مِمَّ يتألف الكون؟ وكيف تترابط أجزاؤه؟
(١) أول نظرية (جديرة بالثقة) لكل شيء
في ظل ضرورة الحفاظ على الأمور على حالها، يتداعى للعقل السؤال عن سبب تألف الكون من العناصر التي يتألف منها. لماذا توجد الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات وغيرها من المكونات الذرية؟ لماذا تتمتع هذه الجسيمات بالخصائص التي تملكها؟ لِمَ تمتلك جميع الجسيمات كتلًا وشحنات كهربية محددة، وليس غيرها؟ منذ خمسين عامًا لم يهتم أحد بالتفكير في مثل هذه الأسئلة، لكن اليوم يوجد إحساس عام بين علماء الفيزياء بأنه من المفترض بنا أن نكون قادرين على الإجابة عليها؛ بمعنى أن جميع الجسيمات الأساسية وخصائصها ليست اعتباطية، بل من المفترض أن تكون قابلة للتفسير في ضوء نظرية أعمق؛ نظرية توحد جميع مكونات المادة على اختلافها. أحيانًا ما تُسمى المحاولات الهادفة لذلك، بقدر من المبالغة، بنظريات كل شيء.
في القرن الخامس قبل الميلاد قدم الفيلسوفان الإغريقيان ليوسيبوس وديموقريطس تفسيرًا كاملًا للعالم المادي. عاش هذان الفيلسوفان القديمان في زمن يسبق وجود أي شيء يشبه العلم ولو من بعيد، إلا أنهما كانا يتمتعان بقوة الملاحظة ومهارة التفكير المنطقي. كما هو الحال معنا، تفكر هذان الفيلسوفان في أسئلة كبيرة تتعلق بالكيفية التي يُبنى بها الكون، ومن أين أتى، ومِمَّ يتألف. وصل هذان الفيلسوفان إلى مراتب عالية في التفكير المنطقي والرياضي والغيبي وآمنا بأن الكون يمكن فهمه عن طريق التطبيق الحريص المنهجي للنقاش المنطقي.
كانت المشكلة المزعجة التي استدعت تفكيرًا عميقًا من فلاسفة الإغريق تتمثل في طبيعة التغيير. كيف تستطيع جوزة البلوط التحول إلى شجرة؟ كيف يتحول الماء إلى بخار؟ وبصفة عامة، كيف يمكن لشيء أن يصير شيئًا آخر؟ تكمن الصعوبة، كما رآها الإغريق، في أن الأجسام المادية لها هويات (وبهذه الكيفية نستطيع تسميتها). لذا، إذا كان شيء ما هو (أ)، فكيف يتحول إلى (ب) دون أن يكون (ب) من الأساس؟ كيف يمكن أن يتحول الشيء إلى ما ليس عليه؟ خلص بعض الفلاسفة من هذه المعضلة المحيرة إلى أن التغيير ليس إلا وهمًا، وذهب آخرون إلى العكس تمامًا زاعمين أن لا شيء له هوية ثابتة، وأن كل شيء في حالة من التقلب المستمر.
هدفت النظرية الذرية للمادة إلى إعطاء تفسير كامل موحد للعالم المادي. كانت طبيعة الذرات غير القابلة للتقسيم جانبًا حيويًّا في هذه النظرية؛ إذ إنها اعتمدت على أن للذرات هوية ثابتة. وإذا كان بالإمكان تقسيم الذرات فهذا يعني أن بمقدورها أن تتغير، وهو ما سيعود بالفلاسفة لنقطة البداية؛ حيث يكون عليهم محاولة تفسير كيفية تحول الشيء إلى آخر. كانت فكرة أنصار النظرية الذرية تقضي بأن الذرات تأتي في أشكال وأحجام متنوعة، لكنها في حدود بعينها كانت متطابقة. وبهذا يمكن أن تكتمل النظرية فقط بجرد جميع أنواع الذرات المختلفة، وتحديد أشكالها وأحجامها، ثم تحديد كيفية التصاقها معًا. عندئذٍ، نظريًّا، يمكن تفسير كل شيء، وكل عملية فيزيائية في العالم، في ضوء مكوناتها الذرية.
