّ من الغيظ، وهي التي لا تُطيق أن يمس أحد شيئًا مما تملك. لكن ماذا كان في وسعها أن تصنع وعقد الإيجار طويل مُسلَّط على رأسها! فما إن جاءها خبر موته حتى أيقنت الخلاص. وقامت إلى أرضها تزرعها بنفسها. أو تُؤجِّر منها قطعًا صغيرة لا تتعدى الفدانين أو الثلاثة لجملة مزارعين. وقد أقسَمَت قسمًا مُغلَّظًا ألا تُؤجِّرها كلها دفعة واحدة لمستأجر واحد ما بقيت على قيد الحياة. وبرَّت بقسمها. ولم تستأمن بعدئذ أحدًا حتى ولا زوجها! أمسكت زمام أرضها بيدها ولم تسمح لمخلوق أن يمس سلطانها عليها. وقامت على شئونها بما لها من قوة شخصية وقدرة على التنظيم والتدبير والإدارة.
ورأت أن خير طريقة لمباشرة الأرض أن تُقيم فيها، وكان بها بيت صغير، فانتقلنا إليه. وهكذا عشنا وقتًا طويلًا في الريف، ولم تكن المسافة بين أبي مسعود ودمنهور تتجاوز عشرة كيلومترات، يقطعها قطار السكة الضيقة «الدلتا» في نصف الساعة … فكنت أنهض في الصباح المبكِّر والندى يتساقط عليَّ لأستقل قطار الصباح إلى مدرستي في دمنهور، وأعود آخر النهار بقطار المساء، إلا في أيام الخميس؛ حيث كنا نغادر المدرسة في الظهر، ولم يكن هنالك قطار في تلك الساعة … فكانوا يُرسلون إليَّ حمارًا، أركبه فيوصلني إلى أبي مسعود في ساعتين. كان قطار الدلتا هذا غاية في القذارة، تركب فيه الماعز والغنم إلى جوار أصحابها من الركاب مع الزكايب والمقاطف والقفف والبط والإوز والدجاج بصخبها وزعيقها … ولم يكن به غير مقصورة واحدة أي «ديوان» يُطلَق عليه الدرجة الأولى … وهو نفسه قسم من عربة من عربات الدرجة الثالثة، ولا يتميَّز عنها كثيرًا … لم تكن هنالك درجة ثانية … لماذا؟ لستُ أدري … ربما لأنه لا يوجد بالريف في نظرهم إلا أحد اثنين إما فلاح … وإما «بني آدم» أي رجل نظيف. وهذا الرجل النظيف لا يُشترط فيه أن يكون مأمورًا أو قاضيًا أو عينًا من الأعيان. يكفي أن يكون شيخ خفر أو نائب عمدة أو عامل تليفون أو أي شخص يبدو عليه شيء من التنور ويستطيع أن يفرد بين يدَيه جريدة من الجرائد وأن يعوج لبدته ويرتدي جلبابًا سابغًا نظيفًا ويَنتعل «بُلغة» لامعة أو صارخة اللون. مثل هذا الرجل تكفي فيه مجرد النظافة ليكون أهلًا لركوب ديوان الدرجة الأولى … سواء حمل تذكرة أولى حقيقيَّة، أم تذكرة درجة ثالثة … دون اعتراض من كمساري القطار الذي يَتغاضى عنه لمجرَّد نظافته … فالنظافة هنا هي المعوَّل عليه، وليست التذكرة. كان والدي لا يأنف من ركوب الدرجة الأولى هذه، في ذهابه وإيابه لحضور الجلسات في دمنهور، لكنه مع ذلك كان يشعر بالحرج … لا بالنسبة إليه … بل بالنسبة إلى الآخرين الراكبين معه في نفس «الديوان». كان مجرَّد وجوده يَحرم كثيرًا من أهل النظافة هؤلاء ممَّن اعتادوا ركوبها، أن يقتربوا منها تأدبًا واستحياءً، كان يشعر أنهم يتحرجون ويتحاشون الجلوس بجوار قاضي البندر، فيتركون له المكان كله.
وفي ذات يوم بينما كان والدي يركب عربة «حنطور» في دمنهور تُقِله من المحطة إلى المحكمة، التفَت إلى العربة التي يركبها وفحصها فحصًا دقيقًا ببصره … كانت عربة قديمة مخلَّعة مُتهالكة ولكنها سليمة السلامة التي تُمكِّنها من تأدية عملها المتواضع … وكان يجرها حصانان هزيلان، أحدهما أبيض والآخر أحمر … أما الأحمر فكان أصغر قامة من زميله الأبيض، وكان بجواره كأنه يستند إليه و«يتشعلق» به ويحتمي بظله، وكأنه لولا التوكؤ على صاحبه الأكبر لانهدم! … ربما كان هذا أيضًا حال الأبيض؛ فهو يتوكأ على الأحمر دون أن يبدو عليه، أو تظهر من هيئته أنه مُعترف بضعفه … حصانان يتعاونان على البقاء، ويشجع أحدهما الآخر على مجرَّد الحياة. والظاهر أنهما نسيا أو تناسيا أنه لا بد لهما من طعام. فهما يضعان رأسيهما معًا في «مخلة» واحدة. يقول الحوذي إن بها تبنًا أو دريسًا أو عشبًا مجفَّفًا … لكن الخيل لا تتكلَّم … ولن تُكذبه … بل تدس رأسها في تلك المخلة ولا تتحرك، وهذا هو كل الدليل على أنها تأكل.
أما الحوذي فكان أقرع الرأس، يُخفي قراعه بمنديل محلاوي كبير يربطه دائمًا حول رأسه ولا يخلعه صيفًا ولا شتاءً … كان له اسم غريب ما زلت أذكره حتى الآن: «خضرجي الرومي».
قال له والدي، وقد عرَف اسمه … لأنه دائمًا يسأل أول ما يسأل عن اسم مُحدِّثه وعن حياته وعمله، كأنه متَّهمٌ أو شاهد في جلسة بمحكمة: «اسمع يا خضرجي! كم تُساوي هذه العربة بخيلها؟»
فأجاب الحوذي: «حوالي ١٨ جنيهًا يا سعادة البك!»
فقال له أبي: «ما قولك لو اشتريت هذ العربة بخيلها وبك أنت أيضًا بهذا المبلغ؟»
فاستغرب الحوذي كيف يدخل هو أيضًا ضمن البيعة!
فوضَّح له والدي المراد: إنه يُريد شراء العربة بخيلها بهذا المبلغ على شرط أن يأتي هو معها كحوذي في نظير مرتَّب شهري قدرُه جُنيهان، يقبضه مجمدًا أيام المحاصيل، ويقطن العزبة في دار من دور الفلاحين يُعَد له خاصة هو وعائلته بالمجان.
وقبل خضرجي الرومي … وأصبحت لنا عربة بحصانين … هي التي وصفتُها فيما بعد في رواية «عودة الروح» بأنها العربة الملاكي الفخمة ذات الجوادَين المُطهمين!
وهكذا أصبحنا نستخدم هذه العربة في الانتقال بين أبي مسعود ودمنهور بدلًا من قطار الدلتا أو الحمير. ولن أنسى منظر الحصانَين الهزيلين وقد أُطلقا في غيط البرسيم، أوان الربيع، ربيع المواشي، والطعام الأخضر النضر أمامهما كأنه البحر، وكأني بهما يسبحان في السعادة سباحة! … وسرعان ما بدَت عليهما مظاهر الصحة والسِّمَن … وإن كان كلٌّ منهما قد احتفظ بقامته … وظل الأحمر قصيرًا إلى أن وجد الأقصر منه: ذلك الجحش الذي اشترَتْه لي جدتي بمبلغ «بريزتَين» أي ريال واحد. لبث هو الآخر يَمرح في غيط البرسيم مع زميليه الكبيرين مُعزَّزًا مُكرمًا ما لبثتُ أنا معه في الريف، فما إن وليت ظهري وغادرته حتى وضعوا على ظهره غبيط السباخ وقادُوه ذليلًا مع غيره من الحمير إلى أشقِّ المهام وأقذر الأعمال!
كانت حياة الريف في تلك المرحلة من حياتي جميلة، على الرغم مما كان يداخلني من شعور غامض أحيانًا، واضح أحيانًا أخرى، بضياع الفلاح وهوانه … فلقد كان من الأمور العادية أن أرى الفلاحين من حولي يَبرُكون ويمدُّون أعناقهم إلى الترعة بجوار مواشيهم ليشربوا جميعًا بنفس الطريقة … وقد فعلت أنا نفسي ذلك مرات معهم؛ فقد اندمجت فيهم ولم أَعُد أفطن إلا أني منهم … وكنت أودُّ لو تمتد بي بينهم هذه الحياة، لو لم يقع لي حادث أبعدني. ذلك أني كنت أواصل هناك أيضًا قراءتي للروايات … في الليل تحت نور ضئيل لمصباح زيتي في حجرة تُقاسمني فيها جدتي وأختي الأصغر … وفي النهار بأيِّ مكان منعزل في الغيط أو الجرن … وفي ذات يوم أحسستُ بألمٍ في عيني اليمنى. لكن القصة التي أقرؤها كانت شيقة مُمتعة طويلة الأجزاء دفعتني دفعًا إلى مواصلة القراءة رغم الألم. وإذا بوالدتي تنظر في وجهي وتصرخ مرتاعة: كانت عيني حمراء ككأس من الدم يملؤها صديد … فذهبت بي في الحال إلى دمنهور وعرضَتني على طبيبٍ للعيون فقال: هذا رمد صديدي. وهو خطر على العين إذا لم تُعالَج علاجًا حاسمًا سريعًا وقد يَستغرِق العلاج وقتًا … فعُدنا إلى الإقامة بدمنهور وحاول الطبيب علاجي جاهدًا بتلك الأدوية والوسائل المعروفة في ذلك العهد. «لم يكن البنسلين مع الأسف قد ظهر» … ولكن الداء استعصى عليه … وانزعج أهلي … ولم يُنكِر الطبيب أن عيني اليمنى مُهدَّدة بفقدان البصر … سمعتها بأذني منه، يقولها لزائرة في عيادته وهو يَغسل لي عيني … لم يقلها صراحة … ولكن بطريقة أفصح من الصراحة … قالت له الزائرة في همسٍ سمعتُها وهي تنظر في وجهي: «أظن هذه العين لا فائدة تُرجى منها يا دكتور؟!» لم أسمَع رده … ولكني شعرت كأنه يُسكتها بغمزة من كوعه … ويظهر أن اليأس خالج نفس الطبيب، فبدأ ينصح بالالتجاء إلى وصفات مختلفة … منها أن نأتي بحلاق يفصد لي دمًا … فجاءوني بحلاق … أذكر اسمه جيدًا حتى الآن، لما كان له من فضل في شفائي، اسمه علي النوَّام… فصَّد لي الدم بواسطة الديدان … ولم ينفع هذا أيضًا بشيء … واشتد المرض ولم ينقطع الصديد … واعترف الطبيب بأن العين ضائعة، اللهمَّ إلا إذا حدثت معجزة … وقد تَحدُث إذا استطاع أهلي السهر ليلة كاملة على عيني يغسلون صديدها دقيقة بدقيقة بالمطهرات … وجعل أهلي يُوزِّعون فيما بينهم نوبات السهر، وهم يتشكَّكون في مقدرة كلٍّ منهم على مقاومة التعب والنعاس. وإذا بالحلاق «علي النوام» ينبري ويتطوع بالقيام هو وحده بالسهر طول الليل على تلك العين، وقد كان … فقد لبث إلى جانب فراشي، لا تكلُّ يده عن غسل العين دقيقة بدقيقة. لم يكن يرفع القطنة المبللة بالبوريك إلا ليضع قطنة جديدة. كنت أشعر بحركة يده طول الليل لا تهمد ولا تسكن إلى أن طلع الصبح … وحضر الطبيب ونظر إلى وجهي فتهلَّل وجهه. إن الخطر قد زال. وإن الشفاء في الإمكان … لقد أنقذني الحلاق «علي النوَّام»، الذي لم ينم تلك الليلة لحظة واحدة! من حسن حظي أن هذا المرض حدث في الصيف … خلال الإجازة السنوية بعد أن كنت قد امتحنت ونجحت … ولو أنه حدث أثناء السنة الدراسية لكان سببًا في رسوبي أو تأخُّري عامًا آخر. فقد استغرَق هذا المرض وعلاجه نحو ثلاثة شهور. ولم تَستطِع العين أن تعود إلى حالتها الطبيعية إلا بعد تلك المدة … ومع ذلك فهي حتى اليوم لم تزل أضعف من الأخرى.
٧
كانت السنة الدراسية التي بدأتها بعد المرض هي السنة الرابعة؛ أي السنة التي أتقدم في نهايتها إلى امتحان الشهادة الابتدائية. على الرغم من خروجي مجهدًا من المرض فإني بذلت جهدًا صادقًا في المذاكرة والتحصيل، دون الاستعانة بمدرِّس خاص. كنت متفوقًا في اللغتين — العربية والإنجليزية — إلى حدٍّ استرعى التفات المُدرِّسين. وكان مُدرِّس الإنجليزية — الذي سبق أن أعطاني الدرس الخاص في العام السابق — إذا صحح كراسات الإنشاء تعجَّب وسألني بخبث عمن يُعطيني درسًا خاصًّا هذا العام. فلما كنتُ أنفي ذلك كان يُكذبني ويسيء معاملتي ويتعمد إحراجي بالأسئلة الصعبة وإظهاري بمظهر الضعف، ناصحًا لي بضرورة أخذ درسٍ خاصٍّ، كعهدي في السنة المنصرمة. كل ذلك وهو لا يستطيع كتمان اعترافِه بصحة الإجابة المدوَّنة في كراريسي. ولم أُصغِ إليه وتحمَّلتُ صابرًا تلك المتاعب. دون أن أخبر أهلي بشيء. إلى أن انتهى العام وتقدَّمت إلى امتحان الشهادة الابتدائية الذي عُقد بمدينة الإسكندرية، في سرادق ضخم بمدرسة رأس التين.
كنت من أصغر المتقدمين سنًّا من مدرسة دمنهور. على الرغم من أن سني تلك كانت تُعتبر كبيرة على تلك المرحلة نوعًا ما لتأخُّري في الالتحاق بالمدارس الابتدائية الأميرية … ولكنها كانت صغيرة بالنسبة إلى تلاميذ الريف في ذلك العهد. خاصةً مَن كان منهم من أبناء الأعيان والعُمَد. كان أغلبهم في العشرين أو جاوزها يأتون إلى المدرسة الابتدائية بشواربهم المُبرَمة، وقد تزوَّجوا وأنجبوا … وبعضهم ما كان يتحرَّج من المجيء بملابس أعيان الريف من جلاليب جوخ وعبيان وشيلان، دون أن يجرؤ أحد على مخالفتهم … أذكر يوم سافرت من دمنهور إلى الإسكندرية لحضور الامتحان، فهو ليس من الأيام التي تُنسى: أوصلني والدي إلى المحطة، ومعي حقيبة ملابسي وكتبي … وقطع لي تذكرة درجة ثالثة. وأقبل القطار … وحاذت العربة «الترسو» الرصيف … فإذا بها مُحتشِدة بركابها من الفلاحين والفلاحات ومَن في حُكمهم، وقد سدُّوا الأبواب والنوافذ بصُرَرِهم وقففهم ومقاطفهم وزكايبهم، وكان من المستحيل أن أشق طريقًا إلى دخول العربة من الأبواب. فما كان مِن الحمَّال الذي يَحمل حقيبتي إلا أن حملني أنا وقذف بي وسط العربة من النافذة وقذَف خلفي بحقيبتي، فوقعتُ فوق رءوس بعض النسوة المتدثِّرات في «الملس» فصرخن … وصرخ لصراخهن الرجال: «إيه ده يا فندي؟!»
فانتصبتُ واقفًا أعتذر بكلمات لا تكاد تخرج من حلقي … وأسرعت إلى النافذة أنظر إلى والدي، فوجدتُه يُشير إليَّ بيده على الرصيف مُودِّعًا … ثم اقترب فجأة من النافذة ليُكرر ما سبق أن أوصاني به؛ بمجرد وصول القطار إلى الإسكندرية أركب ترام محرم بك إلى منزل عديله زوج خالتي؛ حيث أنزل طول مدة الامتحان.
وهكذا سافرت بمفردي في هذه الدرجة الثالثة، لم أجلس طول الطريق إلا فوق حقيبتي، وأنا أتلقَّى شتائم الركاب، وقولهم «حاسب يا فندي»! كلما مرت بي امرأة حاملةً طفلها الذي يبكي ويبول.
ووصل القطار إلى الإسكندرية بسلامة الله … فما كدتُ أهبط إلى شوارع هذه المدينة الكبيرة وأرى الجموع المزدحمة أمام دار «سينما تغراف» حتى ذهب عقلي! … كانت تلك الدار تُسمَّى «الكوز مغراف الأمريكاني» … كانت الساعة وقتئذ حوالي الثالثة بعد الظهر، والناس يتأهَّبون لحفلة نهارية … والإعلانات الملوَّنة تخطف الأبصار … إنها حلقة مدهشة كلها خفايا وأسرار من حلقات اللصِّ الخطير الشهير «زنجومار» وبالله كيف كان يستطيع مثلي القادم من الريف أن يُقاوم؟! … لقد أغراني الشيطان اللعين أن أدخل وأتفرَّج! أنا وحدي الآن، وحرٌّ في شأني … والدي تركتُه في دمنهور … وزوج خالتي لا يعرف بعدُ بأيِّ قطار أو ساعة سأحضر … (لم أعلم أن والدي الحريص كان قد كتب إليه بموعد الحضور) … اقتربت من شباك تذاكر السينما تغراف وأنا أحمل حقيبتي بجهد … فقيل لي: «هل معك ورقة شيكولاتة بولان؟» ولم أفهم معنى هذا. وعندئذ تقدم إليَّ أحد الباعة بورقة صغيرة ثمنها نصف قرش، مُقتطَعة من غلاف «باكو شيكولاتة» تُسمَّى «بولان» تعطيني الحق في تذكرة بالدرجة الثانية ثمنها مخفَّض. فاشتريتها وأخذت التذكرة بقرش ونصف وحضرت الحفلة … يا لها من متعة … ويا لها من سعادة أن يكون الإنسان في مدينة كبيرة كالإسكندرية، وحدَه بلا رقيب ولا حسيب! … وانتهت الحفلة في نحو السادسة فبحثتُ عن ترامواي محرم بك … وذهبت إلى منزل زوج خالتي، فما إن رأوني داخلًا حتى هدأ ثائرهم وزال انزعاجهم. وسألوني بلهفة: «في أي قطار جئت؟» فتلعثَمت. فأفهموني أن الخطاب الوارد لهم من أهلي أخبرهم أني حاضر بقطار الثالثة والساعة الآن السادسة؟! فقلت لهم مُتردِّدًا مرتبكًا: «حصل تأخير في وصول القطار.» فنظر زوج خالتي إليَّ بارتياب: «ثلاث ساعات تأخير؟! لماذا؟ … هل برَك قطارك كما يبرك الجمل ونام منكم في الطريق؟!»
مرت أيام الامتحان الأربعة التحريري على خير، ثم يوم الامتحان الشفهي. ولم تكن إجابتي سيئة ولا مما يدعو إلى القلق الشديد … على الرغم من مستوى المعرفة المطلوبة وقتئذٍ لتلك الشهادة … كنا نكتب في الإنشاء موضوعات عويصة. لا في اللغة العربية وحدها، بل أيضًا في اللغة الإنجليزية. اطلعت عقب تخرجي على كراريس قديمة لم تكن بعد قد فُقدت فعجبت غاية العجب؛ كيف أن تلميذًا في الرابعة الابتدائية أمكنه أن يكتب بهذا الأسلوب في العربية والإنجليزية. كنا في العربية نعرف ونحفظ من الشعر والنثر ما يرقى إلى مستويات تثير الدهشة في أيامنا الحاضرة وأجيالنا الصاعدة، وكُنا في الجغرافيا نتبارى في رسم الخرائط بالألوان لكل بلدان العالم، بحاصلات كل بلد وطرق مواصلاته وموانيه ومناخه وحالته الاقتصادية. أما الحساب — ولست أدري كيف نجحتُ فيه — فقد لبثتُ إلى يوم الامتحان أفزع من تلك المسائل التي كالألغاز عن قطارَين أحدهما يسير بسرعة كذا والآخر بسرعة كيت، وعن الماء الدافق من «حنفية» في بالوعة بكمية كذا تصبُّ كذا في كذا من … الزمن، هذه القطارات والبالوعات أطارت النوم من عيني قبل الامتحان ساعات وساعات … لا عجب حقًّا أن كانت الشهادة الابتدائية في ذلك العهد تُعتَبر حدثًا من الأحداث! … وكان الحاصل عليها يقول عنه القائلون في زهو وافتخار: «فلان هذا حامل للشهادة الابتدائية …» ويتزوَّج بعدها مَن يُريد أن يتزوَّج، ويتوظَّف من يُريد أن يتوظف! … ويظهر أنهم كانوا يعتمدون على هذه المرحلة من التعليم اعتمادًا تامًّا؛ لأنها هي التي كانت تمدُّ الحكومة بحاجتها من الوظائف الصغيرة … وكان هذا هو كل ما أرادته حكومات ذلك العصر من التعليم!
وظهرت النتيجة … وكان رقم جلوسي بين الناجحين … بينما رسب كثير من زملائي في دمنهور، ممَّن يَبرمون الشوارب ويُنجبون الأطفال.
كان لا بدَّ للمُضيِّ في المرحلة الثانوية من إقامتي في الإسكندرية … واضطرت الأسرة بالفعل إلى إعداد منزل برمل الإسكندرية لهذا الغرض … وحالت أعمالهم في دمنهور والعزبة بأبي مسعود دون الإقامة المتَّصلة معي … فكانت إذا اقتضت مشاغلهم التغيب، تركوا معي خادمة تقوم على شئوني … والتحقتُ بمدرسة رأس التين الثانوية ثم بالعباسية … وكان للزهو بنجاحي في الشهادة الابتدائية من أول مرة أثره في الاستهتار والتراخي والاستهانة والإهمال … هذا إلى خلوِّ الجو لي بغياب أهلي من حين إلى حين، ووجود الكوزمغراف الأمريكاني، والحلقات، وسلاسل المغامرات التي كانت تَطيش بلبِّي … فبعد سلسلة «زنجومار» جاءت حلقات «فانتوماس» … هذا إلى روايات «روكامبول» التي كانت تُعرض للإيجار في المكتبات … كان تأجير الكتب والروايات نظير اشتراك شهري أمرًا شائعًا في مكتبات ذلك العهد … وقد أغراني هذا التيسير بقراءة ما لا يُمكن اقتناؤه من الروايات ذات الأجزاء العديدة، كان يكفي أن أدفع خمسة قروش شهرية لأصبح مُشتركًا، فأستأجر وأقرأ الأجزاء العشرين لرواية طويلة مثل «روكامبول» أو مجموعات «إسكندر دوماس الكبير» … وهكذا كانت الدروس تُهمل وتتراكم … إلى أن جاء آخر العام … فإذا بي أرسب في امتحان النقل إلى السنة الثانية الثانوية رسوبًا قبيحًا … وغضب أهلي لذلك غضبًا شديدًا … وكرهوا السينما تغراف وسيرته وحرموه عليَّ تحريمًا … وانهالوا على ما كان في حوزتي من روايات تقطيعًا وتمزيقًا … وحزنت أنا وتألمت لهذا الرسوب … ولكني لم أشعر بالفجيعة وفداحة المصيبة إلا في أول العام الجديد؛ إذ رأيت رأي العين زملاء فصلي السابقين وقد انتقلوا إلى فصل أعلى، ومنهم من كان يصغرني بعدة أعوام، وأنا الراسب الباقي في سنتي الأولى، أنظر إلى ارتفاعهم وقد تسلموا كتبًا جديدة جميلة؛ ككتاب عن السفر إلى القمر للكاتب الإنجليزي «ويلز» … جعلت أختلس النظر إلى تلك الكتب وأتحسَّر … فلن يكون لي غير كتبي القديمة، وسأوضع أنا القديم مع تلاميذ جدد … بينما زملائي قد صعدوا — في نظري يومئذ — إلى سماء لا أصل إليها … إلى القمر … وتركوني في الحضيض.
عوَّلتُ على أن أجتهد من أول العام … لأكون على الأقل من المتفوقين … وبدأت أتفوق بالفعل … ومضت أسابيع على هذا الاجتهاد … وإذا بإعلان السينما تغراف يَلُوح لي عن بُعد كأنه شيطان، كان معي خمسة قروش وفَّرتها من مصروفي … فلم أستطع مقاومة الإغراء ودخلت الحفلة السينمائية في الساعة السادسة، عقب الانصراف من المدرسة … وانتهت الحفلة في التاسعة … فما إن وصلت إلى المنزل في آخر الرمل حتى كانت العاشرة تدق مع دق الباب … وفتحت لي والدتي شراعة الباب الزجاجية وأطلت منها دون أن تفتح لي، وسألتني «أين كنت؟ طبعًا في السينما تغراف!» … فلمَّا حاولت الإنكار طلبت مني إبراز القروش الخمسة التي تعرف أنها معي … وهنا لم يسعني إلا الاعتراف بالحقيقة … فما كان منها إلا أنها أغلقت في وجهي شراعة الباب وهي تقول: «امكث في الشارع إلى أن يأتي أبوك ويتصرَّف في أمرك!» وحضر والدي وعلم بالقصة فهاج وماج وأقسم أن أبقى كما أنا خارج البيت، والويل لمن يفتح لي الباب … ولبثتُ على قارعة الطريق طول الليل لا أدري ما أصنع! … وكان خفير الدرَك يمرُّ بي بين لحظة وأخرى ويدق الأرض بنبوته ويتنحنح، وأنا أذرع الشارع المُقفر جيئة وذهابًا في حيرة وخوف ورعدة ويأس من أمري … وأمُرُّ بين حين وحين ببابنا أنظر إليه نظرة المطرود من باب الجنة، المُنتظِر الرحمة … وأخيرًا أحسست بالباب يُفتح في حذر شديد دون أن يبدو ضوء من الداخل … كان الجميع قد ناموا إلا جدتي … لقد جعلَت تتحيَّن الفرص إلى أن استوثقت من رقاد أهل البيت فنزلت وفتحت لي وهي تهمس: «ادخل بغير صوت وسأُخفيك في حجرتي، وفي الصباح يحلها ربنا!» … وطلع الصبح فذهبَت إلى والدي ووالدتي وجعلت تحتال عليهما وتتشفع لي وتقسم لهما عني بأنها الأولى والأخيرة، وأني لن أعود إلى مثلها أبدًا … إلى أن قَبِلا في النهاية الصفح عني على شرط أن أحلف بالأيمان المغلَّظة التي لا حنث فيها — وأنا أعرف ما هو القسم الذي لا حنث فيه — على ألا أضع قدمي في سينما تغراف إلا بعد حصولي على شهادة البكالوريا … عند ذاك أكون حرًّا في أمر نفسي، وأتحلَّل من قسمي … وأقسمت وبررت بالفعل بهذا القسم فلم تطأ قدمي السينما قط إلا عندما وطأت قدمي أعتاب مدرسة الحقوق.
منذ تلك الليلة اللعينة وأنا أسير في طريق الجد … حتى قراءاتي اتخذت اتجاهًا جديدًا جادًّا … فمن بين كتبي التي لم تُفقَد وأحتفظ بها حتى الآن، كتاب «المحاسن والأضداد» للجاحظ … لا شك أني اشتريته في ذلك العهد؛ لأنه مكتوب عليه بخط يدي اسمي كاملًا والسنة الدراسية: «سنة أولى ثانوي … فصل أول.»
على أن الفضل في هذا الاتجاه يرجع أيضًا إلى مدرس جديد للغة العربية جاءنا ذلك العام … كان مُعممًا إلا أنه عصري في تفكيره، لم يشأ التقيُّد كغيره بالبرامج العتيقة، فجعل يُحبِّب إلينا الأدب العربي، ويجذبنا إليه بالإقلال من شعر المديح والحِكَم والمواعظ التي كانت تَثقُل على قلوبنا الفتية، والإكثار من شعر الغزل الرقيق للعباس بن الأحنف ومهيار الديلمي وعمر بن أبي ربيعة ومَن شابههم … وكان الفصل وأغلبه من المراهقين والشبان اليافعين المُلتهبين يضجُّ بالإعجاب والاستحسان، ويستعيد ويُطالب بالمزيد ويسأل عن المصادر ويدون في الدفاتر … كنا في سن العواطف المشتعلة … في سنٍّ تريد الحديث عن الحب والهيام والشعور الجميل والخيال البديع … كنا نريد أن نسمع من ينشد:
أو:
أو:
ولا نريد أن نسمع، ولا يهمنا أن نسمع:
أو:
منذ ذلك الحين بدأ اهتمامي الحقيقي الواعي بالأدب العربي، وعلى الرغم من أن هذا الأستاذ هو الذي حبَّب إلينا هذا الأدب، مما جعل البعض يَحشرون في موضوعات إنشائهم أبيات الشعر يُملِّحون بها أسلوبهم، وجعل البعض الآخر يستخدمون فيه السجع ويرصعه بالعبارات الرصينة، إلا أنه مع ذلك أدهشني ذات يوم عندما منحني أعلى الدرجات إعجابًا بموضوعٍ إنشائي لم أُعنَ فيه بحشر أبيات شعرية ولا برصِّ عبارات محفوظة … موضوع كتبته وأنا شبه مريض مكدود، أطلقت فيه نفسي على السجية وتركت قلمي يجري ببساطة من لا يُريد أن يبذل جهدًا في الإنشاء أو يتكلَّف تأنقًا في البيان … كنت أتوقع منه توبيخًا، فإذا بي أتلقى منه تقريظًا، وهو يُسلِّمني كراسة الإنشاء بعد تصحيحها قائلًا لي: «أحسنت، إنَّ خير البيان ما لا يُتكلَّف فيه البيان!»
لست أدري كيف نسيت اسم هذا الشيخ، وقد كان جديرًا أن يُنقش في ذاكرتي دائمًا!
وجاء امتحان آخر العام … ونجحت ونُقلت إلى السنة الثانية الثانوية … ولكنه نجاح لم أكن فيه من الأوائل المُبرزين، رغم إعادتي للسنة … كان ضعفي في الحساب والعلوم الرياضية عمومًا الذي هو أخَّرني ولا شك في الترتيب … وكان أن نزل علينا ضيفًا في ذلك الصيف بعض أعمامي الشبان … أكبرهم سنًّا كان قد تخرج منذ قليل في مدرسة المُعلِّمين وعُيِّن مدرسًا للحساب في مدرسة خليل أغا، ومعه شقيقه الطالب بالسنة الأولى بمدرسة المهندس خانة، وأختهما الكبرى التي تُعنى بشئون مسكنهم بالقاهرة في شقة متواضعة بشارع سلامة في حي البغالة بالسيدة زينب، فلمَّا علموا بضعفي في الحساب والرياضة اقترح مدرس الحساب أن أُحوِّل إلى مدرسة بالقاهرة وأقيم معهم عامي الدراسي المقبل، لأهميته وخطورته؛ فهو عام التقدم إلى شهادة الكفاءة … وبذلك يتسنَّى للعم مدرس الحساب أن يُعاونني ويقويني في هذه المادة … وراقت الفكرة لأهلي … فهم ما عادوا يثقون تمامًا في اجتهادي … وكان أبي كثير التغيب والأسفار … يذهب لحضور جلسات المحاكم في بلاد مختلفة ويعود إلينا في الإسكندرية مرة كل خمسة عشر يومًا، وكانت أمي مشغولة وقتئذ ببيتٍ اشترَتْه حديثًا بما تجمَّع لها من مال بعد أن تسلمت زمام أطيانها في يدها.
أذكر حكاية شراء هذا المنزل … فقد كنت أتابع قصته في صمت دون أن يحفل أحد بإشراكي في الرأي … بل إن أهلي ما أشركوني قط في رأي خاصٍّ بشئونهم المالية حتى بعد أن صرت وكيلًا للنيابة … كان والدي يروي عن أبيه أنه كان يتصرَّف في أطيانه بالبيع أو الرهن فإذا قيل له: هل استشَرت ابنك القاضي أو ابنك المأمور؟ أجاب متعجبًا: «كيف؟ … أستشير العيال؟!» وقد سار أبي على سنَّة أبيه!
