كون ملائم للحياة
(١) دور المراقبين
زلزلت النظرة الجديدة للكون التي دعا إليها كوبرنيكوس، والتي تقضي بأن الأرض هي التي تدور حول الشمس، العالم الغربي لدرجة أدت إلى بدء استخدام مصطلح «الثورة» في سياق سياسي واجتماعي أشمل أيضًا. في القرن السادس عشر كانت أوروبا أسيرة للكنيسة الرومانية، التي كانت تتبنى وجهة النظر الأفلاطونية القديمة القائلة إن الأرض هي مركز الكون، وما يستتبعه ذلك من نتيجة بديهية مفادها أن الإنسان يمثل ذروة الخلق. بالحط من مرتبة كوكبنا من المركز المحوري للكون أرسى كوبرنيكوس مبدأ عدم التميز، الذي استمر بعده لأربعة قرون. وحين وجه جاليليو تلسكوبه المخترع حديثًا صوب السماء عام ١٦٠٩ رأى أن مجرة درب التبانة تتكون من تجمع هائل من النجوم الخافتة. وتدريجيًّا بدأ علماء الفلك يدركون أن الشمس ليست إلا نجمًا عاديًّا مثل كثير غيره. واليوم نحن نعرف أن مجرة درب التبانة تحوي ما يزيد عن المائة مليار نجم، أغلبها مشابه لشمسنا. في القرن العشرين تمكنت التلسكوبات القوية من رؤية النجوم في مجرة أندروميدا وما خلفها، كاشفة عن أن حتى مجرة درب التبانة لا تشغل مكانًا مميزًا في الكون. لقد أرست عمليات المسح المنهجية للمجرات المبدأ الكوني، والقائم بالأساس على أن الكون، على نطاقه الواسع، متطابق وغير متمايز.
ولا يمكن لأي محاولة لتفسير الكون أن تكلل بالنجاح ما لم تأخذ في الاعتبار «مبدأ عدم التميز» هذا. وكما رأينا، فإن سيناريو الكون المتضخم يقدم تفسيرًا طبيعيًّا للتطابق الكوني واسع النطاق. أيضًا تفسر النظرية المعنية بتكون المجرات من مواطن الشذوذ البدائية وجود النظم النجمية، مثل درب التبانة، في كل مكان، وبشكل مشابه تفسر النظرية القائلة بتكون النجوم والكواكب من سحب الغازات كيف أن نظامنا الشمسي ليس إلا نظامًا عاديًّا شائع الوجود. بيد أن التطابق وعدم التميز ليسا بأي حال من الأحوال هما السمتين الكونيتين الوحيدتين اللتين تحتاجان لتفسير؛ إذ إن هناك جانبًا عادة ما يتم التغاضي عنه في قائمة السمات المرصودة، وهو حقيقة وجود مراقبين يرصدون هذه السمات الكونية.
يتسم دور «المراقب» في العلم بالغرابة، وقد يسبب حيرة شديدة لعدد غير قليل من العلماء. فعلى أي حال، إن مهمة العلم إحلال النظرة الموضوعية للطبيعة محل النظرة الذاتية. وأي زعم علمي لا يؤخذ على محمل الجد إلا إذا اختُبر على يد أطراف بصورة محايدة (وبقدر من الاهتمام!) وإذا زعمت أن الأرض تدور حول الشمس لأنها مربوطة بمركبة فضائية عملاقة لا يمكن لأحد سواي رؤيتها، فلن يصدقني أحد، وسيكونون محقين في ذلك. إن نظرية النسبية لأينشتاين تؤكد على الموضوعية بشكل تام. بل إن كلمة «نسبية» نفسها تعني أن النظرة إلى العالم هي دومًا نظرة مراقب بعينه، وتقدم النظرية القواعد التحويلية اللازمة للتوفيق بين مشاهدات أحد المراقبين وتلك الخاصة بآخر. وبهذه الصورة يمكن استخلاص «الجوهر الموضوعي» للطبيعة من خبرات أفراد المراقبين. وقد أكد أينشتاين في نظريته على أن قوانين الفيزياء لا بد أن تظل «واحدة» لجميع المراقبين، مهما تكن حركتهم أو موضعهم. فلا يوجد تفضيل لمراقب بعينه. ولهذا السبب لا تشير قوانين الفيزياء لسرعة أي جسم في الفضاء مثلًا؛ لأنها لو فعلت فسيعني هذا تفضيل طبقة معينة من المراقبين — الساكنين — الذين رأوا العالم بشكل مختلف.
في ظل هذه الخلفية التاريخية ليس من المستغرب ألا يكون تفسير وجود المراقبين من المتطلبات الأساسية بين علماء الكونيات من أجل صياغة نظرية ناجحة عن الكون. لكن المزيد والمزيد منهم مقتنعون الآن بأن في هذا الأمر تجاوزًا خطيرًا. لنأخذ على سبيل المثال موقعنا في الكون، إلى أي مدى يعد موقعنا عاديًّا غير متميز؟ حسن، من الواضح أنه موقع فريد ومتميز إلى حد بعيد. إن أغلب الكون ما هو إلا فضاء خاوٍ، لكن بني البشر يعيشون على سطح أحد الكواكب. وهناك سبب وجيه وراء ذلك؛ فالحياة من غير المرجح أن تنشأ في الفضاء الخارجي، وحتى لو حدث هذا فلن تحقق المخلوقات ذات الأمخاخ الكبيرة نجاحًا كبيرًا هناك. إن المراقبين البشريين يجدون أنفسهم يعيشون على أحد الكواكب لأنه لم يكن بمقدورهم التطور في أي مكان آخر.