(٢) الذرات اليوم
على مر القرون حظيت النظرية الذرية بقبول متفاوت، كانت ميزتها الأساسية هي بساطتها المتناهية وقوتها التفسيرية الكاسحة، لكن كانت نقطة ضعفها الرئيسية هي أن وجود الذرات يجب أن يُقبل استنادًا على الإيمان وحده؛ فنظرًا لافتراض أنها صغيرة للغاية لدرجة لا يمكن معها رؤيتها، لم تكن هناك إمكانية لملاحظتها بصورة مباشرة. واستمر الحال كذلك حتى العصر الحديث. في الحقيقة ظل أبرز العلماء والفلاسفة يتناقشون في صحة النظرية الذرية حتى العقود الأولى من القرن العشرين.
لكن اليوم لم يعد هناك شك في وجود الذرات. وبإمكانك حتى أن ترى صورًا لها في الكتب والمراجع. ومن جوانب عديدة تشبه الذرات التي نعرفها اليوم الجسيمات التي كان ليوسيبوس وديموقريطس يتحدثان عنها؛ إذ إنها تأتي في صور متنوعة (المائة أو نحو ذلك) بيد أنها متطابقة أيضًا (بشكل أو بآخر). إن لها أشكالًا وأحجامًا متباينة، لكنها جميعًا كروية الشكل إجمالًا. قد ترتبط الذرات بعضها ببعض لتكون جزيئات أو بلورات، ومن الممكن إرجاع التغيرات التي تحدث في التفاعلات الكيميائية مثلًا إلى التغير في كيفية ترتيب الذرات. إلا أن ذرات اليوم تختلف عما كان يظنه الإغريق من ناحية البنية الداخلية. افترض الفلاسفة أن الذرات غير قابلة للتقسيم، لكننا نعرف اليوم أنها بنى مركبة ذات أجزاء داخلية متحركة. وبعض العمليات الفيزيائية، مثل التحول البطيء لتركيبة الشمس من الهيدروجين إلى الهليوم، تقع نتيجة إعادة ترتيب الأجزاء الداخلية للذرات، وليس تغير الذرات نفسها بالكامل. تسبب هذا الإدراك في صرف النظر عن النظرية الذرية بوصفها النظرية الكاملة للطبيعة، رغم إثبات وجود الذرات بما لا يدع مجالًا للشك.
لوهلة، كان هناك بعض الأمل في إنقاذ فكرة ليوسيبوس وديموقريطس الخاصة بالوحدات البنائية الأساسية للمادة بالاعتماد على مكونات الذرة، لا على الذرة نفسها. في البداية لم يبد الأمر صعبًا؛ فالذرة تحتوي على نواة مدمجة، مكونة من مجموعة من البروتونات والنيوترونات، تمثل القدر الأعظم من كتلة الذرة. هذه النواة محاطة بمجموعة من الإلكترونات الأخف كتلة. تحتفظ الذرة ببنيتها عن طريق القوى الكهربية؛ إذ إن البروتونات ذات شحنة كهربية موجبة والإلكترونات ذات شحنة كهربية سالبة، وهو ما يخلق قوى تجاذب تربط الإلكترونات بالنواة. هل يمكن إذن اعتبار هذه الجسيمات دون الذرية — الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات — هي المكونات غير القابلة للتقسيم التي تتألف منها المادة على اختلافها؟