رأت والدتي أن يكون لها مُستقَر دائم في بلدها الإسكندرية، وهي قريبة من دمنهور، فتستطيع التنقل بغير مشقة للإشراف على أرضها، فلمَّا صح عزمها على ذلك انطلق والدي خلف السماسرة للبحث عن المنزل المناسب … وانتهى بهما الأمر إلى موقف الاختيار بين منزلين كانا معروضَين للبيع بنفس الثمن وكانت لهما تقريبًا نفس المساحة … إلا أن أحدهما يشرف على البحر … والآخر بعيد عن البحر … وكان هذا الأخير لبُعده عن البحر قد ازدهرت حديقته المتسعة وأثمرت فيها الفاكهة والخُضَر والنخيل بأنواعه … في حين أن الأول على اتساع حديقته لم يَنبت فيها غير الحشائش وبعض الأزهار، ولم تُزرع فيها فاكهة لقربها من ماء البحر المالح … ولم يَطُل تردُّد الوالدَين … واختارا في الحال المنزل البعيد عن البحر … كان في محطة الرمل تُسمى «شوتس» … وخلفه عزبة تُسمى «عزبة غبريال» غاصَّة بالعشش والقذارة وصخب الأطفال المشرَّدين في حاراتها، مما سبَّب لأهلي فيما بعدُ متاعب كثيرة طول حياتهم … لقد أعمتهم ثمار البرتقال الحمراء فوق الشجر عن موقع المنزل السيئ الذي لم يزده المستقبل إلا سوءًا … أما المنزل المُطل على البحر … فقد كان هو صاحب المستقبل السعيد … ولو أنهما اختاراه لأصبحا من الأثرياء … لكن مَن كان يظن في ذلك الوقت أنه سينشأ أمامه «كورنيش» … وأن هذا الكورنيش سيجعل للأراضي والمنازل المطلة عليه هذه القيمة الكبرى! … لقد كان المصطافون أنفسهم فيما مضى يتخيَّرون المواقع البعيدة عن البحر … لأن الشاطئ كان قفرًا وحشيًّا تتخلله الصخور الناتئة ولا يؤمه إلا القليل من الناس في بعض المواضع … لقد قال والدي للسماسرة عندما عرضوا عليه هذا المنزل: «هل نحن مجانين حتى نشتري منزلًا يُطلُّ على البحر القفر؟!»
قبل أن يموت بعام أدرك الحقيقة … وقال آسفا بمرارة: «ليتنا كنا مجانين!»
ومع ذلك فلم يكن ثمن المنزل الذي اشترَوه في يدهم جميعه … فلجئوا إلى الطريقة المعهودة: اقتراض باقي الثمن ورهن المنزل!
في هذا المنزل بعد شرائه نزل أعمامي هؤلاء ضيوفًا علينا مدة الصيف … فكنا نمزح جميعًا في الحديقة ونلهو ونضحك … فلما قبل الاقتراح واستقرَّ الرأي على سفري معهم آخر الصيف، والإقامة عندهم في القاهرة، عامي الدراسي، قام أهلي بتجهيزي للسفر واتفق والدي مع عمي المدرِّس على أن يرسل إليه أول كل شهر مبلغ ثلاثة جنيهات، نظير معيشتي بينهم، أي مقابل الإقامة الكاملة! … هذا خلاف مصروفي الشهري المُسلَّم ليدي وقدره خمسون قرشًا، أنفق منها على كل لوازمي وحاجاتي … من الكتب الإضافية إلى النزهة الأسبوعية إلى السميطة وقطعة الجبن اليومية … وأحيانًا إذا احتاج الأمر إلى رباط عنق أو رباط حذاء ومسحه أو قميص أو بنيقة أو مناديل أو جوارب أو زر طربوش وكيِّه … وأحيانًا أكلة كباب عند الحاتي أو كوارع في المسمط … وغير ذلك من الأبواب العديدة المنظورة وغير المنظورة.
٨
لم يخطر على بال أهلي ولا شكَّ أنهم قذفوا بي إلى الحرية الواسعة، وإلى الجو الفني الرحب يوم قذفوا بي إلى القاهرة … حقًّا لم أضع قدمي قطُّ في دار سينما … بِرًّا بقسمي، ولكني اتجهت إلى المسرح بكل ما يَحتمله وقتي وجيبي … كان جورج أبيض قد انفصل عن جوقة الشيخ سلامة حجازي الذي بدأ بالانضمام إليه … واستقلَّ بفرقة خاصة تُمثل التراجيديا بغير قصائد ولا ألحان … التمثيل من أجل التمثيل … لا التمثيل من أجل الغناء … وكان هذا شيئًا جديدًا … لم يجرؤ عليه إلا جورج أبيض وحده … كان يَعرض رواياته (كلمة مسرحية أو مسرح لم تكن مستعملة في ذلك الوقت) في تياترو الأوبرا، أو في مسارح أهلية مثل «تياترو برنتانيا» إلى أن أنشأ فيما بعد لنفسِه مسرحًا خاصًّا هو: «تياترو جورج أبيض» في شارع فؤاد سابقًا في المكان الذي تقوم فيه اليوم عمارة «جراند أوتيل» … وما من شك أن تأثير جورج أبيض على الشباب المثقَّف كان قويًّا … فسرعان ما انضمَّ إلى فرقته محامٍ شاب هو «عبد الرحمن رشدي» … أثار احترافه التمثيل وهو المحامي ضجَّة ونقاشًا … شاهدتُه في دور «تيمور» في مسرحية «لويس الحادي عشر»، فبهرني … ثم انفصل هو أيضًا وأنشأ فرقة خاصة به مثَّل فيها أنواعًا من الدوام والميلودرامي الإيطالية والفرنسية مثل «الموت المدني» و«الضمير الحي» و«المرأة المجهولة» … إلخ. أما جورج أبيض فكان قوام عمله وفنه التراجيديا في أرقى أنواعها: «أوديب الملك» و«هملت» و«عطيل» … إلخ. كان مسرح جورج أبيض أقرب إلى الثقافة الجادة بحكم دراسته الجدِّية في فرنسا، في حين أن عبد الرحمن رشدي كان من الهُواة الذين لم يتلقَّوا التمثيل في الخارج عن دراسة أو ثقافة … لكنه كان يؤثر في الجمهور بعواطفه المشتعلة، ويبكي بكاءً حقيقيًّا، ويذرف دموعًا سخية وهو يؤدي دوره … كان هو في التمثيل من جانب والمنفلوطي في الأدب من جانب آخر … أحدهما بصوته المتهدج الباكي، والآخر بأسلوبه النثري المبلل بالعبرات، يستنزفان مدامع الناس ويُعتبران عند الكثير مثالًا للفن الصادق … ولئن جاز أن نصف هذا المثال بأنه رومانتيكي؛ فإن جورج أبيض باعتماده على سلامة الأداء الفني ورسوخ القدم فيه والاتزان الذي يحول دون فيضان العواطف في بحار الدموع يمكن أن يوصف بأنه كلاسيكي … لقد ظهرت «التراجيديا» في مصر بظهور جورج أبيض واختفت باختفائه … ولم يبق إلى يومنا هذا سوى الدرام والكوميديا، ذلك أن الطبيعة قد حبَتْه بكل ما يلزم التمثيل التراجيدي؛ الصوت الجهوري والقامة الضخمة، هذا إلى الموهبة والاستعداد الفطري … وعلى الرغم من نجاحه والاعتراف بفنه فقد كان يُثير في أول عهوده سخرية الصحف الهزلية، وكان يحتلُّ فقرة دائمة في كل عدد من أعداد جريدة «السيف والمسامير» في صفحتها المعنونة «باب اللدع» … وهو باب تُنشر فيه النِّكات والقفشات والقوافي المُضحكة واللَّمسات الكاريكاتورية بالكلام لا بالرسوم — لم يكن الرسم الكاريكاتوري وقتئذ — فكانت النكت اللفظية تقوم مقامه في تصوير شخصيات المجتمع المعروفة … كانت «تجعيرة الخواجة جورج» كما كانوا يسمونها — هي التي تدور حولها القفشات في كل عدد.
أما أنا فكنتُ كغَيري من هواة الفن الكثيرين شديدَ الإعجاب بجورج أبيض … أحفظ صفحات بأكملها من عطيل وأوديب ولويس الحادي عشر … أُلقيها بطريقته مع بعض الهواة من الزملاء في أوقات الفراغ … ولم يكن يَعوقني عن حضور حفلاته بدار الأوبرا إلا النقود … فما إن أعثر على خمسة قروش في جيبي أصعد بها أعلى التياترو، حتى أسابق الريح إلى هناك، وأعود في مُنتصَف الليل ماشيًا على قدمي من الأوبرا إلى شارع سلامة بالبغالة … ولم تكن عودتي المتأخِّرة تستلفت النظر في بيت أعمامي الشبان … فما من أحد فيه يملك سلطة حقيقية يُهيمن بها على تصرُّف الآخرين … ما كان أحد هناك يخيف أحدًا أو يأمره أو ينهاه … كل واحد في ذلك البيت كان حرًّا في أمر نفسه ورب البيت بحكم السن والوظيفة وهو مُدرِّس الحساب … كان لطبعه الوديع وقلبه الطيب وروحه المرحة وشخصيته اللينة الهينة لا يستطيع السيطرة على بعوضة، وكان هذا من حسن حظي!
وعشتُ هكذا في حرية تامة … ما كان يُمكن أن تُتاح لي في كنف والدي ووالدتي، وتحت ضغطهما المستمر، الذي كان سيَحُول قطعًا دون ارتياد المسارح والانغماس في الحياة التي أريدها. على أن هذه الحرية وهذا الانغمار في مثل هذه الحياة، كان من الممكن أن يكون خطرًا على حياتي الدراسية … ولستُ أدري على التحقيق ما الذي أنقذني؟ … أهو ستر من الله؟ … أهو وازع من نفسي؟ … أهو توازن غريزي ورثتُه بدأت بوادره عندي مع السن؟ … كل الذي أعرفه أن الهواية لم تطغَ عندي الطغيان الخطر الذي يجرفني كما جرف غيري بعيدًا عن مجرى المدارس والتعليم … على أني سرعان ما أدركت أن التعليم نفسه عامل مساعد للهواية … فقد وجدت مسرحية هاملت لشكسبير مما يُقرَّر في المدارس الثانوية، وقد قرأتُها وقتئذ بالإنجليزية، وأنا فخور مُعتزٌّ بأن هذه الرواية التي تُمثَّل على المسارح قد اعتُرِف بها رسميًّا في المدارس … كما أن نصوص المحفوظات هيَّأت لنا الفرصة لإشباع هوايتنا، فقلبناها إلى إلقاء تمثيلي … وأدَّى بنا ذلك إلى الإقبال على الشِّعر العربي إقبالًا شديدًا … فجعلنا نتبارى في حفظ المئات من الأبيات ونتنافس في المطارحات الشعرية … ويباهي بعضها البعض بكميات محصوله الشعري … كانت الذاكرة في قوة شبابها النضر؛ فحوَتِ الكثير … وإني لأدهش حقًّا كيف تبخر كل هذا فيما بعد، وخلت الذاكرة من بيتٍ واحد من الشعر … وإذا ذكَرَت بيتًا فإنها غالبًا ما تذكُر المعنى فيه دون اللفظ!
وصِرنا بعدئذ إلى نوع عجيب من اللعب التمثيلي … انتَقَيت اثنين من زملائي المُبرزين في الإلقاء، وجعلنا نجتمع في أوقات فراغنا لنُلقي تمثيلية ارتجالية … نلقيها أمام من؟ أمام أنفسنا نحن الثلاثة … كنا نحن الثلاثة المؤلِّف والممثل والجمهور في وقت واحد … نبدأ بالاتفاق فيما بيننا على موجز لموضوع قصة، ونُوزِّع أدوار شخصياتها علينا، بغير نص مكتوب ولا معروف سلفًا … ثم نأخذ في المُحاوَرة والإلقاء والتمثيل بكلامٍ مُرتَجل للساعة والتو، يُعبِّر بلغة عربية فصيحة عن مواقف أبطال القصة … وهكذا بدأنا المسرح نحن أيضًا كما بدأه الأقدمون بمرحلة الارتجال … ثم انتقلنا إلى مرحلة التأليف … نحن أيضًا … اتفقنا نحن الثلاثة على أن نجتمع عصر كل خميس في منزل أحدنا … كان له «منظرة» للضيوف منفصلة عن بقية البيت، جعلنا منها مسرحًا صغيرًا، وتطوعت أنا بتأليف الرواية: أي المسرحية … وكنت أحرص على أن أفصِّل دور البطل فيها على مقاسي، وأحشد له المواقف المهمة وأضع على لسانه العبارات الفخمة الضخمة … وعرَف تلاميذ الناحية والجيرة بأمر مسرح المنظرة هذا وما يُمثَّل فيه؛ فجعلوا يتوافَدون للمُشاهدة … وبذلك أصبح لدينا الرواية التي تؤلف. والممثل الذي يُمثِّل، والجمهور الذي يشاهد.
على أن الخلاف التقليدي على الأدوار كان يدبُّ بيننا نحن أيضًا، حدث ذات يوم أني ألَّفت مسرحية عن قصة «النعمان بن المنذر» واحتفظت فيها لنفسي طبعًا بدور النعمان، وجاء يوم التمثيل فإذا بزميلي صاحب المنظرة قد أحضر عباءةَ أبيه ولبسها وأعلن أنه هو الذي سيقوم بدور النعمان بن المنذر … فصعد الدم إلى رأسي من الغضب … هذا الدور الذي فصَّلته لنفسي يأتي هذا ويرتديه؟! … فلما صحتُ به أن هذا الدور لا يَصلُح له، أجابني أنه أصلح أهل الأرض لهذا الدور، أولًا لأنه يرتدي العباءة، وأين لي أنا بعباءة … لم يكن لي إلا معطفي … وهل يعقل أن يظهر النعمان بن المنذر بمِعطَف عصري؟! … حُجة قوية … ولكني سألته: لماذا لا يُعيرني العباءة عند التمثيل؟ … فقال: ولماذا أُعيرك إياها وأنا أصلح للدَّور كما تصلح له أنت؟ بل إني أقرب إلى الدور منك؛ لأنَّ اسمي «النعمان» فعلًا! كان اسم زميلي هذا حقيقة «عباس حلمي النعمان». (رحمة الله عليه، توفاه الله بعد أن أصبح طبيبًا ناجحًا، وعمل طويلًا مفتِّش صحة بالأقاليم) كانت حُجة الاسم دامغة … وربما لم تكن دامغة، ولكني أمام إصراره والبيتُ بيتُه والمنظرة منظرته والمسرح مسرحه والعباءة عباءته، لم أر بدًّا من النزول مكرهًا على إرادته، وإن كنت لم أغتفر له هذا الاغتصاب لدورٍ صنعتُه ودبَّجته بعناية لنفسي! … لم نتَّفق بسهولة على توزيع أدوار رواية مثل اتفاقنا على رواية «لويس الحادي عشر» … كان يترك لي دور «لويس» عن طيب خاطر، مُرحِّبًا بدور «الكونت دي تيمور» … ولن أنسى يوم جمَعَتنا فيها بعدُ مصادفات القدر في أحد أقاليم الريف، وكان هو مفتش الصحة هناك، وكنت وكيل النيابة … فما إن وقع نظره عليَّ أول يوم تلاقَينا حتى استقبلني بعبارة «لويس» المشهورة التي يُوجِّهها إلى «الكونت دي تيمور» فاجأني رحمه الله ونحن في زحمة أعمالنا الرسمية الجدية بقوله في لهجة تمثيلية: «إياك واللعب بالنار يا كونت!» فلم أتمالك من الضحك … وعجبتُ أنه لم يزل يحمل لتلك الأيام أجمل الذكرى!
أقبل آخر ذلك العام الدراسي، الذي قضَيناه في الإلقاء ومطارحات الشعر وتمثيل الروايات، وعرضوا علينا اختيار القسم الذي نَلتحق به بعد شهادة الكفاءة … فاخترتُ أنا بلا تردُّد القسم الأدبي … إذ لم أتصور نفسي طبيبًا ولا مهندسًا … فأنا أتقزَّز من رؤية الدم، ولا أحب النظر إلى المرضى … أما الهندسة فلا يُمكن أن أفهمها وأنا لا أفهم شيئًا في الرياضيات … وحاولت أن أغري صديقي عباس حلمي النعمان بالقسم الأدبي فأبدى ارتياحه في أول الأمر … ثم عاد فسجَّل اسمه في القسم العلمي، نزولًا على إرادة أبيه المُصر على أن يراه طبيبًا … أما والدي فقد وجَد اختياري طبيعيًّا ومتفقًا مع إرادته؛ أن أسلك مسلكه في القضاء … ونجحنا … وحصلنا على شهادة الكفاءة … منذ ذلك الوقت وقد يمَّمنا بوجوهنا شطر «البكالوريا»، أخذت تبدو علينا أمارات الجد والإحساس بالمسئولية، والميل إلى كل ما يُشعرنا برجولتنا … ظهر ذلك في نوع مطالعاتنا … كما ظهر من نوع عواطفنا … فقد حدث فينا مزيج عجيب مُتناقض … فإلى جانب إحساسنا بالحب الرفيع، بدأنا نعرف المرأة كما كان يُتاح لأمثالنا مُقابلتها وقتئذ، في تلك الأماكن المظلمة «بحي وجه البركة» و«كلوت بك» كلما استطعنا تدبير عشرة قروش في ليلة جمعة … قبل ذلك ما كنا نَعرف غير العادة السرية … ولكنا منذ عرفنا تلك البيوت المرخَّصة وقتئذ عرفنا الاتصال الجنسي المباشر بالمرأة نتسلَّل إليها في الستر دون خشية فاضِح أو رقيب … ولقد حدث ذات مرة أن جاءتنا خادمة شابَّة أرملة لاحظت أنها تُحاول الاختلاء بي وإغرائي، وكنت أضعُف وأهمُّ بها لولا أني جعلت أفكر في الأمر ومغبته وما يُمكن أن يترتَّب عليه من فضيحة في الأسرة … فتمالكت نفسي بسرعة وتماسكت وتغلبت إرادتي على نزوتي … على أنه في ذات الوقت وإلى جانب الكتب الجنسية الماجنة التي كانت الأيدي تتنازعها خفية في الفصل … مثل كتاب «رجوع الشيخ»، فإننا كنا نُقبِل بتفاخر على المطالعات الجادة العميقة … أذكر أني اشتريت من مصروفي كتابًا تُرجِم حديثًا إلى العربية للفيلسوف «سبنسر» في الأخلاق … وكنتُ أشعر بالزهو أني أقرأ في الفلسفة وإن كنتُ لا أصدق الآن أني فهمت شيئًا يذكر من هذا الكتاب وأمثاله من الكتب الجادة الجافة، إلا أنها كانت نزعة تلك المرحلة؛ فقد انتهى اهتمامي بقراءة الروايات وقصص المغامرات … بل لقد انتقل حديثي مع الزملاء من شئون التمثيل إلى المناقشة والمجادَلة في موضوعات فكرية وفلسفية … على أن هذا الميل إلى التفلسف لم يمسَّ بعدُ منطقة المعتقدات أو ما وراء الطبيعة، بل كان يدور كله حول مسائل عاطفية … فما من شيء وقتئذ كان يهز عقائدنا أو يجعلنا نصدق أن هناك تفكيرًا يمكن أن يثار للتشكيك في الدين … حقيقة كنا نَسمع عن وجود رجل اسمه «شبلي شميل» يتحدَّث عن داروين والتطور وأصل الأنواع وأن الإنسان أصله قرد، وأنه يُنكر وجود الله … ولكن المجتمع في ذلك العهد كان عجيبًا حقًّا في احتماله وتسامحه … وربما في ثقته بقوة إيمانه … فقد كان يعلم أن شبلي شميل مُلحد، وأنه يجاهر ويباهي بإلحاده فما كان أحد يزيد على أن يَبتسم أو يسخر أو يُمطره بالنكات … من ذلك تلك النكتة التي تواترت يومئذ عن الشاعر حافظ إبراهيم … قيل إنه كان يَستمع إلى إحدى المطربات في ملهى من الملاهي وإلى جواره «شبلي شميل» المُلحد الذي لا يؤمن بغير الطبيعة … فلما أجادت المطربة في الغناء صاح حافظ إبراهيم مع الصائحين: «الله!» ثم التفت إلى شبلي شميل وقال له: وأنت كيف تَصيح عند الطرب والله عندك غير موجود؟! … هل ستَصيح: «طبيعة! … طبيعة»؟!
كان مثل هذا التسامح الساخر يَجعل المؤمن لا يصدق أن الإلحاد شيء جاد … لذلك ما كان تفكيرنا الذي أخذ يتَّجه إلى التفلسف يصدق أن في الإمكان مد التفكير إلى منطقة البحث في وجود الله. ولم يكن في أيامنا قد تُرجم إلى العربية كثير من الكتب الفلسفية أو نُشر فيها ما يغذي ميولنا الجديدة ويُرضي غرورنا الناشئ … ولم يكن علمنا باللغة الإنجليزية يرقى إلى مستوى الاطلاع في الكتب الفلسفية الإنجليزية … وربما لأننا لم نكن نعرفها أو نسمع بأسمائها وأسماء أصحابها … وحتى لو علمنا لما وجدنا أثمانها في جيوبنا … أما الفلاسفة العرب من أمثال الغزالي وابن رشد وابن سينا … فلم نجد من يرشدنا إليهم … ولم تكن كتبهم الصفراء مما يَسهُل على أمثالنا الحصول عليها. ولم يُفكِّر المسئولون طبعًا أن يُضمِّنوا البرامج الدراسية بعض صفحات قليلة مختارة كنماذج للفكر العربي أو الإسلامي … فقد كانت البرامج الدراسية مقصورة على النصوص الأدبية البحتة … ويختار لنا منها ما هو فن زخرفي تجريدي … فالأدب العربي في بعضه ربما كان من حيث الشكل هو أول أدب تجريدي في التاريخ، يقوم على القيم الجمالية اللفظية في شكل المقامات والسجع والبديع والجناس … إلخ، على نسق الفن التشكيلي التجريدي في الزخرفة العربية الإسلامية … لذلك كله ضاعت علينا فرصة التكوين الفكري الفلسفي الحقيقي في تلك المرحلة التي يريد فيها العقل أن يتفتَّح للتفكير، بل إن أمهات الكتب الأدبية نفسها التي كان يجب أن نُطالعها في تلك المرحلة لم تكن في متناول أيدينا … كان يجب في تلك السن أن نكون قد أحَطنا علمًا بروائع الآداب العالمية أو على الأقل بعض نماذج لها … لم يكن قد ظهر في الترجمات وقتئذ غير الجزء الأول من البؤساء لفكتور هوجو … ترجمة حافظ إبراهيم بأسلوبٍ عربيٍّ جزل … كنا نترنَّم به ترنمًا … ثم ظهرت ترجمة رديئة لرواية تولستوي «حنا كرنينا» لم تكن تصلح للإيحاء إلينا بأنها من الأدب الخالد … كان فتحي زغلول حقًّا قد ترجم لمونتسكيو، لعله كتاب «روح القوانين» … وكانت لدى والدي نسخ كثيرة منه … كذلك لتوزيعها … ولكن الكتاب لم يَجذبني إليه وقتئذ … ربما كان ذلك لموضوعه أو لارتفاعه عن مستوى إدراكي … على أني وجدت من كتب والدي بعض مؤلَّفات قيِّمة في الأدب العربي … أذكر منها «العقد الفريد» لابن عبد ربه بأجزائه العديدة … و«الكامل» للمبرد و«الأمالي» للقالي ونحو ذلك … وقد طالعت «العقد الفريد» بشغف شديد أكثر من مرات وفي مراحل كثيرة من حياتي … ولم أزل محتفظًا بمجلداته تلك في الطبعة القديمة ذات الورق الأصفر والغلاف الجلدي السميك حتى يومنا هذا … والعجيب أن والدي الذي أمرني بمُطالعة المعلَّقات وضربني من أجلها، لم يأمُرني بقراءة العقد الفريد، وهو أبسط وأمتع وأنفع لمن كان في سنِّي … ولعله لم يفطن إلى وجوده في صناديقه وصحاحيره … أنا الذي اكتشفت وجوده بنفسي وأنا أنقب في تلك الصناديق والصحاحير التي لبثت أعوامًا طعامًا للصراصير! … فقد كانت والدتي تضيق بها أشد الضيق وتقذف بها في أي مكان تلقي فيه المهملات والكراكيب … ذلك أنها منذ تزوجت والدي ورأت فقره وخافت على مستقبلها وأرعبها شبح الفاقة أرعبته معها … فإذا به ينسى الشعر والأدب والفكر، ويَمضي يهتم بمشاغل العيش والكفاح من أجل تدبير مورد إيراد ثابت … وظلَّ طول حياته لا هم له ولا كلام إلا في الأرض والأطيان، والسماسرة، والبيت الذي اشترى في الرمل، والبنك والأقساط، والرهنية، والفوائد المُستحَقَّة، ومضى شبابي وأنا لا أسمع منهما إلا الحديث في هذا الموضوع … ولم يصبح لوالدي من الوقت ولا من فراغ البال حتى ما يُمكنه من سؤالي عما أقرأ … وأحمد الله على ذلك … فلو أنه دفعني دفعًا إلى مُطالعة ابن عبد ربه والجاحظ وابن المقفَّع وغيرهم ممن قرأت لهم بنفسي، وأمرني أمرًا وضربني ضربًا من أجلهم كما فعل من أجل المعلَّقات، لكرهتهم وما رأيت فيهم غير أشباح مخيفة … على أن الذي كنت أشتاق إلى مُطالعته كل الاشتياق في تلك السن هو تلك المسرحيات التي كنا نُشاهدها في دار الأوبرا وغيرها من المسارح … بحثت عنها كثيرًا وسألت عما إذا كانت قد طُبعت في كتب؟ فقيل لي إني قد أعثر على بغيتي في بعض مكتبات شارع محمد علي أو شارع عبد العزيز … لكني بعد البحث الطويل لم أجد غير القليل منها مطبوعًا طبعًا رديئًا مثل مسرحية «بوريتان أو البرج الهائل» و«شهداء الغرام» بقصائدها و«عطيل» ثم «لويس الحادي عشر» التي فرحت بها فرحًا كبيرًا وحفظت منها دور «لويس» بأكمله … غير أني لم أجد «هاملت» وكنت تواقًا إلى قراءتها كما مُثلت في العربية … بل إني لم أجد مسرحية واحدة من مسرحيات موليير التي ترجمها زجلًا «عثمان جلال» … كنت أتألم ألمًا حقيقيًّا لحرماني من هذه المؤلفات التي كنت أحسُّ بحاجتي الشديدة إليها في تلك المرحلة المتحمِّسة المتوثِّبة من حياتي … أدركت فيما بعد ما هو المعنى الحقيقي للحضارة والبلد المتحضر: هو أن توضع كل آثار الذهن وتراث الفكر في متناول الأيدي بلغة البلد لكل مراحل السن.
٩
كانت مصر في تلك السنوات تعيش خلال الحرب العالمية الأولى … وإذا كرَرتُ عائدًا إلى الوراء لأتلمَّس مشاعري في ذلك الوقت، لوجدتها هي نفس مشاعر كل مواطن إذ ذاك … كنا بقلوبنا مع الألمان والأتراك … وقد كانوا في جانب واحد ضد الإنجليز الذين كنا نمقُتهم ونتمنَّى الخلاص من احتلالهم … كان الشعور بكراهية الإنجليز شيئًا طبيعيًّا كالهواء الذي نتنفَّسه، ولا نُجادل فيه ولعلَّ الفضل في إثارة الشعور العام ببُغض الإنجليز هو للمجاهد مصطفى كامل … فقد كان رمزًا في قلوبنا لمناهضة العدو البغيض الذي يُسمى «الإنجليز»، غير أن مصطفى كامل قبيل وفاته كان يبدو لعيني الصغيرة بطلًا من أبطال القصص مثل أبي زيد الهلالي والزناتي خليفة، بل إنه قد أصبح فعلًا بعد ذلك أسطورة من الأساطير في نظر العامة … فقد كنت أسمع عنه كلامًا من هنا ومن هناك وأرى صورته في بعض الصحف فأتخيَّله في صورة من تلك الصور الخيالية … ويوم مات وقامت قيامة الناس لمَوتِه سمعت أخبار جنازته ممن حولي، ولم نكن يومئذ في القاهرة … كنا بالأقاليم فكان يصل إلى أذني وقلبي الكلام عن وفاته وحداد الأمة عليه، فأشعر أنا أيضًا بالألم يحزُّ في قلبي الصغير … وتواترت إشاعات لم أزل أذكرها حتى اليوم … قيل إنه مات مسمومًا … سمَّه أعداؤه الإنجليز … وكنت أسأل في سذاجة: كيف سمُّوه؟ … فقيل لي: وضعوا له السم في مقبض عصاه المحلَّى بالذهب … وكنت أستفسر عن كيفية ذلك … فيقال لي: دهنوا مقبض العصا بالسم فلما أمسك به سرى السم في جسده … وكنت أُصدق ذلك الكلام. ويَسري في نفسي ويختلط بدمي حاملًا الكراهية لأولئك الذين فعلوا به ذلك … قال لي أبي فيما بعد إن مصطفى كامل كان في السنة الأولى بمدرسة الحقوق يوم كان والدي وزملاؤه بالسنة الرابعة … وما كانوا يرون فيه إلا شابًّا ثرثارًا، يترفَّعون عن الاهتمام بكلامه الكثير أو أخذه مأخذ الجد، وكانوا هم أيضًا مُهتمِّين بسياسة البلد ودائبين على مطالبة الخديوي بالدستور، ولم يكونوا أقل منه وطنية ولا ثقافة، كما قال لي … وهذا جائز … غير أن الذي فاتهم إدراكه من أمر ذلك الشاب هو أنه كان يملك ما لا يملكون: قدرته على تحويل كلامه إلى حركة عملية ثورية، وموهبته في الإثارة الشعبية … وهذا استعداد خاص لا يتأتَّى لكل شخص.
أما شعور حبِّنا للترك وقتئذ، فلعله في أغلبه من تأثير مصطفى كامل أيضًا … فقد كان اتِّصاله بالآستانة والباب العالي شيئًا معروفًا … وكان الناس ما عادوا يشعرون بوطأة حكم الترك شعورهم بالاحتلال البريطاني … فالحكم التركي كان قد زال فعلًا أثره من النفوس، ولم يكن يَربطنا به إلا خيط شبه رمزي … وما إن أُعلنت الحرب، وكان الخديوي عباس قد سافر إلى إسطنبول للاصطياف حتى قطع ذلك الخيط أيضًا، وأصبحت مصر تحت حكم بريطانيا المُطلَق مباشرةً عملًا ورمزًا … كنا طول مدة الحرب نتطلَّع إلى ناحية القنال نَنتظر مجيء الأتراك والألمان ليُنقِذونا من الاحتلال البريطاني … وكانت الأخبار تتواتَر كل يوم عن رؤية جيوش قادمة عبر قناة السويس … بهذا الأمل كنا نعيش طول الحرب الأولى … ولم نكن نحن سكان المدن نشعر بوطأة الحرب كثيرًا … اللهمَّ إلا تحمُّل رزالة الجنود الأستراليين والسُّكارى من الإنجليز … وخطفهم ما في جيوب المارة ليلًا وما في أيدي الباعة نهارًا … فما من مظاهر واضحة أخرى للحرب سوى أن النوافذ المطلَّة على البحر في الإسكندرية كنتُ أراها مطلية باللون الأسود أو الأزرق بأمر الإنجليز، حتى لا يتسرَّب الضوء ليلًا إلى غواصات الألمان … أما القاهرة فلا أذكر أنه اتُّخذت فيها احتياطات مهمَّة؛ لأن الطائرات لم تكن كثيرة الاستعمال في تلك الحرب … وخاصة في مدننا … لست أذكر أنه كانت تُطلق صفارات إنذار … ومضَت الحرب دون أن يحدث في مصر غير حادث واحد لتحليق طائرة ألمانية فوق القاهرة … ألقت بضع قنابل «شرابنيل». أذكر اسم القنابل جيدًا لأنَّ هذا الحادث الوحيد من نوعه كان موضع حديث الناس والصحف وتصوير مجلة «اللطائف المصوَّرة» أشهر مجلة مصورة في ذلك الوقت … نشرت صورًا لمكان الحادث الذي وقع على ناصية شارعَيْ عماد الدين والمغربي «عدلي باشا» … ولم يكن فيما أذكر لهذه القنابل ضحايا بشرية … كل ما نتج عنها إصابة عربة حنطور وحصانين، وقد قُتل الحصانان … هذان الحصانان هما كل ضحايا الحرب الجوية في بلدنا في ذلك العهد … وفي ذات يوم ساعة العصر بينما أنا في الشارع إذا بي أرى الناس تتجمَّع وتتصايَح ويخرج أصحاب الدكاكين مُهلِّلين ويقذف الخواجات بقبعاتهم في الهواء فَرِحين راقصين هاتفين، وكأن الناس جميعًا قد جُنَّ جنونهم فجأة … فسألت عن الخبر … فسمعت من يصيح بجواري «الهدنة … الهدنة.»