ليس هذا المثال التافه إلا إشارة لأمر آخر أكثر أهمية؛ فالمراقبون — على الأقل من واقع خبرتنا إلى الآن — هم كائنات حية، والحياة ظاهرة معقدة دقيقة تحتاج العديد من المتطلبات الخاصة. وهي ستظهر في الكون فقط لو توافرت الظروف المناسبة. وإذا لم تكن هذه الظروف عامة شائعة فهذا يعني أن نظرتنا للكون لن تكون عامة، بل ستعكس موقفنا في ذلك الموقع الكوني الخاص المشجع على الحياة.
(٢) هل نحن وحدنا في الكون؟
إن التساؤل عما إذا كنا وحدنا في هذا الكون أم لا يعد من أكبر الألغاز غير المحلولة في العلم. تعتمد الإجابة على هذا التساؤل على اكتشاف هل الحياة ليست إلا مصادفة استثنائية حدثت مرة واحدة في الكون القابل للرصد، أم أنها نتاج لقوانين مشجعة على الحياة تسهل من ظهورها كلما توافرت ظروف مشابهة لتلك الموجودة على كوكب الأرض. هناك علماء متميزون يناصرون كلتا وجهتي النظر. لا شك أن المادة الأساسية للحياة منتشرة في أرجاء الكون؛ فالحياة (على الأقل على الصورة التي نعرفها) مبنية على الكربون، وهو من أكثر العناصر شيوعًا. وتقوم الحياة أيضًا على الهيدروجين، أكثر العناصر شيوعًا على الإطلاق، إلى جانب النيتروجين والأكسجين والكبريت والفسفور، وجميعها موجودة في الكون بوفرة. بعض الوحدات البنائية للحياة؛ جزيئات عضوية على غرار الفورمالدهايد واليوريا، موجودة في السحب المنتشرة بين النجوم. أيضًا يشيع وجود الماء، وهو مكون أساسي آخر تقوم عليه الحياة الأرضية، بشكل كبير في النظام الشمسي وغيره من النظم النجمية وسحب الغازات. بهذا تتراكم المزيد من الأدلة على أن المواد المشجعة على الحياة — المواد العضوية والماء — موجودة في شتى أرجاء الكون. ومع ذلك فالطريق بين الوحدات البنائية البسيطة للحياة وأكثر أشكال الحياة البدائية بساطة لا يزال طويلًا للغاية. فبرغم كون الماء والمواد العضوية من المقومات الأساسية للحياة، فإنها لا تكفي وحدها. وليس من الممكن أن نخلص — فقط استنادًا على شيوع الوحدات البنائية للحياة — إلى أن الحياة نفسها يشيع وجودها في الكون. لكن على حد علمنا كان من الممكن ظهور الحياة في أي مكان في الكون المرصود. وإذا اتضح أن الحياة مقصورة فقط على الأرض فسنعزو هذا إلى كونها مصادفة تاريخية فقط وليس علامة على وجود سمة مميزة يتفرد بها النظام الشمسي من حيث قابليته لاستضافة الحياة.
- (١)
ينبغي أن تسمح قوانين الفيزياء بتكون بُنى معقدة مستقرة.
- (٢)
ينبغي أن يحتوي الكون على نوعية العناصر، مثل الكربون، التي تقوم عليها الحياة.
- (٣)
لا بد من وجود ظروف ملائمة تتآلف فيها المكونات الأساسية للحياة بصورة مناسبة.
(٣) نشأة العناصر الكيميائية
حدد علماء الكيمياء ما يربو على المائة عنصر كيميائي، وهي مصطفة بأناقة في صفوف وأعمدة الجدول الدوري الشهير الذي وضعه ديميتري مندليف في القرن التاسع عشر. بعض العناصر، كالكربون والحديد، يشيع وجودها، لكن عناصر أخرى، كالذهب واللنثانوم، نادرة الوجود. وفي الكون ككل تتألف المادة العادية (في مقابل المادة المظلمة) من عنصري الهيدروجين والهليوم؛ ذلك الهليوم الذي تكون في الدقائق القليلة الأولى التي تلت الانفجار العظيم. من التحديات التي تواجهها نظريات الفيزياء الفلكية محاولة تفسير الوفرة النسبية لبقية العناصر. لفترة طويلة ظل أصل هذه العناصر غامضًا، لكن بحلول أربعينيات القرن العشرين صار من الواضح أن النجوم مسئولة بشكل كبير عن هذا الأمر؛ إذ إن النجوم مفاعلات نووية عملاقة، وهي حارة بما يكفي لتصنيع العناصر الثقيلة من الأخرى الخفيفة.
