الأسئلة الكبرى
(١) مواجهة لغز الوجود
لآلاف السنين فكر البشر في العالم المحيط بهم محاولين معرفة إجابة أسئلة الوجود العظيمة: لماذا نحن هنا؟ كيف بدأ الكون؟ وكيف سينتهي؟ وكيف تكوّن العالم؟ ولماذا هو على النحو الذي هو عليه؟ وعلى مدار التاريخ الإنساني المدون بحث الناس عن إجابات لهذه الأسئلة «المطلقة» في الأديان والفلسفات، أو أعلنوا أنها تقع خارج نطاق الفهم البشري. لكن العديد من هذه الأسئلة صار جزءًا من العلم اليوم، ويزعم بعض العلماء أنهم على وشك تقديم إجابات لها.
عزز تطوران رئيسيان من ثقة العلماء من أن الإجابة قريبة المنال؛ أولهما: هو التقدم الهائل في علم الكونيات، والمقصود به دراسة البنية الكلية للكون وتطوره؛ فالملاحظات التي توفرها لنا الأقمار الصناعية، وتلسكوب الفضاء هابل، ومعدات المراقبة الأرضية المتقدمة اجتمعت معًا كي تغير من نظرتنا إلى الكون ومكان الإنسان داخل هذا الكون. ويتمثل التطور الثاني في فهمنا المتزايد للعالم الميكروسكوبي داخل نواة الذرة، وهو الموضوع المعروف باسم فيزياء جسيمات الطاقة العالية، وعادة يتم ذلك عن طريق المسارعات الجزيئية العملاقة (ما كانت تعرف في السابق باسم «محطمات الجزيئات») من النوع الموجود في معمل فيرميلاب قرب شيكاجو ومعمل سيرن على أطراف جينيف. بالجمع بين الاثنين يتوافر لدينا إشارات إيجابية عن ذلك الرابط العميق الذي لم يخضع للبحث من قبل بين عالم الجسيمات الدقيقة وعالم الأجرام الهائلة. إن علماء الكونيات مغرمون بالقول إن الانفجار العظيم، الذي نتج عنه مولد الكون منذ مليارات السنين، كان أكبر تجربة لفيزياء الجسيمات. تقودنا هذه التطورات الهائلة صوب أمر آخر أعظم، ألا وهو التوصل لوصف كامل موحد للطبيعة، «نظرية كل شيء» يكون فيها التوصيف الكامل للعالم المادي بأسره مدمجًا في مخطط تفسيري واحد.
(٢) الكون ملائم للحياة
من أكثر الحقائق أهمية — بل ربما أكثرها أهمية — بخصوص الكون أننا جزء منه. لكن ينبغي من البداية أن أقر بأن العديد من العلماء والفلاسفة يختلفون بشدة مع هذه العبارة؛ بمعنى أنهم لا يرون للحياة أو الوعي البشري أي أهمية في النظام الكوني، إلا أنني أولي أهمية كبيرة للحياة والعقل (الوعي)، وذلك لأسباب سأذكرها قريبًا. من الوهلة الأولى قد لا يبدو أن هناك علاقة بين الحياة وعلم الكونيات. من المؤكد بالطبع أن سطح كوكب الأرض تغير بفعل الحياة، لكن على النطاق العظيم للكون ما كوكب الأرض إلا نقطة متناهية الصغر. ومع ذلك هناك إحساس غير مباشر بأن وجود الحياة في الكون هو حقيقة كونية لها أهميتها؛ إذ إنه كي تظهر الحياة، ثم تتطور إلى كائنات واعية مثلنا، من الحتمي الوفاء بشروط معينة؛ فمن المتطلبات الأساسية للحياة — على الأقل الحياة كما نعرفها — وجود مخزون كافٍ من العناصر الكيميائية المتنوعة اللازمة لتكوين الكتلة البيولوجية. إن الكربون هو العنصر الأهم لظهور الحياة، إلا أن للأكسجين والهيدروجين والنيتروجين والكبريت والفسفور أهميتها هي الأخرى. ويعد الماء السائل من المكونات الضرورية للحياة هو الآخر. وتتطلب الحياة أيضًا مصدرًا للطاقة وبيئة مستقرة، وهو ما يتوفر في حالتنا عن طريق الشمس. كي تتطور الحياة لما بعد مستوى الميكروبات البسيطة، ينبغي أن تستمر هذه البيئة المشجعة للحياة على اعتدالها لوقت طويل، وقد استغرق الأمر مليارات السنين كي تصل الحياة على الأرض لمرحلة الذكاء.