(٣) حشد من الجسيمات دون الذرية
(٤) ظهور بعض الأنماط
رغم العدد والتنوع المحير للجسيمات دون الذرية فقد بدأت بعض الأنماط في الظهور. على سبيل المثال، لجميع الجسيمات نفس الشحنة الكهربية (إما موجبة أو سالبة) أو تكون معدومة الشحنة؛ إذ إن النيوترون والنيوترينو ذوا شحنة متعادلة. كل فصيلة من الجسيمات لها جسيمات مضادة مرتبطة بها لها نفس الكتلة لكن جميع الخصائص الأخرى، كالشحنة الكهربية، تكون معكوسة. كان البوزيترون أول جسيم يُكتشف، ومع أنه مضاد للإلكترون فإنه لا يزال يحتفظ باسم البوزيترون لأسباب تاريخية. بعد ذلك ظهر مضاد النيوترينو ومضاد البروتون ومضاد النيوترون وهكذا دواليك. يوجد تناظر عميق هنا؛ تناظر بين المادة والمادة المضادة. من الخصائص التناظرية الأخرى للجسيمات دون الذرية خاصية اللف المغزلي، فالإلكترون، مثلًا، يدور حول محوره كالكوكب الصغير، لكن دومًا بنفس معدل الدوران. لأسباب تاريخية أعطي ذلك المعدل الوحدة ١ / ٢. للبروتونات والنيوترونات والميوونات والنيوترينوات لف مغزلي قدره ١ / ٢ هي الأخرى. الجسيمات الأخرى المعروفة لها لف مغزلي قدره ١ أو ٣ / ٢ أو ٢. عادة ما تكون قيمة اللف المغزلي من مضاعفات الرقم ١ / ٢، وهكذا تتجلى أمامنا قاعدة أخرى. هناك قاعدة أخرى مهمة تقضي بأن جميع جسيمات المادة تنتمي إلى فئة واحدة من فئتين لا أكثر: الجسيمات النووية ومنتجات تفاعلاتها (كالبروتونات والنيوترونات والبيونات)، التي تميل لأن تكون أكبر حجمًا وتُعرف إجمالًا باسم الهدرونات، وبقية الجسيمات (الإلكترونات والنيوترينوات والميوونات …)، والتي تكون أخف وزنًا ويطلق عليها اللبتونات. الكلمتان مشتقتان من الكلمتين اللاتينيتين لكل من «ثقيل» و«خفيف» على الترتيب.
(٥) الكواركات هي وحدات المادة البنائية
نظمت فكرة الكواركات الأمور تنظيمًا كبيرًا، فهذا النظام يعني ضمنًا أن المادة عمومًا مكونة من أربعة كيانات أساسية: الكواركات العليا والسفلى، والإلكترونات، والنيوترينوات. (قد يعتقد القارئ أنه من الغريب إدراج النيوترينوات كمكون طبيعي مع أنه من غير المألوف رؤيتها في الحياة العادية، لكن هذا يرجع فقط إلى أننا لا نستشعرها بشكل مباشر، لكن كما أوضحت فهي أكثر وجودًا من جميع الجسيمات الأخرى مجتمعة، وأعتقد أن هذا يكفيها كي تكون من المكونات الأساسية للمادة.) تلك المكونات الأربعة تنقسم في حقيقتها إلى زوجين؛ لأن خصائص الكوارك تختلف اختلافًا كليًّا عن خصائص الإلكترون والنيوترينو.