وهكذا انتهت الحرب الأولى … ولم يمضِ قليل حتى قامت ثورة ١٩١٩م واشتعلت مصر … ويدهشني أني لم أتجه يومئذ إلى الخطابة أو كتابة المنشورات … مثل بعض زملائي ومعارفي … فقد كان اتجاهي هو إلى تأليف الأناشيد الوطنية الحماسية … وأحيانًا كنتُ أُلحِّنها بنفسي مسترشدًا في التلحين بأنغام تلك الموسيقى الجنائزية التي كانت تعزفها فرقة حسب الله «الأصلي» أمام نعوش ضحايا المظاهرات … علمت فيما بعد أنها في الأصل لبعض «مارشات» شوبان وفاجنر، ولكن حسب الله — عافاه الله — قد قلَبَها رأسًا على عقب فإذا هي شيء لو سمعه شوبان وفاجنر لأغرقا في الضحك، وعَجِبَا لما صارت إليه ألحانهما! … ذلك أن فرقة حسب الله كما كنا نراها في الجنازات كانت تتكوَّن من عشرة أفراد على الأقل … ولكن الذي يعمل منهم حقيقة لا يتعدى الثلاثة … أما السبعة الباقون فلا يَعزفون شيئًا، كل مهمتهم أن يحملوا آلات نفخ مسدودة أو من الخشب المطلي لإيهام الناس أنهم موسيقيون، وما هم إلا نوع من الكومبارس يمثلون الأداء بالإشارة لزيادة العدد … كان يَكفيني اللحن الأساسي الذي أعرف منه إيقاع «المارش» لأستخرج منه لحنًا آخر حماسيًّا يتمشى مع كلمات الأناشيد التي أضعها في مناسبات الثورة … وقد انتشرت بالفعل بعض تلك الأناشيد إلى حدٍّ أدهشني … سمعت يومًا بعضها يردده المتظاهرون في حي بعيد، دون أن يعرف أحد مَن مؤلفها وملحنها؟! … ما كان هذا يهم أحدًا في ذلك الوقت … كان المهم هو التقاط أي نشيد يُلهب الحماس أينما وجد … بل إني علمت فيما بعد أن من تلك الأناشيد ما كان يُردِّده شباب الإسكندرية، فإذا سُئلوا عن مصدره قالوا لا نعرف، إنما هو نشيد جاء من القاهرة … لا أحتفظ مع الأسف بنصٍّ واحد منها … ولا أذكر لحنًا واحدًا … لكن زميلي عباس حلمي النعمان رحمه الله ظل يَذكُرها وينشدها أمامي كلما تقابلنا في الحياة بعد التوظف … فنضحك ونعجب … يُخيَّل إليَّ أني نظمت أيضًا بضع قصائد من الشعر في الحركة الوطنية ضاعت هي الأخرى … وقد نسيتُها في حينها … إني لأتساءل أحيانًا لماذا لم أتَّجه إلى الشعر للتعبير عن عواطف الشباب … كما فعل والدي في شبابه … كنت أستطيع ذلك أنا أيضًا على نحوٍ ما … لم تكن القدرة على النظم تُعوزني … ولا العجز عن الأداة اللغوية … فقد كنا في أهم مراحل حفظنا للكثير من النماذج الشعرية … وكان غير قليل من زملائي ينظم الشعر بسهولة … لا أقصد عن موهبة … بل لمجرَّد المحاولة … إن عدد الذين كانوا يَقرِضون الشعر في الحركة الوطنية من مطربشين ومعممين وطلاب في الأزهر ودار العلوم والمدارس العليا والثانوية والمعاهد الدينية لم يكن يُعدُّ ولا يُحصى … ما من شابٍّ وقتئذ لم يدبج القصائد في حب الوطن، وربما في غيره أيضًا … ما الذي أقعدني أنا؟ … ليس عندي سوى تعليل واحد؛ هو أن الشاب يلجأ إلى الشعر تلبيةً لنداء الفن في أعماقه … فبعض النفوس التي يستيقظ فيها شيطان الفن تُحاول أن تجد له مخرجًا وثيابًا … والشعر أقرب تلك الأثواب تناولًا للشاب … فالنموذج أمامه فيما حفظ من شعر الشعراء وما عليه إلا أن يسير على الدرب … هذا إذا لم يكن هناك ثوب آخر كالموسيقى أو الرسم أو التمثيل حلَّ فيه الشيطان من قبل … وتلك كانت حالتي … فشيطان الفنِّ عندي كان قد ارتدى ثوب التمثيلية قبل أن يلتفت إلى ثوب القصيدة الشِّعرية، ولما حلَّ فيها كمن واستقر ولم يعد يفكر في الخروج إلى غيرها من أثواب وأشكال … حتى عندما فكر فيما بعد في اتخاذ ثوب الرواية والقصة ونحوهما فإنه اتجه إلى ذلك بدافع العقل الواعي والحاجة الماسة، حاجة المواطن إلى التعبير عن حماسه لبلاده وعن رؤيته لتطور مجتمعه … وحاجة الأدب وقتئذ إلى إقرار هذه القوالب الجديدة على نحوٍ جادٍّ، لتحمل موضوعات جديدة ما كان يُمكن أن تحملها غير الرواية والقصة، وقد كانا يومئذ في فجر حياتهما، في حاجة إلى دفع ودعمٍ من كلِّ مَن وهب نفسه للفن، لتطمئن هذه القوالب وتحظى بالاحترام الذي كانت محرومة منه بين غيرها من فروع الأدب العربي … بل إن اعتبارها فرعًا من الأدب العربي لم يكن بعد مُعترَفًا به … إنها كانت كمهنة التمثيل والموسيقى والتصوير والنحت، أشياء لا يَقربها إلا المغامرون المُقامرون بسُمعتهم … فلا يُستغرب إذن أن تبقى رواية «زينب» للمرحوم هيكل مُتدثِّرة بالظلام، لا يجرؤ مُؤلِّفها على إعلان اسمه أعوامًا عديدة … أي إلى إن أعاد طبعها باسمه الصريح … وكنتُ أنا وقتئذ في فرنسا أكتب «عودة الروح» … كان الأمر إذن — ولم يزل – فيما يتعلق بكتابتي للرواية والقصة تطوعًا قوميًّا وفنيًّا، أقوم به كلما شعرت أن هناك حاجة إلى الإسهام بجهد، وأن الواجب يدعو إلى المحاولة … لذلك وقفت طويلًا وقفة المتردِّد أمام محاولة «عودة الروح»، بعد أن كتبت فيها مائة صفحة … هل أمضي في كتابتها؟ … أو أكفُّ وأُمزِّق ما كتبتُه وأعكف على المشروع الآخر الذي كان يراودني وقتئذ: كان ذلك المشروع هو تأليف كتاب ضخم عن الفن من ثلاثة أجزاء … الجزء الأول تعريف بالفن عامة من كل وجوهه وفروعه … والجزء الثاني عن الفن المصري في مراحله المختلفة … والجزء الثالث عن الفن في العالم الحديث … كنت في أوروبا ورأسي ممتلئ بالقراءات والتأملات والأحلام أيضًا … لأن القيام بتأليف مثل هذا الكتاب هو حلم لا يتراءى لشخص في تمام يقظته. ولكنه طموح الشباب … العجيب أني كتبت من الجزء الأول نحو خمسين صفحة أو يزيد … وحدثَت البلبلة … ووقعتُ في الحيرة … أيهما أكتب وأيهما أترك؟ … إني أعرف نفسي … إلى شخص لا يستطيع أن يسير في طريقين … وطاقتي لا تحتمل التشتيت ولا تعمل إلا بالتركيز … صممت على أن أمزق أحد العملين، حتى أتفرغ للآخر … لا بد من إعدام صفحات أحدهما حتى لا تُخايلني وتغريني وأنا في منتصف العمل الآخر … لكن أيهما؟ … وأنفقت أيامًا أوازن بين الحجج … وأخيرًا انتهيت إلى تمزيق كل ما كتبت في الجزء الأول من كتاب «الفن». كانت حُجتي هي أن مثل هذا الكتاب سيأتي مَن يَكتُبه حتمًا؛ فقد كنا على أبواب جامعة جديدة بها كلية آداب سيكون فيها ولا شك أساتذة في تاريخ الفن … سيُؤلفون يومًا في هذه الموضوعات بجدارة حقيقية؛ لأنهم مُتخصِّصون. أما «عودة الروح» مهما يكن من قيمتها فهي عمل شخصي لحياة إنسان بالذات لن تتكرَّر ولن أستطيع أن أقول عنها «فلننتظر فسيأتي آخر ليكتبها» … لأن هذا مستحيل … فهي انفعالاتي أنا التي لا يحسها غيري … إن تأليف كتاب في الفن يُمكن أن تقوم به الجامعات … لا في جامعاتنا وحدها بل في جامعات البلاد الأجنبية؛ فما أكثر ما تظهر فيها المؤلفات عن تاريخنا وحضارتنا وتفكيرنا القديم والحديث … لكن تأليف رواية مصرية أو إنشاء أدب قصصي مصري هو عمل لا يقوم به إلا صاحبه، وابن بلده … لا بد من أن يَنبت في أرضه بأيدي أهله … وكل جيل مسئول عن جيله وعن تمهيد الأرض لمن سيأتي بعده … خاصة وأن هذا النوع من الأدب — وهو الرواية الحديثة — لم تكن قد استقرت بعد كقالبٍ فنِّي … فما يجوز إذن تركها للمستقبل؛ لأن المستقبل فيها لن يأتي إلا على أساس الحاضر … والرواية التي تؤلَّف اليوم إن هي إلا حلقة في سلسلة النمو الطبيعي للرواية غدًا … وإن أي تأخر في تكوين هذه الحلقة سيُحدث فجوة ويُطيل فترة ويعوق حركة النمو … في وقت كانت بلادنا في أشد الحاجة إلى قالب الرواية لتصوير تلك الموضوعات الجديدة التي اقتضتها الحياة الاجتماعية والقومية في تلك المرحلة المُهمة من مراحل تَطوُّرنا.
ومزَّقتُ الصفحات الخمسين من كتابي عن الفن … وليتني لم أفعل … لأرى على الأقل اليوم ما هذا الذي كنتُ قد كتبت؟!
وهكذا مضيت في كتابة «عودة الروح» لا ألوي على شيء … لا أرجو منها — من حيث الشكل — إلا المساهمة بالجهد الواجب نحو هذا القالب … على قَدر طاقتي الفنية … أما من حيث الموضوع فإني لم أُرد أن أجعلها سجلًّا لتاريخ بقَدر ما أردت أن تكون وثيقة لشعور … شعور شابٍّ صغير في وسط مرحلة خطيرة لبلاده؛ ذلك أن رأيي في الفن ومهمَّته هو أن يترك تسجيل التاريخ للمؤرخين، فهذا عملهم وهم أدق … وأن يترك تفاصيل الأحداث للصحف اليومية التي دوَّنَتها يومًا بيوم … وهذا عملها كذلك وهي أشمل وأهم … ومجموعاتها تحتل المكتبات العامة … يبقى بعد ذلك شيء لا يستطيعه غير الفن … هو بعث الانطباع وإبراز الشعور … وبدت لي أدواتي الفنية أعجز من أن تبرز كل ما كان بنفسي، وكان ما في نفسي يومئذ أوسع وأعمق مما تتَّسع له رواية واحدة، وما كانت «عودة الروح» إلا حلقة من حلقات عمل أضخم تصورته ووضعت تخطيطه في ذهني ولم أجد الظروف الملاءمة لتحقيقه … لذلك تركت مخطوطة «عودة الروح» نائمة في أدراجي طويلًا … إلى أن شاءت المصادفة البحتة وأنا وكيل نيابة لطنطا أن تقع ذات يوم في يد زميلي في القضاء: محمد طاهر راشد «رئيس محكمة الاستئناف بالمعاش»، وهو قارئ مثقف محبٌّ للأدب والاطلاع فأخذها إلى القاهرة وأصرَّ على نشرها، وقاوَمَ تردُّدي، فلم أشعر إلا وهي في المطبعة … على أن دوافعي النفسية التي جعلتني أكتب «عودة الروح» بهذه الصورة ما كان يمكن أن تتكرَّر لأن الظروف السياسية كانت قد تغيرت … فإن تكوين الأحزاب بعد ثورة ١٩١٩م على ذلك النحو الذي حدث، وتنافسها على اقتسام واقتناء أصحاب المال والجاه وكبار الملاك لضمهم إلى عضويتها، جعل قيادات هذه الأحزاب في أيدي تلك الطبقة، ولم يُسمح للمفكرين والمثقفين الحقيقيِّين إلا بالمراكز الثانوية التي ليس لها حق التوجيه … ومن هنا ضعف الدور الفكري والاجتماعي لهذه الأحزاب، واقتصر نشاطها على الجانب السياسي … وحتى هذا الجانب أيضًا قد تمخض أحيانًا كثيرة عن مجرُّد تطاحن على كراسي الوزارة وتنازع على ثمار شجرة الحكم … وهو ما كان يهم أكثر تلك القيادات، أما الكاتب المفكر المثقف في نظرها فكان في الأغلب مجرد قلم يُستأجر للدفاع عن وجهة نظرها، والهجوم على خصومها … وكان هذا ما نفَّرني وأبعدني عن هذه الأحزاب، وما جعلني أقف ضدها جميعًا، وأرى كل شيء يتحرك حولي داخل إطار سياسي مزيف، وما جعَل الصورة التي يمكن أن تُكتب عن بلادنا وقتئذ أبعد ما تكون عما كانت تتمناه عواطفي المتحمِّسة التي دفعتني إلى كتابة مثل «عودة الروح».
١٠
كانت أول تمثيلية لي في الحَجم الكامل هي التي أسميتها «الضيف الثقيل» … أظن أنها كُتبت في أواخر عام ١٩١٩م، لستُ أذكر على وجه التحقيق … كل ما أذكر عنها — وقد فُقدت منذ وقت طويل — هو أنها كانت من وحي الاحتلال البريطاني … وأنها كانت ترمز إلى إقامة ذلك الضيف الثقيل في بلادنا دون دعوة منا، ودون رغبة منه في الانصراف عنا.
ولم يكن بالطبع من الممكن إظهار هذه المسرحية على مسرحٍ في ذلك الوقت … والرقابة على المطبوعات لم تكن لتعمى عن مرامي مثل هذا الموضوع في وقتٍ لم يكن للناس حديث ولا تهامس إلا عن الاحتلال الثقيل ومتى تَنزاح غمته … على أن السؤال الواجب هنا هو: لماذا بدأتُ أول ما بدأتُ بالمسرحية؟ … لعلَّ الطبيعة المسرحية؛ أي خلق الإنسان من الحوار لا من الوصف، خلقه من واقع كلامه هو، لا من واقع وصف غيره هو ما يلائم طبعي … لماذا؟ … أهي وراثة؟ … أهو روح الجدل والمنطق والتركيز ووضع الكلمة في موضعها وحوار النفس وقلق القاضي وميزانه عند والدي، كل ذلك أقرب إلى روح المسرح … لست أدري؟ … قد يكون هنالك أيضًا سبب أعمق … ربما كانت طبيعة ميراثنا الأدبي نفسه … إنَّ طبيعة التركيب والتركيز عند العرب منذ القدم في الشِّعر والفكر والأدب والبلاغة … هذه الطبيعة التي هي جوهر الفن المسرحي … تجعلني دائمًا أعتقد أن السليقة العربية هي سليقة مسرحية … وإذا كانت ظروف مُختلفة قد حالت دون تجسيد هذه السليقة بالطريقة المعروفة عند اليونان، فإن ذلك لم يمنع من ظهور بوادرها في أشكال أخرى، فأنا كلما تصوَّرت مشاهد رسالة الغفران للمعري، أو قرأت قِطَعًا من حوارٍ في الأغاني أو للجاحظ، ورأيت ذلك البناء المحكم للصورة والعبارة، والإصابة المباشرة للمفصل، بلا لغو ولا فضول في التلوين السريع للشخصية أو العاطفة أو الفكاهة، أوقن وأشعر بالجذور العميقة الخفية لهذا الميل عندي الفن المسرحي … مهما يكن من أمر فإن هذا الميل قد لازَمَني وسار معي في كل خطوة من خطوات حياتي ودراستي … وحصلت على شهادة «البكالوريا» والتحقت بمدرسة الحقوق وكانت تتبع وزارة الحقانية … ولم تكن وقتئذ تقبل إلا عددًا محدودًا كان في عام الْتحاقي قد وقف عند الثمانين — فيما أذكر — من ترتيب عدد الناجحين في البكالوريا … وكان ترتيبي فيما أذكر أيضًا السبعين.
لم أكن بالطبع من الطلبة المُبرزين من مدرسة الحقوق … بل إني رسبت في امتحان النقل من السنة الأولى إلى الثانية … العجيب في أمري أني كنت أنجح من أول مرة في الشهادة العامة: الابتدائية، والكفاءة، والبكالوريا … وأرسب في السنوات الأولى … إني أتعثر دائمًا في الخطوة الأولى … وكان رسوبي في جملة موادَّ أذكر منها اللغة الفرنسية، وقد كانت ضرورية لنا في دراسة القانون؛ لأنَّ المراجع الكبرى كانت فرنسية، ولم يكن التدريس باللغة العربية معروفًا إلا في حدود ضئيلة … فقد كان التدريس باللغة الإنجليزية في مواد الاقتصاد السياسي، والقانون الروماني، ومقدمة القوانين، والطب الشرعي، على يدِ أساتذة من الإنجليز … بعضهم لم يكن بالأستاذ الكفء … وبعضهم كان يأتي في حالة سُكر بيِّن، ولم نكن نفهم منه كثيرًا كأستاذ القانون الروماني «مستر ملفيل» … وكنا أحيانًا نستفيد من سُكرِه، فنتوسل إليه أن ينقذنا من بعض الصفحات العسيرة في الكتاب المقرر، فكان يستجيب لنا ويقول وهو بين النوم واليقظة: «حسنًا … احذفوا من صفحة كذا إلى صفحة كذا»، ثم نعود في أسبوع آخر بعد أن يكون قد نسي، فنستعطفه مرة أخرى فيعود إلى الحذف … وهكذا حتى حذف لنا نصف الكتاب … ولم نُمتحَن إلا في النصف.
على أن المجتهد فينا كان لا بد له من الاعتماد على نفسه والاطلاع على المَراجع الفرنسية … ولم تكن الفرنسية التي تعلمناها بالقسم الأدبي بالمرحلة الثانوية تكفي لمثل هذا الاطلاع … لذلك كانت تُدرَّس لنا هذه اللغة في مدرسة الحقوق على يد أستاذ فرنسي مُلمٍّ بالقوانين اسمه «مسيو توندير»، يلقننا المصطلحات القانونية التي تمكننا من الاطلاع في المراجع الضرورية.
كان الأستاذ الأجنبي الممتاز حقًّا في كل المدرسة هو ناظر مدرسة الحقوق نفسه وقتئذ: «مستر والتون» — وأظنُّ أنه أيرلندي — فكتابه في القانون المؤلَّف بالإنجليزية كان خير ما أعاننا وأفادنا.
على الرغم من ذلك رسبتُ في السنة الأولى … وكان لهذا الرسوب أثره السيئ بالطبع عند أهلي … فما إن ذهبت إليهم في الإسكندرية لتمضية إجازة الصيف حتى استقبَلوني بوجوه عابسة غاضبة، وأنذروني بأنَّ إجازة الصيف لا يَنبغي أن أُمضيها في المتعة التي لا أستحقها، بل في الدرس، وخاصة في التقوِّي في اللغة الفرنسية التي رسبتُ فيها على نحو فاضح … وقَبِلَ والدي أن يدفع لي أجر دروس خاصة في مدرسة «برلتس» المختصة بتعليم اللغات الحية … والتحقتُ بتلك المدرسة طيلة شهور الصيف. أتلقَّى ثلاثة دروس خصوصية في الأسبوع على يد مدرسة فرنسية أفادتني كثيرًا … فقد أفهمتني أن اللغة لا تُتعلَّم حقًّا إلا بالقراءة … ولا سيما لمن هو في مثل مرحلتي المتأخِّرة من السن … فإني بمداركي المتسعة أستطيع تعلم اللغة بنفسي عن طريق مداومة القراءة أكثر من تلقِّي الدروس التقليدية التي تُلقَّن لصبية المدارس، وأشارت عليَّ بشراء كتاب أدبي من صميم الأدب الفرنسي، وهو في نفس الوقت سهل الأسلوب إلى حدٍّ لن يستعصي عليَّ فهمه … كان هذا الكتاب هو «رسائل طاحونتي» لألفونس دوديه … جئت بهذا الكتاب وطالعت فيه تحت إرشادها وبمعاونة قاموس «لاروس» الصغير فإذا بي حقًّا أجد لغته سهلة ممتنعة … سهلة للقارئ المبتدئ مثلي، مُمتنعة ولا شك على من يُريد محاكاتها من الأدباء … وشجعتني استطاعتي المضي في هذا الكتاب بلا مشقة تشجيعًا كبيرًا … وشعرت كأن اللغة الفرنسية تفتح أمامي أبوابها المغلقة بالترحاب. فلما فرغنا من هذا الكتاب أشارت عليَّ المُدرسة بكتاب آخر له نفس الامتياز في الأسلوب السهل الذي لا يستعصي على طفل، وإن كان تفكيره من العمق بحيث سيجعلني أقف عنده حائرًا أو متأملًا … وليس هذا عندها بالمهم … المهم أن أفهم لغته وأتعلم تكوين عباراته البسيطة في مبناها … كان هذا الكاتب هو: «أناتول فرنس» … فيما بعد عرفت كيف كان أناتول فرانس يجاهد ويعاني ليصل بأسلوبه إلى هذه البساطة المضيئة النقية كأنها قطرات الماء السائل من السماء! وفهمت — فيما بعد أيضًا — لماذا قيل إن مفتاح «أناتول فرانس» هو «راسين».
سِرتُ بعد ذلك على الدرب … ومضيت وحدي بعد أن انتهيت من هذه المدرسة بانتهاء الصيف وصرت أشتري الكتب الفرنسية وأقرؤها … وبمُعاونة القاموس الذي بجواري والرغبة التي في نفسي استطعت أن أتقدَّم في هذه اللغة تقدمًا جعلني أقرأ منها كل ما أريد وصار همِّي أن أنظر في واجهات المكتبات الإفرنجية وأقلب في الكتب والمجلات … وعثرت على مجموعة قديمة لمسرحيات «ألفريد دي موسيه» زهيدة الثمن، احتملها جيبي فاقتنَيتها … ومجموعة أخرى «لماريفو» اشتريتها أيضًا … ثم وجدت مجموعة من نحو عشرة أجزاء تعرض جملة في محلٍّ لبيع الأشياء العتيقة، بثمن لا يُذكر لكتابٍ عنوانه «أربعون عامًا في المسرح» للناقد المشهور «فرانسسك سارسي» أعانَني على الإلمام بحياة المسرح الفرنسي وما عُرض فيه من أدب مسرحي كلاسيكي ورومانتيكي وعصري … وهداني إلى ما كنت أجهل من تطورات هذا الأدب … ثم وقعت آخر الأمر على أكوام من أعداد مجلة تخصصت في نشر النصوص الكاملة لأهم المسرحيات التي تُعرض على مسارح فرنسا وأوروبا عامة مع آراء النقاد فيها … تلك هي «ملحق الألستراسيون» كانت المكتبات تبيع القديم منها لا بالعدد؛ بل بالكوم … وبثمن بخس … فاغترفت منها اغترافًا … وعلى الرغم من سيري في دراسة الحقوق بعد ذلك، سيرًا مُنتظمًا إلى أن حصلت على الليسانس، إلا أني شُغلت عن القانون والتفرُّغ له — التفرغ الذي يتيح لي التفوق والامتياز — بمثل هذه المطالعات التي كانت تسيطر على كل جوارحي … كانت الفرق التمثيلية الموجودة في ذلك الوقت خلاف فرقة «جورج أبيض» هي فرقة «عبد الرحمن رشدي» بالاشتراك مع «عمر وصفي» … وكان من أنجح رواياتهما مسرحية «دوران ودوران» لمؤلف فرنسي ربما كان اسمه «أنطوني مارس» … كانت تُمثَّل في تلك الفرقة بنَصها الفرنسي … إلى أن تناولَتْها فيما بعد فرقة «الريحاني» ومصَّرتها ومثلتها باسم «٣٠ يوم في السجن» … على أن الدور الذي لن أنساه لعمر وصفي في تلك الفرقة هو دور الوصي العجوز في «حلاق إشبيلية» … ثم فرقة «منيرة المهدية» وكانت متخصِّصة في الأوبريت، وانقطع لها مؤلف من هذا النوع هو محمد يونس القاضي، وفرقة غنائية أخرى «للشيخ أحمد الشامي» … ثم فرقة «عكاشة» التي ورثت بعض روايات الشيخ سلامة حجازي … وكان مسرح حديقة الأزبكية لم يتمَّ بناؤه بعد، فكانت تعرض حفلات سنوية بدار الأوبرا … تلك كانت الفرق الجدية القائمة يومئذ … أما الفِرَق الهزلية فقد كانت هناك فرقة «عزيز عيد» المتخصصة في «الفودفيل» المكشوف يُمثل بنَصه الفرنسي المترجَم عن «جورج فيدو» … إلى أن ظهرت بعد قليل فرقة «أمين عطا الله» ثم فرقة «الريحاني» بشخصية «كشكش بك» التي نقلها عن أمين عطا الله، وفرقة «علي الكسار» بشخصية بربري مصر الوحيد.
وفي ذات ليلة ذهبت إلى دار الأوبرا أُشاهد رواية لفرقة عكاشة، فوجدتُ هناك زميلًا لي بمدرسة الحقوق … سألته عما جاء به إلى ذلك المكان، لعلمي أنه ليس من المهتمين بمسرح ولا بروايات؛ فأجابني أن شقيقه هو مؤلِّف الرواية التي نُشاهدها. فعجبت لذلك وسُررت به وقلت له: عرِّفني بأخيك هذا!» وعرفت من صار بعد ذلك صديقي وشريكي في مسرحية غنائية هي «خاتم سليمان»؛ «مصطفى أفندي ممتاز» الموظَّف بقسم الشياخات والعمد بوزارة الداخلية.
كان مصطفى ممتاز قد توظَّف بالبكالوريا ولم يستمرَّ في الدراسة العليا مثل أخيه زميلي بالحقوق … لكنَّه كان فيما رأيت منه أرسخ قدمًا في اللغتين العربية والإنجليزية وأوسع اطلاعًا وأمتع حديثًا، وعلى جانب كبير من المَوهبة والإحساس بالفن والحب الصادق للمسرح … فكنت أجد فيه الصديق الذي ترتاح إليه نفسي، ولم أحفل كثيرًا بأخيه زميل الدراسة … كان كالغريب عني في العقلية والميول … كنتُ أزور مصطفى هذا في بيته من حين إلى حين … كان مُتزوجًا وله أولاد … فكنا نقضي وقتًا طويلًا في حجرة الجلوس نتحدَّث في الفن والمسرحيات. كان يُصغي إلى اطلاعي على المسرحيات الفرنسية، وأُصغي إلى اطِّلاعه على المسرحيات الإنجليزية التي كان يطلبها بالبريد من لندن منشورة في سلسلة مسرحية زهيدة الثمن … فنُحاول أن نستعرض ما نجد هنا أو هناك مما يَصلح في نظرنا للترجمة أو ما يُغرينا بالتمصير … كنت قبل أن أعرف مصطفى ممتاز قد قمتُ بتمصير كوميديا أسميتها «العريس» من مسرحية فرنسية ربما كان اسمها «مفاجأة أرتور» وقدمتها إلى جوق عكاشة … وكان «طلعت حرب» في ذلك الوقت — وهو المُعتبَر «سعد زغلول» الاقتصاد القومي، والمنشئ الأول لأول بنك مصري — قد فكَّر في إنشاء مسرح مصري أيضًا وشرقي … فشيَّد مسرح حديقة الأزبكية، على الطراز العربي … واشترط أن يكون التمثيل في هذا المسرح لمسرحيات مصرية وعربية، فلا تُعرض فيه «ترجمات بنصِّها الفرنجي وثيابها الفرنجية» كما هو الحال في فرقة جورج أبيض أو عزيز عيد أو «يوسف وهبي» الذي لاح ظهوره في الأفق بفرقة جديدة على «مسرح رمسيس» … فإذا لم يكن هناك بدٌّ من نقل موضوع أجنبي فليُعرض ممصرًا أو معربًا … أي مقتبسًا، كما كان يقال وقتئذ … فما يصلح من المسرحيات الأجنبية لحياتنا العصرية أُجريَ تمصيره، وما يصلح للعهود التاريخية جعل في عهد العرب أو المماليك … وتخصص مسرح الأزبكية في هذا اللون! … لم يشذَّ عنه … واستُخدمت فيه اللغة الفصحى إذا كان الموضوع تاريخيًّا أو جديًّا، واللغة الدارجة إذا كان الموضوع عصريًّا أو فكاهيًّا … ومهما يكن من أمر اختيار طلعت حرب لفرقة عكاشة كي تحتلَّ مسرح الأزبكية الجديد وتقوم بتلك الرسالة، فإنَّ هذه الفرقة، قد نجحت بفضل معونة بنك مصر المالية وتشجيع طلعت حرب في إبراز الأوبريت والأوبرا وكل ما يحتاج في إخراجه إلى بذخ وإنفاق.
وقع اختيارنا أنا ومصطفى ممتاز على موضوع شائق كنت قد طالعته في إحدى الروايات الفرنسية، ربما كان اسمها «غادة ناربون» أو شيئًا كهذا، لستُ أذكر الآن استطعنا أن نخرج منه مسرحية غنائية لفرقة عكاشة … جعلنا هذا الموضوع يحدث في مدينة شرقية في عصر قديم. وأخذنا نستعرض المدن فلم نُوفَّق إلى مدينة تصلح لجو المسرحية … كنا نريد مدينة شرقية ليست من المدن الكبرى المعروفة حتى لا يَضيع الخيال من رءوس المشاهدين. وأخيرًا جئنا بخريطة أخذنا نتأمَّل فيها … وإذا بنا نعثر على مدينة صغيرة في فارس اسمها «مرو» فصِحْنا معًا: «هذه هي مدينتنا» … وأسمَينا المسرحية «خاتم سليمان» … وتقاسَمنا وضع منظومات الألحان وذهبنا بها إلى فرقة «عكاشة» … فتسلَّمها منا مدير الفرقة ومُطربها الأول والمستولي دائمًا — شئنا أو لم نشأ — على دور البطل، مُمثلها المدلل وصاحب الأمر فيها والنهي، أصغر العكاكشة سنًّا وأثقلهم ظلًّا. باعتراف القاهرة كلها وإجماعها في ذلك العصر — «زكي بك عكاشة» صاحب الخاتم الماسي الكبير المتلألئ، الحريص على إظهاره دائمًا في إصبعه ليخطف به عيون المشاهِدات المحجَّبات خلف ستائر «البناوير» التي تشبه «الناموسيات»، مُصرًّا على الاحتفاظ به وهو في دور شحاذ في رواية اليتيمتَين، مُلوِّحًا به ليبرق في إصبعه وهو يترنم مُغنيًا مُنشدًا: حسنة لله يا أسيادي! ولم يكن أستاذًا في كل ذلك فقط، بل كان أيضًا أستاذًا في فن المماطَلة مع المؤلِّفين المُستضعفين من أمثالنا، والملحِّنين المساكين من أمثال كامل الخلعي … كنا نذهب إليه الأسابيع تلو الأسابيع وهو يقول لنا: لم أقرأ روايتكم بعدُ، كنت مشغولًا … كان صوتي مبحوحًا … كان مزاجي مُعتلًّا … كل هذا ويكون هو في الحقيقة قد قرأها من أول ليلة وعرف دوره فيها وأعطاها للمُلحن … فما إن نعرف بالمصادفة أنها في التلحين؛ أي إنها في مرحلة التحضير، حتى نُبادر بإخباره ومُطالبته بالثمن أو رد الرواية … فيقول لنا: مرُّوا عليَّ غدًا … ونمرُّ عليه في الغد … فيقول: اصبروا أيضًا يومين … وبعد اليومين يقول: إنَّ هنالك جردًا يستلزم الانتظار قليلًا … وأخيرًا يقول: اذهبوا إلى هاشم أفندي رئيس حسابات الفرقة … فنذهب إليه فيُقال لنا إنه مسافر … وهو في الواقع قد اختفى في حجرة أخرى … ونظلُّ نتعقب هاشم أفندي وهو يفلت من أيدينا كأنه الزئبق، إلى أن نُطبق عليه ويُصبح فراره عسيرًا … وتفرغ كل حيل المراوغة في الظهور والاختفاء … فينتقل بنا زكي عكاشة الهُمام الذي لا يُغلَب إلى مرحلة أخرى وميدان آخر: الكلام في الثمن … ما كان يعطي المؤلِّف أكثر من ثلاثين جنيهًا للمسرحية … وعلى الأكثر خمسين في أحوال نادرة … لكنه كان يُثبت في الدفاتر أن أجر المؤلِّف أو المُلحِّن مائتان من الجنيهات … والفرق بالطبع في جيبه الكريم … كان المعروف عنه في آخر أيامه أنه أنشأ لنفسِه ثروة طائلة، ولم يكن الحصول على الثلاثين جنيهًا من الأمور الهيِّنة مع ذلك، كان دون الوصول إليها مناقشات ومُساوَمات لا تنتهي … ولم أر في الأفق بادرة أمل في نجاح قريب لمفاوضات — ولا مفاوضات سعد زغلول يومئذ — يُمكن أن تُؤدِّي إلى قبض نقود من زكي عكاشة، فأصابني اليأس وتركت الموضوع كله لصديقي وشريكي مصطفى، وجعلتُ كلَّ همي متابعة الألحان التي كُلف بوضعها كامل الخلعي … كان هذا المُلحِّن تحفة زمانه في شخصيته البوهيمية وعلمه الواسع بالموسيقى الشرقية، وعندما عرفته بعد تسلُّمه روايتنا لتلحينها عام ١٩٢٣م كان في حوالي الخمسين من عمره … وكان قد لحَّن الكثير من المسرحيات الغنائية لمُنيرة المهدية … واشتهر على الأخصِّ بألحانه لروايتها «كارمن» ثم «كارمنينا» … وكان مُعاصره في السن والتأليف الغنائي المسرحي «داود حسني» لا يقلُّ عنه براعةً هو الآخر في هذا اللون من الفن … كانت المسرحية الغنائية في ذلك الوقت مُزدهرة ازدهارًا كبيرًا؛ فالأثر الذي تركه الشيخ سلامة حجازي في تكوين جمهورٍ للمسرح الغنائي لم يكن من السهل أن يزول بعده … بل إن هذا اللون تطور من مرحلة القصائد الملحنة إلى مرحلة الأوبريت والأوبرا الحقيقية … وكان سيد درويش قد ظهر منذ سنوات بتلحينه بعض روايات كشكش بك، أي الريحاني. إلا أنَّ ما كان يصنعه في مثل هذه الروايات لم يكن محل تقدير فني؛ لأن الريحاني نفسه لم يكن محترمًا الاحترام الذي ظفر به في آخر أيامه؛ فقد كان الإقبال على «كشكش بك» يعادل الإقبال على الكباريهات … ولم يكن سرُّ رواجه في الحقيقة إلا تلك الراقصات الجميلات الشقراوات الأجنبيات؛ الوافدات علينا من الخارج عقب الحرب الأولى مثل «دينا لسكا» ومثيلاتها، ممَّن قذف بهنَّ الجوع من بلاد منهزمة كالنمسا وألمانيا فجئن إلى مصر المفتوحة يومئذ لكل من هبَّ ودب، فملأن المسارح والحانات وقاعات الليل … وكان الشباب من الوارثين يُقبلون على تلك المحالِّ جميعًا لمصاحبة الفتيات آخر الليل: فكان الواحد منهم يحضر الرواية الواحدة للريحاني كل ليلة، لا حبًّا في الرواية نفسها التي سبق أن شهدها مرات، ولكن من أجل سيقان الفتيات … وعلى الرغم من قيمة ما صنعه سيد درويش لهذا المسرح الاستعراضي، وما تبيَّن فيما بعد من موهبته في تصوير أهل الحرف والمهن باللحن الموسيقى المعبر المبدع … إلا أنه لم يَظفر وقتئذ بالتقدير والاحترام إلا عندما لحن روايات جدية مثل «هدى» لفرقة عكاشة، «والعشرة الطيبة» و«الباروكة»، و«شهو زاد» — أي شهر زاد — (كانت تكتب قديمًا بالواو وتنشر في إعلانات الحائط وما من معترض أو ملتفت إلى شيء) … ويا للعجب … حتى عندما أسس فرقة غنائية خاصة بالاشتراك مع عمر وصفي تتمثل على خشبة «تياترو دار التمثيل العربي» بقُرب شارع وجه البركة، وانتهت بالإفلاس السريع، فإن هذا الإفلاس المادي لم يكن قط مقترنًا بأي إفلاس أدبي … على النقيض… لقد خسر المال وكسب التقدير الفني من المثقفين والعارفين بقيمة الفن.
