الفصل التاسع
التصميم الذكي،
والتصميم غير الذكي
(١) حجة صانع الساعات
يتفق الجميع على أن الكون «يبدو» كما لو كان مصممًا بحيث يلائم الحياة. حسن، ربما
الأمر كذلك بالفعل. ليس هذا باستنتاج خارق؛ ففكرة التصميم المقصود موجودة منذ مئات
السنوات. عبر أوجستين عن الفكرة الأساسية حين كتب: «إن نظام وترتيب وجمال وتغير وحركة
العالم وجميع الموجودات المرئية تعلن في صمت أنها لا يمكن أن تكون إلا من صنع
الله.»
1 وفي القرن الثالث عشر، جعل توما الإكويني من دليل التصميم «طريقه الخامس»
للإيمان.
2 في القرن الثامن عشر ذاع هذا الرأي على يد رجل الدين الإنجليزي ويليام
بالي، الذي استعان بالصورة البلاغية الشهيرة التي شبه فيها العالم بالساعة.
دعانا بالي لتخيل أننا عثرنا بالصدفة على ساعة ملقاة على الأرض. حتى دون أن نعرف
بشكل
دقيق الهدف منها، فسريعًا ما سنستنتج أنها صُممت لغرض محدد:
حين نتفحص الساعة، سندرك … أن أجزاءها العديدة مُصاغة وموضوعة معًا لغرض
معين، فمثلًا هي مصنوعة ومضبوطة بحيث تنتج الحركة، وهذه الحركة منتظمة بحيث
تشير لمرور الساعات في اليوم، وإذا شُكلت الأجزاء المتعددة بصورة تختلف عما هي
عليه، أو وضعت في موضع مختلف أو بترتيب مغاير عما هي عليه، فإما لم تكن أي حركة
لتُنتَج من خلال هذه الآلة، أو لم تكن لتخدم الغرض الذي صممت من أجله … ومن
الحتمي أن نخلص إلى نتيجة مفادها أن الساعة كان لها صانع؛ أنه، في وقت وفي مكان
ما، تواجد صانع، شكلها لهذا الغرض الذي نراها تخدمه، وأن هذا الصانع يتفهم
تركيبها وصمم غرضها.
مضى بالي بعدها لمناقشة «مبتكرات الطبيعة»، الأكثر تعقيدًا من الساعات،
التي يتجلى فيها مفهوم التصميم فقال: «إن علامات التصميم قوية بحيث لا يسعنا التغاضي
عنها. ولا بد للتصميم من وجود مصمم. وهذا المصمم هو الله.»
3 وكأدلة على التصميم الإلهي تدبر بالي نوعين من النظم الطبيعية؛ الفلكية
والبيولوجية. الأدلة الفلكية تتماشى مع موضوع كتابنا هذا، لكن الأدلة البيولوجية معروفة
بشكل أكبر وتحظى باهتمام كبير في الوقت الحالي، لذا سأناقشها أولًا.
الكائنات الحية معقدة للغاية، أكثر تعقيدًا بكثير عما ظنه بالي. ومن وجهة نظر عالم
الفيزياء هي أشبه بالمعجزة؛ فالأجزاء العديدة المتباينة تعمل معًا في نظام متسق بشكل
يثير الذهول. تحتوي الخلية الحية على مضخات دقيقة وروافع ومحركات وأجزاء للحركة
الدائرية وتوربينات ودواسر ومقصات وكثير من الأدوات التي نراها في المصانع، وجميعها
أمثلة ممتازة على تكنولوجيا المنمنمات. والنظام بأكمله يدير ذاته بفاعلية عظيمة، بشكل
تلقائي في بعض الأحيان، وأحيانًا بالتآزر مع الخلايا الأخرى من خلال شبكة متقدمة
للتواصل بين الخلوي قائمة على الإشارات الكيميائية. إن وظائف الضبط والتحكم الخاصة
بالخلية مدمجة في قاعدة بيانات حمضها النووي، التي تُنَفِّذ التعليمات عن طريق جزيئات
وسيطة باستخدام شفرة رياضية مثالية لتحويل التعليمات البرمجية إلى منتجات ملموسة ذات
وظائف خاصة. وكل هذا يتم في خلية واحدة فحسب. في الكائنات الأكبر يتعاون عدد أكبر من
الخلايا لتكوين الأعضاء على غرار العينين والأذنين والمخ والكبد والكليتين وغيرها من
الأجهزة المعقدة في بنيتها وعملها. يحوي المخ البشري وحده من الخلايا عددًا أكبر من عدد
النجوم الموجودة في مجرة درب التبانة. وكل هذا يضيف إلى حزمة العجائب التي تحير
العقل.
يعد ظهور التصميم من العلامات المميزة للحياة. والسؤال الذي يواجهنا هو: هل الكائنات
الحية مصممة بالفعل، أم أنها نتاج عمليات طبيعية تحاكي التصميم بهذا الشكل الذي يلاحظه
علماء الأحياء؟ تدين نظرية النشوء والارتقاء لداروين، والمنشورة عام ١٨٥٩، بنجاحها
تحديدًا لقدرتها على تفسير مظهر التصميم دون اللجوء لفكرة واضع التصميم (وهي ما يطلق
عليها حجة «صانع الساعات الأعمى»،
التي ذاع صيتها بفضل كتاب ريتشارد دوكنز الذي يحمل
نفس العنوان).
4 النظرية بسيطة ونوقشت باستفاضة في كتب عديدة، لذا لن نحتاج إلا لملخص بسيط
لها هنا. هذه خلاصة النظرية: تنجب الكائنات سلالاتها التي تحمل تنويعات بسيطة؛ كأن تكون
أطول أو أدكن لونًا أو أخف وزنًا أو أبطأ أو أسرع … في بعض الأحيان تكون إحدى هذه
السمات مطلوبة (على سبيل المثال، من الأفضل أن تكون سريعًا لو كانت حياتك تتضمن الهرب
من الحيوانات المفترسة)، وتكون للكائنات التي تحمل هذه السمة فرص أفضل في الحياة، ومن
ثم نقل هذه السمة المفضلة إلى الجيل التالي. وكما عبر دوكنز عن الأمر بقوة فإن الجينات
المرغوبة ينتهي بها الحال في الأجيال التالية، في حين ينتهي الحال بالجينات غير المرغوب
فيها في بطون المفترسين. وبهذا تعمل الطبيعة كالغربال؛ بحيث تتخلص من الجينات غير
الملائمة وتكافئ الجينات المرغوبة بالتكاثر. وبهذه الصورة، وبشكل تدريجي، تتعاظم السمات
المرغوبة، ويتم الخلاص من السمات غير المرغوبة في نهاية المطاف. تؤدي زيادة السمات
المختلفة في الظروف المختلفة إلى التنوع، وحين يتزايد الاختلاف بين الكائنات المتشابهة
حتى يصل إلى نقطة يستحيل فيها التزاوج بينها، تعد أنواعًا منفصلة.
الافتراض الوحيد المقدم في صياغة هذه النظرية هو أن هناك تنوعًا، ووراثة، وانتخابًا.
إن مفهوم الانتخاب الكامن في الصراع من أجل البقاء واضح لنا جميعًا، لكن في أيامنا هذه
بات العلماء على دراية بكيفية حدوث الوراثة والتنوع الجيني أيضًا، وذلك من ناحية الأساس
الجزيئي للحياة. لاحظ أنه رغم أن التنوع قد يكون عشوائيًّا، فإن الانتخاب أبعد ما يكون
عن ذلك، لهذا ليس من الصحيح أن نقول إن الداروينية تعزو التعقيد المنظم للمحيط الحيوي
للصدفة وحدها. فمن الجلي أن الصدفة لا يمكنها أن تنتج خلية حية (حسب مثال فريد هويل
الشهير) أكثر مما تستطيع الزوبعة الهوائية التي تهب في ساحة الخردة أن تنتج طائرة من
طراز بوينج ٧٤٧. لكن الصدفة لم تكن العامل الوحيد الذي شكل محيطنا الحيوي.
في الواقع يوجد مكون أساسي رابع في نظرية داروين، وهو الزمن. فالانتخاب لا يعمل إلا
جيلًا بعد جيل، ولهذا تتسم التغيرات بالبطء وتتراكم على مدار فترات طويلة من الوقت.
احتاجت الحياة مليارات الأعوام كي تتطور من حفنة من الميكروبات البسيطة إلى ذلك التنوع
الذي نراه في محيطنا الحيوي اليوم. لكن لا ضير في هذا؛ فعمر الأرض ٤٫٥ مليار عام. يقدم
لنا السجل الحفري، رغم عدم انتظامه، دعمًا قويًّا لحقيقة أن الحياة تطورت بالفعل عبر
ما
لا يقل عن ٣٫٥ مليار عام
من بدايتها المتواضعة على صورة ميكروبات بسيطة.