حتى وقت قريب كان «عامل جولديلوكس» محل تجاهل من جانب العلماء، لكن هذا الأمر يتغير الآن تغيرًا سريعًا. وكما سأناقش في الفصول التالية، صار العلم على وشك العثور على حل لغز ملاءمة الكون للحياة بهذا الشكل المذهل، لكن يتطلب هذا التفسير فهم كيفية بداية الكون وتطوره إلى شكله الحالي، ومعرفة المادة التي يتكون منها، وكيف يتشكل ويتركب بفعل قوى الطبيعة المختلفة. وأهم من كل ذلك يتطلب الأمر منا أن نتقصى طبيعة قوانين المادة نفسها.
(٣) الشفرة الكونية
على مدار التاريخ اقتنع العديد من المفكرين البارزين بأن العالم الذي نرصده بحواسنا ليس إلا تجسيدًا سطحيًّا لحقيقة خفية أعمق، من المفترض أن نعثر بها على إجابات أسئلة الوجود العظيمة. ظل هذا الاعتقاد مسيطرًا حتى إن مجتمعات بأكملها تشكلت وفقه. استعان الباحثون عن الحقيقة بطقوس وشعائر، واستخدموا العقاقير والتأمل من أجل الدخول في حالات أشبه بالغشية، واستشاروا الكهنة والمتصوفين ورجال الدين في محاولة منهم لكشف النقاب عن العالم الغامض الواقع خلف ذلك الذي ندركه. وقد ظل البحث عن سبيل لذلك العالم الخفي شغلًا شاغلًا لجميع الثقافات، بداية من أساطير سكان أستراليا الأصليين وصولًا إلى فكرة تذوق آدم وحواء الثمرة المحرمة لشجرة المعرفة.
لم يكن العثور على مفتاح الكون أمرًا حتميًّا، ففي البداية لا يوجد سبب منطقي يحتم وجود هذا النص الرياضي الكامن في الطبيعة من الأساس. وحتى لو كان موجودًا فلا يوجد سبب واضح يجعل البشر قادرين على فهمه. إنك لن تستطيع قط بالنظر إلى العالم المادي تخمين أن أسفل سطح الظواهر الطبيعية المضطربة يكمن نظام مجرد لا يمكن رؤيته أو سماعه، فقط يمكن استنتاج وجوده. وحتى أصحاب أذكى العقول لا يمكنهم من واقع الخبرات اليومية وحدها أن يدركوا أن النظم الطبيعية المتباينة التي يتألف منها الكون متصلة، في أعماقها، بواسطة شبكة من العلاقات الرياضية المشفرة. ومع ذلك فقد كشف العلم عن وجود هذا النطاق الرياضي الخفي، وهكذا صرنا، نحن البشر، مطلعين على كيفية عمل الكون. إن الحيوانات الأخرى تشاهد نفس الظواهر مثلنا، لكن المخلوق الوحيد على سطح هذا الكوكب الذي تمكن من تفسيرها هو الإنسان العاقل.
كيف تحقق هذا؟ بشكل ما صمم الكون، ليس فقط وعيه الخاص، بل أيضًا فهمه الخاص. لقد تآزرت الذرات المتخبطة غير العاقلة كي لا توجد الحياة وحدها، ولا العقل وحده، بل الفهم أيضًا. وهكذا أنتج الكون المتطور بشرًا قادرين ليس فقط على مشاهدة العرض، بل على كشف حبكته أيضًا. ما الذي مكن شيئًا صغيرًا رقيقًا متكيفًا مع الحياة الأرضية كالمخ البشري أن يتوحد مع شمولية الكون والنغمة الرياضية الصامتة التي يرقص وفقًا لها؟ حسب علمنا، هذه هي المرة الأولى والوحيدة في أي مكان من الكون التي تفهمت فيها العقول الشفرة الكونية. وإذا زال البشر من الوجود في غمضة عين كونية فقد لا يحدث هذا مجددًا. قد يستمر الكون لتريليون عام أخرى، محاطًا بالغموض التام، خلا لحظة تنوير عابرة مرت على كوكب صغير يدور حول نجم عادي في مجرة لا يميزها شيء، ظهرت للوجود بعد ١٣٫٧ مليار عام من بداية كل شيء.