بدأت النجوم الأولى في التكون حين تجمع الهيدروجين والهليوم المتخلفان عن الانفجار العظيم في سحب كثيفة. استغرق هذا الأمر مئات الملايين من الأعوام لأن إشعاع الخلفية الكوني كان في بدايته قويًّا للغاية لدرجة تمنع استقرار الغازات. لكن في النهاية، بفعل قوى الجاذبية، انقسمت السحب المتكثفة إلى نجوم أولية؛ كرات من الغاز تزداد درجة حرارتها مع الانكماش. وفور وصول قلب كرة الغاز لحرارة تبلغ بضع ملايين الدرجات تنطلق التفاعلات النووية. يولد النجم الحقيقي حين تخلق هذه الحرارة قدرًا كافيًا من الضغط الداخلي يوقف عملية الانكماش. وبعد استقراره على هذا النحو يستمر النجم في الاحتراق دون كلل لملايين، أو ربما مليارات، الأعوام، استنادًا على كتلته. النجوم ذات الكتلة القليلة تكون أبرد نسبيًّا، لذا فهي تستهلك وقودها النووي بشكل أبطأ، وتعيش لفترة أطول، لكن النجوم الكبيرة تستهلك وقودها النووي بشراهة وسرعان ما تستنفده.
حين ينخفض مخزون النجم من الهيدروجين يواجه أزمة طاقة. تعجز النجوم الصغيرة والمتوسطة الكتلة عن توليد أي حرارة من المفاعلات النووية، لذا فهي تنكمش على شكل أقزام بيضاء، لا يصدر عنها سوى حرارة بسيطة. أما النجوم ذات الكتلة العالية فتستطيع الاستمرار في عمليات الاندماج النووي كي تواصل السطوع، وذلك بفضل الارتفاع الكبير في درجة حرارتها الداخلية (التي تصل إلى مئات الملايين من الدرجات). ما هي إذن الخطوة التالية على اندماج الهيدروجين؟ الخطوة التالية مباشرة هي إضافة بروتون آخر إلى الهليوم لتكوين الليثيوم. لكن لا ينجح التفاعل من هذا النوع؛ لأن نواة الليثيوم المحتوية على ثلاثة بروتونات ونيوترونين غير مستقرة، وذلك لاحتواء الليثيوم عادة على ثلاثة أو أربعة نيوترونات. ماذا عن دمج نواتين من أنوية الليثيوم لتكوين نظير البيريليوم-٨، الذي تحتوي نواته على أربعة بروتونات وأربعة نيوترونات؟ لا يفيد هذا أيضًا؛ لأن هذه النواة تكون غير مستقرة هي الأخرى بشكل كبير، وتتحلل فور تكونها. إن النظير المستقر للبيريليوم في الطبيعة تحمل نواته خمسة نيوترونات، وليس أربعة. لذا يمر هذا النجم بأزمة نووية خطيرة.
(٤) كيف تكون الكربون، العنصر الأساسي للحياة؟
بعد البيريليوم يأتي الكربون كأول العناصر الثقيلة؛ إذ يحتوي على ستة بروتونات وستة نيوترونات. هل من الممكن أن تكون النجوم قد وجدت سبيلًا لتجاوز الليثيوم والبيريليوم والاتجاه مباشرة من الهليوم إلى الكربون؟ سيتطلب هذا اتحاد ثلاث أنوية من الهليوم في اللحظة ذاتها. إن حساب البروتونات والنيوترونات (٣ × ٢ × ٢ = ٦ + ٦) يسير بشكل صحيح، ويكون الناتج النهائي نواة كربون مستقرة. لكن لأن البروتونات المشتركة في هذه المقابلة النووية الثلاثية أكثر من الموجودة في عملية الاندماج النووي الأصلية للهيدروجين، تصير قوة التنافر الكهربي أكبر بالتبعية، لذا هناك حاجة لحرارة أعظم للسماح للأنوية بالتقارب بما يكفي للسماح للقوة النووية الشديدة بممارسة عملها. ليست هذه هي المشكلة؛ فبمزيد من الانكماش يمكن أن ترتفع حرارة قلب النجم إلى درجة كافية. لكن هناك صعوبة أساسية تخص التفاعل نفسه، وهي أن احتمال تقابل ثلاث أنوية للهليوم في نفس المكان ونفس اللحظة ضعيف للغاية. بالطبع ليس لزامًا عليها أن تصل في نفس اللحظة «بالضبط»، فمن الممكن أن تتحد نواتان للهليوم أولًا لتكوين نواة البيريليوم غير المستقرة بشكل كبير، وقبل أن تتحلل يمكن أن تلحق بها نواة الهليوم الثالثة. لكن من النظرة الأولى يتضح أن هذا أمر غير مرجح؛ نظرًا لتحلل نواة البيريليوم بسرعة كبيرة بما لا يعطي الفرصة لنواة الهليوم الثالثة للاصطدام بها. وهكذا يبدو من الظاهر أن هذا الطريق لتكوين الكربون مسدود هو الآخر.
كان هذا هو الموقف الذي تواجهه الفيزياء الفلكية في أوائل الخمسينيات. اهتم فريد هويل، عالم الفلك الإنجليزي المغمور نسبيًّا وقتها بهذه الأحجية. وقد رأى أن الكائنات القائمة في حياتها على الكربون بشكل عام، وفريد هويل نفسه بشكل خاص، لم تكن لتوجد من الأساس لو ظل تكون العناصر مقتصرًا على الهليوم وحده. حسن، من الواضح أن شيئًا ما حدث كي يتم تكوين ذرة الكربون، وهو على الأرجح شيء بداخل النجوم. وطالما فشلت الفيزياء النووية في تفسير تكون الكربون، فربما يكون المسئول عنه شيئًا غير عادي.