اللبتونات | |||||
---|---|---|---|---|---|
الشحنة الكهربية | الشحنة الكهربية | ||||
تاو | −١ | نيوترينو تاووني | صفر | ||
ميون | −١ | نيوترينو مييوني | صفر | ||
إلكترون | −١ | نيوترينو إلكتروني | صفر | ||
الكواركات | |||||
قاعية | −١ / ٣ | قمّية | +٢ / ٣ | ||
غريبة | −١ / ٣ | ساحرة | +٢ / ٣ | ||
سفلى | −١ / ٣ | عليا | +٢ / ٣ |
سيكون من الخطأ أن أعطيك الانطباع بأن فيزياء الجسيمات ليست إلا تدريبًا على إعطاء المسميات، بحيث تقتصر وحسب على تصنيف الجسيمات دون الذرية إلى فصائل مختلفة. إن العلاقات العائلية التي تربط هذه الجسيمات عن طريق التجميعات المتباينة للكواركات ومضادات الكواركات يمكن التعبير عنها جميعًا بلغة الرياضيات (باستخدام ما يُعرف بنظرية المجموعات). تمكن التناظرات الخفية الإضافية الكامنة خلف هذه التجميعات من كتابة معادلات تربط بين خصائص الجسيمات المتباينة، على نحو يشبه الكيفية التي تربط بها التناظرات في الهندسة العادية بين أضلاع المربع أو رءوس المثلث متساوي الأضلاع. لكن في الفيزياء العملية لا تكون هذه التناظرت هندسية، بل ذات طبيعة مجردة أكثر. ومع هذا فإن وجودها يثبت لنا أن عالم الذرة المصغر ليس كومة من الأشياء العشوائية فقط، بل هو عالم متناغم تجمع بين مكوناته علاقات عميقة متبادلة، وإن كانت مجردة. يقدم هذا إجابة عن التساؤل المحتمل عن «السبب وراء» وجود العائلتين الإضافيتين من الكواركات واللبتونات. قد يبدو من الممكن الخلاص منهما دون أن يؤثر ذلك على الكون بقدر ملموس، لكن لأن هذه الجسيمات يمكن الربط بينها بتناظرات مجردة عديدة، فيمكنها أن تشكل جزءًا من تجميعة فئوية أكبر، لا يمكن تفتيتها إلى أجزاء متفرقة. إننا نأمل أن تجد جميع الجسيمات، بما فيها الكواركات واللبتونات الأثقل غير المستقرة، في النهاية مكانًا طبيعيًّا لها في نموذج أعمق (على سبيل المثال، نظرية الأوتار التي سأتحدث عنها بعد قليل).
حين اقترح جيلمان وسويج نظرية الكوارك لأول مرة بدت كأنها تخمين بعيد النجاح، إلا أن الأدلة التجريبية المؤكدة على صحة وجود الكواركات تراكمت عبر السبعينيات والثمانينيات، ولم يعد هناك شك في وجودها. العجيب في الأمر هو أنه لم يستطع أحد أن يكتشف كواركًا معزولًا، فمن الخصائص العجيبة للقوة التي تربط الكواركات بعضها ببعض هو أنها تزداد مع زيادة المسافة. لذا من المحال، مثلًا، نزع أحد الكواركات من أحد البروتونات. إن الكواركات موجودة، لكن يبدو أنها ستظل دومًا حبيسة جسيمات أخرى أكبر.
رغم نجاح نموذج الكواركات واللبتونات هذا، فإنه لا يعطينا سوى نصف القصة، فحين جاء المؤمنون بالذرة من الإغريق بفكرة الجسيمات الأساسية، تمثل جزء أساسي من نظريتهم في قدرة هذه الجسيمات على الترابط بطرق متعددة. لذا لا بد من وجود نوع ما من القوى بينها. ومن دون شيء يربط الجسيمات بعضها ببعض، سيذهب كل منها في طريقه، ولن توجد المادة على الصورة التي نعرفها. تمثل دراسة القوى التي تربط بين جسيمات المادة النصف الآخر من القصة.
(٦) أربع قوى أساسية تفسر كل شيء
رغم التنوع الغني للأنظمة الفيزيائية التي يذخر بها الكون، من الذرات إلى المجرات، فإننا لا نحتاج سوى أربع قوى أساسية وحسب لتفسير خصائصه. لكن من الظاهر قد يبدو أن هناك العديد من القوى في الطبيعة، تغير شكل المادة وتحولها على جميع المستويات. أوضح هذه القوى هي قوة الجاذبية؛ قوة الجذب التي تبقي قدميك مثبتتين إلى الأرض. من القوى الملحوظة الأخرى قوة الجذب الكهروستاتيكية؛ تلك القوة التي تجعل البالون بعد حكه بقطعة من الصوف يلتصق بالسقف أو تجعل الشعر ينتصب بعد تصفيفه. للمغناطيس أيضًا قوة جذب، أو طرد إذا أدرناه للناحية الأخرى. من الأمثلة الأخرى المألوفة ضغط الغاز الحبيس داخل بالون أو البخار المندفع من غلاية الماء. إلا أن التقصي الحريص يوضح أنه يمكن جمع كل تلك القوى في أربع قوى أساسية. إن الذرات، على سبيل المثال، تلتصق معًا لتكون جزيئات أو يبتعد بعضها عن بعض في تنافر استنادًا إلى الشحنة الكهربية التي تحتوي عليها (ونفس هذه الشحنات الكهربية هي المسئولة عن قوى الجذب الكهربية في مثال البالون السابق)، وكل قوة أخرى نقابلها في حياتنا اليومية، مثل الرياح التي تدفع أشرعة المراكب أو قوة الدفع التي تحرك عجلة التجديف، تأتي في النهاية من تلك الكهرباء الذرية، الموزعة على عدد كبير للغاية من الذرات. وفي الحقيقة تعد قوى الجاذبية والمغناطيسية والكهرباء مسئولة عن جميع ظواهر الحياة اليومية تقريبًا.