(٢) فكرة التدخل الإلهي المتقطع تعود من جديد
بعد بعض المناوشات الكلامية المبكرة بات أغلب علماء اللاهوت متقبلين لنظرية النشوء
والارتقاء. وقد ارتضوا بفكرة أن الله يحقق أغراضه عن طريق العمل (وإن كان ببطء) «من
خلال» آلية التطور وليس بالعمل ضدها. وقد أقروا بأنه رغم صحة حجة بالي، فإن استنتاجه
معيوب، وأن الكائنات تطورت ببطء وبشكل تدريجي نتيجة للانتخاب والتنوع الطبيعيين. ومع
ذلك، أشار بعض منتقدي داروين إلى أعضاء، أو كائنات، معينة واعتبروها أكثر تعقيدًا
وتنظيمًا مما يمكن تفسيره بالتنوع والانتخاب.
من الأمثلة المفضلة على ذلك العين البشرية، وهي العضو الذي حير داروين. تعد العين
مثالًا على ما يسمى «التعقيد غير القابل للتبسيط». المغزى هنا ليس أن العين البشرية عضو
معقد، بل في احتوائها على العديد من المكونات المترابطة المتآزرة، على غرار العدسة
والسطح الحساس للضوء والبؤبؤ الذي يتحكم في تدفق الضوء. وإذا أزلت مكونًا واحدًا من هذه
المكونات فسيضر ذلك بعمل العين بشكل حاد. اللغز هنا يكمن في الكيفية التي تطورت بها هذه
الأجزاء العديدة، التي لكل واحد منها على انفراد استخدام محدود، وتجمعت بمثل هذه الصورة
المتعاونة. وبما أن جوهر التطور الدارويني هو أن الانتخاب يعمل بشكل بطيء تدريجي على
تعديل الأعضاء الجديدة، وأن كل مرحلة وسيطة لا بد أن يكون لها بعض المميزات الانتخابية
«في وقتها»، تبدو العين مثالًا جيدًا على وجود ثغرة في تفسير داروين. كما حُدد عدد آخر
من الثغرات المشابهة.
كان السجل الحفري وقت داروين غير مكتمل لحدٍّ بعيد، وهو ما شجع على أن يسود بعض
الأوساط الشعور بصحة فكرة التدخل الإلهي من وقت لآخر على مدار التاريخ التطوري، وهذا
التدخل قد يكون على صورة تعديل ترتيب بعض الذرات أو الجينات هنا وهناك. إلا أن العديد
من علماء اللاهوت لم يستريحوا لهذه الفكرة، وهو ما عبرت عنه كلمات هنري دراموند منذ
أكثر من قرن مضى حين قال:
إن من يقعون فريسة لإغراء فكرة التدخل الإلهي المحدود ينسون أن هذا يستبعد
بالتبعية التدخل الإلهي في بقية العملية. إن التدخل المتقطع يعني أن هناك
غيابًا متقطعًا، وإذا كان الإله يتجلى في أوقات الأزمات، فهذا يعني غيابه في
الفترات التي تفصل بينها. فأي الرأيين أوجه؛ الإله دائم الوجود أم ذلك الذي
يظهر من وقت لآخر؟ من المؤكد أن الإله الدائم، المسئول عن التطور، أوجه من ذلك
الذي لا يظهر إلا ليصنع المعجزات، كما تصوره بعض علماء اللاهوت
التقليديين.
5
كان اعتراض بعض علماء اللاهوت على فكرة التدخل الإلهي من وقت لآخر فقط
قويًّا حتى إنهم ابتكروا المصطلح الساخر «التدخل المتقطع» لوصفها.
6 الاعتراض الأساسي ليس في الانتقاص من قدر الخالق وحسب، بل في الخطر الدائم
بأن التقدم العلمي ربما يسد الثغرات بطريقة منهجية، وبالتالي يقلص دور الخالق أكثر
وأكثر مع مرور الوقت، وربما إلى حد التخلص من فكرة وجوده برمتها. وعلى كل حال، فالإله
الذي لا وجود له إلا في عقول الجهلاء، من المحتم في النهاية، طبقًا لهذا الرأي، أن يتراجع
ببطء وعناد أمام
الاكتشافات العلمية.
وقد سُدت بالفعل ثغرات عديدة، منها تلك الخاصة بالعين، ذلك المثال المفضل على التعقيد
غير القابل للتبسيط في القرن التاسع عشر. من السهل القول إن نصف العين لا فائدة منه،
إلا أن هذا ليس صحيحًا، وأي شخص صاحب إعاقة بصرية جزئية يشهد بهذا. إن أي قدر من
الحساسية للضوء أفضل من لا شيء على الإطلاق، ومن هذا الأساس بات من الممكن إعادة تصميم
تاريخ تطوري مقبول للعين، بداية من شيء ليس أكثر تعقيدًا من رقعة حساسة للضوء، يتطلب
أن
كل تكيف تدريجي يقدم بعض المزايا الانتخابية عن التصميم السابق عليه.
7 في الواقع لقد تطورت العين عدة مرات، باستخدام «تصميمات» مختلفة، وهو ما
يوحي بأنه ليس من العسير حقًّا على التنوع والانتخاب العشوائي القيام بالمهمة خطوة
بخطوة، من خلال تجميع العديد من التغيرات الصغرى. كما يتعزز التفسير الدارويني أكثر من
خلال حقيقة أن الكثير من المراحل الوسيطة في تطور العين المعقدة لا تزال موجودة في
مملكة الحيوان؛ إذ إن هناك كائنات تستخدمها بالفعل!
(٣) التصميم الذكي في البيولوجيا ليس علمًا
رغم إغلاق المزيد من الفجوات على مدار القرن الماضي، فإن أنصار فكرة التدخل المتقطع
لا يتوقفون عن البحث عن فجوات أخرى. من الأمثلة المفضلة لما يطلق عليه حركة التصميم
الذكي في الولايات المتحدة السياط البكتيرية، وهي خيوط ذات شكل بارع تدفع الخلية
بالحركة الدائرية كالمحرك الصغير. يُزعَم أن هذا النظام يتسم بالتعقيد غير القابل
للتبسيط. وليس واضحًا لماذا تعد السياط البكتيرية أكثر «تعقيدًا غير قابل للتبسيط» عن
العين، ومن المفترض أن يكون الدرس قد تم تعلمه الآن. ورغم عدم توافر وصف تفصيلي للكيفية
التي تطورت بها هذه السياط، فإن الشكل العام معروف، ويتضمن كيف استُخدمت بعض المكونات
في الأساس لأغراض أخرى ثم تآزرت لتكوين هذه السياط المحركة.
تؤكد دراسة علم البيولوجيا على أن الكائنات الحية أدوات عجيبة تشكلت حسبما أملت
الظروف. ومع أن هناك أجزاء عديدة في الكائن الحي تعمل بشكل جميل، فإن «التصميم» ذاته
ليس كاملًا، ففي التطور يكفي أن تتمكن الكائنات من الحياة وحسب، ولا يجب أن تكون كائنات
مثالية. والعديد من أجزاء الجسم البشري تعاني من بعض المشكلات في التصميم؛ مثل اجتماع
مجرى الطعام مع مجرى التنفس في الحلق، والغلظة غير الملائمة للعمود الفقري.
نقطة الضعف في فكرة «الثغرات» التي تتبناها حركة التصميم الذكي هي أنه لا يوجد سبب
يحتم على علماء البيولوجيا أن يملكوا جميع الإجابات على الفور. إن عدم إمكانية تفسير
شيء ما في الوقت الحالي لا يعني أنه لا يوجد له تفسير طبيعي؛ كل ما في الأمر أننا لم
نعرف هذا التفسير بعد. الحياة معقدة للغاية، والكشف عن دقائق قصة التطور بالتفصيل ليس
بالمهمة السهلة. وفي الواقع، في بعض الحالات قد لا نعرف القصة بأكملها قط. فلأن التطور
يعمل على مدار مليارات الأعوام، من المرجح أن تكون سجلات الملامح التي توحي بالتصميم
قد
محيت بالكامل. إلا أن هذا ليس مبررًا يجعلنا نلجأ لسبل أخرى لملء هذه الثغرات.
8
من الأمور المثيرة للحيرة بشأن دعاية حركة التصميم الذكي الفشل في التفريق بين
«حقيقة» التطور، و«آلية» التطور. عادة ما يعتبر أنصار فكرة التصميم الاختلافات بين
علماء الأحياء إشارة إلى أن «الفكر الدارويني في مأزق». وحتى لو كان الأمر كذلك فهذا
لا
يعني أن الحياة لم تتطور على مدار مليارات الأعوام. تطرح الداروينية آلية مادية محددة.