١١
انتهى العام الدراسي … وجاء الامتحان … ونُقلتُ بقدرة قادر — رغم مشاغلي الفنية — إلى السنة الرابعة النهائية … سنة الليسانس وتركت أمر «خاتم سليمان» في يد زميلي مصطفى … وسافرت إلى الإسكندرية أقضي عطلة الصيف … فما كدتُ أصل وأنظر إلى منزلنا العامر حتى كدت أصعق … ما هذا الذي أراه أمامي؟ … إنه ليس منزلًا … بل هو تركيب عجيب لا أعرف له وجهًا من ظهر … لقد أزيل جدار وأقيم آخر، وخلع سلم وبرزت أحشاء قاعة بغير حائط، وأطيح برأس السطح، وأشياء أخرى غريبة من هذا القبيل … وعرفت السبب: كان قد خطر ببال أهلي أن يُجروا في المنزل إصلاحات وأن يزيدوا فيه طابقًا … كان القطن في ذلك العالم مرتفع السعر، فاجتمع لهم مبلغٌ لا بأس به … لم يرَوا أن يُسدِّدوا به رهن الأطيان أو رهن المنزل … ورأوا أن يُنفقوه في تحسين المنزل … ولستُ أدري مَن صاحب هذه الفكرة النيرة … أهو والدي أم والدتي؟ … كل ما أدري هو أن أول ثغرة فتحَتْها المعاول في جدران هذا البيت لم يستطع كل مال الأرض، لا مرتَّب والدي الكبير وقتئذ، ولا الأموال التي اقترضوها من البنوك والمرابين أن تسدَّ هذه الثغرة … فقد أصبح البناء والهدم في منزلنا هذا شيئًا طبيعيًّا مُستمرًّا كالأكل والشرب … ولا يقف عند شهور ولا أعوام … ذلك أن والدي أراد أن يكون هو نفسه بنفسه المهندس والمُقاول وملاحظ العمل … فأحضر البنائين والنجارين والحدادين … وصار يقول لهم: شقوا هنا دهليزًا أو أزيلوا من هناك جدارًا وسدُّوا هنا شبَّاكًا وافتحوا هناك بابًا، فما إن يفعلوا ما أمر حتى يجد أن الباب بدلًا من أن يَفتح على الردهة قد فتح على المرحاض، وأن الجدار الذي أزيل جعل المطبخ قد أصبح في الصالون … وهكذا وهكذا … فيعود يأمرهم من جديد بسدِّ ما فتحوا وإقامة ما أزالوا، ويتجه بهم إلى جدار آخر يأمرهم بهدمه فيتضح أن عليه يقوم سقف إحدى الحجرات وأنه آخذ في الانهيار، فيُبادرُون إلى بنائه مرة أخرى … كل ذلك وهو مُصرٌّ كل الإصرار على الاعتماد على نفسه وخبرته والامتناع عن إحضار مهندس … وكنت أتأمل ما يجري من هدم وبناء، وأتألَّم من طول نومنا في حجرات منزوعة النوافذ ومُغطَّاة بالبطاطين فأقول له: لماذا لا تُحضر أحد المهندسين يتولى ذلك لنرتاح؟ … فيجيبني ساخرًا: أنت عبيط! … هل يُحضِر المهندسين إلا العبط! ما الذي سيصنعه المهندس أكثر من أن يرسم على ورق أزرق بضعة خطوط منمقة بالمسطرة والبرجل ليقول لنا هنا حجرة وهناك صالة … «ويلطش» كذا جنيه لمثل هذا الكلام الفارغ! … ما سيقوله شيء معروف مقدمًا … ونحن أدرى جيدًا بما نُريد!
وانتهى الأمر بنا بكل بساطة أن صار البناءون والمُبيضون مقيمين لدينا إقامة مستمرة؛ لأن العمل لا يَنتهي ولا يمكن أن ينتهي. فاتخذوا لأنفسهم حجرة دائمة قرب باب الحديقة يَقطنون بها … يبيتون ويَسمرون ويأتي لزيارتهم فيها الأهل والأقرباء والأصدقاء، وكان ينزل إليهم فيها مِن بيتنا القهوة والشاي والغداء والعشاء بانتظام. وأصبح لهم رأي فيما يُطبخ ويُقدَّم إليهم من ألوان يومية. فيقولون: «زهقنا من الملوخية والبامية اطبخوا لنا اليوم «كشري».» وأحيانًا يَقترحون: «خللوا لنا خيار وفلفل!» … ويصفون الطريقة التي يُحبونها للتخليل وصنع الطرشي! … والحديقة حولهم جعَلوا يَزرعون في جانب منها بعض الفجل والكرات والجرجير. كانوا مُتمتِّعين بهذه الحياة الهنيئة الناعمة، وكنتُ كلما سألتهم متى ينتهي العمل في هذا المنزل! … وقد أصبحت الحياة فيه بالنسبة إليَّ وإلى أخي الأصغر لا تُطاق، من الحجرات التي بلا حيطان والنوافذ التي بلا زجاج، وضجة الخبط والهبد فوق رءوسنا في الطابق الجديد قالوا: لن يَنتهي! لأنَّها ساقية جحا … ما نَبنيه الصبح نهدمه العصر! … أوامر البك الكبير! … وفي الحق كأني بوالدي قد أصبح أخيرًا يجد مُتعته وهوايته الكبرى في حكاية البناء هذه ويَظهر أنه اعتقد حقًّا أنه لا ينقصه شيء في شئون الهندسة والمعمار. كان في بعض الأحيان يستشير صديقه المهندس القديم «يوسف» إذا قابله بالمصادفة في القاهرة … لكن هذه المقابلة ما كانت تَحدُث إلا نادرًا. لأن والدي كان قد أقام واستقر في الإسكندرية رئيسًا لمحكمتها. فكان إذا عاد بعد حضور الجلسة، لم يتَّجه إلى الغداء وهو المتعَب المنهَك، بل يتجه مباشرة إلى البنَّائين والنجَّارين ليرى ماذا صنعوا وهل نفذوا تعليماته التي شرحها لهم شرحًا وافيًا في الصباح قبل ذهابه إلى عمله؟ … تلك كانت عادته: يجمع البنائين والنجارين والمبيضين أمامه كل صباح ويَشرح لهم ما هم صانعون في يومهم ويُسمِّي ذلك «الدرس» الذي لا بدَّ من أن يُدخله في رءوسهم، موضحًا لهم ما يُسمِّيه أيضًا «جدول الأعمال» اليومي … وكان لا يتركهم إلا بعد أن يسألهم بكل دقة: هل حفظتم الدرس؟ فيجيبون جميعًا حفظناه … فيؤكد عليهم: وجدول الأعمال مفهوم؟ … فيقولون كلهم: مفهوم. ولا يكتفي بذلك، فقد كان من عادته عند إصدار أي أمر أو أي تعليمات لأي شخص أن يُطالبه بإعادة المطلوب بنصه منعًا للبس أو سوء الفهم. فلما سألهم: أعيدوا عليَّ ماذا قلت؟ وأجابوا: قلت كيت وكيت وكيت، مضى مطمئنًّا. فإذا عاد من عمله قبيل العصر سمعنا منه الصخب والصياح والتعنيف وقوله إن هؤلاء البنَّائين والمبيضين حمير، ولم يَفهموا حرفًا مما شرح، وينزل بيديه على ما بنوه هدمًا وبقدمَيه ركلًا وهو يصيح: هدُّوا حالًا! … كل هذا لا بد من هدمه! … شغل غلط في غلط! … وكان يقيس الحيطان بعصاه التي يحملها دائمًا في يده. ولا يلجأ إلى القياس بالمتر، فإذا عارضه أحد البنائين أو المبيضين أو النجارين وقال له: قس بالمتر يا سعادة البك … المتر موجود! … صاح به: عصاي أضبَطُ من هذا المتر! … لأني أنا ضابطها على المتر الهندسي الأصلي في مصلحة المساحة! … إنها تسعون سنتيمترًا بالتمام! وبلغ به الاهتمام بالهندسة أن صار يمشي معي أحيانًا في الشارع فإذا بي أراه يقف فجأة أمام أحد المنازل ويقول لي: انتظر حتى أقيس واجهة هذا البيت! … ويشرع في القياس بعصاه … فإذا سألته: لم ذلك؟ … هل نحن سنَشتريه؟ قال: أبدًا. مجرَّد معرفة. وأحيانًا نسير في شارع من الشوارع نتحدث في شئون مهمة وقتئذ، فإذا هو يقطع الحديث ويَلتفِت نحوي سائلًا؛ «تظن يطلع كم مترًا عرض هذا الشارع؟» ولا ينتظر مني جوابًا، بل يرفع عصاه ويأخذ في قياس عرض الشارع. وأحمد الله في سري أن الشارع خالٍ من المارة. ثم سألته عن حكمة ذلك؟ … فقال: أنت ولد عبيط! … الحكمة في ذلك هو أنه يجب أن نكون على علمٍ بكلِّ هذه الأشياء، حتى لا يأتي المجلس البلدي يومًا ويدَّعي أن شارعنا من الشوارع التي قرَّر لها عوائد كيت وكيت! … وكان يحمل في جيبه ساعة معدنية رخيصة عتيقة يُؤخِّرها دائمًا عشر دقائق فإذا سئل عن الحكمة في ذلك قال: كي يكون عندي دائمًا عشر دقائق مدَّخرة للطوارئ … كان والدي على الرغم من كل هذه التصرُّفات الغريبة يملك مزية، لم أَرِثها عنه مع الأسف، لست أدري لماذا؟ … ولو أني ورثتها لنفعَتني كثيرًا وخاصة في الفن الروائي. تلك المزية هي حرصه على التغلغل في التفصيلات الدقيقة لكلِّ شئون الحياة، ما يُهمه منها مباشرةً وما لا يهمه. كانت كمية المعلومات التي جمعها عن كل شيء تثير الدهشة حقًّا. فهو يعرف بالضبط كم طوبة تلزم لبناء حجرة كذا متر. وكم كيلة تلزم لزراعة كذا فدان من البرسيم أو القطن أو الذرة. وكم رية تلزم لري كذا. فإذا سألته في القانون وإجراءاته المعقَّدة وفي أخلاق الناس على اختلاف مهمتهم في الحياة وفي الطب والأدوية، وفي اللغة وقواعدها والشعر وبحوره والحدادة والنجارة وحتى العطارة … كل شيء كان يلمُّ فيه بتفصيلات عجيبة دقيقة … في حين لا أستطيع أن ألمَّ إلا بالخطوط العريضة للأشياء، في معانيها الكبرى لا في تفصيلاتها. وأميل إلى التخفُّف من كل ما أستطيع الاستغناء عنه. فأنا لم أحمل ساعة قط، ولا أُحاول اقتناء طرفة من الطُّرَف أو تحفة من التُّحَف، ولا أتناول إلا ما كان ضروريًّا صرفًا، لذلك تُناسبني التمثيلية أداةً للتعبير … لأن مجالها المعاني والجواهر أكثر من الرواية التي مجالها التفصيلات. على أن والدي بمعلوماته الغزيرة في أدق تفاصيل الأشياء ما إن يُقدم على التفكير في مشروع أو القيام بتنفيذه حتى تبدأ الخيبة المُضحِكة … إن العلم عنده شيء والتنفيذ شيء آخر … أو ربما كان العيب في اختيار المشروع … لست أدري في الحقيقة أين تكمن العلَّة؟ … أهي مثلًا في التناقض وعدم التناسق بين النزعة الخيالية والنزعة العملية في شخص واحد … إن والدي ووالدتي عمليان، ولكنهما خياليان في نفس الوقت … يُفكِّران في مشروع عملي بعقلية عملية وإذا بالخيال يتدخل ويجرفهما إلى وضع مضحك! … أهو ذاك؟ … لست أدري على التحقيق … فلأكتفِ إذن بسرد ما حدث بعد ذلك دون تعليق أو تفسير.
كاد ينتهي البناء في المنزل، وتمَّ كل شيء بعد مضيِّ وقت طويل ولكل شيء آخر … وأخذ البناءون والنجارون والمبيضون المقيمون يعدُّون عدتهم للرحيل ويُنهون عهد الاحتلال … احتلالهم للحجرة وما جاورها من الحديقة، وإذا بخاطرٍ يخطر لأهلي: خاطر جديد: لاحَظُوا أن بعض منازل الجيران العالية تكشف حديقتنا من الخلف … فقالوا: نسدُّ عليهم، بأن نبني حائطًا … ثم تطورت عندهم فكرة الحائط إلى شيء آخر وفكرة أخرى: قالوا ما دمنا صرنا إلى بناء حائط — وهكذا يُكلف مالًا — فلماذا لا نتمُّ هذا الحائط بحائط آخر أمامه، ما علينا إلا أن نسقفه فيُنتج ذلك جناحًا قائمًا بذاته يصلح للسكن والتأجير، الفكرة بدت لهم منطقية … ومصيبة أهلي وخاصة والدي أنه يبدأ دائمًا من المنطق، وشرعوا في تنفيذ الفكرة … وعاد البناءون والنجارون والمبيضون إلى حجرتهم من جديد … وتم بناء الجناح بعد لأيٍ، فلمَّا تم على خير … تأمَّلوه مليًّا ثم قالوا حبذا لو وصلناه بالمنزل الأصلي بواسطة جسر أو كوبري بينهما، وكان منظرًا فريدًا عجيبًا في البيوت أن تركب فيها مثل هذه الكباري والجسور! … وتم ذلك … فنظروا وقالوا: لماذا نترك أسفل الجناح مكشوفًا لتراب الحديقة؟ أليس من الضروري أن نُنشئ رصيفًا يفصل بين جداره والرمل والتراب؟ … وتم إنشاء الرصيف، وكان طويلًا بطول جدار الجناح الذي لا يقلُّ عن ثلاثين مترًا … رصفوه كله ببلاط تكلَّف مبالغ … وأصبح منظره وهو مرصوف في طوله وامتداده كأنه — كما قال أحد الزوار — أُعدَّ للعبة الانزلاق «الباتيناج» … وتلك أيضًا كانت من عجائبهما في البناء!
أظنُّ إلى هنا وكان ينبغي أن ينتهي كل شيء، وأن ينهض البناءون والنجارون والمبيضون إلى حزم أمتعتهم ليرحلوا … وهموا بالفعل … وإذا البستاني يظهر ليطلب أسمدة للحديقة؛ زكائب عديدة من سبلة الخيل، ممَّا تُسمَّد به الفاكهة والنجيل — أي الحشائش الخضراء — ويتحدَّث عن ضرورة توريد هذا السماد في أوقات دورية بانتظام لضمان ازدهار الحديقة … وهنا فكر أهلي في الأمر بالعبقرية المعهودة! … وجاءتهم الفكرة النيِّرة: أن يشتروا حصانًا، لاستخدام روثه سمادًا … وبذلك يُوفِّر ثمن الأسمدة المطلوب توريدها … فضلًا عن توفير نفقات المواصلات بالعربة التي سيجرُّها الحصان … معقول … ولكن أين يُقيم الحصان؟ لا بد طبعًا أن يُبنى له إسطبل … وهذا طبيعي … وفي آخر الحديقة مكان يصلح … لكن هل يُبنى الإسطبل كبقية الإسطبلات التي خلقها الله! … كلا لا بد من تصميمٍ مُبتكَر للمهندس العبقري؛ الذي هو أبي! … وفعلًا أمر ببناء إسطبل عجيب الشكل يتكوَّن من ثلاثة طوابق: الطابق الأعلى لسكن الحوذي، لأنه لا بد من أن يكون له محلُّ سكن، والطابق الأوسط لسكن الحصان، والطابق الأسفل للروث المتخلف عن الحصان، ينزلق إليه بواسطة فتحة ويتجمَّع ويتكوَّن منه السماد المطلوب للحديقة. وكان والدي مزهوًّا بهذه الفكرة الرائعة … وحثَّ البنَّائين والمبيضين والنجارين على التنفيذ فورًا … فبنوا وشيدوا وبيضوا وقامت الطوابق يعلو بعضها بعضًا … وظل هذا البناء قائمًا شامخًا خاليًا طوال الأعوام، لم يسكنه قطُّ حوذي ولا حصان ولا سماد؛ ذلك أن التفكير انتقل بعد ذلك بسرعة إلى فكرة أخرى: استغلال هذا البيت الكبير الذي تضخَّم بفعل الأفكار المتلاحقة حتى أصبح فضفاضًا على الأسرة، بحجراته العديدة في كل طابق، علاوة على الجناح ذي الرصيف! لماذا لا يُؤجَّر في الصيف للمصيِّفين؟ … رأي هو عين العقل … وما يأتي به من إيراد يُسدَّد به على الأقل أقساط الرهون … لكنهم فكروا مليًّا ثم قالوا: ما دمنا قد صرنا إلى التأجير للمُصيِّفين، فلماذا لا نُنشئ طابقًا رابعًا … وكانت الفكرة هذه المرة فكرة والدتي، فما إن سافر والدي متغيبًا في عمل بالقاهرة. حتى قامت هي بالتنفيذ … وما دام فن العمارة بهذه الطريقة فلماذا لا نُسابق والدي في المضمار! وفعلًا أصدرت الأوامر لفرقة البنائين والمبيضين والنجارين فما إن عاد والدي من رحلته ووجد الطابق الجديد يرتفع، حتى شمَّر هو أيضًا عن ساعد الجد، ونشط من جديد يعطي «الدرس»، ويُحدِّد للجميع «جدول الأعمال»، ويهدم بالليل ما بنَوه بالنهار. كان صيت والدي في البناء قد انتشر في المدينة بفضل ما كان يبتاعه من الطوب والبلاط والأخشاب السويد والبغدادلي والكمرات الحديد والجير والزيوت … وأصبح زملاؤه القُضاة ممَّن يُريدون بناء منزل في المدينة أو دار في الريف يأتون إليه ليتلقَّوا عنه الدروس … أذكر مستشارًا، صار بعدها بقليل وزيرًا، كان يأتي كل عصر يجلس في الحديقة على كرسي يَرشف القهوة التي تُقدَّم إليه ويتطلع مبهورًا إلى والدي وهو يصعد ويهبط على سقالات البنائين، يقيس الجدران بعصاه، ويأمر وينهى ويَنصح ويشير وينهر ويصيح … كان هذا المستشار ينوي بناء منزل صغير في أطيان له، ولا يدري كيف يصنع … فلما رأى والدي يصول ويجول هكذا في ذلك البناء الطويل العريض جعل يُهمهم بالإعجاب والإكبار، ثم التفت نحوي وقال بنبرة صادقة: «أبوك أستاذ لا يُجارى في فن المعمار!» … وأخيرًا انتهت عمليات البناء، والله وحده يعلم بعد كم من الزمن. ولم يصبح في الجعبة من الأفكار ما يؤدي إلى إضافة شيء أو الإنقاص من شيء … وهنا … بدأ أهلي يزهدون هذا البيت ويَلعنونه … خاصة وقد فشلَت فكرة التأجير … لأنَّ المصيفين كانوا قد بدءوا يتَّجهون إلى البحر … وكان موقع البيت السيِّئ مما يُنفر المستأجرين … وكانت تكاليف البناء المستمر قد أبهظت أهلي، والديون أثقلت كاهلهم، وأسعار القطن أخذت في الانخفاض … فاتجه التفكير كله إلى شيء واحد: التخلص من البيت، لكن كيف يتم التخلُّص منه؟ رأى والدي لذلك طريقتَين؛ إما البيع … وإما البدل على أطيان … ولجأ إلى السماسرة … وكانت حكاية السماسرة لا تقلُّ عن حكاية البنائين والنجارين! … لبثتُ أعوامًا طويلة وأنا لا أرى والدي إلا مع السماسرة في مجيئه وذهابه، وحِلِّه وترحاله … فقد أصبح مُستشارًا، ثم ترك الخدمة لبلوغه سن المعاش … أو على الأصح لقبوله عرض وزارة الحقَّانية في ذلك العهد، عندما اكتشفت أنه هو ونخبة من زملائه المستشارين القدامى قد أجادوا خضب وصبغ شعورهم وشواربهم وجلسوا مطمئنين، فذكَّرتهم بأن سن المعاش على أيِّ حسابٍ يُريدون قد تجاوزوها بسنوات وهم لا يشعرون … وتم الاتفاق والتراضي … وترك والدي مع زملائه المذكورين الخدمة … وتفرَّغ لشئونه الخاصة طول أعوامه الباقية، ولا شغل له ولا شاغل إلا مسألة بيع البيت أو استبدال أطيان به.
وفي ذات يوم طلع بفكرة جديدة هي: زيادة إثقال البيت بالرهون، كانت فكرته في ذلك عجيبة؛ وهي أنه كلما كان العقار مُثقلًا بالديون — في زعمه — كان تصريفه أو الاستبدال به سهلًا ميسورًا … ولم تدخل الفكرة رءوسنا … وجعلنا نقول له: كيف يكون ذلك؟ … وهل هذا معقول؟ … إن العكس هو الصحيح … فكان يجيب وكأنه يَرثي لجهلنا: المعقول هو ما أقول؛ إذ مَن الذي يسعى عادةً إلى تقديم أطيانه ليستبدلها ببيت؟ … هو ولا شك صاحب الأطيان المرهونة … وهو طبعًا لا يتوقَّع أن يقدمها إلا في نظير بيت هو الآخر مرهون؟! … إذ مَن المغفل الذي يُضحِّي بعقد خالي رهن ليأخذ عقارًا مرهونًا؟ وما دامت المسألة كلها رهنًا في رهن، فلماذا نترك نحن بيتنا لنُقدِّمه برهنه الخفيف نظيفًا إلى من سيقدم إلينا طينًا محمَّلًا بالدواهي الثقيلة؟!
منطق!
ومنذ ذلك اليوم ووالدي لا يُرى إلا في صحبة السماسرة … فهو إما أن يسير في الشارع ومعه سمسار، وإما أن يجلس على قهوة في حديث مع سمسار … روى لي بعضهم أنه أبصر ذات يوم والدي جالسًا بأحد المقاهي إلى مائدة على الرصيف، في انتظار أحد السماسرة … فكان كلما جاءه الجرسون يَمسح المائدة لتلقِّي الطلب، قال له: «انتظر يا أخي كمان شويه» … فينصرف الجرسون قليلًا، ثم يعود إلى مسح المائدة، إلى أن تضايق والدي فنهض تاركًا له المائدة، ووقف ينتظر على حافة الرصيف … فلما عاد الجرسون يمسح المائدة ووجدها خالية، تلفت فوجد والدي واقفًا على طرف الشارع ينظر إليه شزرًا ويقول: عاوز منِّي حاجة هنا كمان؟!
أما أنا فقد أبصرتُه بنفسي ذات مرة في الشارع، وأنا أهمُّ بدخولي مقهى «التريانون» بالإسكندرية، بعد توظفي … استوقفني وقال لي «أنت عبيط تدخل هذا المحل … فنجان القهوة فيه بثلاثة قروش صاغ!»
وتركني ومضى إلى قهوة بجوار البورصة اسمها «قهوة البن والفنجان». فيها بقرش ونصف … ومع ذلك فقد علمتُ — ويا للتناقض — أنه يُنفق فيها كل يوم ما يقرب من ريال على فناجين قهوة عديدة يشربها السماسرة الذين عرَفوا وتسامعوا عن بُغيته، فأخذوا يغدون عليه الواحد تلو الآخر يُمنُّونه بالآمال والأحلام عن تصريف البيت.
١٢
على أنَّ الفكرة قد عاشت من بعده … فكرة التخلُّص من البيت … وتخلَّصنا منه فعلًا بالبدل: أطيان بور لا يَصل إليها الماء … ولكنَّ الله شاء ألا يحدث ذلك في حياته … فقد أكرمه الله بأن جعله يموت في بيته هذا … أو على الأصح أن تخرج جنازته من بيته … وإن كنت أنا قد أوشكت على ارتكاب غلطة لا تغتفر … كنت في ذلك الوقت بالقاهرة مديرًا لإدارة التحقيقات بوزارة المعارف … فجاءني نبأ مرضِه ونقله إلى المستشفى الفرنساوي بالإسكندرية … فذهبت إليه توًّا … فوجدته في حالة مُتدهورة تُلازمه ممرِّضة يهودية عجوز، اعتادت التردُّد على المنزل لإعطاء حقن، فعهدَت إليها والدتي بملازمة المريض … قال لي بصوت ضعيف، وأنا أنحني عليه: «أنا غير واثق من نفسي …»
وهذه الكلمة منه لها دلالتها … فهو ما اشتكى قطُّ في حياته من مرض عضال … كان شديد الثقة بصحته، لاعتداله في الحياة … فهو لم يكن مُسرفًا في شيء … لا يُدخِّن ولا يسكر ولا يسهر … ربما في شبابه وقبل زواجه كان بالطبع يفعل شيئًا مما يفعله الشبان، ولكن باعتدال … حكت لي والدتي فيما حكت من ذكريات أيام زواجها في مبدئها أن والدي دخل عليها البيت ذات ليلة شتاءً فشمَّت في فمه رائحة خمر، فما كان منها إلا أن صرخت فيه قائلة: «أنت سكران؟!» … فأذهلته الصرخة ولم يَعُد قط إلى هذه الفعلة كما قالت طول حياته … أما التدخين فكذلك قد أقلع عنه، ربما أيضًا تحت ضغط والدتي القوية … مرةً واحدةً تقريبًا كل عام كنت أشاهد في يده سيجارًا كبيرًا يُهدى إليه عقب غداء رسمي بمناسبة احتفالٍ سنوي … فيما عدا ذلك يُمكن أن يقال فيه إنه لا يدخن ولا يسكر ولا يسهر ويأكل دون إفراط، ويُكثر من رياضة المشي على الأقدام … كل شيء لديه في حدود … إنه الاتزان الصارم في أتم صوره … ولولا هذا المرض العارض التيفوتيد … أصابه مِن لبنٍ ملوَّث كان كل طعامه بعد خلع أسنانه، لولا ذلك المرض الطارئ لعاش طويلًا كما عاش زميلاه؛ «عبد العزيز فهمي»، و«لطفي السيد» … وإن كان هو لم يُرِد التقيُّد بأي سن، فقد كان له أكثر من سن يختار منها ما يريد … وقد جعلني مثله في تفضيل حرية الاختيار … على أن المعروف لنا هو أنه تُوفي في الخامسة والستين؛ بحساب سنه الرسمية طبقا للتسنين الذي كان قد ارتضاه وتعامل مع الحكومة بمُقتضاه، وفي الثامنة والخمسين بحساب سنِّه الرسمية الأخرى التي تعامل بها مع شركة «جريشام» للتأمين … ذلك أن أحد مندوبي الشركة كان قد أغراه وأقنعه بمزايا شروط التأمين التي تبيح الاقتراض على البوليصة بمجرَّد دفع أول قسط … فلم يتوان، وأمَّن في الحال على حياته ببوليصتَين؛ إحداهما بخمسمائة جنيه والثانية بألف جنيه … ودفع أول قسط لكلٍّ من البوليصتين، وبعدها لم يدفع شيئًا كثيرًا … صار يَقترض على البوليصة الأولى ليسدد أقساط البوليصة الثانية … ثم يقترض على الثانية ليُسدِّد أقساط الأولى … وهكذا دواليك … وقد تشكَّكنا بالطبع في جدية مثل هذه المدفوعات … ولكني فوجئت ودهشت يوم ذهبت إلى الشركة بعد وفاته بالأوراق، فقيل لي بعد فحصها: إن الأقساط جميعًا مسددة في مواعيدها بالكامل والحمد لله … وتمَّ بذلك صرف المبلغ جميعه، وكان فيه إنقاذنا من ورطة مؤكَّدة عندما تكالب علينا أصحاب الديون والكمبيالات المتأخِّرة لتجار الخشب والطوب والبلاط … إلخ … ذهب المبلغ جميعه في سداد تلك الثغرة … تلك البالوعة التي تُسمَّى «البيت».
أشار لي والدي وهو على فراش المرض، فاقتربت منه، فسألني بصوت مُتداعٍ عن والدتي، فقلت له إنها في المنزل، وتسأل عن صحته … فقال هامسًا: «سلِّم لي عليها» … والواقع أنه لم يكن ينتظر وجودها إلى جانبه بالمستشفى … ولا كان يُريده … لقد كان دائمًا يوصيني في حياته هامسًا: «أمك هذه لا يَنبغي اطلاعها على خبر مُثير، ولا إحضارها في موقف مثير!» … فهي بطبيعتها المنفعلة ما كانت تطيق هذه المواقف، وما كانت تتمالك أعصابها فيها … وأنا نفسي ما من شيء يُخيفني مثل علم والدتي بمرضي … ذلك أنها تملأ الدنيا صياحًا وضجيجًا وشكوى وأنينًا، ولا تترك الطبيب يؤدي واجبه دون أن تنهال عليه بالسؤال الملح والقلق الصاخب وأحيانًا بالتقريع والتأنيب لتأخُّر ظهور الشفاء، بل ولي أيضًا أنا المريض لتعريضي نفسي لمُسبِّبات المرض … كل ذلك في الوقت الذي يحتاج فيه الموقف إلى الهدوء والتماسك والعمل الصامت المجدي … لذلك حمدنا الله أن بقيَ والدي وحده مع تلك الممرضة … لكن المرض طال حتى أنهك الجسم وأجهد القلب … كنتُ أزوره في كل يوم … فلما اشتدَّت عليه العلة وساءت حاله ودخل طور الاحتضار، سألنا الطبيب عما إذا كان يُستحسَن إحضار «كونصلتو» … فقال إن هذا لم يعد مُجديًا … ولست أذكر هل كان معي في ذلك اليوم صديقي الدكتور حسين فوزي الذي كان يلازمني أحيانًا في هذه الزيارات بالمستشفى … كل ما أذكر هو أن إدارة المستشفى اشترطت دفع خمسة جنيهات مقدَّمًا لمجرَّد السماح لنا بإحضار «كونصلتو» … وثارت ثائرتي لهذا الإجراء غير المعقول! … ورأيت فيه ابتزازًا واستغلالًا للموقف … إن أطباء الكونصلتو على حسابنا نحن بالطبع … فلماذا وفى نظير ماذا يأخذ منَّا المستشفى الجنيهات الخمسة؟ … وفي غمرة هذه الثورة النفسية رفضت، ولم أزل حتى هذه اللحظة نادمًا على هذا الرفض … ماذا يُساوي مال الدنيا كلها أمام رجل يُحتضَر! … وأي رجل هو … أمام الموت ما كان ينبغي لي أن أناقش في المعقول وغير المعقول … وأسأل عن المُجدي وغير المجدي … ولكنه طبعي أحيانًا لعنه الله!