في أوائل القرن العشرين اكتُشفت قوتان جديدتان. نحن لا نلحظ هاتين القوتين في الحياة اليومية لأنهما تقتصران في عملهما على أنوية الذرات والتفاعلات القريبة بين الجسيمات دون الذرية. إحدى هاتين القوتين، والمسماة بالقوة النووية الشديدة، أو القوة الشديدة وحسب، هي المسئولة عن ربط الكواركات بعضها ببعض لتكوين الهدرونات. تعمل محصلة هذه القوة الشديدة العاملة بين الكواركات على الربط بين النيوترونات والبروتونات وتفسر تماسك نواة الذرة وقدرتها على التغلب على قوى التنافر الكهربي للبروتونات. قد تكون هذه القوة قوية للغاية، إلا أن مداها قصير جدًّا؛ إذ تهبط إلى الصفر بعد مسافة تبلغ حوالي واحد على التريليون من السنتيمتر. القوة النووية الأخرى تُعرف باسم القوة النووية الضعيفة، وهي المسئولة عن نوع من النشاط الإشعاعي، تلك الظاهرة التي تحدث حين تتحلل بعض الجسيمات النووية إلى جسيمات أخرى. على سبيل المثال، النيوترون المعزول يكون غير مستقر وسيتحلل في غضون دقيقة أو نحو ذلك إلى بروتون وإلكترون ومضاد نيوترينو. إن القوة النووية الضعيفة هي التي تسبب تحول العناصر. ونفس القوة تفسر أيضًا سبب تحلل الميوونات (وغيرها الكثير من الجسيمات الأخرى). وفيما يخص القوتين النوويتين نجد أن الهدرونات (أي الكواركات) تستجيب للقوتين الشديدة والضعيفة، في حين تشعر اللبتونات بالقوة الضعيفة وحسب.
القائمة السابقة يبدو أنها تحتوي على خمس قوى؛ الجاذبية والكهربية والمغناطيسية والقوتين النوويتين الشديدة والضعيفة، إلا أن اثنتين من هذه القوى؛ الكهربية والمغناطيسية، هما جانبان لقوة واحدة أشمل هي القوة الكهرومغناطيسية. اكتُشف الرابط بين الكهرباء والمغناطيسية في القرن التاسع عشر من خلال أعمال كل من مايكل فاراداي وهانز كريستيان أويرستيد وجيمس كلارك ماكسويل وغيرهم. من اليسير للغاية توضيح هذا الأمر؛ فالتيار الكهربي يولد مجالًا مغناطيسيًّا، وهي الظاهرة المستغلة في أجراس الأبواب وأجهزة التلفاز ومجففات الشعر وغيرها الكثير من الأجهزة المنزلية. وعلى العكس يولد المجال المغناطيسي المتغير قوى كهربية، ويمكنه جعل التيار الكهربي يتدفق لو كانت هناك دائرة كهربية. ومجددًا، هناك أمثلة شائعة على هذا الأمر مثلما نرى في المولدات الكهربية.