هذا يصل بنا إلى لب القضية. في العلم يحاول المرء تجنب اللجوء للمصادفات في تفسيراته. كما أن مبدأ شفرة أوكام يحضنا على تبني أبسط وأوضح التفسيرات أولًا. لكن أحيانًا لا تفلح التفسيرات البسيطة الواضحة، ونكون مرغمين على اللجوء لتفسير غير معتاد. وكما قال شيرلوك هولمز فإننا حين نستبعد المستحيلات، فإن ما يتبقى لنا، مهما كان مستبعدًا، هو الحقيقة. بشكل عام يعد الالتزام بالتفسيرات البسيطة الواضحة هو أفضل استراتيجية، لكن هناك موضوعًا واحدًا يمكن فيه للمصادفات الاستثنائية أن تدخل في نسيج التفسير العلمي السليم، وهذا الموضوع هو الحياة.
إليك تصوره عن الأمر: تعتمد سرعة التفاعل النووي على طاقة الجسيمات المشاركة فيه. في الغالب ينتج عن التفاوتات في معدلات الطاقة حدوث ارتفاع أو انخفاض طفيف في كفاءة التفاعل، لكن أحيانًا ما تحدث قفزة كبيرة في معدل التفاعل. يطلق العلماء على هذه الزيادة المباغتة اسم الرنين. يأتي هذا الاسم من الطريقة التي تدخل بها ميكانيكا الكم الصورة. تصف نظرية الكم جانبًا موجيًّا للجسيمات (انظر الإطار [غرابة ميكانيكا الكم])، بما في ذلك أنوية الذرات، وعادة ما ينتج عن الموجات رنين. على سبيل المثال، بعض مغني الأوبرا يمكنهم إصدار نغمات صوتية ذات تردد مرتفع تتوافق مع ذبذبات كأس زجاجي بما يكفي لتحطيمه. مثال معتاد آخر على الرنين يتمثل في ضبط مستقبل المذياع كي يتلقى إشارة محطة إذاعية بعينها. فحين يتوافق تردد الدوائر الموجودة في المذياع مع تردد الموجات اللاسلكية الآتية من المحطة، تتوافق الموجات مع الدائرة وتُضخَّم الإشارة بدرجة كبيرة. يمكن للموجات الكمية أن تتوافق بهذا الشكل هي الأخرى، ومن ثم تعزز معدل العمليات الذرية أو النووية.
شعر هويل أن الرنين يحمل تفسير عملية تكون الكربون؛ إن كتلة نواة الكربون أقل نسبيًّا من مجموع كتل أنوية الهليوم الثلاث التي من المفترض أنها تتصادم معًا كي تكونها، وذلك بسبب الكتلة/الطاقة المنطلقة عند تكون الكربون. بيد أن الأنوية توجد في حالات استثارة أيضًا، لذا استنتج هويل أن نواة الكربون لا بد أن لها حالة استثارة أعلى بقليل من الكتل/الطاقات المجتمعة لأنوية الهليوم الثلاث. وقتها يمكن لنظام الهليوم-البيريليوم أن يتناغم مع هذه الكتلة/الطاقة إذا تم تعويض هذا النقص البسيط من الطاقة الحركية للجسيمات المتدافعة داخل النجم المتقد. سيكون تأثير هذا الرنين إطالة عمر نواة البيريليوم غير المستقرة، وهذا يعطي نواة الهليوم الثالثة فرصة جيدة للاصطدام بها. وهكذا سيكون الطريق مفتوحًا أمام تكون وفرة من ذرات الكربون، رغم كافة الاحتمالات المعاكسة. وقد حسب هويل المقدار الذي ينبغي أن تكون عليه طاقة الرنين.
ما الذي نستخلصه من هذا؟ حين جذب هويل الانتباه لهذا الموضوع كانت النظرة التقليدية هي أن قوة القوى النووية «ثابتة»؛ مجرد «متغير حر»، لا تتحدد قيمته من خلال أي نظرية بل يجب قياسها من واقع التجارب. وكانت الاستجابة التقليدية هي عدم المبالاة بالقضية من الأساس وقول: «القيمة التي هي عليها هي القيمة التي هي عليها، ولو كانت مختلفة لم نكن لنوجد حتى نقلق بشأن هذا الأمر.» بيد أن هذا التوجه يبدو غير مرض بشكل ما، فبالتأكيد يمكنا أن نتخيل كونًا يكون فيه قانون القوة النووية مماثلًا للذي لدينا، لكن مستوى القوة نفسها مختلف، تمامًا مثلما يمكن تخيل عالم تكون فيه قوة الجاذبية أقوى أو أضعف مما لدينا، لكنها تطيع نفس القوانين. إن حقيقة كون قيمة القوة النووية الشديدة والقوة الكهرومغناطيسية في نواة الذرة «ملائمة تمامًا» للحياة (تمامًا كما هو الحال في عصيدة جولديلوكس) تحتاج للتفسير.