هل لا يمكن أن يكون هذا إلا مصادفة؟ هل حقيقة ارتباط أعمق مستويات الواقع مع ظاهرة طبيعية خاصة نطلق عليها «العقل البشري» قد لا تمثل سوى لحظة شذوذ وقتية عجيبة مرت بهذا الكون العبثي الذي بلا معنى؟ أم أن هناك حبكة أخرى أعمق تؤدي عملها؟
(٤) مفهوم القوانين
ربما أوصلت لك انطباعًا بأن نيوتن كان ينتمي لطائفة صغيرة توصلت إلى العلم بطريقة مفاجئة أثناء الاجتهاد الروحي، إلا أن هذا ليس صحيحًا. إن عملهم لم يجرِ في فراغ ثقافي، بل كان نتاجًا لتقاليد عديدة قديمة، إحداها جاء من الفلسفة الإغريقية، التي شجعت على فكرة أن العالم يمكن تفسيره بالمنطق والتفكير والحسابات الرياضية. تقليد آخر هو الزراعة، التي تعلم الناس منها النظام والفوضى عن طريق مراقبة دورات الطبيعة وإيقاعاتها، التي تقاطعها الكوارث المفاجئة غير المتوقعة. أيضًا لعبت الأديان دورًا، خاصة الديانات التوحيدية التي شجعت على الإيمان بفكرة العالم المخلوق المنظم. إن الافتراض الذي قام عليه العلم هو أن الكون المادي ليس اعتباطيًّا أو منافيًا للعقل، إنه ليس ركامًا لا معنى له من الأشياء والظواهر الموضوعة جنبًا إلى جنب بشكل عشوائي، بل هناك «نظام متسق» للأمور. عادة ما يعبَّر عن هذه الفكرة بالحكمة المأثورة التي تقول إن هناك نظامًا في الطبيعة. لكن العلماء تجاوزوا هذه الفكرة المبهمة ومضوا ليصوغوا نظامًا من «القوانين» الدقيقة.
إن وجود قوانين الطبيعة هو نقطة البدء التي ينطلق منها هذا الكتاب، بل في الحقيقة هو نقطة البدء للعلم نفسه، لكن من البداية سنواجه بلغز بديهي وعميق وهو:
(٤-١) من أين أتت قوانين الطبيعة؟
كما أشرت، فإن نيوتن وجاليليو، ومعاصريهما، نظروا إلى القوانين بوصفها أفكارًا في عقل الخالق، وأن الصيغ الرياضية الأنيقة هي تجسيد للخطة المنطقية الإلهية التي يسير الكون وفقًا لها. قليل من علماء اليوم هم من قد يصفون قوانين الطبيعة بمثل هذه الكلمات الغريبة. ومع ذلك يبقى التساؤل الخاص بماهية هذه القوانين ولماذا تتخذ الشكل الذي هي عليه، وكيف، في غير ضوء فكرة التدبير الإلهي، يمكن تفسيرها؟
من الناحية التاريخية شُبهت قوانين الطبيعة بالقانون المدني، الذي نشأ كوسيلة لتنظيم المجتمع الإنساني. يعود مفهوم القانون المدني إلى وقت استقرار أول المجتمعات، حين ظهر احتياج لنوع من السلطة للحيلولة دون الاضطراب المجتمعي. وبشكل تقليدي كان القائد المستبد يصوغ مجموعة من القواعد ثم يجبر العامة على الانصياع لها. وبما أن القواعد التي تناسب شخصًا قد لا تلائم آخر، اعتاد الحكام الالتجاء إلى السلطة الإلهية لتدعيم سلطاتهم. قد يكون إله مدينة ما ليس إلا تمثالًا حجريًّا موضوعًا بميدان المدينة، ويعين أحد الكهنة من أجل تأويل أوامر هذا الإله. إن فكرة التحول إلى سلطة عليا غير مادية كنوع من التأييد للقوانين المدنية موجودة في الوصايا العشر والتوراة لدى اليهود. واستمرت بقايا هذه الفكرة حتى العصر الحديث على صورة مفهوم الحق الإلهي الذي يحكم بموجبه الملوك.