وقد توجد آليات أخرى تدفع التطور. على سبيل المثال، قدم جان بابتيست لامارك نظرية
للتطور مبنية على فكرة توارث السمات المكتسبة. وفق هذه النظرية يمكن للخبرات التي يمر
بها الكائن في حياته أن تُنقل إلى ذريته، وعلى هذا ينبغي أن يملك ابن الشخص المولع
بممارسة كمال الأجسام بنية عضلية أكبر من العادي. لكن لسوء حظ لامارك دُحضت نظريته،
بشكل أو بآخر. إلا أن الفكرة هنا هي أن النظرية كان لها تبعات محددة بوضوح وقابلة
للاختبار، ولهذا فهي مؤهلة لأن توصف بالنظرية «العلمية»، إلا أن نفس الأمر لا ينطبق على
فكرة التصميم الذكي. إن من يسعون لتدريس نظريات بديلة لنظرية داروين في المدارس ربما
يجدر بهم المطالبة بتدريس نظرية لامارك؛ خاصة وأن بعض جوانب هذه النظرية (العلمية بقدر
ما) قد تنجح في بعض الحالات بشكل يفوق الآلية الداروينية.
من آليات التطور الممكنة الأخرى التنظيم الذاتي: تطور العديد من الأنظمة غير الحية
أنماطًا معقدة وبُنى تنظيمية من بدايات عديمة الملامح. وهي تفعل هذا بشكل تلقائي، دون
تنوع أو انتخاب بالمعنى الدارويني. على سبيل المثال، تُكوِّن ندف الثلج أشكالًا مميزة
معقدة سداسية الشكل. لا أحد يقترح أن ندف الثلج تحمل جينات، ولا أحد يقترح أن هذا
التجميع صنيعة يد مصمم بعينه، بل هي تجمع وتنظم ذاتها بشكل تلقائي، بما يتماشى مع
القواعد الرياضية والقوانين الفيزيائية الثابتة. يوجد التنظيم الذاتي غير الدارويني في
الفيزياء والكيمياء وعلم الفلك وعلوم الأرض بل حتى في الشبكة العنكبوتية الدولية. سوف
نندهش إذن إذا لم يحدث هذا التنظيم هنا وهناك في علم الأحياء أيضًا، رغم أنني قد أكون
مخطئًا في رأيي هذا.
9 وحتى لو كنت مصيبًا، فهذا لا يعني فشل الداروينية، بل ربما لا يكون هذا إلا
تفسيرًا جزئيًّا لآلية التطور. إن الجزء الناقص في آليات التطور هو أيضًا نتاج لعمليات
طبيعية متوافقة مع مبادئ للتنظيم لا يزال علينا استيضاحها مستقاة من قوانين
الفيزياء.
من الأمور التي تضفي المزيد من الغموض على هذا النقاش الفشل في التفريق بين «تطور»
الحياة و«ظهور» الحياة، بمعنى كيف بدأت الحياة من الأصل. تجنب داروين بنفسه أي إشارة
لأصل الحياة، وذلك حين قال: «لا يزال علينا تدبر كيفية ظهور المادة.» (وقد تحدثت عن هذا
الأمر في الفصل
الخامس).
هناك اعتراف بأن أصل الحياة يظل لغزًا محيرًا. إلا أن هذا لا
يمكن أن يؤخذ كحجة معارضة للتطور الدارويني؛ لأن منشأ الحياة ليس جزءًا من نظرية التطور
نفسها. ومن الواضح أنه يتوجب علينا مناقشة تطور الحياة على أساس أن الحياة موجودة
بالفعل. هل يعد عدم معرفتنا بأصل الحياة ثغرة أخرى علينا ملؤها؟ لا أعتقد هذا. دعني
أكرر لك ما قلته آنفًا: ليس معنى غياب التفسير الآن أنه لن يكون هناك تفسير في
المستقبل؛ كل ما في الأمر أن معرفة كيف بدأت الحياة هي مشكلة صعبة معقدة تتعلق بحدث وقع
منذ وقت طويل للغاية لم يترك أي أثر. لكني واثق من وصولنا لحل لهذه المعضلة في المستقبل
القريب.
رغم الظهور المستغرب لفكرة التدخل المتقطع في الولايات المتحدة، فإن نظرية النشوء
والارتقاء الداروينية تفسر بشكل قاطع تطور الحياة، وتدحض حجة بالي. لكن ماذا عن المستوى
الفلكي؟ هنا يصير الوضع أصعب بكثير.
(٤) تصميم القوانين في مقابل الانتخاب الإنساني في الكون المتعدد
في علم الفلك وعلم الكونيات يظهر التصميم بوضوح عند الحديث عن قوانين الفيزياء
والترتيب الكلي للكون، خاصة فيما يخص موضوع الضبط الدقيق والملاءمة لاستضافة الحياة،
الذي أناقشه بين دفتي هذا الكتاب. هنا حجة التصميم تصمد بدرجة كبيرة أمام الهجوم الذي
تشنه الداروينية عليها؛ إذ لا يمكن تبني الآلية الداروينية للتنوع والانتخاب بسهولة في
علم الكونيات.
10 فلا توجد معركة للبقاء، تتصارع فيها الأكوان، ذات الأنياب والمخالب
الحمراء، التي تنقل سماتها الناجحة إلى أكوان رضيعة، ولا توجد منافسة على الموارد أو
صراعات «تلتهم فيها أكوان أكوانًا أخرى». يمكن القول إنه في نسخة التضخم الأبدي من
نظرية تعدد الأكوان، يؤول النصر إلى المناطق الخاوية غير ذات الملامح الواقعة بين
فقاعات الأكوان، حيث لم يتوقف التضخم، هذا إذا كان «النصر» يعني الحصول على مساحة أكبر
من الفضاء. لكن من الجلي أن الداروينية ليست الإطار الفكري المناسب للبحث عن تفسير
لمظهر التصميم في الكون.
إلا أن إمكانية الانتخاب الإنساني تظهر هنا بدلًا من الانتخاب الدارويني. في الفصل
السابق
ناقشت كيف أن نظرية تعدد الأكوان المجتمعة مع الانتخاب الإنساني شكلت محاولة
جادة لتفسير مظهر التصميم. وقد جذب هذا التحدي من جانب نظرية تعدد الأكوان/الانتخاب
الإنساني لفكرة التصميم انتباه الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وحديثًا كتب كريستوف
شونبورن، كاردينال فيينا، في صحيفة نيويورك تايمز:
الآن، في مطلع القرن الحادي والعشرين، وفي مواجهة المزاعم العلمية على غرار
الداروينية الجديدة وفرضية تعدد الأكوان في علم الكونيات، والمبتكرة لتجنب
الأدلة الطاغية على فكرة الغرض والتصميم في العلم الحديث، ستدافع الكنيسة
الكاثوليكية مجددًا عن المنطق البشري بإعلانها أن التصميم الضارب بجذوره في
الطبيعة أمر حقيقي. إن النظريات العلمية التي تحاول نسب نتائج التصميم «للصدفة
والضرورة» ليست علمية على الإطلاق، بل هي [حسب وصف البابا يوحنا بولس]، تنازل
عن الذكاء الإنساني.
11
الرسالة التي نأخذها من الكاردينال هي أن اللجوء إلى فكرة تعدد الأكوان
هو محاولة لدحض فكرة التصميم بدلًا من تفسيرها، وأن وجود الخالق هو التفسير الأفضل
والأبسط والأكثر مصداقية.
دعونا إذن نلقِ نظرة على فرضية أن مظهر التصميم في الكون جاء نتيجة لمصمم خالق.
بالرغم من أن هذا الأمر تحديدًا ليس تفسيرًا علميًّا (إذ إنه أقرب إلى جعل السبب خارقًا
لنواميس الطبيعة)، إلا أنه مع ذلك يظل تفسيرًا معقولًا. والمسألة هنا هي ما مبلغ جودته؟
يمكننا أن نتخيل مجازًا هذا المصمم الذكي على أنه كيان يتأمل مليًّا قائمة تسوق من
الأكوان المحتملة، ويكتشف واحدًا يمكن أن يضم حياة ومراقبين، ثم يشرع في العمل على
خلقه، مستبعدًا بقية البدائل. ما من شك، حتى في هذا الشكل البسيط، أن فرضية وجود مصمم
ذكي ملتزم بقوانين الطبيعة تعد أسمى بمراحل من فرضية المصمم الذي تعرضنا له في القسم
السابق، ذلك الذي يخرق قوانين الطبيعة من حين إلى آخر بصنع معجزات في التاريخ التطوري.
فالتصميم من خلال القوانين أكثر ذكاءً بصورة لا يمكن مقارنتها بالتصميم من خلال
المعجزات. لو أنني كيان قادر على كل شيء وأردت أن أصنع كونًا مأهولًا بالمخلوقات مثل
كوننا هذا، وكان في استطاعتي تحقيق ذلك ببساطة باستحضار ما أريد وقتما أريد، لما اعتبرت
أعمالي هذه شديدة البراعة. ولكن انتقاء مجموعة من القوانين التي يمكنها، بدون أن تحتاج
إلى عمليات إصلاح وصيانة دورية وإدارة على المستوى الدقيق، أن توجد الكون وتحقق التنظيم
الذاتي، والتعقيد الذاتي، والتجميع الذاتي للحياة والوعي معًا — حسنًا، هذا هو الأمر
الذي يبدو شديد البراعة حقًّا! إذن التصميم «الذكي» الذي تحبذه حركة «التصميم الذكي»
يدهشني أنه ليس شديد الذكاء على الإطلاق، على العكس من مصمم قوانين الطبيعة التي تملك
من تلقاء نفسها مثل هذه القدرة الخلاقة المذهلة دونما حاجة إلى التدخل وصنع
معجزات.