ثم قال الإله: «لتكن هناك كتلة ثانية.» وبالفعل ظهر الديوتيريوم، وكان مُرضيًا.
استاء الرب من تلك الزلة، وأراد أن يقلص الكون، ويعيد خلق كل شيء من جديد. ولكن تلك مهمة غاية في البساطة، ولهذا، قرر الإله، وهو القدير، أن يخلق العناصر الثقيلة بأكثر الطرق استحالة.
ومن ثم قال الإله: «ليكن هناك فريد هويل»، فكان فريد هويل، وشاهده الإله وأوكل له أن يصنع العناصر الثقيلة بأي طريقة تعجبه.
وهكذا قرر هويل صنع العناصر الثقيلة في النجوم، ونشرها في أرجاء الكون من خلال انفجارات السوبرنوفا. ولكن أثناء ذلك، تعين عليه أن يحصل على نفس منحنى الوفرة الذي كان سينتج من عملية التخليق النووي داخل الإلم، في حالة أن الإله لم يكن قد نسي خلق الكتلة الخامسة.
وبعدها، وبعون من الإله، خلق هويل العناصر الثقيلة بهذه الطريقة، غير أنها كانت معقدة حتى إنه لا هويل، ولا الإله، ولا أحد بإمكانه اليوم أن يعرف بالتحديد كيف تكونت هذه العناصر.
(٥) القوة الضعيفة، «عملية مدبرة» أخرى؟
دعونا إذن نعبث بآلة التصميم قليلًا ونرى ما سيحدث. تحدثت من قبل عن القوة النووية الشديدة، لكن ماذا عن القوة النووية الضعيفة؛ تلك المسئولة عن أشياء مثل التحلل الإشعاعي وتحول النيوترونات إلى بروتونات؟ الموقف هنا أقل خطورة، لكنه مثير للاهتمام في الوقت ذاته. للقوة النووية الضعيفة دور في عملية تكون الكربون، ليس في تصنيع الكربون فقط، بل في توزيعه أيضًا. إن ذرات الكربون الموجودة في جسدك تكونت داخل أحد النجوم في مكان ما، منذ مليارات الأعوام. كيف انتهى بها المطاف على كوكب الأرض؟ من الطرق التي يُخَلِّص بها النجم نفسه من الكربون هي الانفجار. من المعتاد أن تنتهي حياة النجوم الضخمة بصورة كارثية على شكل سوبرنوفا. ما يحدث هو أن قلب النجم ينفد منه الوقود النووي، ويعجز عن الاستمرار في دعم الضغط المهول المطلوب لتماسكه في مقابل ثقل مادته. يصل النجم لنقطة حرجة يستسلم فيها القلب وينهار على نفسه بشكل كارثي مكونًا إما ثقبًا أسود أو نجمًا نيوترونيًّا (اعتمادًا على كتلته الأولية). تندفع الطبقة الخارجية للنجم نحو القلب في أعقاب انهياره، لكن سرعان ما ترتد وتنفجر على نحو هائل، ناثرة الغاز عبر الفضاء بين النجميّ. تحدث مثل هذه الانفجارات النجمية الضخمة بمعدل مرتين لثلاث في كل قرن في المجرة الواحدة، وتطلق مقدارًا عظيمًا من الطاقة؛ حتى إن النجم المنفجر يضاهي المجرة بأكملها في درجة السطوع لعدة أيام.
(٦) القوة الضعيفة في الكون المبكر
النيوترونات أثقل من البروتونات بحوالي ٠٫١ بالمائة، لذا يعني التوزيع العادل أنها لو حصلت على حصتها المستحقة وحسب من الطاقة المتاحة فسيكون عددها أقل في النهاية من البروتونات (لأن تكون النيوترون الأثقل قليلًا من البروتون سيحتاج قدرًا أكبر من الطاقة). يعتمد مقدار إسهام هذا التباين في الكتلة في الزيادة العددية للبروتونات عن النيوترونات إلى حدٍّ بعيد على درجة الحرارة، فبعد ميكروثانية من الانفجار العظيم، حين كانت درجة الحرارة تبلغ تريليون درجة، لم يكن لفارق الكتلة البالغ ٠٫١ بالمائة أثر يذكر (بالمقارنة بالطاقة الحرارية الهائلة المتاحة)، لذا كانت نسبة النيوترونات إلى البروتونات واحدًا إلى واحد تقريبًا. لكن مع انخفاض درجة الحرارة أكثر وأكثر صارت الطاقة الحرارية متاحة للتقاسم، وهنا مالت الكفة بدرجة كبيرة ناحية البروتونات الأخف وزنًا؛ إذ انخفضت نسبة النيوترونات إلى البروتونات بشكل قاس لتبلغ واحدًا إلى ستة (أي ستة بروتونات مقابل كل نيوترون). في هذه المرحلة خرجت النيوترينوات من المعادلة، وظلت نسبة البروتونات إلى النيوترونات ثابتة على ما يربو قليلًا عن الستة إلى واحد.