ومات والدي … ولم نكن وقتئذٍ إلى جواره … كنتُ في المنزل أتهيَّأ للذهاب إليه في موعد الزيارة … وإذا جرس التليفون يدق … إنه المستشفى يُعلن إلينا الخبر … وعندما دخلت عليه حجرته، وجدته مُسجًّى على الفراش وقد غطَّوا وجهه بالملاءة البيضاء … وقالت لي الممرضة اليهودية: إنه كان قد أفاق لحظة وطلب منها كوب ماء، ثم التفت إلى الحائط. وكان معلقًا عليه تمثال صغير من الخشب للمسيح وهو مصلوب، فأشار بأصبعه إلى تمثال المسيح وقال لليهودية بصوته المُتداعي، محاولًا أن يحتفظ فيه بنَبرة سخريته القديمة: «إيه رأيك؟ … مش انتم اللي قلتم اصلبوه؟!»
فضحكت اليهودية ثم استدارَت تملأ له كوب الماء … ولما عادت به إليه لتسقيه وجدت رأسه قد انحدر من فوق الوسادة. لقد فارق الحياة … لم تشأ الممرضة أن تُريَني وجهه … ولكني أصررت على أن تكشف لي الغطاء لأتأمَّله … وإذا بي أرى وجهًا لا يُمكن أن أنساه … إنه الصفاء والتجرد والسمو عن الأرض … كل ذلك قد ارتسم على وجهٍ هادئ بلا ملامح … أو ربما كانت تلك هي ملامح الخلود.
ولا أذكر أني ذرفتُ عَبرة … بل كان الموقف أجلَّ من أي مشاعر عادية، لقد تجمَّدتُ لحظة وذهلت عن نفسي، ثم أفقت في الحال لتشغلني توًّا مسئوليات الساعة … وجدت أخي زهير خارج الحجرة، مُوفدًا من قبل والدتي بمبلغ من المال قال إنها دفعت به إليه لاحتياجات الدفن ثم سافَرَت إلى العزبة … لأنَّ أعصابها لا تحتمل الموقف … وكنت أنا قد احتطتُ للأمر فجئتُ معي بمبلغ كافٍ من القاهرة … وجعلنا نُدبِّر أمر مراسيم الدفن … وكانت معالجتنا لهذا الأمر أنا وأخي غاية في الحمق وقلَّة الدراية. قالت لنا إدارة المستشفى: الجثمان تحت تصرُّفكم.
فقلنا: احفظوه عندكم لحين الطلب.
فقالوا: لا يمكن الاحتفاظ به في الحجرة؛ لأنها سوف تُخلى وتُطهَّر وتُعد لاستقبال المرضى الجدد، ولكن الذي سيحصل في هذه الحالة هو أن الجثمان سيُنقل ويوضع على رخامة في قاعة بجوار الباب الخارجي لحين طلبكم.
فتركناهم يفعلون ما شاءوا بالجثمان … وانصرفنا نفكر في أمر الجنازة … وفي الطريق قابلنا بالمصادفة أحد المعارف … فلما علم بالخبر قال: «يجب إعلان الوفاة بسرعة.»
وذكر لنا أن أسرع طريقة هي طبع إعلانات يد صغيرة تُوزَّع على مقاهي المدينة، وأن هذا يمكن أن يتم في ساعتين … فكلَّفناه بالمهمة … وكان الليل قد دخل … فآوينا إلى منزلنا أنا وأخي … وكان المنزل خاليًا خاويًا بعد سفر والدتي بالخدم، فنِمنا من التعب … أو هكذا خُيِّل إلينا. فقد كنا في حالة من الأرق والقلق واضحة … وإذا الباب يدق … فنهضنا على عجل ونحن نتساءل من ذا يكون الطارق في مثل تلك الساعة من الليل؟ … وفتحنا وإذا به صديق والدنا المهندس «يوسف» … أدخلناه وقد خيمت على وجهه سحابة حزن … سألناه كيف علم بالخبر فقال: من الإعلانات … كان جالسًا على القهوة التجارية وإذا إعلاناتُ يدٍ تُلقى عليه وعلى الجالسين، فظنها — كما قال — إعلانات تياترو، وهمَّ برميها بعيدًا … وإذا بها إعلان وفاة «إسماعيل الحكيم»! وختم كلامه الحزين متنهدًا: «لا حول ولا قوة إلا بالله … إنا لله وإنا إليه راجعون!»
وغرق في الصمت لحظة … وغرقنا معه، ثم رفع رأسه وجال ببصره في أنحاء البيت سائلًا عن المكان الذي يَبيت فيه جثمان الفقيد … فلما علم أنه في المستشفى؛ وفهم منا أن جنازته ستخرج من هناك مباشرة كاد الرجل يصعق، وقال: ما هذا الكلام؟ … أليس له بيت يَخرج منه؟ … يخرج من مُستشفى؟ … كمن لا بيت له ولا أهل ولا محل إقامة؟ هذا لا يصحُّ أبدًا … جنازته لا بد أن تخرج من بيته … هذه هي الأصول.
فقال له أخي: «احنا ما نفهمش في الموت ده …»
وأردفتُ أنا موضحًا: كل ما خطر ببالنا هو اختصار الطريق … والطريق أقصر من المستشفى إلى المقبرة.
فهز الرجل رأسه أسفًا … وسأل عما إذا كُنا قد بلَّغنا المحافظة! … فلما علم أننا لم نبلغ أحدًا صاح قائلًا: يا ناس هذا رجل له مقامه ومركزه … مُستشار سابق لا بد أن تُرسل له المحافظة كم عسكري سواري بجوار النعش.
فقلت: والله في الحقيقة أنا لا أعرف هذه الأشياء … والحمد لله أنك حضرت في الوقت المناسب، والبركة فيك.
فنهض هذا الصديق الوفيُّ النشيط من ساعته وأخطر المحافظة بالتليفون، واتصل بجريدة الأهرام لنشر النعي … ولما فرغ من كل ذلك عاد إلينا يقول: وأين هي المستشفى الذي تركتم فيه الفقيد؟
فلما عرف العنوان خاطب الإسعاف بالتليفون، ثم تركنا وأسرع بالخروج دون أن يَلتفِت إلينا … ومضت ساعة أو ساعتان … وإذا بنا نسمع بوق سيارة الإسعاف على بابنا … فنزلت وفتحت باب الحديقة الكبير … فدخل الصديق المهندس وخلفه رجال الإسعاف يحملون الجثمان … وساروا به في ضوء القمر فوق ذلك الرصيف الطويل، بخُطًى رتيبة وئيدة ذات إيقاع جليل مهيب على ذلك البلاط، في صمتِ الليل الرهيب … فخُيِّل إليَّ أنها جثة «هاملت» فوق أكتاف الأبطال، وُوضع الجثمان في إحدى حجرات الجناح … وكنا قد اتَّفقنا جميعًا على أن يكون تشييع الجنازة في الساعة الثالثة من بعد ظهر اليوم التالي، حتى يستطيع الأهل والأقارب والمعارف الحضور بعد قراءة النعي في الصباح … وبالفعل ما كاد الموعد يَقترب حتى كان كل شيء قد تم إعداده … ونُصبَ صوان أمام البيت، وجيء بالمغسلين … فهمس لي الصديق المهندس أن من الواجب أن أحضر غسله … فحضرتُ … وكان المنظر لا يُنسى … لقد بدأت الجثة في التحلُّل؛ فقد مضى على الوفاة نحو أربع وعشرين ساعة … وكنَّا في مطلع الصيف … وحاول المغسلون أن يكتموا الرائحة بإطلاق البخور … واجتمع في المكان بعض الأقارب والأعمام، فرأيتُهم يبكون البكاء المر أمام المنظر، حتى أولئك الذين كان بينهم وبين أبي قطيعة خلال حياته … ولكن دموعي أنا كانت جامدة كالصخر … لأني كنتُ في وادٍ آخر … كنت أتأمل منظرًا عجيبًا قلَّما يتكرر … منظر وجه أعرفه وأحبه يتحوَّل أمامي تحوُّلات غريبة سريعة … هذا الأنف الذي أعرفه لأبي قد بدأ يتخذ شكلًا آخر … وبدأ يلين كأنه قطعة عجين … والبطن قد انتفخ كأنه بالون يوشك أن ينفجر … معالم والدي أخذت تتفكَّك أمامي، كما يتفكَّك شكل سحابة في السماء ويتلاشى … إن الفناء إذن ليس كلمة تُكتب على الورق ويلوكها اللسان! … كنت أتأمَّل كل ذلك مأخوذًا، وقد نسيتُ تمامًا أن الذي أتأمَّلُه هو والدٌ يجب أن أبكيه.
شخص آخر أيضًا كان مثلي يُراقب الأمور ولكن من زاويته الواقعية — محتفظًا بهدوئه: هو الصديق المهندس … لم يَبكِ مع الباكين … ولكنه كان يُصدر الأوامر والتعليمات إلى المغسلين، ليحثَّهم على الاتقان، ويمنعهم من العجلة و«الكلفتة» … صائحًا فيهم: «بالليفة والصابون من فضلكم … الرغوة تكون تقيلة … امسحوا الكتف بالراحة … هنا ناقص غسيل … الشغل لازم ياخد حقه!» … وهكذا كان ذلك المهندس يُراقب ويدير كل شيء كأنه أمام عمارة يباشر أعمال بنائها أو ترميمها.
وخرجت الجنازة أخيرًا من بيت الفقيد في يوم جمعة من شهر مايو ١٩٣٦م على صورة من المهابة والجلال والوقار لم أكن أتوقَّعها، يحفُّ بالنعش أربعة جنود من السواري على خيولهم المطهَّمة، وسرت أنا وأخي خلف النعش، وسار خلفنا خلق كثير، لم أنتظر حضورهم، ولا أدري من أين جاءوا؟ … لعلهم من معارف والدي أو من عارفي فضله الصامت … هنا فقط، وفي تلك اللحظة، غلبَتني الدموع … وحاولت جاهدًا أن أتماسك؛ حتى لا أجهش بالبكاء وأنا وسط الناس.
وبلغنا المقبرة … مقبرة الأسرة … في ناحية المنارة برمل الإسكندرية، تلك المقبرة التي كان آخر من دفن فيها جدتي سالفة الذكر … وأذكر يوم ذهبنا لتشييع جنازتها أن فقهاء «الترب» بعد قيامهم بمراسيم التلاوة والتلقين … وكذلك «الترابية» بعد أن سوَّوا التربة وانتهوا من عملهم تجمَّعوا حول والدي يسألونه الأجر، فأخرج من جيبه قروشًا جعل ينفحها هنا وهناك، وهو يشقُّ طريقه بين الأيدي الممدودة المتدافعة … فلما علا التصايح بطلب المزيد قال لهم بنبرته الجادة الوقورة الممزوجة بالسخرية الخفية: «المرة الجاية … المرة الجاية!» … ولم يكن بالطبع يدري ولا أحد من الحاضرين يدري أن «المرة القادمة» سيكون هو نفسه المدفون!
منذ ذلك اليوم وأنا أحمد الله أن التخلُّص من هذا البيت الكبير لم يتمَّ في حياته … فقد انتفع به على الأقل في يوم مماته.
١٣
لم أجد إذن في الجو الذي يَكتنفني في ذلك البيت في ذلك الصيف البعيد من مطلع العشرينيات مُشجِّعًا على أي نشاط، حتى ولا المطالعة، كان في عزمي أن أنتهز فرصة إجازة الصيف وأبدأ العمل في مسرحية عن المرأة الجديدة التي أخذت تخلع «اليشمك» خصوصًا بعد مظاهرة السيدات المشهورة وتفريق البوليس لهنَّ وعلى وجوههنَّ البراقع البيض … كان حقًّا من معالم ثورة ١٩١٩م اشتراك السيدات فيها لأول مرة في تاريخ مصر … مما كان يُبشِّر بقرب تحقيق أحلام قاسم أمين في مطالبته بالسفور … وكانت لي أفكار معيَّنة عن مُستقبل المرأة وسفورها أردت أن أبرزها في مسرحية … ولكن جوُّ بيتنا، وخوفي أن يكتشف أهلي ما أفعل، وهبوط همتي لعدم معرفتي مصير ما سبق أن كتبتُ من مسرحيات، كل ذلك أقعدني أيامًا في حالة خمول، فإلى جانب «خاتم سليمان» التي أجهل ما تمَّ في أمرها كنت قد كتبت بمُفردي كما ذكرت تلك المسرحية الأخرى التي أسمَيتها «العريس» وهي الكوميدية الخالية من الألحان، أخذها مني زكي عكاشة ليَقرأها منذ زمن ولا أدري ما صنع بها … وصح عزمي على أن أكتب إلى مصطفى ممتاز لمجرَّد الحصول على أخبار … أي أخبار عن المسرح تنقلني ولو للحظات إلى جو آخر … ولم يمضِ يومان على رسالتي حتى وصلني الرد … خطاب عادي لم يَستلفِت نظري منه شيء … ولكني ما كدتُ أفض غلافه حتى طالعتني من داخله حوالة نقود بريدية صفراء! فاختلج قلبي … كان الخطاب من الصديق مصطفى ممتاز … كتب فيه يقول:
«… قد اتفقت نهائيًّا مع زكي عكاشة في أواخر يونيو الماضي وأمضيتُ عقد الاتفاق، بعد أن كابدت من ألاعيبه وأكاذيبه ما لا يمكن أن يُقدَّر بثمن … ولولا حاجة تدفع بالمرء إلى الأناة وسعة الصدر مما تعلم وما لا تعلم، لمزقت الرواية وقطعت كل صلة لي بهذا الفن المنحوس … وقد حصل الاتفاق على ثلاثين جنيهًا.
هذا ومما يهمك معرفته عن العقد أن فيه بندًا يقضي برد ثمن الرواية إذا لم يُقرَّها قلم المطبوعات.
كما أن فيه بندًا آخر بدفع غرامة مقدارها مائة جنيه إذا أعطيت هذه الرواية نفسها إلى أي جوق آخر … أما عن: «الميت الحي» (وهي مسرحية لأحد زملائنا في التأليف لست أذكر الآن من كان) فقد رأيت إعلاناتها على الجدران … وأما عن نفسي فيظهر أني سأشتغل مع عباس علام في رواية: «خالد بن الوليد». وإن كنت أُفضِّل أن أبحث لنفسي عن موضوع آخر مستقل … هذه هي أهم الحوادث عندي قد أبلغتها إليك … أما عن تقاعدك عن المطالعة أو عمل أي شيء فهو ما لا أراه لك رأيًا… وحبذا لو أنك انتهزت فرصة صفاء الذهن وجمال ما حولك من المناظر لتعمل عملًا جديًّا ممتعًا … وعسى أن يصلني منك قريبًا ما تبشرني به من شروعك في عمل جديد … وتفضل بقبول فائق تحياتي … ودمت لأخيك المخلص … ممتاز».
أعاد هذا الخطاب والحوالة التي بداخله — وفيها نصيبي — إلى نفسي الأمل والرغبة في العمل … فطويت حوالة البريد بكل عناية لحين الذهاب لصرفها … ثم قمت أُشمِّر عن ساعد الجد وأشرع في كتابة «المرأة الجديدة» … وحدث أني تصفحت إحدى مجلات ذلك العهد التي تأتي بأخبار المسارح وما تُعدُّه لموسمها القادم، فإذا بي أرى بين روايات الافتتاح لجوق عكاشة إعلانًا عن «العريس» وعن «خاتم سليمان» … فما إن وجدت روايتي «العريس» يُعلَن عنها في الصحف حتى أيقنت أنها قُبلت، وربما دُفع بها إلى البروفات دون انتظارٍ لتوقيع عقدٍ. كان زكي عكاشة يُعامل المؤلفين كما لو كانوا لا وجود لهم ولا شأن … إذ ما من أحد منا سبق له أن رفض ثمنًا عُرض عليه أو طالب بسحب روايته … كنا دائمًا صاغرين نَقبل ما يُقدَّم إلينا … وحسبُنا أن نرى أعمالنا تظهر على المسرح … كنا كلنا من الهواة المجاهدين … وإذا كنا نَنتظر أجرًا فما ذلك لأنه يُسمن أو يغني من جوع، بل لأنه يُشعرنا على الأقل بوجودنا وبأهميتنا في نظر أنفسنا … وبأننا نعمل عملًا جديًّا مطلوبًا! … على أن هذا العمل كان قبل كل شيء يسرُّنا نحن ويغمر قلوبنا بالسعادة والمتعة … ولم يكن لدينا من الغرور أو حتى من الاعتداد بالنفس ما يجعلنا نظنُّ أننا نعمل شيئًا ما في تاريخ المسرح المصري … كلمة «تاريخ» بالحرف الكبير، وكلمة «أدب» وكلمة «فن» بالمعنى الخطير الذي لاكته الأفواه بعد ذلك زهوًا أو إحساسًا بحمل رسالة عظمى! … كل ذلك لم يكن معروفًا لدينا وقتئذ … كان كل شيء يجري لدينا بسيطًا لا يحمل أكثر من معناه ولا يتجاوز أبعد من حدوده … على أن الإنتاج المسرحي في تلك المرحلة، شأنه شأن الإنتاج الأدبي والفكري، كان أغلبه يعتمد على الترجمة والتمصير والتعريب. وكانت المسرحية الأجنبية المُمصَّرة تُسمى «اقتباسًا»، كما كانت الرواية الأجنبية المُترجَمة بتصرف — كما عند المنفلوطي — تُسمَّى «تعريبًا». و«التعريب» في الأدب و«التمصير» في المسرح ولم تكن كلمة الاقتباس دقيقة المعنى اللغوي … لكنها كانت تعني في العُرف الجاري أن المسرحية ليست تأليفًا خالصًا … ولا ترجمة خالصة … بل هي نقل الموضوع من جوٍّ إلى جو، ومن شخصيات أجنبية إلى شخصيات مصرية أو شرقية … فالاقتباس المصري كان على غرار روايات الريحاني وبديع خيري والكسار وأمين صدقي وعباس علام وسليمان نجيب وأنا في «العريس» … والاقتباس الشرقي كان على غرار «العشرة الطيبة» للمرحوم محمد تيمور، وبعض مسرحيات إبراهيم رمزي، وروايتنا «خاتم سليمان» … إلخ. والعجيب في ذلك العهد هو الشعور الطبيعي بواجب الأمانة الفنية … فإذا رُوجعت إعلانات تلك الروايات لوُجد تحتها كلمة «اقتباس» فلان. إني أحتفظ حتى الآن ببعض إعلانات اليد ذات الألوان الحمراء والخضراء والصفراء للعريس وخاتم سليمان طُبع تحتها كلمة اقتباس بقلم فلان … ما كان أحد منا يسمح لنفسه أن يَكتب كلمة «تأليف» إلا إذا كان هذا قد حدث فعلًا، أو كان ابتكاره أو جهده قد وصل إلى درجة التأليف … أما إذا كانت الرواية مُترجَمة فإن اسم المؤلف الأجنبي كان يُذكر في جميع الإعلانات، مهما تكن قيمة المُترجِم أو المُعرِّب؛ فالمنفلوطي في تعريبه للقصص، وعثمان جلال ومحمد مسعود للمسرحيات؛ كانوا جميعًا يحرصون كل الحرص على إبراز اسم المؤلف الأصلي المُترجَم أو المعرَّب عنه، فإذا لم يتيسر ذلك — لما حدث للمسرحية من تغييرات كادت تنقلها إلى شيء جديد — فكان يكتفي بذكر كلمة «اقتباس» بقلم فلان … وحدث أن أراد عباس علام التحلُّل من كلمة «اقتباس» هذه التي جرى عليها العُرف، فابتدع — ولعله أول من ابتدع — تلك الكلمة الغامضة التي تحمل شتَّى المعاني حين تُذكر بمُفردها وهي كلمة: «بقلم» فكان يضع تحت مسرحياته كلمة «بقلم» وحدها حاذفًا كلمة «اقتباس» التي تسبقها عادة، وبهذا يترك الأمر مُعلَّقًا يُفسَّر كما يفسَّر … هل هو تأليف بقلم أو اقتباس بقلم؟ وأذكر أن النقاد في ذلك العهد تندَّروا بهذه الطريقة بادئ الأمر وأطلقوا عليه فيما بينهم اسم: «عباس علام بقلم» إلى أن شاعت هذه الطريقة بين الكتاب جميعًا وأصبحت شيئًا طبيعيًّا … على أن الاقتباس قد خدم المسرح المصري خدمة مشكورة في مرحلته الأولى … فقد مرن كُتاب المسرح على أصعب ناحية في كتابة المسرحية وهي تلوين الشخصيات … فالموضوع المقتبس لم يكن في حد ذاته ذا أهمية كبرى … فشكسبير … وموليير وجوته كانوا يقتبسون الموضوعات … إنما المُهم حقًّا في المسرح هو ابتكار الحوار وإعادة خلق الشخصيات خلقًا حيًّا جديدًا مبتكرًا … لكن المُقتبِس المصري لم يكن قد وصل إلى هذه المرحلة … لأنها في المسرح من أرقى مراحل الابتكار … كان كل جهده مُنصرفًا إلى ناحية أخرى مهمة بالنسبة إلى تكوينه الفني: هي مجرَّد نسج جوٍّ مصري وصبغ الشخصية الأجنبية باللون المحلي … فجهد عثمان جلال في تمصير «الشيخ متلوف» مثلًا عن تارنوف «لموليير» يحسُّه المشاهد ويلمسه لأول وهلة … كانت هذه الخطوة لا بدَّ منها على كل حال في التأليف للمسرح المصري العربي … وإن كان من العجب أن الاقتباس في المسرح الأوروبي والأمريكي أصبح اليوم بدعة العصر … فكثير من المسرحيات المهمة التي تُعرض الآن في العواصم الكبرى هي اقتباسات يقوم بها كتاب المسرح عن مسرحيات مشهورة ناجحة؛ ففي فرنسا مثلًا قد يدهشنا أن نرى مُؤلِّفًا مثل «سارتر» يقوم باقتباس مسرحية «الممثل كين» عن مسرحية المؤلِّف الفرنسي أيضًا «إسكندر دوماس الكبير» … وأن ترى «جان كوكتو» يقوم باقتباس مسرحية أمريكية هي «عربة اللذة» لتنيسي ويليامز … وإذا تتبعنا المسرح الإنجليزي أو الألماني أو الأمريكي فسنجد مثل هذا أيضًا … على أن الاقتباس في أوروبا وأمريكا وهو المسمَّى «الإعداد أو التكيُّف أو النص الجديد»، يقف عند حد التغييرات في النص لاختلاف روح الدعابة والسخرية والتشبيهات والأمثال ونحو ذلك بين بلد وآخر، فالاقتباس — أي الإعداد أو التكييف — عندهم يقتصر على جعل النص الأصلي ملائمًا لذوق البلد المنقول إليه، ولكنه لا يتعدَّى ذلك إلى تغيير الجو أو الأسماء … لأنَّ الجو الأوروبي والأمريكي مُتشابه في الجملة … فالاقتباس المسرحي عندنا إذن في بعض الأحوال أعقد منه عندهم، إنه أحيانًا يكاد يكون نصف تأليف خصوصًا في تلك الأيام الخوالي التي كنا نكتب فيها قبل سفور المرأة … كان علينا في مجتمعنا الحجابي وقتئذ أن نغير في العلاقات الاجتماعية الموجودة بين الرجال والنساء في مجتمع سفوري … كنا إذا أردنا اقتباس مسرحية أجنبية يَلتقي فيها رجل بامرأة وقعنا في حيص بيص … كيف نضع فوق خشبة المسرح المصري وقتئذ رجلًا وامرأة وجهًا لوجه لا تَربطهما صلة رحم … كان من المستحيل أن نجعل زوجة فلان «تنكشف» على زوج علانة … كنا نتحايل على ذلك بشتَّى الطرق … فنجعل هذه المرأة ابنة عم ذلك الرجل أو أنه هو ابن خالتها، وهكذا … كان الرجال والنساء في جميع مسرحيات ذلك العصر تجمعهم صلة القرابة! … ويستطيع أن يُراجع ذلك من شاء أن يراجع … كان تغير هذه العلاقات الاجتماعية حسب مقتضيات بيئتنا ينتفي تغييرًا في الحوار والشخصيات وبعض مواقف المسرحية، مما يخرج بها كثيرًا عن الأصل، على نحو يجعل معنى «الاقتباس» عندنا مغايرًا تمامًا لمعناه في المسرح الأوروبي أو الأمريكي المعاصر … كان هذا العمل إذن بمثابة مدرسة لتمرين كُتاب مسرحنا، وإتاحة الفرصة لمن أراد منهم أن يفرد جناحيه في المستقبل ليطير بمفرده.
كان لكلِّ كاتب من كتاب المسرح عندنا كاتب أوروبي يفضله، كان عزيز عيد مثلًا مُغرمًا بجورج فيدو … عمل على ترجمة أهم أعماله ترجمة حرفية، وأظهر على المسرح أشخاصها الأوروبيِّين المبرنطين دون تغيير … أما أنا فقد كنت أُعجب بكاتب آخر من كُتاب الفودفيل اسمه: «ألبان فالبريج» اقتبست عنه مسرحية «العريس» … وظل «فالبريج» هذا عَلَمًا في نظري من أعلام المسرحية الفكاهية … إلى أن سافرتُ فيما بعد إلى فرنسا فعلمت لدهشتي أنه كاتب مغمور لا مكان له بين الأسماء الضخمة التي تتألَّق هناك في عالم الأدب … وكان قد شاخ وانزوى … ففي ذات يوم بينما كنت أتصفَّح جريدة «الطان» إذا بي أرى سطرَين لا ثالث لهما في آخر صفحة تنعي «المسيو ألبان فالبريج» كاتب فودفيل، كتبَ بضع مسرحيات وتُوفي عن ثمانين عامًا … فقلت في نفسي: سبحان الله! … أهذا هو فالبريج كله! … وأطرقتُ أسفًا وترحَّمت عليه … ولعلي الوحيد الذي أسف عليه بين ملايين البشر فوق هذه الأرض! … تلك كانت مرحلة الكتابة المسرحية في مصر … أما مرحلة التأليف الفعلي فإنها لم تبدأ عندي على نحو جادٍّ إلا بعد سفري إلى أوروبا والارتشاف من منابع الثقافة الحقيقية والتكوين الحقيقي لبِنيَتي الفكرية.
لكن العجيب في أمري مع ذلك أني في باريس لم أُواصل السير في هذا الخط الذي اتبعته في مصر، خط الفكاهة والفودفيل والأوبريت والمسرحية الجماهيرية عامة … لقد كانت كل هذه الأنواع لم تزل قائمة في فرنسا، فيما يُسمَّى: مسارح «البولفار»، والذي يُماثل يومئذ عندنا شارع عماد الدين بملاهيه ومسرحياته وكُتابه المستولين على ناصية النجاح أمام الجماهير الواسعة … فإن الذي حدث هو أني زهدتُ في هذا الفن السهل، ولم يُغرِني نجاحه الهيِّن المضمون … وسرتُ في اتجاه جديد مع ركْب آخر من الكُتاب والمؤلفين والمخرجين القائمين بثورة تجديد ضد الفريق الأول الناجح … ركْب «إبسن» و«بيراندللو» و«برناردشو» و«ماترلنك» … كُتاب ومُؤلِّفون وجدوا العسر كل العسر في الظفر بجمهور واسع وقتذاك … لأنهم نبَذُوا وسائل التصفيق المعتادة ليشقُّوا طرقًا جديدة … وإذا كانوا قد انتصروا بعد ذلك فبفضل جماعات من المثقفين ما وهنوا وما يئسوا من التبشير بفنهم. ولم أرهم ينتصرون في ذلك الوقت … وقت وجودي بباريس في تلك الفترة … بل رأيتهم في مرحلة جهادهم المُستميت … رأيت إبسن «يمثل» في مسرح صغير أمام جمهور قليل ولأيام معدودات … ورأيت مسرحية «سانت جون» أو «جان دارك» أحدث مسرحيات «برناردشو» تُمثَّل لأول مرة في باريس أمام جمهور قليل من المشاهدين نصفهم لا يفهم لها رأسًا من ذنب … ولم يَجرؤ على تقديمها في باريس يومئذ إلا الممثل والمخرج الروسي الجريء «جورج بيتوتيف» … وقد قام فينا قبل رفع الستار يعلن ويحذر طالبًا منا الصبر قائلًا تلك الجملة التي لم أزل أذكرها: إنه في مثل هذه المسرحيات إنما «يمشي فوق حبل رفيع» … أما «بيراندللو» فكان أحدوثة خاصة للمثقفين من أهل باريس يومئذ، كذلك كانت تُعرض مسرحياته لأول مرة فتدير الرءوس بالاستغراب والاستنكار ولا تسمع ممن في الصالة إلا التهامس.
«هل فهمت شيئًا؟» … «لا» «ولا أنا …»
ما الذي جرفني إلى هذه الفئة؟ ما الذي أغراني بهذا البلاء؟ ما الذي أبعدني عن أضواء النجاح السهل؟ … النجاح «البولفاري» الجماهيري، لست أدري … لعلها نزعة عندي في الحياة والفن … حقًّا، أراني أختار أحيانًا الطريق الصعب الذي يتعذَّر معه النجاح، وأترك الطريق المألوف المعروف المؤدي حتمًا إلى نجاح مضمون. ولعلَّها أيضًا النزعة العقلية الفكرية عند والدي قد وجدت أخيرًا البيئة الصالحة لظهورها في هذه المذاهب المسرحية الجديدة القائمة على الفكر … ربما ومع ذلك فإنَّ هذا الاتجاه عندي لم يجد صعوبة في أن يستقر داخل بيئتنا الأدبية … فالبيئة في بلادنا كانت فعلًا مُستعدة لتقبله … وقد أحسنت بالفعل استقباله … في حين أن البيئة المسرحية كانت لا تزال في وادٍ آخر … وخاصة بعد عودتي من الخارج … فقد اختفت حتى المترجمات الجيدة، وخضع المسرح المصري وقتئذ إلى تيارَين اثنين؛ التيار الإضحاكي، والتيار الإبكائي، وكان لا بد إذن من تيار ثالث هو التيار الثقافي … لذلك أُنشئت الفرقة القومية عام ١٩٣٥م وأُسندت إدارتها إلى الشاعر «خليل مطران»، وعُهد بمسئولياتها الفنية إلى المخرج زكي طليمات، بعد عودته من بعثته في باريس … فافتُتحَت بمسرحيتي «أهل الكهف»، ثم «تاجر البندقية» ترجمة «خليل مطران»، و«أنتيجون» ترجمة «الدكتور طه حسين»، و«الملك لير» ترجمة إبراهيم رمزي … إلخ. مسرحيات هوجمت بحُجة مستواها الثقافي الرفيع … وقد كان بالفعل ظهور مثل هذه المسرحيات دفعة واحدة وعلى مسرح كبير وفي ذلك الإطار الفني الجاد الجاف، شيئًا هزَّ الناس وصدمهم … ونجح الهجوم في القضاء على اتجاه الفرقة بمساعدة الأحزاب السياسية المتذبذبة … على أن الخطأ في حقيقة الأمر كان في عرض مثل هذه المسرحيات العسيرة على جمهور واسع من البداية دفعة واحدة، وهو ما لم يحدث حتى في أوروبا نفسها … وكان الواجب عرضها على مسرح طليعي خاص يُحدد عدد مقاعده ورواده من المثقَّفين. ولو أن هذا حدث منذ ذلك التاريخ … واستمر المسرح الطليعي الصغير في ركن هادئ، بعيدًا عن العواصف حتى رسخ وتطور على مدى تلك الأعوام الطويلة، وتولدت فيه بيئة مسرحية جادة ممثِّلة للتيار الثقافي الذي قصدناه، بمؤلفيها ومخرجيها وممثليها وجمهورها، لكُنا اليوم في وضع آخر … ولكانت مسارح الجماهير الكبيرة نفسها منذ مدة طويلة تطورت وصارت في مستوًى آخر … ولكننا جعلنا المعركة في ميدان أوسع مما ينبغي … وفي مواجهة الجماهير التي اعتاد أكثرها أنواع المتعة السهلة التي يقدمها خصوم أقوياء اعتبروا الاتجاه الجديد تحدِّيًا لوجودهم.