ولا يتعارض التصميم الذكي للقوانين مع العلم لأنه يتقبل أن الكون كله يدير نفسه وفق
القوانين الفيزيائية، وأن كل ما يحدث في الكون له تفسير طبيعي. لا توجد معجزات بخلاف
معجزة الطبيعة ذاتها. نحن لسنا بحاجة حتى إلى معجزة لإيجاد الكون في الأساس لأن
الانفجار العظيم من الممكن أن يحدث داخل نطاق قوانين الفيزياء أيضًا، سواء باستخدام علم
الكونيات الكمي لتفسير منشأ الكون من العدم، أو بافتراض حدوث شيء أشبه بالتضخم
الأبدي.
إن مصمم القوانين «مسئول» عن الكون، ويمكن اعتباره داعمًا لوجوده في كل لحظة، لكنه
لا
يشغل باله بعملياته اليومية. إن نمط الإله الذي أصفه الآن يقترب، فيما أعتقد، مما يجاهر
العديد من علماء الأديان وباحثيها — وعدد كبير من العلماء أيضًا — بالإيمان به. ولكن
حتى هذه النسخة «التي بلا معجزات» من المصمم الذكي لم تسلم من الانتقاد. والاعتراض
الرئيسي على طرح هذا الكيان باعتباره المسبب لهذا الشكل العبقري للكون يكمن في طبيعة
التفسير ذاتها التي تعتمد على التسليم المطلق بالواقع الكائن. فما لم يكن هناك بالفعل
مبرر آخر للاعتقاد في وجود المصمم الأعظم، فإن مجرد إعلان أن «الرب هو الذي فعلها!» لا
يقدم جديدًا على الإطلاق. إن هذا ببساطة ليس إلا غلقًا لإحدى الثغرات — وهي لغز ملاءمة
الكون للحياة — بثغرة أخرى — ألا وهي لغز المصمم الذكي المجهول. وبهذا نحن لم نتقدم
خطوة واحدة.
(٥) مصمم الكون يجب أن يكون واقعًا خارج نطاق الزمن
هناك أيضًا مشكلة لا يستهان بها أبدًا وهي مشكلة الزمن. الزمان جزء من الكون المادي،
لا يمكن فصله عن المكان والمادة. وأي مصمم خالق للكون يجب من ثم أن يعبر حدود الزمن،
وكذلك حدود المكان والمادة. أي إن الرب يجب أن يقع خارج الزمان إذا كان هو المصمم
والخالق للزمان. كان أوجستين مدركًا تمامًا لهذه الحقيقة فشرع في تأسيس مدرسة فكرية
تجزم بأن الرب كيان لا زمن له، ليس فقط من منطق الحياة الأبدية، ولكن لكونه خارج حدود
الزمان تمامًا.
12 (كما أوضحت، الزمان نفسه يمكن أن تكون له بداية ونهاية. ومعظم علماء
الأديان لا يريدون أن يكون الرب قد ظهر إلى الوجود مع بداية الزمان وسينتهي إلى عدم مع
انتهاء الزمن.) غير أن المشكلة في فكرة المصمم الذي بلا زمن تكمن في الخروج بمنطق من
وراء مفهوم التصميم. فما معنى تصميم شيء ما «بلا زمن»؟ حسب التجربة الإنسانية، المصمم
كيان يفكر مليًّا مسبقًا في تبعات اختيارات معينة، ثم ينتقي من بينها اختيارًا حكيمًا.
ولكن «التفكير» و«مسبقًا» وصفان لا مفر من اعتمادهما على الزمن.
وحتى إذا تقبلنا فكرة أكثر تجريدًا وهي «التصميم الذي لا زمن له»، فستنشأ مشكلة أخرى
مع تفاصيل اختيار المصمم. هل كان في استطاعة المصمم أن ينتقي كونًا مختلفًا أو أن يختار
ألا يصنع كونًا من الأصل؟ ولو كانت الإجابة بلا، فإن الإله لم يكن أمامه من بديل سوى
أن
يخلق هذا الكون وألا يلعب أي دور على الإطلاق في التفسير — وهكذا لا يستحق لقب «مصمم».
وعندئذ، تُختَزل الطبيعة إلى جزء من الكيان الرباني وليست خلقًا من خلقه. في حقيقة
الأمر، قد نتخلى في هذه الحالة عن فكرة المصمم برمتها. غير أن المسيحيين يؤمنون من قديم
الأزل بأمر مختلف تمامًا. فهم يؤمنون بأن الرب خلق هذا الكون تحديدًا بكامل إرادته: أي
أن الرب كانت له حرية المشيئة في ألا يصنع هذا الكون. ولكن هذا الاعتقاد له مشكلاته؛
لأن في استطاعتنا أن نتساءل لماذا اختار الرب صنع هذا الكون بالذات، ولم يصنع كونًا آخر
لا حياة فيه، أو كونًا به أقصى حد من المعاناة. إذا كانت الإجابة هي أن هذا أمر «متعذر
فهمه»، إذن لتلاشت من أمامنا سلسلة التفسيرات. وإذا كانت الإجابة هي أن الاختيار كان
أعمى أو عشوائيًّا، إذن لوجدنا مرة أخرى أن عنصر التصميم قد فُقِد، لأنه لو كان الاختيار
عفويًّا تمامًا، فإن الكون بذلك يُختَزل في كونه لعبة يلهو بها الرب. ولكن إذا كانت
الإجابة هي أن قرار خلق الكون كان قرارًا قائمًا على تفكير عميق ومتأن نبع من طبيعة
الرب، إذن لوجد المرء نفسه مدفوعًا إلى التساؤل عن مصدر هذه الطبيعة. بعبارة أخرى، من
الذي صمم المصمم؟ وهو تعبير آخر عن الأحجية القديمة «من خلق الرب؟».
(٦) تخمينات (بعضها جامح) عن رب طبيعي
من بين سبل تفادي معضلة «خالق الخالق» ذلك الاقتراح التخيلي الذي جاء به عالم
الكونيات إدوارد هاريسون، الذي ورد ضمن سياق نظرية الكون المتعدد.
13 إذا كان للمرء أن يتقبل وجود العديد من الأكوان، وأن الأكوان يمكن خلقها
بواسطة عمليات طبيعية ذات قوانين وثوابت وظروف ابتدائية مختلفة، فليس أمامنا بعد ذلك
سوى خطوة بسيطة لكي نتنبأ بعدها بأن كوننا هذا عبارة عن منتج مصمم هندسيًّا من صنع مصمم
ذكي نشأ بصورة طبيعية في كون وجد في زمان أسبق. ويتصور هاريسون وجود مجموعة عشوائية من
الأكوان تكون فيها بعض الأكوان الجيبية مسئولة عن خلق الحياة والذكاء بمحض المصادفة.
ويكتسب واحد من تلك الأكوان تدريجيًّا ذكاءً خارقًا ويصبح متقدمًا تكنولوجيًّا إلى الحد
الذي يجعله قادرًا على خلق أكوان صغيرة حسب الطلب (على سبيل المثال، بالسيطرة على آلية
توليد الأكوان). وتكون هذه الأكوان الصغيرة مصنوعة عمدًا من أجل الملاءمة المثالية
للحياة والمراقبين. حينذاك سيصير كوننا نتاجًا لعمل إله طبيعي تطور عن طريق العمليات
الداروينية القديمة الأصيلة التي حدثت في كون سابق. ولهذا الكيان وجود قديم في تاريخ
الفلسفة الدينية، وعادة ما يطلق عليه اسم «خالق الكون المادي». كان هذا الخالق في فلسفة
أفلاطون خالقًا شديد القوة للعالم الذي نراه، لكنه مع ذلك كان مضطرًّا للعمل في نطاق
الموارد والقوانين المتاحة. فخالق الكون المادي لا يملك طلاقة القدرة، مثلما هو الحال
مع الإله في ديانات التوحيد. غير أن الإله في فكر هاريسون «خالق جبار للكون المادي» لأن
في استطاعته أن يتخير كلًّا من شكل المادة وقوانين الفيزياء منخفضة الطاقة عن طريق،
مثلًا، إنشاء كون في المنطقة الملائمة من المشهد الطبيعي وفق نظرية الأوتار.
14 ومع ذلك، فإن هذا الرب لا يزال محكومًا بقوانين نظرية الأوتار/النظرية
M (أو أي نظرية موحدة يتخيلها المرء) وفيزياء آلية
توليد الأكوان.