بحلول القرن الثالث عشر كان علماء اللاهوت وطلاب العلم في أوروبا، أمثال روجر بيكون، قد وصلوا إلى نتيجة مفادها أن قوانين الطبيعة لها أساس رياضي، وهي الفكرة التي تعود جذورها إلى فيثاغورث. صارت جامعة أكسفورد وجهة لطلاب العلم الذين طبقوا الفلسفة الرياضية على دراسة الطبيعة. من أولئك الذين يطلق عليهم «حاسبو أكسفورد» توماس برادواردين (١٢٩٥–١٣٤٩)، الذي صار رئيس أساقفة كانتربيري. يُنسب لبرادواردين أول عمل علمي يعلن عن قانون رياضي فيزيائي عام بالمفهوم الحديث. في ظل هذه الخلفية ليس من المستغرب إذن أنه حين ظهر العلم الحديث في أوروبا المسيحية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، كان من الطبيعي للعلماء الأوائل أن يؤمنوا بأن القوانين التي كانوا يكتشفونها في السماء والأرض كانت محض تجسيدات لخطة العمل الإلهية المثالية.
(٥) المكانة الخاصة لقوانين الفيزياء
اليوم، تحتل قوانين الفيزياء الموضع المركزي في العلم، بل في الواقع صار لها قدسية خاصة، وعادة ما يستشهد بها كأساس للواقع المادي. دعني أعطك مثالًا من الحياة اليومية، إذا ذهبت إلى بيزا في إيطاليا، ستتمكن من رؤية برج بيزا المائل الشهير (الآن عُدل وضعه بواسطة بعض الأعمال الهندسية بحيث يكون الميل آمنًا). يُروى أن جاليليو ألقى بعض الكرات من قمة البرج كي يبين كيفية سقوطها بفعل الجاذبية. وسواء كانت هذه القصة صحيحة أم لا، إلا أنه بالتأكيد أجرى بعض التجارب الدقيقة على الأجسام الساقطة، وبهذا تمكن من اكتشاف القانون التالي: إذا أسقطت كرة من قمة مبنى مرتفع وقست المسافة التي ستقطعها خلال ثانية واحدة، ثم كررت التجربة على ثانيتين، ثم ثلاث ثوان، وهكذا دواليك، ستجد أن المسافة التي تقطعها الكرة تتزايد بمقدار مربع زمن السقوط، فالكرة ستسقط في ثانيتين أربعة أضعاف مقدار سقوطها في ثانية واحدة، وتسعة أضعاف في ثلاث ثوان، وهكذا. يتعلم طلبة المدارس هذا القانون بوصفه من «حقائق الطبيعة» وفي المعتاد لا يولونه الكثير من التفكير. لكني أريد التوقف هنا وأسأل هذا السؤال: لماذا؟ لماذا يحكم هذا القانون الرياضي حركة الأجسام الساقطة؟ من أين تأتي القاعدة؟ ولماذا تنطبق هذه القاعدة وليست غيرها؟
دعني أعطك مثالًا آخر على قوانين الفيزياء، وهو قانون ترك تأثيرًا كبيرًا عليّ وأنا في أيام الدراسة، يخص هذا القانون الطريقة التي تفقد بها قطع المغناطيس القدرة على جذب بعضها بعضًا مع الابتعاد. ضع القطع بعضها إلى جوار بعض ثم قس قوة الجذب مع تزايد المسافة بينها. ستجد أن قوة الجذب تقل بمعدل مكعب المسافة، بمعنى أنك إذا ضاعفت المسافة بين قطعتي المغناطيس فستقل قوة الجذب إلى الثمن، وإذا ضاعفتها ثلاث مرات فستقل القوة إلى واحد على سبعة وعشرين، وهكذا. ومرة ثانية يحضرني نفس السؤال: لماذا؟
(٦) كم عدد القوانين الموجودة؟
مع تزايد فهم العلماء أكثر وأكثر لكيفية عمل الطبيعة بدأت تظهر إلى الضوء جميع أنواع القوانين التي لم يكن من السهل التوصل إليها من الملاحظة العرضية للعالم، على غرار القوانين المنظمة للمكونات الداخلية للذرة أو تكوين النجوم. تثير كثرة القوانين سؤالًا آخر تصعب إجابته وهو: كم يبلغ طول قائمة القوانين الكاملة؟ هل تضم عشرة قوانين؟ مائتين؟ هل يمكن أن تمتد القائمة إلى ما لا نهاية؟
ليست جميع القوانين مستقلة بعضها عن بعض، فبعد أن بدأ جاليليو وكبلر ونيوتن وبويل اكتشاف قوانين الفيزياء بوقت قصير وجد العلماء روابط تجمع هذه القوانين. على سبيل المثال، «تفسر» قوانين نيوتن للحركة والجاذبية قوانين كبلر الثلاثة الخاصة بحركة الكواكب، ما يجعلها بشكلٍ ما أعمق وأقوى. أيضًا تفسر قوانين نيوتن للحركة قانون بويل للغازات حين تُطبَّق بطريقة إحصائية على مجموعة ضخمة من الجزيئات المتحركة حركة فوضوية.