نعم … لقد كان افتتاح الفرقة القومية فعلًا بدء معركة … من دلائل ذلك الخطاب الذي نشرته جريدة الأهرام في عددها الذي صدر بتاريخ ١٨ ديسمبر ١٩٣٥م بعنوان: «من مؤلف أهل الكهف إلى مُدير الفرقة القومية» ربما كان من المفيد أن أنشره هنا … وها هو ذا نصه:
«عزيزي الأستاذ خليل مطران …
أحب أن أثبت كتابة تهنئتي إياك بهذا الفوز المبين … لقد شاهدتُ رواية الافتتاح في ليلتها الرابعة … وتبيَّنت أن الأمر أجلُّ من أن يكون أمر قصة وفرقة … إنما هو أمر إقرار مذهب من مذاهب التمثيل لم يكن مألوفًا في مصر والشرق العربي … فلقد كان المعروف لجمهورنا مِن قَبلُ أنَّ المسارح تؤم للمتعة الرخيصة الزائلة … لا للمتعة العقلية الباقية … حتى قصص شكسبير وأمثالها ما كانوا يُشاهدونها لذاتها ولحوارها، بل لما أُدخل عليها من غناء وألحان أو لما جاء فيها من مواقف مثيرة تهز أعصابهم دون أن ينال حوارها الأدبي من أذهانهم منالًا … إلى أن أمسك بالزمام إمام الصناعتَين، وكأنما أراد القدر أن يقيمه إمام صناعة ثالثة، فبيَّن للناس في موقعة حاسمة أن التمثيل إن هو إلا فصل مجيد من كتاب الأدب العالي … نعم … لقد كانت موقعة … لا بَيني أنا وبين الجمهور كما قال صديقنا الدكتور طه حسين (في جريدة الجهاد) … ولكنَّها بينك أنت وبين المذهب السابق البائد للتمثيل … وقد كان لك النصر … وبانتصارك انتصر الفن الحقيقي … فأهنئك مرةً أخرى … وأهنئ معاونيك ومحقِّقي فكرتك … البارعين ومخرجي وممثلي الفرقة القومية الزاهرة والسلام.»
١٤
انتهت الإجازة الصيفية وعدتُ إلى القاهرة حاملًا مسوَّدة «المرأة الجديدة»، وقد أتممتها … كان شهر أكتوبر قد أقبل، فوجدت مسرح الأزبكية قائمًا على قدم وساق، يُجري التدريبات على «خاتم سليمان» و«العريس» ومسرحية غنائية أخرى اسمها «الدنيا وما فيها» للشيخ يونس القاضي المؤلف المُلحَق بفِرقة منيرة المهدية … كان قد تركها واتجه إلى العكاكشة … ولعلَّ يونس القاضي، وهو أيضًا مؤلف الأغنية المشهورة وقتئذ: «ارخي الستارة اللي في ريحنا أحسن جيرانك تجرحنا.»
لعلَّه الوحيد الذي لم يكن يَقتبس عن مسرحية أجنبية لجهله باللغات الأخرى … لهذا كانت مسرحياته عبارة عن مشاهد غنائية لا رابط بينها ولا ضابط … لكنَّها كانت صالحة كإطار للموقف الغنائي … كان اهتمامي الخاص بالطبع متجهًا إلى مسرحيتي «العريس» وقد قرَّر لي زكي عكاشة نظيرها ولا مردَّ لقراره مبلغ عشرين جنيهًا فقط، بحجة أنها خالية من الألحان، وأنا المؤلِّف الوحيد فيها لا شريك لي … أما «خاتم سليمان» فكانت تدريباتها قد انتهت … وجاءنا كامل الخلعي يسألني أنا ومصطفى ممتاز: «هل الألحان أعجبتكم؟»
فكان ردنا الطبيعي: «نعم أعجبتنا.»
فمدَّ يده قائلًا: «يدكم بقى على البقشيش!» … ووالله ما تركنا إلا بعد أن قبض من مصطفى ممتاز ومنِّي مبلغ جنيه مناصَفة، وأعطانا إيصالًا بذلك قال فيه بالنص:
«استلمت من حضرتَيْ ممتاز أفندي وتوفيق أفندي مؤلِّفَي رواية خاتم سليمان ماية غرش صاغًا كمكافأة على حسن الألحان التي وضعتها في روايتهما … وهذا وصل بالاستلام.»
ولستُ أذكر لماذا هذا الإيصال! … ولا مَن الذي طالبه به! … إني لم أزل أحتفظ بين أوراقي بهذا الإيصال العجيب بخطِّ يد ذلك الملحن الكبير الشهير في عصره! … ويا له من فرق بين فنان الأمس ذاك، وفنان اليوم الذي يقتني العمارة والسيارة!
فاتني أن أذكر أن «خاتم سليمان» تلك لم تكن في الواقع أول مسرحية غنائية لي … فإني قبيل أن أعرف مصطفى ممتاز، وبعد أن وقع في يدي ذلك المجلد الذي اشتريته لمسرحيات «ألفريد دي موسيه» وكان عنوانه «كوميديات وأمثال»، اخترتُ من بينها كوميدية تُسمى «كارموزين» استخرجت منها عام ١٩٢٢م مسرحية غنائية كاملة «أوبرا» جعلتها فرعونية باسم «أمينوسا» نظمتُ بعضها ثم انصرفت عنها، فأخذها مني زميل لي في الحقوق (محمد السعيد خضير وكيل مجلس الدولة بالمعاش) لإتمام نظمها … ولم أدرِ ما فعل بها … إلى أن أخبرني يومًا أنه سلَّمها للعكاكشة … وكان في شأنها أخذ وردٌّ مع سيد درويش الذي قيل إنه طالَبَ بأجر ضخم لتلحينها … فسلَّموها إلى كامل الخلعي … فكان في شأنها أيضًا أخذ ورد، كما هو وارد في إشاراتٍ كتَبَها كامل الخلعي بخطه على ورقة لم تزل موجودة عندي هي الأخرى … وهذا نصُّها:
«رددتُ هذه الرواية ثانية إلى جوق إدارة شركة ترقية التمثيل العربي بعد أن ألَّفتُ موسيقية نصف فصل منها … لأننا لم نتَّحد على ثمنها من جهة … ولأن أرباب الأدوار فيها لا يَأخذون غناء أدوارهم إلا بعد أن يذهب أغلبه ضياعًا لطول الوقت.»
«ورُدَّت إليَّ ثانية في١٠ ديسمبر ١٩٢٤م … ولكن بعد أن ذهب تلحين ما ألَّفتُه تمامًا … وسأبدأ بوضعها بإتقان وتُؤَدة … وسأجتهد أن تخرج للناس بعد مضيِّ ستة شهور من تاريخه … لأنها تحتاج إلى تنقيحٍ في نَظمها الشِّعري وإبداع في تأليفها الموسيقى …»
ولم أعرف ماذا تمَّ في أمر تلك المسرحية … ولم أحرص على معرفة شيء عنها … ولم أُقابل كامل الخلعي منذ ذلك اليوم الذي قبض فيه منا مبلغ الجنيه مناصفة بيني وبين شريكي … ولكن المسرحية على كل حال لم تَظهر واتجه النشاط إلى إعداد مسرحيات أخرى؛ فقد كانت المنافسة شديدة في ذلك الموسم بين مختلف الفِرَق … ولستُ أدري كيف كانت القاهرة وقتئذ تحتمل كل تلك الفِرَق المسرحية من مختلف الأنواع دون إعانة أو رعاية من الدولة … كان الفنان في ذلك العهد يُعاني من شظف العيش ومن الإنكار والاستنكار، ولكنه يصمد … لأن روح الفن وجذوته الملتهبة المضيئة في أعماقه كانت تدفئه وتُنير حياته الشاقة، كان يَكفيه تشجيع الجمهور الواعي. وكان الجمهور يُقبل على المسرح لأنه لا يجد غيره … فالسينما المصرية الصامتة أولًا، وفيما بعدُ الناطقة، لم تكن قد ظهرت بعدُ … إنَّ السينما حقًّا قد أثرت — حتى في أوروبا — على المسرح في أول الأمر، إلا أنَّ الجماهير ما لبثت أن عادت إلى المسرح بعد أن أخذ يُجدد في وسائل تعبيره ليشعر الناس أن خصائصه مختلفة عن خصائص السينما حتى وإن نطقت.
كان من علامات ازدهار المسرح المصري في ذلك الوقت نجاح فرقة رمسيس التي أُنشئت حديثًا، واستطاع يوسف وهبي مؤسِّسها أن يقف في الدرام أمام جورج أبيض في التراجيديا، وأن يخرج فيها مسرحيات قيِّمة مُمتازة مثل «غادة الكاميليا» أبرز فيها نبوغ الممثلة الكبيرة روزاليوسف … بل لا أدلَّ على نهضة المسرح وقتئذٍ من أن تُعرَض نفس المسرحية على مسرحين مختلفَين في نفس الوقت. كان عزيز عيد قد انفصل بعد ذلك عن فرقة رمسيس وأسَّس مع فاطمة رشدي فرقة جديدة منافسة تعرض تقريبًا نفس الموضوع … فرأينا يومًا هذا المظهر الفريد في بلدنا … كلا الفرقتين يعرض في نفس الأسبوع نفس المسرحية أظنها «النسر الصغير» أو «يوليوس قيصر» لستُ أذكر بالضبط … المهم أن الجمهور ما كان يضيق بذلك، بل كان يرحب بهذه المنافسة الفنية الرائعة … ويذهب إلى الفرقتين معًا ليشاهد ويقارن … وكان على فرقة عكاشة كي تثبت أمام المنافسة أن تتخصَّص في نوع معين. وتخصصت بالفعل في الأوبريت والأوبرا والمسرحية المصرية اللهجة والشرقية الجو، وتخصَّص الريحاني والكسار في الفرع الهزلي الاستعراضي.
وظهرت «العريس» وكذلك «خاتم سليمان» سنة ١٩٢٤م … وقد حرصتُ أول الأمر على أن أحذف اسم الأسرة من الإعلانات، حتى لا أستلفتَ نظر أهلي … جعلت اسمي — وخاصة في الإعلانات الأولى — هكذا: «حسين توفيق» … فقط لا غير.
وبهذا ظل أهلي إلى وقتٍ ما لا يشعرون بشيء مما أفعل في هذا الجو والمجال.
وما كدت أفرغ من تقديم «المرأة الجديدة» لفرقة عكاشة، حتى شرعت في كتابة مسرحية غنائية «أوبريت» هي «علي بابا»، التي عُهد بتلحينها إلى «زكريا أحمد» كما عُهد بنظم أغانيها كما رغبتُ إلى «بديع خيري» … وذلك بعد أن أتممتها وأرسلتها إليهم من الخارج؛ ولعلِّي لم أُرسلِ النَّظم الذي بدأته، لبُعدي عن الملحن … فقد كنت سافرت إلى فرنسا بعد قيدي في جدول المحامين … لم يكن هناك بالطبع ما يبشر وأنا بالحقوق بأي رغبة عندي في تلك المهنة مهنة القانون، وأنا الذي ما كان يصاحب إلا أهل الفن. حتى أثناء الدراسة … كنت أوالي حضور التدريبات «البروفات» يوميًّا … وكنت أحيانًا كثيرة لا أكاد أغادر خشبة المسرح. وأودُّ لو ألتصق بها التصاقًا طول نهاري، بضوئها القليل وضجيجها الكثير أمام صالة مقفرة نهارًا غارقة في الظلام … ومع ذلك كان كل شيء أمامي زاخرًا باهرًا، حتى مشاكل أهل الفن كان يحلو لي مُتابعتها والاشتراك فيها … كانت مُمثلتنا الأولى ومطربتنا في روايتنا «خاتم سليمان» لا تَعرف القراءة ولا الكتابة … فعيَّنوا لها شخصًا يُحفظها دورها … فكنت أراها في ركن بين الكواليس، على «المرسح» (هكذا كانت تلفظ كلمة المسرح وقتئذ) وهو يُحفِّظها الدور كلمة كلمة، كأنها دجاجة يُلقى إليها الطعام حبة حبة … بينما الملحن «كامل الخلعي» يُجري «بروفة» على ألحانِ المجموعة ويَصيح على قائد الموسيقى وشيخها المتمكن وقتئذ «عبد الحميد علي»: «يا سي عبد الحميد! … الموسيقى في ناحية واللحن في ناحية!»
ويدبُّ بينهما الخلاف … فيلتفت إليَّ الخلعي قائلًا: «اشهد بالحق يا توفيق أفندي!» وكثيرًا ما أكون بمُفردي في بروفات الصباح؛ لأن شريكي مصطفى ممتاز لا يُمكن أن يزوغ من أعمال وظيفته بوزارة الداخلية كما أستطيع أنا الزوغان من مدرسة الحقوق! … لذلك كنتُ أتحمَّل أنا وحدي نفقات الجنون الفني للمُلحن العبقري، وصياحه بين لحظة وأخرى: «اعدلوا لي دماغي بسيجارة وإلا وشرفكم أبطل الشغل النهاردة!» … فكنتُ أبادر، خوفًا من وقف تدريبات روايتنا، إلى شراء علبة سجاير من جيبي أُعدُّها خصوصًا لمثل هذه الأزمات.
أما روايتي «العريس» التي لم يكن بها ألحان؛ فإن كل شيء فيها كان يجري بهدوء أثناء تدريباتها … اللهم إلا ذات يوم رأيت مُمثلًا قديرًا حقًّا يقوم بدور حلاق في الرواية، لم أكن أبصرتُه من قبل بين أفراد الفرقة … فلما أعجبني إتقانه لدور الحلاق، وسألت عنه، قيل لي إنه ليس ممثلًا ولكنه حلاق حقيقي، دكانه قريب … وقد جاءوا به استسهالًا، نصحت قائلًا: «وافرضوا يوم التمثيل كان يَحلق لزبون في دكانه، هل يَترك ذقن الزبون ويَحضُر ليؤدي الدور؟! … أو افرضوا أن الفرقة سافرت بالرواية إلى الأقاليم، هل سيُغلِق دكانه ويسافر معكم؟» … فهدءوا من ثائرتي ضاحكين قائلين: «ساعتها يحلها ربنا!»
ولا أدري حتى اليوم أكان ذلك منهم جدًّا أم مزاحًا … هكذا كان حضور تلك البروفات من أمتع لحظات حياتي في ذلك العهد … وكانت محبة أهل الفن هؤلاء لا تَعدلها عندي صحبة … حتى وإن لم يوجد عمل أو رواية تربطنا … لم يكن يمضي عليَّ يوم وأنا في مصر قبل سفري إلا وأذهب إلى جوقة عكاشة، أجالس الممثلين والملحنين … أذكر ذات يوم أني جلست أتحدث مع الملحن المشهور «داود حسني» … في مسرحية «الأوبرا» شمشون ودليلة.
كانت أول أوبرا كاملة عربية … وقد لاقت نجاحًا كبيرًا … وإنه لمن العجب حقًّا أن تُعرض بنجاح وقتئذ مسرحية كلها غناء دون أي كلام … كان داود حسني يُصغي إلى حديثي وهو يترنم بلحن دور جديد للمطربة «نعيمة المصرية» … وإذا هو يلتفت نحوي فجأة ويقول: «فكِّر لنا في كلمتين من كلامك لنعيمة المصرية!»
وظل يُغريني بكتابة بعض الأغاني للتخت … ولم أتقبل الفكرة بتحمس، وإن كنت بدأت وأنا في جلستي معه أنظم مطلع أغنية لمجرَّد إرضائه على نسق أغاني تلك الأيام … ومطلعها على ما أذكر: «حلو القوام ينسى قوام، والحب عنده مالوش دوام.»
فقال لي وهو يهز رأسه: «حلو! … كمل!»
ولكني لم أكمل ولم أستمر … وفتر اهتمامي وانصرفت به إلى الحديث في الأوبرا … وقد كان في حديثه وسماته وملبسه على نقيض كامل الخلعي، كان يبدو عليه الاتزان والوقار إلى حد يكاد يُخرجه عن طراز أهل الفن … كان في هيئته ومظهره أقرب إلى الموظف الكبير المحترم … ولكن ما إن يأتِ ذكر الموسيقى والفن حتى تَنفجِر من نفسه كل كوامن الفنان … أخرج لي من جيبه كراسة قال لي إنها أوبرا جديدة عُهد إليه بتلحينها … تناولتُها من يده ونظرت فيها فإذا هي أوبرا فرعونية بعنوان «ليلة كليوباترا» تأليف «حسين فوزي» … وأردف داود حسني مضيفًا أنها سُلمت إليه بعد أن رفض «كامل الخلعي» تلحينها … فقد كان نظمها لا يسير على طريقة الشعر كما يفهم الخلعي الذي اعتاد القصيدة الغنائية على غرار شعر «فرح أنطون» وعلى نسق:
كان نظم «ليلة كليوباترا» أحيانًا قصير الأبيات جدًّا، لا تتعدَّى فيه الشطرة كلمتين، وطويل البحر إلى حد يملأ الصفحة … فلما رأى كامل الخلعي ذلك صاح منفجرًا: كيف يمكن تلحين ذلك؟! … هذا شريط ترمواي وليست قصيدة!
ولم يرَ كما رأى بعده داود حسني: إن مثل هذه البحور تُتيح للتلحين أنغامًا أكثر تحرُّرًا وتمشيًا مع طبيعة الأوبرا، ويظهر أن كامل الخلعي لم يَقلب بقية الصفحات ليرى التنوع في البحور والقوافي والأوزان … ومضيت في قراءتي لمنظومات الكراسة وأنا أعجب لرفض كامل الخلعي مثل هذا العمل الجيد … ولا شك أن سابق تجربتي وخبرتي الماضية في نظم الأوبرا الفرعونية «أمينوسا»، جعلني أقدَر من غيري على الحكم والتقويم الصحيح لمثل هذه الكراسة … واستغرقت فيها وطال استغراقي، فلم أعد أشعر بما حولي، إلى أن نبَّهَني داود حسني وهو يقول: «جرى إيه؟! … أنت المطلوب منك تلحينها أو أنا؟!»
فرددتها إليه وأنا أُوصيه بها خيرًا … وسألته عن مؤلفها الذي لم أكن سمعت باسمه، فوعدني أن يريني إياه عندما يأتي إلى التياترو … وحدث بالفعل أن أشار لي داود حسني ذات يوم إلى شخص يدخل من باب التياترو وقال: «ها هو يا سيدي المؤلف!»
فنظرتُ فوجدت شابًّا حليقًا يضع رباط رقبة على شكل أنشوطة عريضة جدًّا مما يضعه المُصوِّرون والموسيقيون «الرومانتيك»! … كان مظهره مظهر فنان حقًّا … أقرب إلى أن يكون رسامًا أو موسيقارًا! … أما أنا فلم يكن لي من مظهر الفنان إلا الشارب الحليق … تلك كانت علامة الفن وقتئذ … إذ ما من أحد في ذلك العهد كان يَجسر على حلق شاربه إلا الفنان … أذكر أن بعض المعارف من غير أهل الفن قابَلَني ونظر في وجهي ثم صاح: «أين شاربك؟»
فردَّ عليه أحد العارفين بهوايتي: «عامل فنان يا سيدي!»
ذلك أن إطلاق الشوارب وفتلَها أحيانًا وتبريمها كان هو الطبيعي المألوف … أما ذلك الذي يزيل شاربه فهو الخارج على إجماع الناس، المُنخرِط في زمرة أهل الفن والعياذ بالله!
ولست أذكر أني حادثت «حسين فوزي» في ذلك اليوم … فقد مرَّ أحدنا بالآخر عن بُعد كما تمر الأطياف البعيدة أو الظلال المنعكسة فوق الجدران … إلى أن تقابلنا في باريس … ونشأت بيننا الصداقة.
كان الدكتور حسين فوزي مُتخرِّجًا في مدرسة الطب وينتمي إلى العلم … وكنتُ أنا متخرجًا في مدرسة الحقوق وأنتمي إلى القانون. وجئنا إلى باريس … هو للتبحر في دراسة العلم … وأنا للتبحر في دراسة القانون … وقد استطاع هو الجمع بين العلم والأدب والفن، وخاصة الموسيقى … ولم أستطع أنا التفرُّغ للقانون، وجرفني الأدب والفن جرفًا … حتى انتهيت إلى الانقطاع لهما كل الانقطاع.
١٥
عندما أصبح امتحان الليسانس على مدى شهرين، لم أكن قد بدأت في الاستذكار الجدِّي … كنت منذ عامين قد غادرتُ مسكن الأعمام — لأن العم المدرس كان قد شرع في الزواج — واتخذت لنفسي مسكنًا صغيرًا في حي شبرا، ما لبث أن لحق بي فيه أخي الأصغر «زهير» … جاء والتحق بمَدارس الفرير بالخرنفش، استعدادًا للتقدم منها إلى الشهادة العامة … فهو وإن كان قد بدأ دراسته الابتدائية في مدرسة محرَّم بك بالإسكندرية، إلا أنه سرعان ما اضطر إلى تغييرها … ذلك أن مدرسة محرَّم بك كانت وقتئذ — ويا للعجب العجاب — هي المدرسة الابتدائية الأميرية الوحيدة للإسكندرية كلها بضواحيها! … ولما كان بيت الأسرة في آخر الرمل … فقد كان عليه أن يستيقظ كل صباح في الساعة الخامسة في برد الشتاء القارس ليصل إلى مدرسته قبيل الثامنة.
هذا الإرهاق قد اضطره إلى ترك هذه المدرسة والالتحاق بمدرسة قريبة في حي الرمل بباكوس. كانت بالطبع مدرسة أجنبية، فلمَّا أتمَّ بها المرحلة الابتدائية، ولم تكن تُعد للمرحلة الثانوية، كان عليه أن يَلتحِق بمدارس فرير الخرنفش بالقاهرة … وهكذا نزل معي في ذلك المسكن. واستأجرنا خادمًا يُعنى بشئوننا من طبخ وخلافه … لم يكن أحد من أهلنا يستطيع الإقامة معنا بالقاهرة … لا والدي ولا والدتي، لما سبق بيانه من اشتغالهما بالهدم والبناء والأطيان والرهون … عشنا بمُفردنا معًا … ولم يكن أخي مجدًّا كل الجد هو الآخر في دراسته … فقد اتَّجه ميله إلى تعلم الرقص وحضور حفلاته، وكانت تدهشني جرأته في ارتياد فنادق كبرى مثل الكونتننتال ليُراقص مَن يُراقص وليس في جيبه أكثر من خمسة قروش … فاجأته ذات مساء وهو يقصُّ بالمقص أحد جواربي السوداء ويفصل منه شيئًا كالأنشوطة «الفيونكة»، ومضى هكذا بكل جرأة ليدخل الكونتننتال حيث كانت تقام حفلة راقصة كبرى بملابس السهرة! … قلت له مذعورًا: أنت تدخل هكذا هناك لترقص، وأنا أنتفض من الرهبة لمجرَّد سيري أمام هذا الفندق؟! … ثم أين نقودك التي ستدخل بها هذا المكان؟! … فكان يخرج لي من جيبه القطعة الفضية ذات الخمسة القروش ويقول باسمًا هادئًا: «المسألة في غاية البساطة … أجلس على أي مائدة وأضع ساقًا فوق ساق وأطلب «واحد غازوزة» ثمنها مع البقشيش لا يزيد على خمسة قروش وأظلُّ أرقص طوال الليل!» إني دائمًا أحسد أخي على جرأته هذه … وفي فرنسا كان حاله أعجب … لحقَ بي بعد انتهائه من المرحلة الثانوية بالخرنفش، ليدرس الزراعة في مدينة «تولوز» … فكان يأتي إلى زيارتي في باريس في إجازات رأس السنة أو عيد الفصح، وكنتُ أنا غارقًا في الكتب … أجاهد في خضمِّ معركة ثقافية مضنية، فهالني يومًا أن أراه هبط عليَّ واستولى في غفلتي على البدلة الجديدة الوحيدة التي جعلتُ أوفِّر وأدبر ثمنها عامًا كاملًا، ولم أكن لبستُها بعدُ، ضننت بها على نفسي، فإذا بي أراها عليه … وقد جال بها جولة في «الشانزيليزيه» وعاد مُصطحبًا فتاتين فاتنتَين، طالبًا مني أنا القيام بمهمة العشاء، باعتباره ضيفًا عليَّ في باريس … فلما غمزتُه لضيق ذات اليد وهمست له: «النساء سهل، ولكن عشاءهن صعب!»
قال محاولًا إقناعي: «وهل أنا أخطأتُ إذ فكرت فيك … طبعًا واحدة لك واختر أنت التي تُعجبك منهما، أما أنا فالكل عندي سواء!»
ومع ذلك فأخي هذا لم يَعرف الحب في حياته … على كثرة ما عرف من نساء … أقصد الحب كما كنت أفهمه ويَفهمه الخياليون والعاطفيون من أهل الشعر والفن … فكما أنه لم يترنم قط في حياته ببيت واحد من الشعر، فإنه لم يلتهب قلبه مرةً بهذا الذي نسميه نحن «الحب» … وهو لم يكن يُطيق المقام طويلًا في مدينة واحدة، على نقيضي أنا الذي لم أتحرَّك من باريس، فهو قبل «تولوز» ذهب إلى «جرينوبل». وبعدها إلى «ستراسبورج» ثم إلى «ليل» … وفي كل مدينة له مغامراته … وهو يكثر من التدخين إلى حدٍّ مُزعج … وأنا ما وضعت قط في فمي سيجارة … ويُعنى بملابسه عناية فائقة، وأنا ما حملتُ قط في حياتي منديلًا حريريًّا … أو لبست قفازًا ولا حتى في أشد أيام الشتاء بردًا … لم أُدلِّل نفسي قط باقتناء مثل هذه الأشياء البديعة … وتصادف أن اجتمعنا مرة في مصيف بأوروبا بعد أن كبُر واشتغل بالزراعة. فلما نزلت من القطار … وكان هو قد سبقَني واستقبلني على المحطة، دهش إذ لم يجد بيدي غير حقيبة واحدة صغيرة فيها كتب، وليس معي غير بذلة واحدة هي التي علي … ومضى بي إلى فندقه فإذا بحقائبه تمتلئ بنحو ستِّ بدل على كل لون، مع عديد من فاخر الأحذية ومجموعة من أربطة العنق الحريرية الثمينة … إنه كان دائمًا يتنقل هكذا بهذه الملابس كلها … ومنذ كان طالبًا في فرنسا برع في لعبة «البوكر» … وكانت في باريس وقتئذ «شلة» من عتاة المصريِّين شبه المنفيِّين اجتمعوا في شبه عصابة قمار لاصطياد أغنياء مصر القادمين للفُسحة … كنا نعرف القهوة التي يجتمعون فيها، أنا وغيري من الزملاء الجادِّين فنهرب منهم بجلدنا … وإذا بأخي هذا قد هبط عليهم — ولستُ أدري كيف — ففرحوا به واستعدُّوا لاصطياد ما معه … فلم تمض ساعة حتى كان هو الذي اصطاد ما معهم وتركهم كالمجانين … ولقد برع قديمًا في السباحة أيضًا — وأنا لم أعرف العوم في حياتي — حتى كاد يُصبح ذات يوم من أبطال السباحة لولا إصابته بالربو … ثم حذق الرماية وكاد يُصبح من أوائل أبطالها في نادي الصيد، لولا المرض الذي أقعده … هذا هو شقيقي الوحيد، كنتُ أتمنى أن تكون لي مثل هذه الطبيعة المنطلقة … على أنه فوق هذا حادُّ الملاحظة، سريع الفهم، نافذ الذكاء … ألمس ذلك من آرائه في كل ما يتصل بميدان عمله المباشر: الزراعة مثلًا أو جماعات الناس المختلفة التي خالطها أو صادفها في حياته … إنه هو الذي كان يجب أن يكون الفنان … وأنا المزارع … ولو تمَّ ذلك لظفر الأدب والفن في بلادنا بإبداع حقيقي … ومع ذلك لم تجمع بيننا ظروف الحياة كثيرًا … فنحن لا نتراسل ولا نتزاور … حتى في أشد حالات المرض … ولا يؤثر ذلك في حب أحدنا للآخر … أطول فترة عشناها معًا كانت تلك التي أتحدث عنها … أيام ذلك المسكن الصغير في حي شبرا … أي عندما كنا في مطلع الشباب الأول؛ هو يُحضر للتقدم إلى الشهادة الثانوية العامة، وأنا أحضر لشهادة ليسانس الحقوق … وكان كلٌّ منَّا في شأنه … ولست أذكر كيف ومتى كان يراجع دروسه … في أي حلبة رقص؟! … فقد كنتُ في أواخر العام لا أعرف لي رأسًا من قدم … كان الشك قد بدأ يساورني … هل أستطيع حقًّا الحصول على الليسانس ذلك العام؟ … وقد أضعت أكثر شهوره بين المسارح والفنانين والملحِّنين! … وإذا لم أحصل عليها فكيف أُري وجهي لأهلي؟ … وإذا علموا أن الفن هو السبب، فسوف تكون الطامة أكبر! … كان جميع أصدقائنا الظرفاء من المطَّلعين طول العام على أحوالنا ولهونا أنا وأخي يهزُّون الرءوس أمام خيبتنا الثقيلة ويقولون ساخرين: «والله مسكين إسماعيل الحكيم … أنجب وخلف!»
قرأ أخي ما كتبته عنه هنا وضحك … وانتظر حتى نلتقي في الصيف ليضيف بعض ذكرياته، ولكنه تُوفي قبل أن ألقاه بشهر واحد … وكأن كتابتي عنه كانت تأبينًا … ذهبت إليه فوجدته مُسجًّى على فراش الموت، وكانت عيناه مغلقتَين نصف إغلاق، ألمح بين الجفون غير المطبقة تمامًا بَريقَهما المعتاد … ولكنه بَريق جامد … لكني لاحظت على شفتيه انفراجًا بسيطًا كأنها ابتسامة … نعم … إنها هي ابتسامته الساخرة … كأني به يسخر من الموت … كأني أسمعه يقول بمهارته السابقة: «أنا ما أفهمش في الموت ده!» لقد هبط قلبه فجأة ودهمه الموت قبل أن يأتوا له بفنجان من الشاي … مع مثله الذي كان لا يؤمن بالموت حتى وهو في مرض دائم طويل، لم يكن أمام الموت إلا أن يأخذه على غرة … ومع ذلك فهذه الابتسامة كأني بها تقول للموت: «ولو» … رحمة الله عليه!
•••
لم أجد غير وسيلة واحدة أن أحبس نفسي الشهرَين الباقيَين حبسًا تامًّا مع الكتب أستوعب ما فيها أو أموت دونها! … وحبست نفسي بالفعل في المسكن لا أتخطَّى عتبته إلى الخارج مدة الشهرين … وكانت لحجرتي نافذة تُطلُّ على نافذة حجرة في منزل مجاور … اتضح لي بعد قليل أن ساكنها هو «حلمي بهجت بدوي» … زميلي وقتئذ في الحقوق كنت أبصر شبحه من حجرتي وهو مُكبٌّ على كتبه في حجرته تحت المصباح … يستذكر المقرر بجلَد وإصرار … وكنتُ كلما أعياني الجهد وأضناني السهر … وأخذ مني التعب ولعب النعاس بجفوني، واصطدم رأسي بالكتاب الذي بين يدي من الإغفاء المباغت، وحدثتني النفس اللعينة بترك كل شيء والذهاب إلى الفراش … لاعنًا الليسانس ومتاعبها، لاح لي شبح «حلمي بهجت بدوي» صامدًا كالصخر مواصلًا العمل والدرس بصلابة وعناد، فأفيق لنفسي وأعود إلى كتبي وأنا أقول: «ما دام هذا الزميل ساهرًا ما يزال … فكيف أنام أنا المُحتاج أكثر منه إلى ساعة واحدة!»