من الممكن وصف الجاذبية والكهرومغناطيسية على شكل مجالات. على سبيل المثال، يدور القمر حول الأرض لأن مجال الجاذبية للأرض يتفاعل مع القمر وينتج قوة جاذبة. وبالمثل، يمكن القول إن المغناطيس ينتج مجالًا مغناطيسيًّا يمتد ويتفاعل مع مغناطيس آخر. هذا النوع من الوصف مناسب على النطاقات الكبيرة، لكن في نطاق الذرات لن يفيدنا؛ لأن علينا أن نضع التأثيرات الكمية في الاعتبار.
(٧) كيفية عمل القوى على المستوى الكمي
إلى الآن كنت أصف عملية تنافر الإلكترونات، إلا أن نفس النظرية (باستخدام مفهوم تبادل الفوتونات الافتراضية) يمكن أن تُستخدم لوصف مجموعة من الظواهر الأخرى، على غرار انبعاث الضوء وامتصاصه وتشتته بسبب الجسيمات أو الذرات المشحونة، والتفاصيل الدقيقة للطاقة الذرية، وفناء الإلكترونات والبوزيترونات، والخصائص المغناطيسية للبتونات. على أي حال، حين تُجرى هذه الحسابات بالشكل السليم يكون الاتفاق بين النظرية والتجربة مذهلًا. اختُبرت بعض التنبؤات في تجارب وحققت نسب دقة استثنائية وصلت في بعض الأحوال إلى أفضل من واحد في التريليون. يمد هذا الاتفاق القوي الفيزيائيين بالثقة في أن تفسير «تبادل الفوتونات» للديناميكا الكهربية الكمية صحيح.
البوزونات | ||
---|---|---|
القوى الكهروضعيفة الموحدة (لف مغزلي = ١) | ||
الاسم | الكتلة GeV/c2 | الشحنة الكهربية |
γ فوتون | صفر | صفر |
W- | ٨٠٫٤ | −١ |
W+ | ٨٠٫٤ | +١ |
Z0 | ٩١٫١٨٧ | صفر |
القوى النووية الشديدة (اللون) (لف مغزلي = ١) | ||
الاسم | الكتلة GeV/c2 | الشحنة الكهربية |
g جلوون | صفر | صفر |
الجاذبية (لف مغزلي = ٢) | ||
الاسم | الكتلة GeV/c2 | الشحنة الكهربية |
جرافيتون | صفر | صفر |
(٨) القوة الضعيفة والقوة الكهرومغناطيسية متحدتان
إذا استخدمت الطبيعة عددًا كبيرًا من القوى لاكتفى الفيزيائيون بسردها في قائمة وحسب، لكن العدد أربعة عدد مثير للاهتمام؛ إذ إن المرء كان سيتوقع إما قوة واحدة أو عددًا كبيرًا جدًّا من القوى. يدفعنا هذا إلى التساؤل هل القوى الأربع، رغم تباينها في خصائصها، هي في الحقيقة قوة واحدة مجسدة في أربع صور مختلفة؟ كما أوضحت من قبل فإن القوتين الكهربية والمغناطيسية مرتبطان إحداهما بالأخرى منذ وقت طويل. هل يمكن أن تكون القوى الأخرى مرتبطة أيضًا في أعماقها؟ هذه فكرة مثيرة للاهتمام ولها تاريخ طويل. وفي خمسينيات القرن التاسع عشر حاول مايكل فاراداي دون نجاح أن يجد الرابط بين القوى الكهربية والجاذبية بإلقاء الأثقال وحساب تأثيراتها الكهربية.