ويحمل تكهن هاريسون بصمات فكرة هويل عن وجود «ذكاء خارق»، تعمد «التلاعب بقوانين
الفيزياء»، وكذلك بصمات أولاف ستابلدون في روايته الشهيرة «صانع النجمة».
15 لم يكن هويل يحبذ فكرة الألوهية التقليدية في المسيحية التي تجعل الكون
اختيارًا حرًّا لأنها تعني ضمنًا وجود انحراف للخالق ولعملية الخلق: فالخلق يعتمد على
الإله، لكن الإله يظل غير متأثر بالخلق. وإذا كان الإله في غير حاجة لخلق العالم ولم
يتأثر به، فلماذا كلف نفسه عناء الخلق؟ يشير هويل إلى أن هذه «المعضلة المنطقية يمكن
تفاديها»؛ إذا كان الإله موجودًا «فقط بفضل الدعم الذي يتلقاه من الكون.»
16 وقصد هويل بذلك أن الإله موجود داخل نطاق الكون (أو الكون المتعدد) لا
خارجه.
وقد طُرحَت أفكار مماثلة مثل تلك التي نادى بها أندريه ليند في بحث عجيب أسماه بصورة
غير رسمية «خلق الكون: ذلك الفن الشاق»، والذي يتحدث فيه عن حضارة خارقة تتلاعب
بالحرارة والضغط والمجالات الخارجية من أجل تهيئة مولد كون مزود بقواعد فيزياء منخفضة
الطاقة مشجعة على ظهور الحياة، «ليرسل رسالة لأولئك الذين سوف يعيشون فيه.»
17 وفكرة أن الكون يحمل ما يشبه «رسالة في زجاجة» كانت هي أيضًا الفكرة التي
التقطها هاينز باجيلز، الذي تساءل عما إذا كانت قوانين الفيزياء العبقرية المبدعة
المشجعة على وجود الحياة — والتي أطلق عليها اسم «الشفرة الكونية» — قد تكون رسالة من
خالق للكون المادي:
العلماء عند اكتشافهم لهذه الشفرة هم في الحقيقة يفكون شفرة الرسالة الخفية
لخالق الكون المادي، والحيل التي استخدمها في خلق الكون. ولا يمكن لعقل بشري أن
يكون قد رتب لوجود رسالة تتصف بمثل هذا التماسك الذي لا تشوبه شائبة، والتخيلية
على نحو شديد الغرابة، بل التي تبدو أحيانًا شاذة تمامًا. لا بد أن يكون ذلك
عملًا أنتجه ذكاء غريب.
18
بذل باجيلز جهدًا كبيرًا لكي يوضح أن ذلك الخالق للكون المادي الذي
يقصده، أو «الذكاء الغريب»، لم يكن سوى تجربة فكرية مثيرة، وأن الكيان المذكور بشكل أو
بآخر قد «أفصح عن نفسه من خلال سطور الشفرة». وتبنى الكاتب العلمي جيمس جاردنر نفس
الفكرة العامة فيما أسماه «الكون الحيوي الأناني». وتقوم نظريته على أن الكون نظام منظم
ومكرر لذاته تبرز فيه الحياة والذكاء ليخلقا أكوانًا جديدة ذات حياة وذكاء، بضبط
«مفاتيح آلة التصميم» ضبطًا دقيقًا. كتب يقول: «بموجب هذه النظرية، القوانين والثوابت
مرحبة بالحياة تحديدًا لأنها مصممة هندسيًّا عن عمد على يد أشكال ذكية متقدمة من الحياة
في دورة كونية سابقة لتهب كوننا القدرة على التكاثر بواسطة الحياة.»
19
والآن حان الوقت لعمل فحص للواقع. خلال بحثنا عن حل للغز ملاءمة الكون للحياة واجهنا
خليطًا مثيرًا من التخمينات والتكهنات، تتراوح بين المحيرة والهشة بصورة خطيرة. اشتملت
بعض الأفكار على أكوان زائفة صممها أرباب زائفون، وأكوان متعددة تظهر كل شيء يمكن تخيله
بصورة مطلقة، والآن كيانات خارقة الذكاء أشبه بالآلهة تتطور بصورة طبيعية لكنها بعد ذلك
تستمر لكي تخلق أكوانًا كاملة أو تستغلها لتحقيق أغراضها. كل هذه النظريات الخيالية
تقدم مادة خصبة للترفيه في مجال الخيال العلمي، غير أن مجال العلم المهني قد تخلف بشدة.
ولولا حقيقة أن المتنبئين من بينهم بعض العلماء الأفذاذ، لكانت المناقشة على الأرجح
انتهت دون إحداث مزيد من الجلبة. إن حقيقة أن بعض العقول العظيمة قد وُجِّهت نحو استكشاف
تلك الأفكار الجامحة تعد شهادة على الطبيعة المستعصية للمشكلات التي تواجهنا. ينبغي
علينا بطريقة أو بأخرى أن نفهم كيفية ارتباط الحياة بعلم الكونيات (إلا إذا أردنا أن
نصرف النظر عن وجود ذلك الارتباط باعتباره أمرًا خياليًّا). ولكن حتى إذا كنا مستعدين
لقبول فكرة الإله الطبيعي باعتبارها فرضًا جدليًّا قابلًا للتصديق، فإننا بذلك لا نكون
قد أنجزنا إلا نصف المهمة.
(٧) الإله باعتباره كيانًا ضروريًّا
هناك عيب رئيسي في المناداة بوجود أرباب خالقين للكون المادي وأرباب طبيعيين وهو أن
ذلك لا يتعرض للتفسير النهائي للوجود. لا بد أن نفترض أن هناك كونًا ما أو أكوانًا
متعددة وُجدت بالفعل قبل أن يظهر الإله أو الآلهة. من غير المرجح أن يبدي علماء الأديان
المتخصصون انبهارهم بذلك الأمر. فهم ينادون بوجود ألوهية خالدة متجاوزة لكل الحدود، تقع
خارج نطاق جميع الأكوان في جميع الأزمان ومسئولة عنها. وقد واجه علماء الأديان معضلة
«من خلق الرب؟» المثيرة للجدل لقرون طويلة، وكان أمامهم متسع كبير من الوقت لكي يتوصلوا
إلى إجابات مشوقة. والمبدأ المسيحي المتعارف عليه هو أن الرب لم يخلقه أحد، وإنما هو
كيان ضروري — كيان لا يحتاج وجوده إلى تفسير بشيء خارج ذاته. بعبارة أخرى، من المستحيل
منطقيًّا ألا يكون الرب موجودًا؛ فحالة «عدم وجود إله» تعتبر غير ذات معنى.
والأمر بعيد كل البعد عن الوضوح بالنسبة لي إن كان مثل هذا الاستنتاج صحيحًا من حيث
المنطق ومتماسكًا من الناحية النظرية أم لا (حتى الفلاسفة المتخصصون لا يزالون يتجادلون
بشأنه)،
20 ولكن حتى إن كان صحيحًا، فإننا لم ننته بعد. فالمسيحيون، مثل جميع أصحاب
ديانات التوحيد، يؤمنون بإله واحد. لهذا فهم في حاجة لبيان ليس فقط أن الإله موجود
بالضرورة، ولكن أيضًا أن هذا الكيان هو بالضرورة كيان متفرد، وإلا لكان من الممكن أن
تكون هناك كيانات ضرورية لا حصر لها تصنع ما لا حصر له من الأكوان. وحتى إذا أمكن حل
كل
هذا، فإننا لا نزال نواجه مشكلة أنه بالرغم من الوجود الضروري للإله وبالرغم من طبيعته،
فإن الإله لم يخلق بالضرورة الكون على حاله، وإنما هو اختار فحسب أن يفعل ذلك. ولكن
أجراس الإنذار تدق الآن: هل يمكن لكيان ضروري أن يتصرف على نحو ليس فيه أي نوع من
الوجوب والضرورة؟
21 هل هذا أمر منطقي؟ للوهلة الأولى، لا. وإذا كان الرب على حاله بالضرورة،
فإن خيارات الرب يجب أن تكون هي الأخرى على حالها بالضرورة، ومن ثم تتلاشى حرية
الاختيار.
22 ومع ذلك، هناك تاريخ طويل من المحاولات للالتفاف حول هذه العقبة، والتوفيق
بين الإله الضروري وكون يجيء بالمشيئة والاختيار وليس بالضرورة.
23
هل أصابتك الحيرة؟ من المؤكد أنني متحير. إنني لست فيلسوفًا مخضرمًا بالدرجة التي
تسمح لي بتقييم هذه التفسيرات، التي تتحول إلى قضايا غاية في التقنية. إن الحجج مجردة،
وماكرة، ومعقدة، ولا محالة يبرز السؤال: ألم يكن شيء مثل الكون المتعدد والتفسير
الإنساني أيسر في فهمه ومقبولًا برمته أكثر من كل هذا؟
فقط لو كان ذلك صحيحًا.