لم يكن «حلمي بهجت بدوي» في الحق محتاجًا إلى كل ذلك العناء في آخر العام … فقد كان منقطعًا للدراسة من البداية، لا يَشغله شاغل ما كانت تربطنا بعد أي صداقة … كانت مجرد معرفة، نبَعَت من مجرد لقاء قديم عابر في المرحلة الثانوية بالمدرسة العباسية بالإسكندرية … كان فيما أذكر يستلفت النظر في المدرسة بصِغَر سنِّه، فلم يكن من زمرتنا ولم يكن هناك كذلك من شيء يؤكد الصلة بيننا في مدرسة الحقوق … على العكس … كانت الحرية التي وجدناها في المدارس العليا مما يُفكك الروابط بين الطلاب … وخاصة الحرية التي منحتها لنفسي في الحضور والغياب لمشاغل الفن! … وما كانت الصداقات و«الشِّلَل» تتكون هناك إلا على أساس التقارب في السن والطول والضخامة والميول والنزعات والمشارب … كل ما كنت أعرفه عنه وقتئذ هو ما يعرفه عنه الجميع من أنه أحد الطلاب الخمسة الأوائل المُبرزين النابغين المحافظين على ترتيب الأولوية في كل امتحانات النقل السابقة … وكنت أتطلَّع إليه من بعد مع رفاقه الخمسة الأوائل دائمًا، وكأني أتطلَّع إلى ظواهر خارقة، ولسان حالي يقول: «لو تكرَّموا علينا بعُشر ما في رءوسهم لننجح به؟»
لم يكن قطُّ «حلمي بهجت بدوي» هو التلميذ الصغير العادي الذي صادفته في المدرسة الثانوية … ذلك الذي كنت أراه العصر بعد انتهاء الحصص، يتلكَّأ في العودة إلى منزله، لينضمَّ إلى فريق الكرة «الشراب»! … في أرض فضاء خارج المدرسة … لم أكن بطبعي ميالًا إلى أي نوع من أنواع الألعاب … اللهمَّ إلا لعبة «محولجي السيمافور» وأنا غلام، عندما كنا نقطن في دمنهور على شريط السكة الحديد … كانت نافذة حجرتي مجاورة لكشك الإشارات … فوضعت عليها من الخارج قطعة خشب طليتها بلون «السيمافور» فكنت إذا رأيت «السيمافور» الحقيقي مفتوحًا لمرور القطار فتحت أنا أيضًا سيمافوري … وتنبه ذات مرة عامل الإشارات «الحقيقي» إلى عملي فضحك وصار قبل أن يفتح السكة للقطارات يَنظر أولًا إلى نافذتي ويغمز لي بعينه أن «خد بالك القطر ظهر، افتح له السكة»! … تلك هي اللعبة التي كانت تروق لي في صباي وتملؤني متعة وسرورًا وزهوًا أن أتصوَّر نفسي أفتح السكة للقطار … أما ألعاب الجري المألوفة في الصغر، فلم تكن مما يروق لي كثيرًا … ويظهر أن أهلي لاحظوا ذلك … فقد دهشوا إذ رأوني ذات عصر أجري في الشارع بخلاف عادتي لاعبًا مع بعض صبية الجيران، فلما تحروا الأمر اتَّضح لهم أني أجاريهم توسُّلًا إلى غرض آخر؛ هو أن أظفر بدعوة منهم إلى حفل فرح أقيم عندهم تُلقى فيه الأغاني والفصول الفكاهية من بعض المطربين المشخصين. كذلك لم أتعلَّق بألعاب التسلية مثل الطاولة، ولقد حاول والدي نفسه عندما كبرت قليلًا أن يُعلِّمني الطاولة التي كان يعرفها كما يعرف كل شيء لمجرَّد المعرفة في أحد المقاهي، لقتل الوقت، وقد كنت معه مرة وهو في انتظار أحد السماسرة، ولكن هذه اللعبة أيضًا لم تدخل عقلي ولا مزاجي … بل حتى أصدقائي فيما بعد لم يستطع تحمسهم للطاولة أن يغريني … كنت أتركهم هم يلعبون ويزعمون لهم أني أراقبهم، وأطلق العنان لأشطح مفكرًا في أشياء أخرى … ولعل خصلة «السرحان» جاءتني من هنا … وكنت أحيانًا أحاول أنا إغراءهم بترك الطاولة والدخول في مباراة أجدى في صورة جدل حول موضوع من الموضوعات … وخُيل إلي بعد ذلك أني كدت أتعلق بلعبة «البلياردو»؛ لأنَّ من الممكن أداءها والعقل يفكر في شيء آخر … وهذا خطأ … فكل لعبة يجب أن تمارَس لذاتها بكل الجوارح، وفشلت فيها أيضًا … وهذا من أكبر أخطاء حياتي ألا أتعلَّق بلعبة … تركت حياتي جافة مجردة.
أما الألعاب الرياضية أو البدنية في المدارس، فما كانت أيضًا تستهويني … لذلك كنت أجتاز هذا الفريق المتحمس لكرة «الشراب» عند انصرافي من المدرسة دون أن أتوقَّف لأُلقي عليهم نظرة … إلى أن كان ذات عصر، وجدت «حلمي بهجت بدوي» قد اعترض طريقي وقال لي: «تعالَ قف حارسًا للمرمى في فريقنا، لأنه ينقصنا واحد …»
فلما اعتذرت بقولي إني لا أعرف هذه اللعبة، قال إنها من أسهل الأمور، وما عليَّ إلا أن أقف بين حجرَين يُمثلان المرمى، وأمنع الكرة من الدخول بينهما … وقبل أن أجيب كان قد أحاط بي هو وفريقه ووضعوني وضعًا وسط مرماهم … ودار اللعب أمامي حامي الوطيس، وتلاطم موج المتزاحمين من الفريقين، وجعلوا يتدافعون بالمناكب ويتقاذَفون الكرة بالأقدام، واحتدم اللعب وعلا اللجب واشتدَّ الضغط على المرمى الذي أنا حارسه … وانتشر التراب فوسخ الثياب … وثار الغبار فأعمى الأبصار وملأ الخياشيم فتركت المرمى إلى مَن ينعاه، ورحت أسبُّ مثل هذه اللعبة السخيفة … وأسخر من لاعبيها … وما من واحد منهم قد فطن في زحمة الهجمة والمعمعة إلى أن المرمى خالٍ خاوٍ لا حارس له إلا الله! … على أن عين حلمي بهجت لم تلبث أن لمحَتْني فاقترب مني وقال برفق: «أرجوك المسألة جدٌّ وتُهمنا … ولا يصح أن ننهزم أمام الفريق الآخر وأنت حارس مرمانا!»
فأثَّر قوله في نفسي ونهضت قائلًا له: «اطمئن … لن ننهزم أبدًا، ولن تدخل الكرة مرمانا أبدًا.»
ووقفت فعلًا بين حجرَي المرمى … ولكني أمام كل هجمة من الفريق الآخر كنت أزحزح الحجرين بعيدًا دون أن يَشعروا … وأصبح بذلك مرمانا مُتنقلًا متحركًا لا يمكن أن تصل إليه كرة الخصوم أبدًا … تلك هي الصورة الأولى لصلتي بحلمي بهجت بدوي … أما صداقتنا الحقيقية فلم تنشأ إلا في فرنسا … وفد علينا — بعد شهور من سفري إليها — في بعثة تضم «مصطفى القللي»، الذي أصبح فيما بعد عميدًا لكلية الحقوق، وأحد المُشرِّعين لقانوننا الجنائي، وأحد محامينا الكبار، وعبد الحكيم الرفاعي الذي أصبح فيما بعدُ محافظًا للبنك الأهلي ثم للبنك المركزي … وسرعان ما ربطت الصداقة بين ثلاثة منَّا بنوعٍ خاص، حتى أصبحنا في باريس نُسمى الثالوث الذي لا تَنفصِل أضلاعه في نظر الزملاء من مبعوثي الحقوق الذين عاصَرُونا ولحقوا بنا … كان هذا الثالوث مكوَّنًا من حلمي بهجت بدوي، ومصطفى القللي، ومني … ذلك أن ما كان يربطنا نحن الثلاثة من بين طلاب الدكتوراه في الحقوق هو ذلك الشيء الزائد على القانون، الذي كان يُميِّز حلمي بدوي ومصطفى القللي: حب الثقافة والرغبة في المعرفة … كان القللي شاعرًا قديمًا له قصائد رصينة أيام ثورة ١٩١٩م، لكن هذا لم يمنعه من التفوق والتخرج من بين أوائل الليسانس … وأصبح بذلك له الحق أن يُوفَد في بعثة … وعند ذاك قال قائل: «إنه شاعر.»
وكانت هذه كافية وقتئذ لتُضيع عليه البعثة لولا عون من الله يومها، والقللي يخشى هذا الوصف … ويكبُّ على القانون يتبحر فيه، على أن الطبيعة الداخلية لا تُقهر … فهو وإن كان قد قطع كل صلة له بقرض الشعر إلا أن تذوقه لكل ما هو فن وثقافة ظل حيًّا ينمو ويتطور … أما حلمي بهجت بدوي فهو شخصية عجيبة … لم نعرف عنه اتجاهًا فنيًّا بعينه ولم يمارس بنفسه نوعًا من أنواع الفنون … ولكنه عقلية ممتازة فتحت نوافذها على كل ألوان المعرفة، وقلب حساس بكل أنواع الفنون … بينما نراه غارقًا في أشد فروع القانون جفافًا — وهو القانون المدني — ميدان تخصُّصه، نراه إذا جاء ذكر الشعر أو الموسيقى أو الأدب القصصي أو المسرحي يتحدث فيه ويعيش بوجدانه كما لو كان ميدان اختصاصه أو كانت معلقة عليه أنفاسه، فإذا خرجنا من هذا إلى علوم الاقتصاد أو السياسة أو الحوادث العامة في باريس أو الأخبار والأحوال الدولية في العالم كانت مشاركته في كل ذلك مشاركة الباحث المتعمق … إنه كان التكامل العقلي والعاطفي على أتمِّ تكوينه في إنسان! … وما كان يُخفي عني خطوط المستقبل كما رسمها لنفسه … لقد كان في حسابه أن يكون وزيرًا … ولم تكن هذه الكلمة عنده من مطامع الشباب الرخيصة … بل كان لها معنًى عميق … الوزير أو رجل الدولة في نظره يجب أن يكون مُكوَّنًا تكوينًا محيطًا، لأنه سيحيط يومًا بكل مستقبل أمة … في نواحيها المختلفة … ومع ذلك وبالرغم من هذا التخطيط لمستقبله فإنه لم يسعَ فيما بعد كما سعى بعض زملائنا إلى الوزارة، من أسهل وأبخس الطرق، بالالتجاء إلى الأحزاب أو الاتصال بالشخصيات السياسية … على العكس … لقد ظلَّ مُتعففًا أَنوفًا بعيدًا عن الصغار السياسي والدجل الحزبي، عاكفًا على عمله كأستاذ في الجامعة حيث وضع كتابًا في القانون المدني ليس كسائر الكتب التي أُلفت فيه؛ فقد كانت شخصيته المتفردة المحيطة تجعل له نظرة خاصة حتى في القانون. كانت له فكرة تُراوده دائمًا من زمن ويفاتحني بها كأمل من آماله؛ وهو أن يؤلف في القانون المدني شيئًا على نمط خاص … لاحظه هو وعجب أن رجال القانون جميعًا لم يلتفتوا إليه. ووضع كتابه ونال عليه جائرة الدولة الكبرى … ثم تقلَّب في مختلف المناصب الكبيرة والوزارة التي تطلع إليها في شبابه في متناول اليد ولا يتقدم إليها … إلى أن طلبوه وزيرًا للمالية قبل ثورة ١٩٥٢م فرفض … وألحُّوا عليه فأصر على الرفض … ذلك أنه لم يكن يريد الوزارة لمجرَّد أن يكون وزيرًا … لم يقبل إلا فيما بعد عندما أحسَّ أنه يستطيع أن يفعل شيئًا وبالفعل صنع أشياء … عندما كان وزيرًا للتجارة وللاقتصاد … إلى أن احتيج إليه في منصب أكبر فكان هو أول رئيس لهيئة قناة السويس عند تأميمها … حتى اختاره الله إلى جواره والوطن لم يزل في حاجة إليه … إني كلما ذكرته ذكرت معه مراحل العمر كلها: من عهد الكرة «الشراب» إلى عهد باريس والشباب، إلى عهد الرجولة والوظيفة … عندما كان أستاذًا بكلية الحقوق، وكنت أنا مديرًا للتحقيقات بوزارة المعارف اتَّفقنا على السكن معًا في شقة بالجيزة … كان يعرف عني العزوف عن مشاغل السكن وإدارة شئونه … فكان يتولى ذلك عني، عن طيب خاطر، كل ما كان يخشاه مني، كما كان يقول، هو أن يَستيقظ ذات صباح فيجدني قد حملت حقائبي وفررت؛ تاركًا له خطابًا أعلنه فيه بسأمي وضجري من هذه الحياة وعودتي إلى الفندق، فيتحمَّل هو وحده أعباء عقد إيجار السكن الكبير! … أدخل هذه الفكرة في رأسه يومًا صديقنا الدكتور حسين فوزي، عندما كان يأتي إلى زيارتنا من الإسكندرية، حيث كان يُدير وقتئذ معهد الأحياء المائية … كان يذكِّره بما كنت أفعله في باريس … من التنقل المفاجئ من فندق إلى فندق، ومن حي إلى حي، ومن «أسرة» إلى «نُزُل»، ويروي له ما حدث معه يوم رجوته أن ينقل لي في الخفاء أمتعتي وعفشي من منزل أسرةٍ كنتُ أقطن بينها في «كوربفوا» … فذهب صديقي فوزي وهو يتعثر خجلًا، فقابلته ربة الأسرة … تلك التي كانت تُصاحبه على البيانو وهو يعزف على الكمنجة، كلما زارني … حسبته جاء للعزف والتطريب، وهو ما جاء إلا «للعزال» والتهريب! … كان «حلمي» يسمع من «فوزي» أمثال هذه الحكايات فيلعب الفأر في عبه ويلتفت إليَّ قائلًا في ابتسامته الوديعة: «إياك تعملها معي!»
فكنتُ أطمئنه وأزيل مخاوفه … وبالفعل لم «أعملها» ولم نفضَّ شركة السكن إلا عندما شرع هو في الزواج … عندئذ فقط عدتُ إلى سُكنى الفنادق، وأنا أسأله عما يجب أن أهديَ إليه بمناسبة زواجه؛ فإذا به لدهشتي وعجبي يطلب شيئًا لا يخطر على البال، لكنه، على كل حال لا يمكن أن يخطر إلا على بال مَن كانت له ثقافة «حلمي بهجت بدوي» وشخصيته … قال: «الهدية الوحيدة التي أطلبها هي: المسوَّدة الخطية الأولى لكتابك «عودة الروح»!»
وعندما مرض مرضَه الطويل لم أكن أنا مع ذلك من بين عوَّاده العديدين … كان يعرف شعوري على البعد، ويَعرف طبعي السيِّئ ويَغتفره لي. والمرة الواحدة التي لقيته فيها قبيل وفاته استقبَلَني بابتسامتِه الودودة الصافية … وعندما تدفَّقت الخطب والكلمات في حفلة تأبينه لم أكتب عنه كلمة … ولكنِّي واثق أنه كان في قبره يحمل لي نفس الودِّ ونفس الحب … لأنه كان عظيمًا.
رحمة الله عليك أيها الصديق الوفي! … يا مَن كان لشبحك … لمجرَّد شبحك خلف النافذة أكبر حافز لي على الجلَد والمذاكرة … وإذا كنتُ قد نلت ليسانس الحقوق في ذلك العام الميئوس منه، فإن الفضل كان لظلِّك الماثل عن بُعدٍ رمزًا للإرادة والإصرار!
١٦
كان لوجود اسمي بين الحاصلين على ليسانس الحقوق أكبر مُفاجأة لي … فقد ذهبت بعد الامتحان مباشرةً إلى الإسكندرية بين الأسرة في ذلك المنزل الكبير، وأنا أبعد الناس عن التفكير في النجاح … كان كل تفكيري متَّجهًا إلى إتمام تلك الأوبريت أو «الأبراكوميك» «علي بابا» كما كنتُ أسميها … حتى تكون مُعَدة للموسم المقبل … وفجأة دق جرس التليفون فلم أُلقِ إليه بالًا … ولكن أذني سمعت صيحة فرح من والدتي وهي تُردِّد في التليفون قائلة: «الله يبارك فيكم! … الله يبارك فيكم!»
فقلت لنفسي بغير اكتراث: «يُباركون لمن يا تُرى؟!»
ولم ألبَث أن رأيتُ كل من في البيت يدخل ويصيح بي: «مبروك!»
فقلت: «لماذا؟»
فقالوا: «نجحت في الليسانس!»
فلم أُصدِّق … إلى أن جاءوا بالصحف … وطالعتُ فيها العبارة المألوفة وقتئذ: نجح في شهادة الليسانس الأفندية الآتية أسماؤهم. وبحثتُ عن اسمي بسرعة فوجدتُه قبل الأخير باسمَين … فحمدت الله أن وُجد اثنان أسوأ مني! … وكان فرحي عظيمًا، فحسبي أني نجحتُ ونِلتُ الليسانس والسلام … ولكني بعد الفرحة جعلت أتأمَّل المستقبل بعين الحيرة والتساؤل … الآن ماذا أنا صانع؟ المحاماة؟ … النيابة؟ … لم تكن ميولي متَّجهة في هذا الطريق … لم أفكر طويلًا … فقد شُغلت عن التفكير بمجيء جوقة عكاشة إلى الإسكندرية ذلك الصيف لتُمثِّل رواياتها — ومن بينها رواياتي — على مسرح كان يُسمَّى «تياترو زيزينيا»، وانغمرت بالطبع وسط الممثلين والمُطربين … كنتُ ليلَ نهار بينهم، وكانوا قد نزلوا في فندق مُتواضع بشارع البورصة، مملوء بحانات البيرة … كان المُمثل الكوميدي الأول المرحوم محمد بهجت لا يحلو له إلا النزول من فندقِه إلى قارعة الطريق يجلس إلى إحدى موائد الحانة على الرصيف بالجلباب والقبقاب! … وكان مُدير الفرقة زكي عكاشة قد نزل في فندق آخر فاخر يَليق بمقامه، مُكتفيًا بالمرور كل صباح في عربة لا ينزل منها؛ بل يُشرف من علٍ بكل تعاظُم على أعضاء فرقته … فما إن كان يرى بهجت في جلسته تلك حتى يقول بازدراء: «جلابية وقبقاب في الشارع العمومي … الكوميديان الكبير بتاعنا؟!»
فيرد عليه محمد بهجت رحمه الله بقوله: «وأنا كنت طلعت بالقبقاب والجلابية في دور السلطان صلاح الدين أو ريكاردو قلب الأسد؟! … أنا هنا في الشارع سلطان زماني! … بقبقاب، بصرمة قديمة … أنا حر!»
فيترفَّع زكي عكاشة عن الرد ويُصعِّر خدَّه ويكتفي بأن يأمُر الحوذي بصلف وعجرفة: «سوق يا أسطى!»
فما إن تبتعد العربة حتى يَبصق محمد بهجت في أثره بصقة كبيرة وهو يقول: «رح … داهية تسمك في تقل دمك!»
ثم يَلتفت نحوي وأنا جالس إلى المائدة بجواره: «مش كده في محله؟!»
فأوافق على كل تصرُّفاته راضيًا ضاحكًا.
لستُ أدري من الذي أبلغ أهلي بانغماسي في وسط «المشخصاتية» … أهو أحد المعارف أو الأقارب لمَحني بينهم؟! كل ما أعلم هو شعور داخَلَني بأنهم بدءوا يَرتابون في أمري … وفي ذات يوم جابَهَني والدي بأمرِ مُستقبَلي … وقال لي إن التحاقي بالنيابة العمومية مُتعذِّر الآن لأنه لا يَلتحق بها غير أوائل الدفعة وأنا من الأواخر … فلا مفر إذن من اشتغالي بالمحاماة فترة، وإنه بادر بالفعل وأدرج اسمي في جدول المحامين المشتغلين ودفع عني الرسم والاشتراك، واختار لي المكتب الذي أعمل به … فلمَّا رأى عدم تحمُّسي وانصرافي، صارحني بقوله: «تعالَ قل لي! … أنت غرضك تشتغل بالتشخيص؟»
فقلت له ملطفًا العبارة: «أنا أحب الأدب، وأريد الاشتغال بالأدب!»
فقال بلهجة خوف ونُصحٍ وتحذير: «أنت تريد أن تفعل كما فعل لطفي؟»
فسألته: «لطفي من؟»
فقال: «لطفي السيد، كان زميلنا في القضاء فجعل يقول الأدب الأدب، إلى أن ترك القضاء واشتغل جرنالجي، ولم تنفعه شغلة الجرائد فعاد إلى الوظيفة … وساعَدَه الزملاء القدماء من أمثال ثروت باشا وصدقي باشا فوضعوه في النهاية في مخزن اسمه دار الكتب!» شاء القدر الساخر فيما بعدُ أن أترك الوظيفة أنا أيضًا بعد وفاة والدي لأشتغل في الصحافة «جرنالجي»، ثم أعود إلى الوظيفة في نفس هذا «المخزن الرسمي دار الكتب!» ومَن عاب ابتُلي!
والواقع أن الأدب أو الاشتغال به وحده لم يكن من الأمور التي تؤخذ على سبيل الجد في مُجتمَع لم يكن يمنح الاحترام والجاه والمال إلا للباشوات أو لأصحاب السلطان والمناصب في الحكم والإدارة والقضاء … ولولا أن «شوقي» الشاعر كان له منصب هام في السراي، وكانت له ثروة، لنظَر إليه المجتمع وقتئذٍ نظرته إلى زميله حافظ إبراهيم … لا أكثر من صعلوك أو مُهرِّج في أعين كبار رجال الدولة، يتعطَّفون عليه بوظيفة يُلقون بها إليه في منٍّ وترفُّع … لم تكن هنالك أمثلة مُشجِّعة في الأدب … كان الأعلام المتربعون على عرش الشعر والنثر هم: شوقي، وحافظ، والمنفلوطي … على أن اهتمامي الخاص بالمسرح جعلني أكثر التفاتًا إلى محيط كُتَّابه الأعلام من أمثال: محمد مسعود، ومحمد تيمور، ولطفي جمعة، وإبراهيم رمزي … لم أعرف «شوقي» شخصيًّا إلا فيما بعد عندما اتَّجه إلى المسرح، وتهيأ لتأليف «مصرع كليوباترا». كنت وقتذاك في باريس … وجاءها هو ذات صيف … وتلاقَينا في مقهى «دار كور» الذي كنت أتردَّد عليه بالحي اللاتيني … قال لي إنه كان يحضر تدريبات كثيرة لمسرحيات جوقة عكاشة، ومن بينها فيما يظن مسرحية لي؛ إذ قيل له يومئذٍ إن مؤلفها غائب في باريس. وسألني قائمة بكل المسرحيات الفرنسية التي تناولت كليوباترا ليطَّلع عليها.
أما قبل سفري فكنتُ أسمع من حين إلى حين أن شوقي بك الشاعر الكبير ضجر من هجوم بعض شباب الأدباء والشعراء عليه وعلى شعره … كما بلَغَ مسمعي أن شابًّا أزهريًّا مكفوفًا نابغًا يُهاجم بمقالاته العنيفة علماء الأزهر المتجمِّدين — دون أن يخطر لي على بالٍ أنه بعد نحو عشرة أعوام ستنشأ بيني وبين هذا الأزهري النابغة صداقة … وسنمرح معًا على جبال الألب ونسجل معًا مرَحنا في كتاب — لكن كل ذلك لم يكن صداه وقتئذ يتعدى بيئته، ولم يكن قد اتخذ الدوي الذي يصل إلى كل الآذان، ولا اتخذ من الاتساع والأهمية ما سُمي فيما بعد بمدرسة التجديد … على أن هذا كله قد تغير بعد أعوام قلائل تغيُّرًا سريعًا مذهلًا … إذ ما كدتُ أعود من فرنسا حتى وجدت أوضاع مصر السياسية في تطوُّرها السريع، وما نتج عنه من برلمانات وأحزاب تُنفق الأموال بغير حساب على ألسنةِ حالها من الصحف والكُتَّاب، قد رفعت من شأن الصحافة وكتَّابها، في الوقت الذي تدهور فيه المسرح وكتَّابه … عدتُ فلم أجد جوقة عكاشة … لقد أفلسَتْ واختفَت … ومسرح رمسيس آخذٌ في الترنُّح والاحتضار … وأسماء: محمد مسعود، وعباس علام، ولطفي جمعة، وإبراهيم رمزي وغيرهم … قد انطفأت بانطفاء أضواء المسرح … ولمعت أسماء جديدة مع الْتِماع نجم الصحافة … برزت أسماء: طه حسين، وهيكل، والعقاد، والمازني … لم تَعُد هذه الأسماء تُذكر غامضة باهتة ضائعة بين الأضواء الكثيرة التي كانت تُسيطر على سماء الشعر والأدب والمسرح قبل مغادرتي مصر، بل هي الآن بدورها مضيئة واضحة بارزة في أفق السياسة، ثم الأدب … ذلك أن أولئك الشباب بدءوا في الصحف السياسية ونمو بنموِّها، ولما كانوا بحكم تكوينهم وميولهم شُعراء وأدباء فقد انتهزوا الفرصة وجعلوا يُقرِّرون لشعرهم وأدبهم مكانًا … كانوا يكتبون المقال السياسي المطلوب، ثم يحتفظون لهوايتهم الأدبية بصفحة أو بضعة أعمدة، قد لا تهمُّ أحيانًا رجال السياسة ولا أصحاب الصحف من أعضاء الأحزاب، ولكنَّهم يَحتملونها منهم كرامة للمقالات السياسية … وهكذا استطاعوا أن يُتابعوا تجديدهم في النقد والشعر والأدب … في حين أن كتَّاب المسرح قد انتهوا بانتهائه … وقد فُجعتُ حقًّا بما حدث للمسرح … في الوقت الذي عدتُ فيه حاملًا في جعبتي محصولًا غزيرًا لمختلف ثقافاته … وخطر لي أن أبحث عن صديقي القديم مصطفى ممتاز، أتنسَّم منه روائح عهدنا الغابر … فوجدته قد انصرف انصرافًا تامًّا عن الكتابة على الإطلاق، وقال لي في نبرة حزن وأسًى: «المسرح مات!»
وسألته عما يفعل إذن؟ … فقال بهدوء وجد: «أشتغل بتحويل النحاس إلى ذهب!»
وخِلته يمزح … وإذا به يؤكد لي أن هذه هي هوايته الآن … وأنه يُطالعها في الكتب القديمة، وأنه غارق لأذنَيه في تلك الكتب وقد أحاط ببعض ما فيها من عجائب وعلوم وأسرار … ولما سألته عما إذا كان قد استطاع فعلًا أن يُحوِّل شيئًا من النحاس إلى ذهب … وقد كادت تغريني أنا أيضًا الهواية، أجاب أنه قد تم له ذلك بالفعل … إلا أنه بعد أن جمع كل ما وصلت إليه يده من أواني البيت النحاسية وصهَرَها وأطلق عليها البخور وقرأ التعاويذ لم يُنتِج منها إلا قطعة صغيرة جدًّا من الذهب، لا يُساوي ثمنها نصف ثمن النحاس الذي صهر … وتلك كانت المشكلة التي تشغله ويُحاول أن يجد لها حلًّا، هذا فضلًا عن صعوبة استحضار الجن بالبخور والتعاويذ … لأنَّ هذا مُرهق غاية الإرهاق … فلما رأى في وجهي الدهشة جعل يشرح لي حقيقة عالم الجن وما يحدث فيه، وصِلَته بعالمنا الآدمي، شرحًا مستفيضًا بحديثه الطلي المقنع الممتع، ودراسته المفصَّلة الطويلة لهذه الشئون، حتى خلت نفسي آخر الأمر محاطًا من كل جانب ﺑ «بسم الله الرحمن الرحيم» إخواننا «أهل تحت»، ووجدت صعوبة كبرى في أن أعود إلى نفسي وأطفو على سطح الحياة اليومية التي جئتُ منها … وغمرني الموضوع غمرًا، وأنا دائمًا أُصدِّق أعاجيب القوى الخفية، سواء أطلق عليها اسم الجن، أم اليوم اسم الإلكترون … فلما أفقت قليلًا أردت تغيير الجو، والعودة بصديقي القديم إلى الحديث في المسرح، فأبديتُ له الرغبة في معاودة الكتابة للمسرح بطريقة جديدة واتجاه آخر وتأليف حقيقي بعد الاطلاع والخبرة والدراسة التي اكتسبتُها من الاتصال الثقافي بالفن والأدب في الخارج … فقال لي بإخلاص وصراحة: «اسمع كلامي لا تُتعب نفسك! … هذا مجهود ضائع … المسرح المصري كعهدنا به قد انتهى!»
وقد صدق … فالمسرح في مصر وقتئذ كان فعلًا قد مات. ولم أُحاول مرةً أخرى الحديث مع ذلك الصديق القديم في أمر المسرح، ولم أُقابله بعد ذلك إلا عرَضًا منذ سنوات، وكان قد تقاعد واستبدل بمعاشِه أطيانًا من مصلحة الأملاك، مثل كثيرين غيره من الموظَّفين السابقين الذين وقعوا تحت الإغراء، وتسلَّموا من المصلحة أرضًا محتاجة إلى استصلاح في نظير جنيهاتهم المضمونة نقدًا وعدًّا أول كل شهر … فلمَّا رآني صاح بروحه المرحة قائلًا: «وهذه المرة قد نجحت في تحويل الذهب لا إلى نحاس فقط بل إلى تراب!»
رحمة الله على ذلك الصديق العزيز والمسرحي الممتاز.
على أنَّ موت المسرح في تلك الفترة أمرٌ يدعو حقًّا إلى التساؤل عن أسبابه … وما من شك أنَّ تطاحُن الأحزاب السياسية كان قد صرَف الأذهان عن الفن وأهله … كما أن الأزمة المالية التي اجتاحت العالم عامة ومصر خاصة حوالي عام ١٩٣٠م — ولعلَّ هذا أهم سبب — قد أثرت فيما أثرت على المسرح … لم أجد إذن أمامي أي مجالٍ لتمثيل ما كنتُ قد كتبت في ذلك الحين من مسرحيات منوَّعة … لم يبقَ على نشاطه الأول إلا فرق الهواة مثل جمعية أنصار التمثيل … فوجدت فيها حلقة الاتصال بالماضي فكتبت لها خاصة مسرحية «رصاصة في القلب» … وسلمتها للزميل القديم سليمان نجيب، وأردت بها أن تخرج عن الكوميديات المقتبسة الكاريكاتورية المعتمدة على النكتة اللفظية ومواقف المفاجآت الهزلية التي كان بطلها كشكش بك وبربري مصر الوحيد، وأن أجعل الحوار فقط بين شخصيات طبيعية هو الذي يَنبعث منه كل الأثر، ولكن الخمول لم يلبث أن دبَّ أيضًا في جمعية أنصار التمثيل فبقيت هذه المسرحية أيضًا بلا تمثيل … إلى أن قامت الصحافة الجديدة الناهضة بتخصيص مكانٍ لي كان هو بمثابة «مسرح خاص بي» على الورق، أعرض عليه ما يحلو لي من صور الحياة والمجتمع غير مقيَّد باضطراب أحوال الفِرَق المسرحية من حولي وأزماتها المتكررة في ذلك الحين، مما حال دون انقطاع حبل اتصالي واهتمامي بالمسرح والتأليف المسرحي.