الآن يمكنك أن ترى ما كان سيحدث لو أن القوة الضعيفة كانت أضعف مما هي عليه: كانت النيوترينوات ستترك الصراع بشكل أسرع، حين كان الكون أكثر حرارة وكانت المزية العددية الممنوحة للبروتونات الأخف وزنًا، بفعل مبدأ التوزيع العادل، أقل. كان هذا سيعني وجود نيوترونات أكثر وبروتونات أقل في الخليط النهائي. ولأن فائض البروتونات هو الذي شكل بعد ذلك الهيدروجين، ستكون بالتالي كمية الهيدروجين في الكون أقل وتكون نسبة الهليوم أعلى. ولو كانت النسبة التي توقف عندها التفاعل واحدًا إلى واحد بالضبط، كانت المادة «كلها» سينتهي بها الحال إلى الهليوم. كانت قلة الهيدروجين ستسبب تداعيات خطيرة على الحياة؛ فالنجوم المستقرة طويلة العمر، كشمسنا، هي مفاعلات نووية هيدروجينية، ودون مخزون وفير من هذه المادة الخام كانت النجوم ستحرم من الوقود اللازم لها وكانت خصائصها ستختلف اختلافًا كبيرًا. أيضًا يتحد الهيدروجين مع الأكسجين لتكوين الماء، الذي يلعب دورًا محوريًّا في قصة الحياة بجميع مراحلها. على سبيل المثال، بدأت الحياة على الأرجح في «حساء بدائي» مائي، وطوال القدر الأعظم من تاريخها، ظلت الحياة على الأرض مقصورة على المحيطات. وحتى حيوانات البر، مثلنا، تتكون أجسامها بنسبة ٧٥ بالمائة من الماء. ودون وفرة من الماء ستكون فرص ظهور الحياة وازدهارها شحيحة.
المحصلة النهائية لتلك الاعتبارات النووية العديدة، إذن، هي أنه لو كانت القوة النووية الضعيفة أقوى مما هي عليه أو أضعف ولو بقدر ضئيل، كان التركيب الكيميائي للكون سيختلف اختلافًا كبيرًا، مقللًا من فرص ظهور الحياة.
(٧) الضبط الدقيق للقوى الأخرى
سأتحول الآن إلى القوتين الأخريين من قوى الطبيعة؛ قوة الجاذبية والقوة الكهرومغناطيسية. إلى أي مدى تسهم خصائصهما في قصة الحياة؟ من السهل تبين كيف يمكن لتغيير خصائص هاتين القوتين بشكل كبير أن يهدد الحياة، فلو كانت الجاذبية أقوى فستحترق النجوم أسرع، وتموت في سن مبكرة؛ فإذا تمكنا بصورة سحرية من جعل قوة الجاذبية أقوى، لنقل، بمرتين، عندئذٍ ستسطع الشمس أقوى بمائة ضعف، وسينخفض عمرها كنجم مستقر من ١٠ مليارات عام، إلى أقل من ١٠٠ مليون عام، وهي فترة غير كافية لظهور الحياة، وبالتأكيد لا تكفي لتطور مراقبين أذكياء. وإذا كانت القوة الكهرومغناطيسية أقوى بمرتين لكانت قوة التنافر الكهربي بين البروتونات أعظم، وهو ما يهدد استقرار النواة.
لكن ليست هذه هي الكيفية التي نشعر بها بهذه القوى؛ فنحن نشعر بقوة الجاذبية الأرضية كثيرًا، وتبدو القوى الكهربية تافهة مقارنة بها. السبب في ذلك هو التأثير التراكمي لقوة الجاذبية؛ فكلما زادت المادة صارت الجاذبية أقوى. لكن الموقف مختلف في حالة الشحنات الكهربية لأنها تأتي على صورتين، موجبة وسالبة. فإذا راكمت شحنة كهربية موجبة عظيمة في مكان ما فستجتذب إليها شحنة سالبة من البيئة المحيطة، وهو ما يقلل من قوتها الصافية. بهذه الصورة تتسم الشحنة الكهربية بأنها كابحة لذاتها بطبيعتها. لكن هذا لا يحدث مع الجاذبية؛ فكلما زادت المادة الموجودة في مكان ما جذبت إليها المزيد من المادة، وتعاظمت قوة الجاذبية المجتمعة أكثر. لذا تعد قوة الجاذبية معززة لذاتها بطبيعتها، وبهذا رغم ضعفها الشديد فإنها تستطيع التراكم حتى تصير مهيمنة، كما يحدث في حالات انهيار النجوم.
(٨) المزيد من أعاجيب الضبط الدقيق
كما لو أن ما وصفته إلى الآن ليس كافيًا، ثمة المزيد من «الصدف السعيدة» في الفيزياء الأساسية تجعل الكون ملائمًا لاستضافة الحياة. من الأمثلة الأخرى كتل الجسيمات دون الذرية المتنوعة. يضع الفيزيائيون جداول لها، ويضعون بها أرقامًا مبهرة، بيد أنها من الظاهر لا تحمل أي معنى على الإطلاق. دائمًا ما أتلقى العديد من المخطوطات من علماء هواة ذوي عقول حالمة يعتقدون أنهم حددوا أنماطًا معينة للقيم العددية لهذه الكتل. لكن مما يؤسف له أن كل هذه الأفكار غير سليمة. ربما في يوم ما يتمكن المنظرون من استقاء هذه الأرقام من بعض المبادئ الرياضية الأعمق المرتبطة بنظرية فيزيائية ملائمة، لكن ليس من المرجح حدوث هذا في وقت قريب. في الوقت ذاته يمكننا اعتبار هذه الأرقام كمسلمات، والتحديق بها، والتساؤل عما تعنيه للحياة.