(٨) من صمم الكون المتعدد؟
رغم ميل البعض لاعتناق فكرة تعدد الأكوان كبديل لفكرة التصميم المقصود، فإن هذا لن
يحقق نجاحًا كبيرًا؛ إذ إن كل ما تفعله نماذج الكون المتعدد الشائعة هو أنها تنقل
المشكلة إلى مستوى أعلى وحسب؛ من مستوى الكون الواحد إلى الكون المتعدد. لتفهم هذا
الأمر علينا الحديث عن الافتراضات العديدة التي تقوم عليها نظرية الكون المتعدد.
أولًا: هناك آلية لتوليد الأكوان؛ على غرار التضخم الأبدي. هذه الآلية يُفترض أنها
تحوي عملية ضابطة طبيعية أشبه بالقانون، في حالة التضخم الأبدي عملية «البزوغ» الكمي
للأكوان الجيبية، على وجه الدقة. إلا أن هذا يثير التساؤل البديهي عن مصدر القوانين
الكمية (ناهيك عن قوانين الجاذبية، بما فيها التركيب العرضي للزمكان الذي تعتمد عليه
هذه القوانين) التي تسمح بالتضخم. في نظرية الكون المتعدد الأساسية تُقبل القوانين
المولدة للأكوان بوصفها من المسلمات؛ بمعنى أنها ليست نتاجًا لنظرية تعدد الأكوان.
ثانيًا: لا بد أن يفترض المرء أنه رغم احتواء الأكوان الجيبية على قوانين متباينة، التي
قد تكون موزعة بصورة عشوائية، فإنه من الضروري وجود قوانين بعينها في جميع الأكوان.
إضافة إلى ذلك، تلك القوانين محددة بشكل تام من حيث الصيغة؛ إذ إنها موصوفة من خلال
معادلات رياضية (على النقيض مثلًا من المبادئ الأخلاقية أو الجمالية). في الواقع،
الموضوع كله مبني على الافتراض بأن الكون المتعدد يمكن تجسيده على صورة مجموعة فرعية
محدودة نسبيًّا من القوانين الرياضية.
علاوة على ذلك، إذا سلمنا بأن نظرية الأوتار/النظرية
M تتنبأ بالكون المتعدد، فلا بد أن تُقبل هذه
النظرية هي الأخرى، بصيغتها الرياضية المحددة، كمعطى مسلم به؛ أي إنها موجودة دون حاجة
لتفسير. من الممكن أن نتخيل وجود نظرية موحدة أخرى، نسميها النظرية
N مثلًا، تحوي هي الأخرى مشهدًا عامًّا كثيفًا من
الاحتمالات. لا توجد حدود للعدد الممكن من النظريات الموحدة التي يمكن اختراعها؛
كالنظرية O والنظرية P
والنظرية Q … ومع ذلك فمن المفترض أن تكون واحدة من هذه
النظريات هي «النظرية الصحيحة»، دون تفسير. قد يجادل البعض بأن النظرية التي تفسر كل
شيء من المفترض أن تنشأ من مستوى أعمق من التفكير المنطقي، بحيث تحتوي على أجسام رياضية
مجردة طبيعية وأنيقة يستحسنها الرياضيون النظريون لخصائصها الرائعة. وينبغي، إن جاز لنا
أن نقول هذا، أن تظهر نوعًا من التصميم العبقري. (بطبيعة الحال يعتقد الفيزيائيون
النظريون الذين يبتكرون مثل هذه النظريات أن أعمالهم مصممة بأعلى درجات البراعة.) في
الماضي كان الجمال والعمق الرياضيان هما الدليل الدامغ على الحقيقة. كان الفيزيائيون
ينجذبون إلى العلاقات الرياضية الأنيقة التي تربط الأجسام بعضها مع بعض بصورة اقتصادية
أنيقة؛ بحيث تمزج السمات المتباينة بطرق متناغمة بارعة. إلا أن هذا يضفي بُعدًا جديدًا
على القضية؛ مشكلة الجماليات والذوق. هذا من شأنه أن يجعلنا نقف على أرض مهتزة؛ فرغم
أن
النظرية M قد تبدو جميلة في أعين مبتكريها، فإنها قد
تبدو قبيحة في نظر أصحاب النظرية N، الذين يرون أن
نظريتهم هي الأكثر أناقة. لكن هنا قد يختلف أنصار النظرية
O مع كلا الفريقين …
(٩) لو كانت هناك نظرية موحدة نهائية، لما كانت هناك حاجة إلى إله
اسمح لي الآن بأن أعرض البديل العلمي الأساسي لنظرية الكون المتعدد؛ إمكانية وجود
نظرية «فريدة» نهائية لكل شيء، نظرية تسمح بوجود كون «واحد» فقط.
24 تذكر أن العديد من العلماء، بمن فيهم بعض من أبرز أنصار نظرية الأوتار
أمثال ديفيد جروس، ينتقدون فكرة الكون المتعدد، ويعتبرون أن من يعتنقونها هم من
«المستسلمين». إنهم مقتنعون بأن نظرية فريدة تصف هذا العالم الفريد، تكون بها كل
القوانين والمتغيرات محددة بشكل تام، ستظهر في نهاية المطاف، وربما يكون هذا اليوم
قريبًا. وقد ذكر أينشتاين ذات مرة أن أكثر ما أثار اهتمامه كان هذا السؤال: «هل كان
أمام الإله اختيار في خلق العالم؟» إذا كان جروس محقًّا، فستكون الإجابة بالنفي؛ بمعنى
أن الكون لم يكن ليوجد إلا بالصورة التي هو عليها، وأنه لا يمكن أن يوجد إلا كون واحد
فقط متسق مع ذاته من الناحية الرياضية. وإذا لم يكن هناك اختيار، فلا حاجة إذن لمن
يختار، ولن يكون أمام الإله ما يفعله لأن الكون كان سيوجد كما هو بالضرورة.
مع أن فكرة النظرية «الخالية من المتغيرات الحرة» قد تكون مثيرة للاهتمام، فإن عقبة
كبيرة تعترضها. فلو صحت هذه النظرية فسيعني هذا أن ملاءمة الكون العجيبة للحياة هي نتاج
للصدفة لا أكثر. وفي هذه الحالة نكون بصدد نظرية افتراضية فريدة يتصادف، لحسن حظنا،
أنها تسمح بظهور الحياة والعقل. يا للحظ الحسن! لكي يكون لديك فكرة عن ما يفترض بنا
تصديقه، سأعطيك مثالًا:
25 اكتُشفت قيمة الرمز «ط»، الذي يمثل النسبة بين محيط الدائرة إلى قطرها، على
يد علماء الهندسة الإغريق القدماء. وهو يستخدم أيضًا في سياقات عديدة في العالم
الطبيعي، بداية من حركة الكواكب إلى أنماط الموجات. قد يقول البعض إن «ط» جزء أساسي من
بنية العالم المادي. لكن لا يمكن التعبير عن «ط» كنسبة بين عددين صحيحين (إذ إن هذا غير
منطقي)، بدلًا من ذلك يجب سرده ككسر عشري لانهائي: ٣٫١٤١٥٩٢٠٠٠، دون أي نهاية لسلسلة
الأرقام. أيضًا يمكن التعبير عنه كتتابع ثنائي لانهائي من الأرقام صفر وواحد. تظهر
الاختبارات الإحصائية أن هذه السلاسل الرقمية، العشرية والثنائية، عشوائية بالكامل.
ومعرفة أول مليون رقم لن تعطيك أي إشارة عما سيكون عليه الرقم مليون وواحد.
تخيل بعد ذلك أن هذا التمثيل الثنائي اللانهائي للقيمة «ط» يُعرض على شاشة حاسب آلي
في شكل تصويري بسيط، من خلال تمثيل الرقم ١ بنقطة بيضاء والرقم صفر بنقطة سوداء، بداية
بأول رقم مع الاستمرار بشكل لانهائي. بما أن التتابع عشوائي سينتج عن ذلك شاشة تلو
الأخرى من «البقع الصغيرة» غير المثيرة للاهتمام. لكن من سمات العشوائية أن أي شيء من
الممكن أن يحدث سيحدث بالفعل، عاجلًا أو آجلًا. في هذه الحالة، ستكون النتيجة أنه في
مكان ما من التمثيل الثنائي للقيمة «ط»، ستظهر شاشة تحتوي على شكل له معنى؛ دائرة
مثلًا. من السهل التوصل إلى أن احتمالية حدوث هذا الأمر ضعيفة للغاية، حتى إن الحاسب
قد
يظهر شاشة جديدة تظهر تسلسلًا ثنائيًّا مختلفًا للقيمة «ط» كل ثانية لمدة عمر بأكمله
دون أن تكون هناك سوى فرصة ضئيلة لظهور شكل الدائرة. ومع ذلك فهناك احتمالية لا تساوي
الصفر لحدوث ذلك. نفس المنطق ينطبق على الأشكال الأكثر تعقيدًا، مثل صورة الوجه، لكن
كلما زادت الصورة تعقيدًا قل احتمال ظهورها.