١٧
لم يكن إذن من السهل بعد حُصولي على ليسانس الحقوق أن أُقنع والدي بجدية العمل للأدب، وما يمكن أن يكون له من مستقبل. والأسماء اللامعة فيه وقتئذ، كما ذكرت، لا تُشجع على الاحتجاج بها … فلطفي السيد لم يكن قد أصبح بعدُ مديرًا للجامعة أو وزيرًا … وشوقي بك الشاعر لو ذكرتُه لوالدي لردَّ بأن مكانته في المجتمع مُستمَدة من وظيفته السابقة في السراي ومن ثرائه الواسع … أما حافظ إبراهيم المسكين فحُجته ضدِّي لا لي … فقد أدَّى به الأدب إلى التسوُّل، فطلب الوظيفة فعيَّنوه وكيلًا لدار الكتب … والمنفلوطي كان دائمًا موظفًا هو الآخر، وكذلك محمد مسعود، وإبراهيم رمزي، أما لطفي جمعة، فكان محاميًا … لا بدَّ إذن في النهاية من الوظيفة أو ما في حُكمها حتى يُمكن حمل كارثة الأدب في بلادنا … وحتى أولئك الذين استطاعوا حمل هذه الكارثة بمعاونة الوظيفة؛ لم يَسلموا من لعنة تلاحقهم في وظائفهم وأعمالهم الأخرى بسبب الأدب … ومع ذلك لم يكن والدي يَكره الأدب في حد ذاته، أو يزدريه في قرارة نفسه … فهو ما زال يحتفظ بحبِّه القديم له … ولطالما سمعته في خلوته يترنم بأبيات من شعر الجاهلية يُدلِّل بها على أمر من الأمور، أو تصرُّف من التصرفات، أو يصف بها شخصًا من الأشخاص … حقًّا لم يَنظِم بيتًا واحدًا من الشعر منذ تزوَّج … فقد كان كل نظمه وهو شابٌّ أعزب … ولست أدري لماذا لم أهتمَّ بجمع ما نظَم … ربما لأني لم أكن أعلم أني سأكتب عنه يومًا أو عن نفسي … على أن الذي يخيَّل إليَّ هو أن شعر والدي ربما كان يتَّجه أكثره إلى الحكمة، ليس لأنَّ العواطف لا تُهمه … على العكس … لقد كان رحيمًا إنسانيًّا تحت مظهر جاد من الرزانة والاتزان … لم يكن فياضًا بالعاطفة جياشًا بالشعور المتفجِّر كزبد البحر العاصف مثل والدتي … فقد كانت له القُدرة على أن يفصل عاطفته عن عقله … كان كل شيء عنده — حتى أحب الأشياء وأقدسها — يخضع لميزان عقله وفحصه ويُعطيه ما له وما عليه بالحق والعدل … على عكس والدتي التي تَملكها العاطفة ولا تعرف الفحص ولا الميزان … فهي الانطلاق والإغراق، إما حبٌّ فيَّاض وإما كرهٌ ماحق … لا وسط عندها ولا اعتدال … لكن نفس والدي مع ذلك كانت شيئًا صافيًا مستقرًّا مُختفيًا تحت سطح بحرٍ هادئ؛ لم يكن يُكثر الضحك … لم أره مرة يُقهقه … بل لم أسمع منه ضحكًا أو صوتًا مما يَندرج تحت هذا الوصف … كل ما رأيت وسمعت منه في تلك المواقف التي تستدعي الضحك هو الابتسام والهمهمة الخفيفة … إنه كان مُدققًا حقًّا في المال والكلام وفي كل أمر … على نفسه وعلى غيره … يُخرج من جيبه القرش والكلمة بحرص وفحص. على نقيض والدتي السخية دائمًا بطبعها … تُخرج النقود والكلمات بيُسرٍ جارف وكرم صاخب … وأمام هذا التناقض بين الوالدَين ورثتُ أنا فيما أعتقد الحيرة بينهما … فأنا في الغالب أميل إلى الاقتصاد والإمساك عن كلِّ إنفاق … سواء في نقود أو كلمات … ولعلَّ هذا من أسباب تفضيلي المسرحية … فهي فنٌّ اقتصاديٌّ بخيل … الكلمات فيها محسوبة بدقة … والوقت فيها مقيد والحيز فيها محدود … لا محلَّ فيها للإسراف والانفلات … غير أني أحيانًا تظهر عليَّ نوبة انفلات خاطفة أو إسراف في القول والمال مفاجئ لا ألبث أن أفيق منه فأمسك ثم أنطلق ثم أمسك … وهكذا … كما تَنطلق مني أحيانًا غضبة مفاجئة أو انفعال مُلتهب مباغت أو تدفق كلامي مُتحمس فأفطن إلى نفسي وأهدأ بعدها ثم أعود وهكذا … إنه الصراع بين والدي ووالدتي في أعماق نفسي! إني دائمًا بين شدٍّ وجذب ككفتَيْ ميزان، في كل شيء. على أن والدي رغم ذلك كان ذا نخوة ومروءة، خدَم أناسًا كثيرين دون أن يعلموا، أو تعلم يده اليُسرى بما صنعت يده اليُمنى … كنتُ أصادف أحيانًا رجالًا من أصحاب المناصب القضائية المُحترَمة، يُقبِلون عليَّ مُسلِّمين بحرارة قائلين: «الله يرحم والدك! … لولاه ما كانوا عيَّنونا في الوظائف.»
فقد كان عندما يرى محاميًا شابًّا يُجيد المرافعة أمامه يتطوَّع بنقل خبر امتيازه إلى النائب العام وزملائه ممَّن بيدهم الأمر قائلًا: «إذا أردتم شابًّا ممتازًا لا يملك واسطة يَصل بها إليكم فعليكم بفلان، لا أعرفه شخصيًّا، لا أعرف إلا كفاءته أمامي.»
فما كان يشعر فلان هذا بعدئذٍ إلا وهو مطلوب لوظائف ما كان يحلم بها … ولا يَعلم وقتها كيف هبطت عليه … كان والدي يحبُّ الإجادة والمجدِّين في كل عمل … كما يحب النظام والاعتماد على النفس … لعلِّي مثله في هذا: أحب النظام وأكره الفوضى … لا أُطيق ورقة مدشوتة «منكوشة» فوق مكتبي … وأُفضِّل أن أقوم بكل عمل لي بنفسي على قدر الإمكان … على أن دقة والدي أو تدقيقه في المال، الذي ذكرته منذ قليل لا علاقة له بالتقتير … إنه كان فعلًا مُدققًا … ولكنه لم يكن مُقترًا … لذلك هو لم يكنز مالًا … لأنَّ فكرة الاكتناز نفسها لم تخطر له … وهذا ما ورثته منه أيضًا … فأنا في بعض الأحيان يعجب من أمري معارفي إذ يَجدون أني أرفض أحيانًا إغراء المال وخاصَّة في بعض ما يمس الأدب والفن … أدقق حقًّا في حقوقي … ولكني لم ألتفت قط فيما أكتب إلى فكرة الرواج وما يروج ماليًّا والنجاح وما ينجح ماديًّا.
والدي في تصرُّفاته يجنح أحيانًا إلى نزعة شبه تصوفية … حتى في الطعام، كان يقول لنا على المائدة: «أيوجد من يأكل أكثر من موزة؟!»
وكان مُعتدلًا كل الاعتدال … وأنا مثله في ذلك … أكره كثرة الألوان على المائدة لأنها تُشتِّت متعتي … وأحب اللون الواحد المُتقَن … إني ذوَّاقة … وأعتبر اللون المتقن فنًّا جميلًا … وأحب أن أُركِّز تذوُّقي في لون واحد بديع الصنع.
على أن والدي في كل أحواله إنما يَخضع أيضًا إلى نزعة منطقية عقلية صارمة … ولكن المنطق العقلي غدار … فهو كما يقنع بالإمساك يقنع أيضًا بالإنفاق … لذلك ترى والدي يَستكثر ثمن فنجان قهوة في غير ضرورة وينفق بتهور على البنائين والسماسرة لمشروع خيالي اقتنع به … إن مصيبته أن يقتنع بشيء … ومن السهل دائمًا أن تكسبه بالمنطق … لقد كان مُتدينًا … يصلي الفرض ويصوم رمضان … ويحرص على إيقاظي عندما صرتُ شابًّا لأتناول معه السحور … فكنت أتسحَّر معه في الليل وأُفطر في الصباح، دون أن يدري … وعلى الرغم من تدينه هذا ما إن يُفتَح أمامه جدل عقلي في الجنة والنار مثلًا حتى يَنساق في التأمل المنطقي والتفكير المجرَّد إلى أن يمسَّ حافة الكفر … ناقشتُه مرة في هذا الموضوع بعد عودتي من أوروبا قائلًا له: «هل هناك حقًّا جنة ونار؟»
فجعل يقلب المسألة على وجوهها ويَبحثها كأنها قضية من قضايا المحاكم، نافذًا إلى الحكمة والعلَّة … وهل المقصود هو الترغيب والإرهاب أو أن المقصود جنة معنوية ونار رمزية، ويَمضي يُناقش الأمر مناقشة عقلية حرة إلى أن ينتهي من كل هذا إلى نتيجة تكاد تخالف نص القرآن فيَفطِن فجأةً إلى مزالق الكفر، فيستعيذ بالله ويستغفر ويقوم إلى الصلاة … وعندما أقول له ضاحكًا: «فيم هذه الصلاة وقد أنكرتَ الساعة ما جاء بكتاب الله؟»
يقول: «لم أنكر شيئًا إنما كنتُ أُفكر، الصلاة شيء وشطحات التفكير شيء آخر!»
أما والدتي فهي الإيمان المُطلَق بالله، بكل عواطفها الجياشة … ولا شيء غير ذلك … ولكنها ترى الله دائمًا في خدمتها هي وفي جانبها هي … ولا تتصور الله في جانب آخر!
ووالدي وإن كان قد هجر الشعر والأدب والكتب بعد زواجه، إلا أنه ظل مالكًا لناصية اللغة وجودة الأسلوب ودقة التعبير … كان عبد العزيز فهمي وهو رئيس لمحكمة النقض يعجب بأسلوب حيثيات أحكامه القديمة … وكان يُشير أحيانًا بنشر بعضها في مجلة «المحاماة» أو الجريدة القضائية، دون علمٍ من والدي … فما رأيت أحدًا ينفر من الدعاية لنفسه مثل أبي، ولا رأيت مثله أحدًا في تواضعه وقلة احتفائه بنفسه في ملبس أو مأكل أو مجلس، ولا سمعته قطُّ افتخر أمامنا بعمل له أو قول … ولا شاهدت قطُّ أحدًا مثله في نزوعه إلى الظلام والاختفاء بعيدًا عن الأضواء … ولا في ميله إلى الانزواء عن المجتمعات الصاخبة أو السمر مع السامرين في الحفلات والنوادي … ولا عرفت قطُّ أنه سهر ذات ليلة في ملهى من الملاهي … كانت حياته جافَّة صارمة … لا يعرف من وسائل الترفيه غير المشي على الأقدام طويلًا … فإذا قابَلَه أحد في شارع وسأله إلى أين؟ … أجاب بإشارة غامضة من يده، لا يستطيع أحد أن يفهم منها شيء … وإجاباته دائمًا فيما يتعلَّق بشخصه لا يمكن أن تنير سائله … فهو لا يحب أن يُلقي ضوءًا على شخصه، أو يريح الناس في أمره … تلك كانت طبيعته … أما والدتي فهي على نقيضه … مُعتدَّة بنفسها، تحب الضوء وتكره الخمول والظلام، وبين هذين النقيضَين ورثتُ كذلك حالة حيرة بين الرضا بالضوء والنفور منه … دون أن أدري أحيانًا لماذا أرضى ولماذا أسخط … بل لماذا أبتعد عن المآدب العامة والحفلات والدعوات والاجتماعات … حتى ليالي عرض مسرحياتي ذاتها قلَّما آنَسُ اليوم من نفسي الرغبة والدافع لحضورها … إلى حدٍّ جعل البعض يعتقد أني أتكلَّف ذلك تكلفًا … والحقيقة أني أضيق بهذا الطبع وأتأذى منه لأنه يحرمني الكثير … على أني لا أدري بعدُ أهو طبع ثابت عندي أم هو إحساس طارئ لدواعي الحالة الصحية والسأم النفسي … لستُ أدري بعد لكن المؤكَّد عندي هو أني فعلًا أنزعج وأنفر من أي اجتماع عامٍّ، وخاصة إذا تعرَّضت فيه إلى إلقاء كلمة أو طلب إليَّ فيه الكلام … فقد شعرت بعد أول مرافَعة لي في كرسي النيابة أمام محكمة الجنايات أني لا أَصلُح لمثل هذه المواقف، فأنا لست سريع البديهة ولا حاضر الذهن، مما يجعلني أبحث سدًى عن الكلمات والمعاني الهاربة من رأسي في اللحظة المفاجئة … ويَستولي عليَّ نوع من الفزع والارتباك … وحتى القراءة من ورقة أتلعثَم فيها إذا سلطت عليَّ عيون وأضواء وأحسست من حولي بمستمعين ورقباء … ولا أعرف من أين جاءتني هذه الكارثة … فوالدي — كما علمت — كان من أبرع المتكلِّمين والمترافعين منذ كان وكيلًا للنيابة … إلى حدِّ أن فاوضه يومًا أحد كبار المُحامين — وكانوا يومئذ لا يحملون شهادات — على أن يعمل معه محاميًا وشريكًا نظير مرتَّبٍ ما كان يتقاضاه يومئذ إلا المستشار، لكنه اضطر إلى الرفض … لأن أباه أرادَه في سلك القضاء، كي يُخيف به المُحضِرين الذين كانوا يَفِدون للحَجز عليه … هذا هو والدي … أما والدتي فهي الجرأة والذلاقة والانطلاقة بعينها … لا تعرف الارتباك في أي كلام والاضطراب في مواجهة أي موقف … أنا إذن المسئول وحدي عن هذه العلَّة … ولستُ أدري سببها … إلا أن تكون حالة الوحدة والصمت التي لازمتني شطرًا كبيرًا من حياتي.
شيء آخر كان يتَّصف به والدي؛ هو روح السخرية والفكاهة التي تنبعث من أقواله وأفعاله، دون تعمُّد، دون أن يبدو على وجهِه الرزين أي تغير … كانت جلساته في المحاكم — كما قيل — ممتعة مليئة بالمفارقات التي تَبدر منه وهو جادٌّ هادئ لا يبتسم … كان هناك رواة — كما علمت — يتذاكَرُون نوادره … منهم المرحوم المستشار زكي خير الأبوتيجي، الذي قيل إنه كان مُتخصِّصًا في نوادر «إسماعيل الحكيم»! … فقد بدأ حياته القضائية تحت رياسته، ويقول إنه عندما عُيِّن قاضيًا بمحكمة أسيوط. ذهب لاستلام عمله بها فرحًا نشيطًا، وإذا رئيس المحكمة، وكان والدي، يَستقبله بنظرةِ فحص وارتياب ويقول له: «هل عندك ما يُثبت أنك حقيقة القاضي الجديد؟»
فارتبَكَ القاضي الشاب إذ لم يكن يتوقَّع أن يُشكَّ فيه ويُطالَب بإثبات شخصيته.
ومضى والدي يقول له: «من يدرينا أنك لستَ إلا نصابًا محتالًا جاء يزعم أنه هو القاضي المعيَّن بمحكمتنا؟ … كيف نُجلسك معنا في الجلسة لمجرَّد ادعائك أنك القاضي الجديد؟! … اذهب يا حضرة إلى حال سبيلك!»
وحار القاضي الشاب الخجول … ولم يَدرِ ما يصنع؟ … وكيف يذهب إلى حال سبيله وهو مُعيَّن في هذه المحكمة؟
فالتفت إلى والدي مُستعطفًا قائلًا: «هل يعقل أني أقتحم المحكمة وأجلس معكم في الجلسة وأنا غير مُعيَّن في الوظيفة؟ … هل يبدو على وجهي أني محتال أو أني قاضٍ؟»
فنظر والدي إلى وجهه مليًّا ثم قال له: «من هذه الجهة يَصعُب الحكم … فأنت من وجهة يُمكن أن تكون هذا أو ذاك! … لكن على كل حال ادخل واجلس معنا ولنُجازف، على عهدتي والسلام.»
لا أظنُّ والدي كان جادًّا في هذا التصرُّف … ولكنه أحيانًا كان يمزح في صورة الجد … وعندئذ يختلط جده بهزله، دون أن يبدو الفرق للعيان … لم تكن شخصية والدي تلك ولا ميوله الدفينة إذن مما يجعله يتجنَّب الأدب … على العكس … إنه فيما يخيل إليَّ كان يود في دخيلة نفسه أن تُتاح له الفرصة للانطلاق على سجيته، واتخاذ الشعر والأدب مجاله وميدانه … تلك ولا شك كانت رغبته المكبوتة، كبتها في نفسه مجتمعُه وظروفُه العائلية والمالية … هذا الترف المُسمَّى يومئذ «الأدب» لم تكن تسمح به حالته المالية بالتأكيد، لا قبل الزواج ولا بعده، وخاصة بعده، والرغبة المكبوتة عند الآباء ربما كانت هي التي يورثونها للأبناء … ولو أن والدي تمكَّن من إفراغ كل ما في نفسه من رغبات وميول أدبية لأعفاني أنا وحرَّرني من نزعة الأدب، ولكنتُ أنا قد انصرفتُ طليقًا إلى شيء آخر … إنَّ أبناء رجال مثل لطفي السيد أو أحمد شوقي لم يَنزعوا إلى الأدب لأنَّ آباءهم لم يَكبتوا تلك النزعة، بل أفرغوها وأطلقوها بكل طاقتها وقوتها في حياتهم … لقد ألقى والدي إذن على كاهلي أنا ما لم تُهيئه له ظروفه هو أن يحمله … فما أنا إلا سجين رغبته، هو الذي لم يُحقِّقها، بل إنى سجين أشياء كثيرة أورَثَني إياها، فيها الطيب وفيها الرديء، كما ورثتُ عن والدتي خيرها وشرها … فهي طيبة القلب ولكن فيها رُوح شر، خصوصًا مع المعتدي … غير أنها لا تَعرف الخبث إطلاقًا؛ فهي صريحة، صراحة مُتحدية … أحيانًا … ولا تطيق أن تخفي في صدرها شيئًا … أما والدي فهو طيب نادر الشر، لكنه كثير الخبث، قليل الصراحة … وقد ورثتُ أنا من كل هذا بنِسَب متفاوتة.
هذا السجن الذي أعيش فيه من وراثات كأنها الجدران، هل كان من الممكن الخلاص منها؟ … حاولت كثيرًا كما يُحاول كل سجين أن يُفلت، ولكني كنت كمن يتحرك في أغلال أبدية … وبدت المأساة لعيني عندما خُيِّل إليَّ يومًا، وأنا أحلل نفسي، أني لا أعيش حياتي إلا في نسبة ضئيلة … أما النسبة الكبرى فهي تلك العجينة من العناصر المتناقضة التي أُودعت تلك النطفة التي منها تكوَّنتُ … والنِّسبة الضئيلة التي تُركت لي حرة من حياتي قضيتها كلها في الكفاح والصراع ضد العوائق التي وضعها أهلي أنفسهم في طريقي، ومن خلفهم المجتمع كله في ذلك الوقت … فوالدي الذي أورثني حبَّ الأدب هو نفسه الذي يصدُّني عن الأدب … ووالدتي التي أورثَتني الإرادة تقف بإرادتها دون رغباتي الفنية … حريتي الباقية لي إذن هي فرصتي الوحيدة وسلاحي الوحيد في مقاومة كل تلك العقبات … وحريتي هي تفكيري … أنا سجينٌ في الموروث، حرٌّ في المُكتسَب … وما شيَّدته بنفسي من فكر وثقافة هو ملكي. وهو ما أختلف فيه عن أهلي كل الاختلاف. ها هنا مصدر قوتي الحقيقية التي بها أقاوم.
نعم … تفكيري وتكويني الفكري … هنا كل حريتي … الإنسان حر في الفكر سجين في الطبع … ولستُ أدري أهي مجرَّد مُصادَفة أن أكتب عن تكوين الفكر في «زهرة العمر» قبل أن أكتب عن تكوين الطبع في «سجن العمر»؟ … إن زهرة عمرنا الفكر، وسجن عمرنا الطبع.
غير أنَّ والدي أمام إصراري على تكريس حياتي للأدب — رغم الصعوبات والنصائح والعقبات التي تُحاول صدِّي — بدأ يُفكِّر في أمري جديًّا … فجعل يَعرض عليَّ مَخاوفه بصراحة … قال إنه لا يُنكر عليَّ الأدب إلا باعتباره عملًا أساسيًّا في الحياة. فواجبه كأب أن يوجه ابنه إلى الطريق المأمون … والأدب ليس بالطريق المأمون الذي يكفل العيش لمن لا ثروة له … وهو يعلم أني لن أرث ثروة يمكن الاعتماد عليها، حتى يصحَّ لي الانقطاع إلى الأدب كما يفعل شوقي الشاعر، أو حتى لطفي السيد الذي سيرث يومًا عن والده الثريِّ السيد باشا أبو علي ما يُغنيه عن الارتزاق … لا بد لي إذن في عرف والدي من وظيفة تعولني ولا بأس معها من إشباع هوايتي للأدب … وختم والدي حديثه معي بقوله: «ومع ذلك فها هو ذا لطفي السيد … إنه موجود … تعالَ معي نعرف رأيه.»
وقادني إلى زيارة صديقه وزميله القديم … وكأني به تذكَّرَه فجأة … فما من شكٍّ عندي في أن والدي ما كان قد الْتقى بصديقه القديم هذا منذ أعوام وأعوام … فهو بطبعه يزهد في إنشاء أو إحياء الصلات المُفيدة، حتى مع أصدقائه الأقدمين ممَّن لمعوا في الحياة … وقد ورثت أنا عنه هذه الخصلة السيئة وزدتُ عليها، إلى حدِّ ضيقي وعجزي عن مراعاة أبسط قواعد المجاملات أحيانًا من تهنئة وتعزية وسؤال عن الصحة، حتى بالنِّسبة إلى أعز الناس … كما أنزعج أيضًا من سؤالهم عني … وقد عرف ذلك المتَّصلون بي … ففهموني وتركوني لطبعي هذا. أما عن دائرة اتصالاتي فهي أسوأ.
فأنا لم أُحاول عقد صلات، حتى مع من كان يَجب أن أتصل بهم من أدباء وفنانين، وخاصة ممن كتب عني أو مثَّل لي في الخارج … لقد كنت في باريس أخيرًا على مقربة من بعضهم فلم أقابل أحدًا منهم … ولقد سُئلت هناك عمن تربطني بهم الصلات من أدبائهم فلما أجبت: «لا أحد!»
قوبلت إجابتي بدهشة، ثم وُجِّهت إليَّ دعوات للالتقاء بالبعض فتقاعست، لا زهدًا بل انزواءً جثمانيًّا غريزيًّا غير مفهوم. إني أجفل دائمًا من أي صلة جديدة … لا أفتح باب نفسي بسهولة لأول طارق … وهذا التصرف الغريب يتكرر كثيرًا في حياتي ويضايقني … وكلما لُمتُ نفسي عليه وعزمت على تغييره أقع فيه مرةً أخرى … قلة نشاطي وحركتي هي دائي العضال … وقد أضاع هذا الداء عليَّ كثيرًا من الفرص والمُتَع في الحياة والفن … إني أعمل وأقعد عن السعي لإنجاز العمل … أنشط إلى العمل وأكسل عن النجاح … وإذا كان قد صادَفني في الحياة نجاح فإن كثيرًا منه قد هبَط على رأسي من حيث لا أدري ولا أتوقع … إني في أغلب أحوالي قاعد هامد … في حوارٍ دائم مع نفسي … في حركة دائمة داخل عقلي … أفكُّ الكون وأركبه … وكل شيء في العالم والمُجتمَع يهمني ويهزني ويحركني … ولكن جسمي لا يتحرك كثيرًا. إن لديَّ القدرة على أن أجلس الساعات بمفردي لا أصنع شيئًا … وكثيرًا ما يدهش الداخل عليَّ إذ يراني أحيانًا قاعدًا جامدًا، ليس أمامي كتاب أو ورق أو قلم، ولا حراك بي كأني تمثال من حجر … على أني ما انعزلتُ قطُّ ولا انزوَيت إلا بالجسم وحده. وإنه لمن الغريب أن أعيش دائمًا بكل روحي وجوارحي وتفكيري في كل مشكلات عصري، ولا أجد مِن جِسمي مثل هذه الحركة وهذا النشاط … عرضت لي مناسبات كثيرة للحركة والنشاط … دُعيت إلى السفر في كل مكان، وهُيِّئت لي فُرص لمشاهدة ما كان يجب أن أشاهد ومقابلة من كان يجب أن أقابل … لكنَّ قدرتي على إضاعة الفرص أكبر من قدرتي على انتهازها … ولكأني بالقدر يمنحني الفرصة وهو مطمئنٌّ لوجود الجهاز الذي يستطيع عندي أن يضيعها … إني لم أستطع حتى أن أنتهز فرصة وجود لطفي السيد نفسه على مَقربة مني، رئيسًا للمجمع اللغوي، وأنا عضوٌ فيه، لأتصل به الاتصال الذي يتيح لي التزوُّد بالمعلومات التي لا يعرفها غيره عن والدي وشبابه وجيله ومعاصريه … حتى ما سطرته هنا في هذا الشأن كان الذي جاء به مشكورًا هو صديق كريم كالعقاد رحمة الله عليه ورضوانه … نقلًا مباشرًا عن «عبد العزيز فهمي» الذي لم أتَّصل به هو أيضًا إلا عرَضًا … على أن همودي المادي وقعودي الجثماني إلى هذا الحد ليس في الواقع نتيجة وراثة … فمن الإنصاف القول إنَّ والدي، رغم زهده في أشياء كثيرة، كان كتلة حركة ونشاط في محيطه … لا يَقعد مثلي عما يرى فيه نفعًا لعمله … ولا يُضيِّع فرصة لمجرَّد هموده أو قعوده … أما والدتي فهي الحركة الدائبة بعينها … لا تعرف القعود أو الانزواء حتى وهي مريضة … فحص الطبيب قلبها مرةً وأمرها بملازمة الفراش، فلم تُطِق الرقاد يومًا واحدًا، وفضَّلت الموت على القعود، ونهضَت تحمل مظلَّتها وتسرح في الغيط، تُراقب البذر والحصاد وتطهير المصارف وعلف المواشي، ثم تعود إلى الجرن تقف على دراس القمح أو الأرز، أو وزن القطن، ونحو ذلك من الأعمال الشاقة … أنا إذن المسئول وحدي عن كسلي وفشلي … ولا أدري العلَّة … وعجزت عن العلاج … مع أن رأيي دائمًا أن الحياة قيمة في ذاتها وحركتها … وإذا كان أحد أشخاص «أهل الكهف» عندي قد قال: «إنَّ أية حياة منحة، وأثمن منحة تُعطى لمخلوق هي الحياة.»
فإني أنا نفسي مع الأسف لم أستَطِع الانتفاع بهذه المنحة كما ينبغي … لقد ضاع مني الكثير من قدراتي ومن موهبتي — إذا كان لها وجود — بسبب طبيعتي المثقوبة كالغربال بمائة ثقب من القعود والتردُّد والإهمال، بل إن السبب الرئيسي في عرف الطب — لما يتهدَّد اليوم صحتي — هو قلة نشاطي وحركتي … إني دائمًا أحاسب نفسي على كل ذلك وأسائلها: هل كان من الممكن أن أكون أفضل مما أنا في مجال الخلق الفني مع مثل هذا الطبع؟ … هذا الطبع الذي سجَنَني وفوَّت عليَّ الكثير من الفُرص الفنية؟! … يُضاف إليه طبيعة الظروف المحيطة بالأدب ذاته والفن في مجتمع معيَّن في زمن معين … تلك الظروف التي اقتضت من مثلي إضاعة الكثير من الوقت والجهد لتَعرف مواضع الخطى في فنون جديدة لم تكن أرضها وقتئذ مُعبَّدة؟ … لا أدري … كل الذي أدريه هو أني سأموت وأنا أتساءل: «لماذا لم أكن أفضل مما كنت؟ … وما هو هذا السجن الذي يحبسني فيما أكون؟»
كذلك سألت نفسي: «ما هو هذا الفن الذي نتجشَّم من أجله هذه المتاعب؟»
ما من شك أنه شيء محبوب … لأني أشعر نحوه بحبٍّ منذ فجر الطفولة … إن كل إنسان يولد وهو محبٌّ للفن في صورة من صوره … فالإنسان إنسان لأنه يحبُّ أن يتأمَّل ذاته ويعجب بها أو يضحك منها أو يفكر فيها … إن الفن هو أداة الإنسانية لتأمل ملامحها ومعرفة نفسها وهذا ما دفعها إلى التفكير والتطور. ولو أن الحيوان تأمَّل ذاته وعرفها وحللها لانقلب إنسانًا في التو واللحظة.
وأعود إلى والدي فأقول إنه قادني إلى صديقه أحمد لطفي السيد … كان يومئذ مديرًا لدار الكتب … دخلنا عليه فرحَّب بنا … وأجلسنا إلى جواره … كان جالسًا إلى ذلك المكتب الذي ظل على حاله بعد ذلك سنوات وسنوات … عين المكتب هو هو لم يتغيَّر … وفي نفس الموضع من نفس الحجرة.
قال له والدي: هذا ابني توفيق … حصل على ليسانس الحقوق وقُيِّد في جدول المحامين المشتغلين، لكن ميله متجه إلى الأدب.
فبدا على وجه لطفي السيد الرضا والارتياح … وبادَرَ يُؤيد رأيًا سبق أن خطر لوالدي وتردَّد فيه … قال لوالدي: «أرسله إلى أوروبا، يُحضِّر الدكتوراه، فإذا عاد بها عُيِّن أستاذًا في الجامعة التي تزمع الحكومة إنشاءها وفتحها قريبًا، أو في القضاء المختلط حيث الإقامة في مدن كبرى كالقاهرة أو الإسكندرية أو المنصورة، مما يُتيح له إشباع هوايته للأدب.»
فالتفت والدي نحوي قائلًا: «أظن هذا هو الحل …»
ونهضنا مُنصرفين شاكرين … وشيَّعَنا لطفي السيد إلى الباب ونحن نحمل نسخة من كتابٍ ترجمَه عن أرسطو أهداه إلينا … وما كدنا نخرج إلى ميدان باب الخلق حتى كانت فكرة السفر إلى أوروبا قد تأكَّدَت لدينا … وجعل والدي يحسب ما سيُكلِّفه ذلك من نفقات … لكنه لم يحجم… لقد كان سفري هذا في نظره إنقاذًا لي من هذا الوسط الفني الذي علمَ بأمر انغماري فيه، دون أي أملٍ في اهتمام جدِّي بمحاماة … أو غيرها من الأعمال المُحترمة … وعدنا إلى الإسكندرية وفاتحنا والدتي في أمر السفر … فوجمت قليلًا … ولم تتحمَّس أول الأمر … لأنها كانت قد وضعت في رأسها خطة أخرى: هي أن تُزوِّجني من عروس غنية وارثة، مما يُؤمِّن حياتي، في رأيها العمَلي، ويُحيطها بالضمان فقد كتبَتْ بالفعل ذات يوم خطابًا لوالدي تقول له فيه:
«اليوم حصل خبر غريب مُفرح، ولكن الخوف ثم الخوف من الحمار توفيق، وعليك أن توضع له عقله في دماغه ويَقبل هذه العروسة الهدية، وأنا منتظرة حضورك لأجل تتوجَّه للمجلس الحسبي قبل كل شيء، وتعرف ما هو مُتحوِّش للعروسة وكام إيرادها بالضبط … إلخ … إلخ.»
هذا ما خطته والدتي.
لكني أنا ووالدي لم نزل بها حتى أقنعناها برأينا … ولست أدري كيف لم يخطر ببالها وقتئذ أنَّ زواجي إذا حدث يومًا فإنه يكون على غرار زواج والدي نفسه من حيث بعده عن التفكير في مثل هذا الاعتبار؛ فالأساس عندي هو كما كان عنده: التوافُق في العقلية والتفاهم في الحياة … ولا شيء غير ذلك وقد تزوَّجتُ فيما بعد بالفعل خير زوجة.
وبادَرَ والدي يهيئ وسائل السفر … ويسأل البنك عن طريقة تحويل المبلغ الشهري اللازم لي هناك … ويتحرَّى عن أقلِّ مُستوى للمعيشة في فرنسا … ثم حجَزنا مكانًا لي بالدرجة الثانية على باخرة فرنسية قديمة اسمها «الجنرال متزنجر».
وفي يوم السفر عانقت والدتي وجدتي ودموعهما تنهمر … وذهبت بحقائبي مع والدي إلى الميناء … وصعدت إلى الباخرة … ووقفت على ظهرها، أتطلَّع إلى والدي على الرصيف، وهو واقف تحت شمسيته البيضاء يُلوِّح لي بيده، ثم بمنديله والباخرة تتحرك … كان منظره، منظر هذا الأب الرزين وهو يَكتُم شعوره تحت قناعِ وداع هادئ، مما أسال دمعتي على الرغم مني، وابتعدَت مصر، واتجهتُ أنا نحو المصير المجهول.
•••
وقضيت في باريس تلك الأعوام الموصوفة بالتقريب في كتابي «زهرة العمر».
وعدتُ إلى بلادي … عدت بالحقيبة ذاتها التي كنت قد حملتها معي، وكان بها بدلتان وأربع فانيلات وأربعة قمصان وستة مناديل … عدتُ بها جميعًا لم ينقص منها شيء … كما عدتُ بصناديق خشبية مملوءة بما جمعت من كتب على مدى تلك الأعوام … كل ذلك عدتُ به … ما عدا شيئًا واحدًا لم أَعُد به … وهو ما ذهبت للحصول عليه: الدكتوراه في القانون … فإن بطء الفهم عندي، وواعيتي الضعيفة، بالإضافة إلى أعباء الجهاد الثقافي الشامل الذي ألقيت بنفسي كلها في لجَّته، مع النَّهَم الفكري الذي استولى عليَّ أمام موائد الحضارة الكبرى … كل هذا لم يترك لمثلي القوة ولا القدرة على حمل عبءٍ آخر.
عدتُ فاستقبلني أهلي كما يُستقبَل الخائب الفاشل … وتصادَفَ أن سمعوا أصوات فرح على مقربة من منزلنا، فلما سألوا عن الخبر قيل إن سرادقًا أقيم وأكواب «شربات» تُقدَّم ابتهاجًا بجار زميل لي عاد من الخارج ناجحًا فالحًا ظافرًا بشهادة الدكتوراه، فازداد مركزي سوءًا … ورأيتُ الهمَّ والغمَّ والأسى في عيون أهلي … وسمعتهم من حولي يتهامسون: «يا خيبتنا! … يا خيبتنا!»
وبعد:
هذه مرحلة من حياة … لم أُرد منها قصَّ حكايتها … فلم ألتزم فيها بالطريقة المألوفة في سرد تاريخ الحياة حسب الترتيب الزمني لتتابع الوقائع. ولكني مزجت الأزمان والأحداث في أكثر الأحيان كي أصل مباشرةً إلى لب المقصود هنا وهو: محاولة كشف شيء عن تكوين هذا الطبع الذي أتخبَّط بين قضبان سجنه طول العمر.