لتدرك ما أعني تدبر ما يلي؛ النسبة بين كتلة البروتون وكتلة الإلكترون هي ١٨٣٦٫١٥٢٦٦٧٥، وهو رقم عادي لا شيء استثنائي فيه، وتبلغ النسبة بين كتلة النيوترون وكتلة البروتون ١٫٠٠١٣٧٨٤١٨٧٠، وهو رقم لا يوحي بشيء هو الآخر. من الناحية المادية يعني هذا الرقم أن البروتون يحمل تقريبًا نفس كتلة النيوترون؛ الأثقل، كما رأينا من قبل، بحوالي ٠٫١ بالمائة. هل هذه الحقيقة مهمة؟ في الواقع هي كذلك، ولا تقتصر أهميتها على تحديد نسبة الهيدروجين إلى الهليوم في الكون. إن حقيقة أن كتلة النيوترون يتصادف أنها أكبر بقدر طفيف من مجموع كتلة البروتون والإلكترون والنيوترينو مجتمعة هي التي تمكن النيوترونات الحرة من التحلل. فإذا كانت النيوترونات أخف ولو بقدر طفيف «جدًّا» فلن تتمكن من التحلل دون الاستعانة بطاقة خارجية من نوع ما. ولو كانت النيوترونات أخف ولو بنسبة واحد بالمائة فستكون كتلتها أقل من كتلة البروتونات، وسينقلب الحال؛ إذ ستكون البروتونات المنفردة، وليس النيوترونات، غير مستقرة. وقتها ستتحلل البروتونات إلى نيوترونات وبوزيترونات، وهو ما سيكون له تداعيات خطيرة على الحياة؛ لأنه من دون البروتونات لن توجد ذرات أو كيمياء.
(٩) المثال الأعظم على الضبط الدقيق في الكون
وصفت الطاقة المظلمة بأنها قوة طرد — أو جاذبية مضادة — كونية تبعد المجرات بعضها عن بعض بمعدل متزايد. بيد أن هذا الوصف مضلل بعض الشيء؛ لأن الجاذبية المضادة تظل تعمل حتى في حالة عدم وجود المادة العادية على الإطلاق. وكما تحدثت باختصار في الفصل الثالث فإننا لو وضعنا في الاعتبار قوى الطرد الكونية فسيتمدد الكون الخاوي تمامًا بصورة «أسّية»؛ أي يتضاعف في الحجم على فترات منتظمة من الوقت. خلاصة القول هو أننا نستطيع التفكير في الفضاء الخاوي على أنه مليء بطاقة مظلمة غير مرئية وما يرتبط بها من ضغط سالب، وهذا المزيج هو ما يخلق الجاذبية المضادة.
لماذا يجب أن يحتوي الفضاء الخاوي على طاقة مظلمة؟ لماذا لا يكون خاويًا وحسب، دون وجود أي طاقة من أي نوع؟ هناك سبب لذلك، ألمحت إليه في الفصل الثالث، يتمثل في أن الفضاء سيحتوي على طاقة مظلمة لو كان يتخلله مجال قياسي غير مرئي، مثل مجال التضخم. لن نقدر على رؤية هذا المجال أو لمسه، لكنه سيولد جاذبية مضادة، وهو نفس ما يفترض حدوثه بقوة إبان مرحلة التضخم للكون المبكر للغاية. لكن هناك سببًا آخر تقدمه لنا ميكانيكا الكم، التي تتنبأ بأنه حتى الفضاء الخاوي يمتلئ بجسيمات افتراضية (انظر الإطار [غرابة ميكانيكا الكم]). تحمل الجسيمات الافتراضية طاقة على غرار الجسيمات العادية، ويتضح لنا أنها تحمل أيضًا مقدار الضغط السالب المطلوب لتوليد قوى طرد كونية من النوع الذي اقترحه أينشتاين.
أوضحت من قبل أنه حين أدرج أينشتاين قوى الطرد الكونية «عنوة» في نظرية النسبية العامة، لم تستطع النظرية نفسها تحديد قيمتها. كانت له حرية اختيار أي رقم يريده كي يضرب فيه طرف الجاذبية المضادة في المعادلة ومن ثم يحدد مدى شدة قوة الطرد الكونية الكلية. حدث أن استخدم أينشتاين البيانات الفلكية لحساب قيمة مقبولة تسمح بوجود كون ثابت، وهو النموذج الأثير لديه. حين غير أينشتاين رأيه حيال الكون الثابت، كان كل ما عليه عمله هو تعديل الرقم الذي يُضرب فيه طرف الطرد الكوني في المعادلة إلى الرقم صفر، وبهذا يلغي ذلك الطرف من المعادلات بالكامل. مثل هذا المنهج السريع غير الدقيق لحساب قوة الطرد الكونية، أو الجاذبية المضادة، قد يكون مبررًا إذا كان تحليلنا يقتصر على قوة الجاذبية وحدها، لكن حين تدخل ميكانيكا الكم الصورة فلن يفلح الأمر.