الآن تخيل أن هذه التجربة أجريت بالفعل، لكن بعد دقيقتين فحسب ظهر على الشاشة وجه
مبتسم! ما الذي ستستنتجه من هذا؟ ربما يكون الذهول التام هو أقل ما ستشعر به وقتها،
وتشك على الفور بحدوث خدعة ما. ومع ذلك فالتعبير الثنائي عن القيمة «ط» محدد بشكل متفرد
من واقع القواعد الرياضية. لا توجد متغيرات حرة للعبث بها كي «تظهر صورة الوجه». فلو
ظهرت صورة وجه فستظهر فقط بفعل المنطق الراسخ للأرقام الحقيقية، وليس علينا تقديم أي
تفسير إضافي. نفس الأمر ينطبق على نظرية كل شيء المتفردة الخالية من المتغيرات الحرة،
التي تصف، كنتيجة بحتة لمنطقها الرياضي الداخلي، كونًا يسمح بالحياة (إذا كانت هذه
النظرية موجودة فعلًا). بالطبع لو كنت ترى أن الحياة والعقل ليسا بهذه الخصوصية، فلن
تكترث كثيرًا لهذا المثال الخاص بالقيمة «ط». لكن في رأيي، الحياة والعقل شيئان خاصان
متميزان، وسأشرح أسباب اعتقادي هذا في الفصل
التالي.
يبدو لي أن النظرية الرياضية
المتفردة التي لا تشير بشكل خاص للحياة، بل تذكر وجودها بهذا الشكل العرضي هي عسيرة على
التصديق، تمامًا مثل إمكانية ظهور الوجه في التجسيدات الرقمية الأولى للقيمة
«ط».
(١٠) النظرية النهائية المتفردة تبدو مُكذَّبة بالفعل
هناك حجة أخرى، أكثر مباشرة، ضد فكرة وجود نظرية نهائية متفردة. إن مهمة الفيزيائيين
النظريين هي بناء نماذج رياضية محتملة للعالم. عادة ما يطلق على هذه النماذج «النماذج
المصغَّرة»؛ التي من الواضح أنها بعيدة عن الواقع لدرجة لا يمكن معها اعتبارها كتوصيفات
جادة للطبيعة. يبني الفيزيائيون هذه النماذج كنوع من التجربة؛ لاختبار مدى اتساق بعض
الأساليب الرياضية، لكن غالبًا ما يستخدمونها لأنها عادة ما تحاكي بدقة بعض الجوانب
المحدودة للعالم الحقيقي، رغم عدم انطباقها الواضح على بقية الجوانب. المثير هنا هو أن
هذه النماذج المبسطة للعالم قد يكون من السهل استكشافها رياضيًّا، ومن الممكن أن تكون
الحلول إرشادات مفيدة لما يحدث في العالم الحقيقي، حتى لو كان النموذج غير واقعي في
الإجمال.
من الأمثلة الطيبة على النماذج المصغرة ذلك النموذج المستخدم لحل المشكلات في أبعاد
أقل من الأبعاد الثلاثة المعتادة للفضاء. كثيرًا ما فعلت هذا بنفسي في السبعينيات. كنت
مهتمًّا بسلوك المجالات الكمية المنتشرة في الزمكان المنحني، وكان من الممكن حل
المعادلات بدقة بالتظاهر بأن الفضاء كان له بعد واحد وليس ثلاثة. في بعض مواقف العالم
الواقعي لم يكن البعدان الإضافيان اللذان حذفتهما يلعبان دورًا مهمًّا، لذا أفادتني
حساباتي عن البعد الواحد. هذه النماذج المصغرة ليست وصفًا للعالم الحقيقي، بل لبدائل
أبسط. ومع هذا فهي تصف عوالم «ممكنة». وأي شخص يريد أن يزعم أنه ليس هناك إلا نظرية
واحدة فقط متسقة مع ذاتها عن العالم سيكون عليه أن يفسر لنا لماذا تعد النماذج الرياضية
التي لا حصر لها التي تملأ صفحات دوريات الفيزياء والرياضة النظريتين توصيفات غير
مقبولة لعوالم ممكنة من الناحية المنطقية.
26
ليس علينا التفكير في أكوان مختلفة بشكل جذري عن كوننا للتدليل على صحة النقطة
السابقة؛ فقط دعونا نبدأ بالكون كما نعرفه ونغير شيئًا بسيطًا: على سبيل
المثال نجعل
الإلكترون أثقل ونترك بقية العالم كما هو. هل سيعجز هذا الترتيب عن وصف كون ممكن، لكنه
مختلف عن كوننا؟ «انتظر لحظة»، هكذا سيصيح أنصار النظرية الخالية من المتغيرات الحرة،
«لا يمكنك تعديل أحد ثوابت الطبيعة كيفما اتفق ثم تعلن أن لديك نظرية لكل شيء! فالنظرية
لا تقتصر وحسب على مجموعة من الأرقام الجافة؛ فلا بد من وجود إطار رياضي موحِّد تظهر
هذه الأرقام من خلاله كجزء صغير من القصة.» هذا صحيح. لكن يظل بإمكاني ملاءمة مجموعة
محددة من المتغيرات مع عدد غير محدود من البنى الرياضية، بالمحاولة والخطأ لو لزم
الأمر. بالطبع قد تكون هذه البنى الرياضية قبيحة ومعقدة، لكن ليس الحكم على أساس
النواحي الجمالية هنا، بل المنطقية. لذا من الواضح أنه لن تكون هناك نظرية فريدة لكل
شيء ما دام المرء مستعدًّا للتفكير في الأكوان الممكنة الأخرى والنماذج الرياضية
القبيحة.
مع أن الحجة التي قدمتها للتو تبدو غير قابلة للجدل، فإن العديد من الفيزيائيين
سيرتضون بأي زعم أضعف من التأكيد على أن الكون من المحال أن يكون على أي نحو غير الذي
هو عليه، فبطبيعة الحال، قد توجد أعداد كبيرة من «نظريات كل شيء» المتسقة رياضيًّا التي
تصف أكوانًا مختلفة عن كوننا، لكن حين يتعلق الأمر ﺑ «هذا» الكون، ربما لا توجد غير
نظرية وحيدة متسقة ذاتيًّا. ربما لو عرفنا المزيد عن النظريات الموحدة لاكتشفنا أن
«مفتاحًا» واحدًا في آلة التصميم الكونية (أي نظرية واحدة فقط) تلائم جميع الحقائق
المعروفة عن العالم، ليس فقط قيم ثوابت الطبيعة، بل أشياء أخرى مثل وجود الحياة
والمراقبين. سيكون هذا أمرًا رائعًا بحق! قد يتضح لنا أن هناك نظريات عديدة خالية من
المتغيرات الحرة تصف أكوانًا وحيدة ممكنة، لكن واحدة فقط من هذه النظريات «تتوافق مع
كافة الحقائق المعروفة عن هذا الكون». بالطبع ستحل هذه النظرية الخيالية لغز جولديلوكس
دون الحاجة للجوء لفكرة التصميم أو الكون المتعدد، أليس كذلك؟
لسوء الحظ لن يحدث هذا؛ لأن هذا سيطرح أمامنا لغزًا آخر وهو: لماذا «هذه النظرية»
تحديدًا؟ لماذا تلك التي تسمح بكون ملائم للحياة هي «النظرية المختارة»؟ عبر ستيفن
هوكينج عن الأمر بفصاحة أكبر حين قال: «ما الذي ينفث النار في المعادلات ويوجد الكون
الذي تصفه؟»
27 سنكون إذن مجبرين على تقبل جزء معين من النظرية؛ توصيف رياضي محدد مستقى من
عدد لانهائي من الاحتمالات، كأمر «مسلم به»، لا يحتاج لتفسير. وستكون جميع الأكوان التي
تصفها النظريات الأخرى غير صالحة للحياة.
وربما لا يوجد سبب وراء اختيار «كوننا المختار» هذا. وفي هذه الحالة سنعود مجددًا
إلى
لغز جولديلوكس. ما احتمالات أن تصف نظرية مختارة عشوائيًّا كونًا صالحًا للحياة؟
احتمالات ضئيلة للغاية. هناك الكثير من الأوضاع الثابتة في آلة التصميم الكونية، التي
تمثل أكوانًا عديدة ممكنة من الناحية النظرية، خالية من المتغيرات الحرة، قبيحة من
الناحية الرياضية، غير صالحة للحياة. ولو كان الاختيار الأساسي قد وقع على أحد هذه
الأكوان، لم نكن لنعرف بذلك؛ لأن ذلك الكون سيمضي حياته دون أن يلحظه أو يحتفي به أي
مراقبين. لهذا يظل لغز اختيار «هذا الكون تحديدًا» دون حل.