خلال الأربعة قرون التي تلت اكتشاف أول قوانين للفيزياء ظهر المزيد والمزيد من القوانين للضوء، واكتُشف المزيد والمزيد من الروابط أيضًا. إن قوانين الكهرباء، على سبيل المثال، وُجِدَ أنها مرتبطة بقوانين المغناطيسية، التي بدورها فسرت قوانين الضوء. هذه العلاقات المتبادلة قادت إلى قدر معين من الارتباك بشأن أي القوانين تعد «أساسية» وأيها مشتق من الأخرى. بدأ علماء الفيزياء في الحديث عن القوانين «الجوهرية» والقوانين «الثانوية»، وما يعنيه ذلك ضمنًا من أن تلك الأخيرة كانت مشتقة لأغراض الملاءمة والتبسيط لا أكثر. في بعض الأحيان يطلق علماء الفيزياء على هذه القوانين اسم «القوانين الفعالة» لتمييزها عن غيرها من القوانين الأصلية «الجوهرية»، تلك التي يمكن أن تندرج تحتها، على الأقل من ناحية المبدأ، القوانين الفعالة أو الثانوية. وفي هذا الجانب تختلف قوانين الفيزياء اختلافًا كبيرًا عن قوانين المجتمع المدني، التي هي خليط غير منظم من التشريعات المتوسعة دون حدود. كمثال متطرف على هذا الأمر سنجد أن قوانين الضرائب في أغلب البلاد تمتد لملايين الكلمات، لكن على النقيض من ذلك نجد أن «كتاب قواعد الطبيعة العظيم» (على الأقل كما نفهمه حاليًّا) يمكن أن تحتويه صفحة واحدة لا أكثر. إن عملية التبسيط وإعادة الترتيب، الممثلة في العثور على روابط بين القوانين وتقليلها إلى قوانين أكثر جوهرية، تجري بسرعة كبيرة، ومن المغري أن نفكر أنه، في جوهر الأمر كله، لا يوجد سوى حفنة من القوانين الجوهرية «الحقيقية»، بل قد يوجد قانون فائق واحد تُشتَق منه كافة القوانين الأخرى.
بما أن قوانين الفيزياء هي الأساس الذي يقوم عليه البحث العلمي بأسره، من المستغرب ألا تهتم سوى قلة من العلماء بمعرفة ما تعنيه هذه القوانين في الحقيقة. إذا تحدثت إلى علماء الفيزياء فستجد أن أغلبهم يتحدث عن هذه القوانين كما لو كانت أشياء حقيقية، ليست أجسامًا مادية بالطبع، بل علاقات مجردة بين كيانات مادية. إلا أن الأهم من ذلك هو أنها علاقات موجودة بالفعل «في مكان ما» من العالم، وليست فقط في عقولنا.
(٧) هل القوانين حقيقية؟
لدينا، إذن، هذه الصورة عن قوانين الفيزياء الموجودة بالفعل في حالة استكانة في مستقرها السامي، وتتحكم في الشئون الدنيا. أحد الأسباب وراء هذا النوع من التفكير بشأن القوانين يتعلق بدور الرياضيات؛ بدأت الأعداد كوسيلة لتصنيف الأشياء المادية وتسجيلها مثل الخَرَز أو الأغنام. ومع تطور علم الرياضيات، وتوسعه فيما وراء الحسابات البسيطة ليشمل الهندسة والجبر والتفاضل والتكامل وغيرها من الفروع، بدأت هذه الكيانات والعلاقات الرياضية في اكتساب وجود مستقل. يؤمن الرياضيون أن عبارات على غرار «٣ × ٥ = ١٥» و«العدد ١١ عدد أولي» هي حقائق فطرية — وذلك بمعنى مطلق عام — دون أن تكون مقصورة على «ثلاثة خراف» أو «إحدى عشرة خرزة».