(٩) النموذج المعياري
اختُبر النموذج المعياري بطرق عديدة على مدار الثلاثين عامًا الماضية ودائمًا ما أثبت صحته بشكل دامغ. ومع ذلك فالفيزيائيون يصرون على أنه ليس القول الفصل في هذا الموضوع. فبداية، تشير بعض التجارب الآن بالفعل إلى فيزياء جديدة تتجاوز نطاق النموذج المعياري، فيزياء من المفترض استيضاحها حين يبدأ مصادم الهدرونات الكبير في العمل. أيضًا هناك بعض الحقائق التي لا يقول النموذج المعياري عنها شيئًا؛ على غرار الحاجة لثلاث عائلات من الكواركات واللبتونات، ووجود المادة المظلمة والطاقة المظلمة (وهو الموضوع الذي سأعود إليه في الفصل السادس). علاوة على ذلك، يحمل النموذج المعياري صبغة العمل غير المكتمل؛ إذ إن من ملامحه البغيضة تلك الصورة المترددة التي يجمع بها بين القوة الكهروضعيفة والقوة النووية الشديدة، التي تشبه وضع التفاح والكمثرى في نفس السلة، دون محاولة لربطهما معًا. يبدو النموذج المعياري كاستراحة تقع على نصف الطريق إلى النظرية التامة الموحدة التي فيها ستندمج القوتان الشديدة والكهروضعيفة في قوة واحدة فائقة.
من أوجه القصور الأخرى للنموذج المعياري تجاهله التام للقوة الأساسية الرابعة؛ الجاذبية. فرغم أن جميع الجسيمات تستشعر قوة الجاذبية، فإنها طفيفة بشكل لا يصدق حتى إن العمليات المتعلقة بالجاذبية على المستوى دون الذري تنزوي تمامًا تحت تأثير القوى الأخرى. أيضًا، يمكن اعتبار الجاذبية خارجة عن المجموعة لأنها يمكن أن توصف لا بكونها قوة، بل انحناء لهندسة الزمكان. هذه الخاصية الهندسية تجعل من العسير للغاية تقييد الجاذبية في حدود نوع التوصيفات الكمية الملائم ملاءمة جيدة لكل من القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الشديدة والضعيفة. ومع ذلك فسيكون من المستغرب وجود قوتين في الطبيعة، القوة النووية الشديدة/الكهروضعيفة وقوة الجاذبية. إن التوحيد المتتالي للجسيمات والقوى يوحي بوجود نظام واحد أكثر شمولًا؛ نظام رياضي واحد يضم «كل شيء». إن إغراء الوصول لنظرية نهائية — نظرية لكل شيء — ثبت أنه أمر لا يقاوم على امتداد أجيال من الفيزيائيين النظريين. والآن، كما يزعم بعض المتحمسين، قد نكون على شفا تحقيق هذا الهدف.
النقاط الأساسية
-
المادة مكونة من ذرات، والذرات مكونة من إلكترونات وأنوية، والأنوية مكونة من بروتونات ونيوترونات، والبروتونات والنيوترونات مكونة من كواركات. هناك جسيمات أخرى إضافية، لكن أغلبها يتحلل بسرعة، ومعظمها مزيج من الكواركات والكواركات المضادة.
-
أربع قوى أساسية — الجاذبية، والقوة الكهرومغناطيسية، والقوتان النوويتان الشديدة والضعيفة — تكفي لتفسير كيفية سلوك المادة بكل أشكالها. على المستوى الكمي توصف القوى على أنها عملية تبادل للجسيمات الافتراضية.
-
تنقسم جسيمات المادة إلى كواركات ولبتونات. تستشعر الكواركات القوة النووية الشديدة، لكن اللبتونات لا تستشعرها.
-
القوى الأربع مترابطة على الأرجح. اثنتان منها، القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة، جُمِعَ بينهما بنجاح على صورة قوة «كهروضعيفة».
-
يضع النموذج المعياري للجسيمات النظرية الكهروضعيفة الموحدة إلى جانب نظرية القوة الشديدة المسماة بنظرية الديناميكا اللونية الكمية. النموذج ناجح لدرجة كبيرة في تفسير ما نعرفه عن فيزياء الجسيمات. إلا أن هناك بعض الحقائق المهمة التي لا يقدم لها النموذج المعياري تفسيرًا، لذا يعتبره الفيزيائيون الخطوة الأولى على طريق الوصول لنظرية أكثر شمولًا.