الطاقة المظلمة والفراغ الكمي
تتنبأ ميكانيكا الكم بأنه حتى الفضاء الخاوي مليء بالطاقة المظلمة، وإليك السبب: تخيل أن هناك بندولًا يتكون من كرة معلقة في خيط. حين يتأرجح البندول يكتسب نوعين من الطاقة: طاقة الحركة (المكتسبة من حركة البندول)، وطاقة الوضع (التي تكتسبها الكرة وهي ترتفع أعلى أكثر النقاط انخفاضًا في تأرجحها). تكون طاقة البندول صفرًا حين تتدلى الكرة دون حركة في أكثر النقاط انخفاضًا.
تغير ميكانيكا الكم هذه الصورة البسيطة. يمنع مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج الكرة من أن يكون لها حركة تامة التحديد وموضع تام التحديد في الوقت ذاته؛ فهناك تبادل في اليقين بينهما (انظر الإطار [غرابة ميكانيكا الكم]). إذا تحدد موضع الكرة بدقة في أكثر النقاط انخفاضًا، وهو ما يقلل بالتالي الطاقة إلى الصفر تقريبًا، فسيكون عدم اليقين كبيرًا فيما يخص حركتها، ومن ثم لا يمكن أن تبلغ طاقتها الحركية الصفر قط. وبالعكس، إذا اعتُبرت الكرة في حالة سكون — أي إن طاقة الحركة لها تقارب الصفر — فسيكون عدم اليقين كبيرًا فيما يخص موضعها الرأسي، ومن ثم ستكتسب طاقة وضع. توضح الحسابات الدقيقة أن هذين الإسهامين الكميين في الطاقة دائمًا ما يؤديان للنتيجة ذاتها، والمسماة بطاقة نقطة الصفر للبندول. تعتمد قيمة هذه الطاقة على التردد الطبيعي لتأرجح البندول، فكلما تأرجح البندول أسرع صارت طاقة نقطة الصفر أكبر.
جميع النظم الكمية التي يمكنها التأرجح، على سبيل المثال الذرات الموجودة في البنية البلورية أو الجزيئات ثنائية الذرة، لها طاقة نقطة صفر غير قابلة للخفض. وحتى الموجات الكهرومغناطيسية لها طاقة نقطة صفر. وهذا ليس بمفاجأة؛ أخذًا في الاعتبار أن حركة الموجات متذبذبة. يمكن للموجات الكهرومغناطيسية أن يكون لها أي طول موجي، وكل طول موجي يملك طاقة نقطة صفر خاصة به غير قابلة للخفض، توجد حتى لو لم يكن هناك أية فوتونات حاضرة. كلما كان الطول الموجي أقصر زاد تردد الموجة وزادت طاقة نقطة الصفر المرتبطة بها.
١٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ |
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ |
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ |
من الناحية المنطقية يمكن أن تتفق قوانين الفيزياء لخلق مثل هذا الاختزال شبه التام لقوة الطاقة المظلمة، لكن ستكون مصادفة استثنائية أن يكون «هذا القدر تحديدًا» من الاختزال — البالغ عشرة أس ١١٩ — هو المطلوب تمامًا لجعل الكون ملائمًا للحياة. إلى أي مدى يمكن الركون للمصادفات كجزء من التفسير العلمي؟ من معايير الحكم على الأمر تشبيهه بإلقاء العملة المعدنية؛ الاحتمال عشرة أس ١٢٠ إلى واحد يعني الحصول على الصورة وليس الكتابة لما لا يقل عن أربعمائة مرة على التوالي. وإذا كان وجود الحياة في الكون لا يعتمد بالكامل على آليات الضبط الدقيق هذه، أي إنه ليس إلا مصادفة، فهذه هي احتمالات وجودنا. إن ذلك القدر من المصادفات يبدو عسيرًا على التصديق وحسب.
لكن ما البديل؟ هناك بالفعل طريقة أخرى لتفسير القيمة الضئيلة للطاقة المظلمة، بل وربما جميع «المصادفات» السعيدة الأخرى في الفيزياء والكون، لكنها تتطلب منا الابتعاد عن طريقة التفكير المعتادة في العلم، وعلماء كثيرون يرهبونها. لكن، كما سنرى في الفصل التالي، قد تكون هي الإجابة الوحيدة.
النقاط الأساسية
-
يعتمد وجود الحياة كما نعرفها على العديد من المصادفات التي تشوب قوانين الفيزياء وبنية الكون.
-
من الأمثلة الأولى الشهيرة على الضبط الدقيق لقوانين الفيزياء عملية إنتاج الكربون في النجوم، التي تتطلب عددًا من «المصادفات» لإنتاج الرنين النووي بالطاقة المناسبة.
-
تلعب قوى الطبيعة الأربع دورًا في قصة الحياة. وتغيير إحداها، حتى ولو بقدر يسير، يمكن أن يدمر الكون.
-
لا يمكن أن تكون كتلة بعض الجسيمات الأساسية مختلفة عما هي عليه دون المخاطرة بقدرة الكون على استضافة الحياة.
-
القيمة المقاسة للطاقة المظلمة أقل بمقدار عشرة أس ١٢٠ من قيمتها الطبيعية، وذلك لأسباب غامضة تمامًا. ولو كان هذا المقدار عشرة أس ١١٩ وليس عشرة أس ١٢٠ لكانت عواقب ذلك مهلكة.