(٨) وداعًا فكرة التصميم؟
كان العلم هو ثاني محاولة عظمى لتفسير العالم، لكن في هذه المرة بُنيت التفسيرات على أساس القوى المجردة والعمليات الطبيعية الفيزيائية وليس أنشطة العناصر الفائقة ذات الأغراض. وحين تعارضت التفسيرات العلمية مع التفسيرات الدينية، كان النصر للتفسيرات العلمية. وفي الأغلب الأعم تراجع عمل علماء اللاهوت كي يركز على الشئون الاجتماعية والأخلاقية، على غرار التنوير الروحي، مرتضين ترك عملية تفسير العالم المادي للعلماء. لا يزال هناك من يؤمنون بأن المطر تصنعه آلهة المطر لا نتاجًا لعمليات تتم في الغلاف الجوي، لكني لا أعتقد أن لهم فرصة نجاح لو دخلوا في مناظرة مع أحد علماء الطقس. فحين يتعلق الأمر بالظواهر المادية الفعلية تكون للتفسيرات العلمية الغلبة. لا يعني هذا أن العلماء نجحوا في تفسير كل شيء، إذ تظل بعض الفجوات الكبيرة باقية؛ على سبيل المثال، لا يعرف العلماء كيف بدأت الحياة، وموضوع الوعي البشري يثير حيرتهم لأبعد حد، وحتى بعض الظواهر المألوفة بشدة، كالدوامات الهوائية، ليست مفهومة بالكامل بعد. بيد أن هذا لا يعني أن علينا اللجوء للسحر أو المعجزات من أجل غلق هذه الفجوات، بل ما نحتاج إليه هو المزيد من التقدم في الفهم العلمي، وهذا هو الموضوع الذي سأناقشه بالتفصيل في الفصل العاشر.
عندما يتعلق الأمر بالأسئلة الميتافيزيقية على غرار: «لماذا توجد قوانين للطبيعة؟» يصير الموقف أقل وضوحًا، فهذه النوعية من الأسئلة لا تتأثر كثيرًا باكتشافات علمية محددة؛ إذ ظلت أسئلة عديدة كبيرة دون تغيير — منذ مولد الحضارة وإلى يومنا هذا — تثير حيرتنا. إن الأديان على اختلافها أتيحت لها مئات السنوات للتفكر في هذه الأسئلة بحرص، كما أن كبار رجال الدين، أمثال أنسِلم وتوما الإكويني، لم يكونوا أشخاصًا متدينين ضعاف عقول، بل كانوا عتاة مفكري عصورهم.
يعترف العديد من العلماء الذين يجاهدون من أجل الوصول إلى نظرية شاملة تامة للعالم المادي بصراحة بأن ما يحفزهم في مسعاهم هذا هو رغبتهم في نبذ فكرة التصميم — التي يرونها مضللة وخطيرة — نبذًا كليًّا. وهم يهدفون أيضًا للخلاص من أي أفكار جوفاء على غرار «المعنى» أو «الغرض» أو «التصميم». وهم لا يرضون بأي حل وسط، ويرون أن وجهة نظر العلم حيال العالم تتعارض تعارضًا لا يقبل المساومة مع وجهة نظر الدين. ويرون أن النصر حليفهم دون شك بفضل التفوق الفكري للعلم وطريقته المنهجية القوية.
لكن هل الأمر بهذه البساطة؟ حتى في عالم الأديان المنظم قد يعني مفهوم الإله أشياء متعددة لمختلف الأشخاص. من وجهة النظر المسيحية العامة، يصوَر الإله ببساطة على أنه القوة التي أوجدت العالم من العدم، وأنه يتدخل من وقت لآخر بالمعجزات كي يصلح المشكلات. مثل هذه النظرة قد تتعارض مع نظرة العلم للعالم. على النقيض من ذلك نجد أن تصور الإله لدى علماء اللاهوت المتنورين يقارب فكرة المصمم المعماري للكون، الذي يتجسد وجوده من خلال النظام المنطقي للكون، ذلك النظام الذي كشفه العلم. ومن الصعب على العلم أن يتحدى مثل هذه الفكرة عن الإله.
(٩) هل الكون بلا هدف؟
حتى الملحدون من العلماء سيتغنون بالحجم والجلال والتناغم والأناقة والبراعة المطلقة للكون، الذي لا يمثلون منه سوى جزء ضئيل هش. وبينما تتكشف أمام أعيننا تفاصيل الدراما الكونية، يظهر لنا أن هناك ما يشبه اﻟ «نَص» — خطة للأمور — يسير تطور الكون وفقًا له. هنا نجد أنفسنا مدفوعين لأن نسأل: من الذي كتب هذا النص؟ أم هل يمكن أن يكون النص، بشكل إعجازي، هو الذي كتب نفسه؟ هل تم الانتهاء من كتابة النص الكوني العظيم بالفعل، أم هل هذه العملية لا تزال متواصلة مع مرور الوقت؟ هل هذه هي الدراما الوحيدة المعروضة أمامنا؟ أم أن كوننا ما هو إلا عرض واحد ضمن عروض كثيرة؟
من المؤكد أن مفاهيم مثل المعنى والغرض هي تصنيفات وضعها البشر، وعلينا التزام الحذر حين نحاول إسقاطها على العالم المادي، إلا أن جميع محاولات وصف الكون وصفًا علميًّا تعتمد على المفاهيم الإنسانية؛ فالعلم يتقدم تحديدًا عن طريق أخذ المفاهيم التي فكر بها البشر، والمستقاة عادة من الخبرات اليومية، ثم تطبيقها على الطبيعة. إن ممارسة العلم تعني محاولة فهم ما يحدث حولنا في العالم، ما «سيتجه إليه» حال الكون، وما «معناه». وإذا لم يكن هناك «معنى» كامن وراءه فلن يكون هناك سبب وجيه يدعونا للبحث العلمي في المقام الأول؛ لأنه لن يكون لدينا أساس منطقي يدعونا للإيمان بأننا بهذه الطريقة يمكننا الكشف عن حقائق إضافية متسقة ذات معنى عن العالم. وعلى هذا يحق لنا قلب مقولة واينبرج ونقول إنه كلما بدا الكون خاليًا من المعنى صار مستعصيًا على الفهم بشكل أكبر. بالطبع من الممكن أن يكون العلماء واهمين في اعتقادهم بأنهم سيعثرون على حقائق منظمة متسقة في عمل الطبيعة؛ إذ قد نكون نحن من يحيك نسيجًا من الأناقة الفكرية المبهرة مما لا يعدو محض تفاهات. وفي نهاية المطاف، قد لا يكون هناك سبب على الإطلاق وراء كون الأشياء على النحو التي هي عليه. إلا أن هذا قد يجعل الكون خدعة محبوكة بإحكام. هل يمكن لكون عبثي سخيف أن يحاكي بهذه البراعة كونًا ذا معنى؟ هذا هو أكبر أسئلة الوجود التي سنحاول مواجهتها ونحن نستمر في سعينا لاستيضاح حقائق الحياة والكون وكل شيء.
النقاط الأساسية
-
يهدف العلم الآن للإجابة على العديد من أسئلة الوجود الكبرى.
-
من الأسئلة الكبيرة ذلك السؤال الخاص بملاءمة الكون للحياة؛ إذ يبدو وكأن هذا «أمر مقصود».
-
يطيع الكون القوانين الرياضية؛ فهي مثل النص الذي تسير وفقه الطبيعة. كي تتفهم هذا الكتاب على النحو الأمثل يجب أن تقتنع بهذه الفكرة.
-
قوانين الفيزياء الرياضية هي أساس كل شيء. يرى كثير من علماء الفيزياء أنها حقيقية وأنها تسكن عالمًا أفلاطونيًّا ساميًا.
-
يكشف لنا العلم عن وجود نظام متسق للأشياء، إلا أن العلماء لا يفسرون ذلك بالضرورة على أنه دليل على وجود مغزى للكون. أغلب العلماء، لكن ليس جميعهم، إما ملحدون أو لاأدريون.
-
من المفترض بي، بصورة ما، أن أشرح كل هذا.