28
النتيجة التي أخلص إليها من كل هذا هي أن نظرية الكون المتعدد والنظرية المزعومة
الخالية من المتغيرات الحرة قد تنجحان بدرجة كبيرة في تفسير جوانب كوننا المادي
المختلفة، بيد أنهما تعجزان عن تفسير ملاءمة الكون للحياة أو سبب وجوده من
الأساس.
(١١) من أو ما الذي يقرر ما يوجد وما لا يوجد في الكون؟
وصلنا الآن إلى لُب المناقشة بأكملها، المشكلة التي حيرت الفلاسفة وعلماء اللاهوت
والعلماء لآلاف السنين:
(١١-١) ما الذي يحدد ما يحتويه الكون؟
من بين الأسئلة الكبرى التي طرحتها في بداية هذا الكتاب يعد هذا السؤال من الأسئلة
«الكبيرة» بحق. يحتوي العالم المادي على أشياء، كالنجوم والكواكب والكائنات الحية.
لماذا توجد هذه الأشياء بدلًا من أشياء أخرى؟ لماذا ليس الكون مملوءًا، مثلًا، بالجيلي
الأخضر المترجرج، أو السلاسل المتشابكة، أو بالأفكار المجردة …؟ لا توجد حدود أمام ما
قد نتخيله هنا. تنشأ نفس الإشكالية حين نتدبر قوانين الفيزياء. لماذا تطيع الجاذبية
قانون التربيع العكسي وليس قانون التكعيب العكسي مثلًا؟ لماذا يوجد نوعان من الشحنات
الكهربية (الموجبة والسالبة) وليس أربعة؟ وهكذا دواليك. إن اللجوء لفكرة الكون المتعدد
لن يفعل شيئًا سوى ترحيل المشكلة لتصير «ولماذا هذا الكون المتعدد تحديدًا؟» كما أن
اللجوء لفكرة الكون الأوحد الخالي من المتغيرات الحرة الموصوف من قبل نظرية موحدة
سيجعلنا نتساءل: «ولماذا هذه النظرية بعينها؟»
هل هناك مخرج؟ هناك مخرج بالفعل، لكنه صعب. هناك احتمالان وحيدان لما يمكن أن نطلق
عليه الحالة «الطبيعية»، التي أعني بها الحالة التي لا تتطلب تبريرًا إضافيًّا ولا تكون
عشوائية أو منافية للمنطق. الحالة الأولى هي أن «لا شيء» موجود. هذه الحالة بسيطة
بالتأكيد، وأعتقد أنه يمكن، بصورة ما، وصفها بالأنيقة، بيد أنها خاطئة بالتأكيد. الحالة
الطبيعية الثانية هي أن «كل شيء» موجود. أعني بهذا أن أي شيء «يمكن أن» يوجد موجود
«بالفعل». من الأصعب بكثير إثبات خطأ مثل هذه القناعة؛ فنحن لا نستطيع رصد كل شيء موجود
في الكون، وليس انعدام الدليل مساويًا للدليل على العدم. لذا، ليس بوسعنا أن نكون
واثقين من أن أي شيء يمكننا تخيله
29 غير موجود بالفعل «في مكان ما»، ربما خارج نطاق أقوى معدات الرصد لدينا أو
في كون موازٍ.
(١٢) هل من الممكن أن يوجد «كل شيء»؟
من المناصرين المتحمسين لهذه الفرضية الجامحة ماكس تجمارك.
30 كان تجمارك يتفكر في أحجية «نفث النار» التي ناقشتها بالأعلى (وهو على
الأرجح يحتسي بضع كئوس من الشراب في الحانة). وهو يتساءل: «إذا كان الكون مبنيًّا على
أساس رياضي بحت، فلماذا اختيرت بنية رياضية وحيدة من بين البنى العديدة المتاحة لوصف
الكون؟ يبدو أن هناك تناظرًا جوهريًّا موجودًا في قلب الواقع.» ولاستعادة هذا التناظر
بشكل تام والتخلص من فكرة الاختيار اقترح تجمارك أن «كل بنية رياضية تتوافق مع كون
موازٍ». وبهذا نكون بصدد شكل أكثر تعقيدًا لفكرة تعدد الأكوان، فبالإضافة إلى الكون
المتعدد «المعتاد» الذي وصفته بالفعل، والمتكون من فقاعات أخرى في الفضاء ذات قوانين
فيزياء مختلفة، سيكون لدينا ما هو أكثر من ذلك: «أن عناصر هذا الكون المتعدد [الأكثر
اتساعًا] لا تقع في نفس الفضاء، بل خارج حدود الزمان والمكان. وأغلب هذه الأكوان
المتعددة تخلو من المراقبين.»
31
يعطينا تجمارك توضيحًا للبنية الرياضية التي يفكر فيها، إذ يقول: «ماذا عن الزمان
الذي يأتي على مراحل متقطعة، مثلما هو الحال في الحاسبات الآلية، ولا يسير بصورة
متواصلة؟ ماذا عن كون هو ببساطة شكل اثني عشري السطوح خاوٍ؟»
32 أيضًا تفكر تجمارك في الأبعاد الكسرعشرية؛ أي البنى الرياضية التي تحوي
كسورًا من الأبعاد (على سبيل المثال تحتوي على
ثلاثة أبعاد وثلث البعد) والأبعاد اللانهائية غير
المنتظمة.
33 ستوجد أيضًا أكوان متناثرة ستكون مجموعة من النقاط التي لا يوجد بينها أي
تواصل وأكوان أخرى تحتوي على أجسام يمكن عدها، لكن لن يتساوى فيها حاصل العملية ٣ × ٤
مع حاصل العملية ٤ × ٣. بعض الأكوان قد تسمح ﺑ «الحوسبة الفائقة»؛ أي القدرة على حل
المسائل الرياضية التي تحتاج إلى عدد لانهائي من الخطوات في كوننا. يتدبر علماء
الرياضيات هذه الأنواع من النظم طوال الوقت، ويكتبون عنها أبحاثًا علمية بوصفها فروعًا
للنظرية الرياضية. يقترح تجمارك أن هذه النظم موجودة بالفعل في الواقع؛ في مكان
ما.
رد الفعل المبدئي حيال فكرة تجمارك عن الكون المتعدد «الذي فيه كل شيء ممكن»
34 أنها معقدة بشكل مذهل وتخرق خرقًا فاضحًا أهم المبادئ العلمية؛ مبدأ شفرة
أوكام (الذي يقضي بأن التفسير الأبسط هو التفسير الأكثر ترجيحًا). لكن تجمارك يوضح أن
«كل شيء» أبسط في الحقيقة من «بعض» الأشياء؛ بمعنى أنه من الأبسط أحيانًا تفسير الكل
عن
تفسير أجزائه. من الأمثلة الملموسة على ذلك كرة البلور اللانهائية. فكرة البلور
اللانهائية المثالية تتكون من شباك منتظمة ذات شكل موحد من الذرات التي لا تحدها أية
حدود. من الممكن أن توصف بنيتها بالكامل فقط بتحديد المسافة الفاصلة بين الذرات
المتجاورة، واتجاهها العام، ثم التصريح بأن شبكة الذرات ليست لها حدود. الآن تخيل أننا
أزلنا من هذه الكرة البلورية اللانهائية المثالية مجموعة عشوائية من الذرات، مع الحفاظ
على الترتيب ثلاثي الأبعاد للمجموعة المزالة والجزء المتبقي. في هذه الحالة تكون
المجموعة الأصلية من الذرات قد انقسمت إلى مجموعتين فرعيتين محددتين تحديدًا عشوائيًّا.
عندئذٍ لا يمكن بطبيعة الحال وصف أي مجموعة منهما من واقع أي عدد من المعلومات أقل مما
تحويه المجموعة نفسها.
35 على سبيل المثال، إذا أزلت مليون ذرة بشكل عشوائي فسيتعين عليك أن تحدد
مليون معلومة مختلفة لحصر هذه العملية. وبهذا تكون كل مجموعة فرعية جسمًا معقدًا يحتاج
قدرًا كبيرًا من المعلومات لوصفه. لكن لو أعدت المجموعتين الفرعيتين لوضعهما السابق
فستحصل على شيء بسيط للغاية ويسهل وصفه.
مع ما قد يبدو في اقتراح تجمارك من وجاهة فإنه لا يخلو من المشكلات. إن فكرة «كل
شيء»
يصعب تصورها في الرياضيات، وذلك بسبب إمكانية وجود المجموعات ذاتية المرجعية. ترتبط هذه
الفكرة بمشكلة معروفة كامنة بداخل الأسس الرياضية المنطقية، مثل متناقضة الحلاق
لبرتراند راسل: يحلق حلاق القرية شعر كل الرجال الذين لا يحلقون شعورهم بأنفسهم، فمن
يحلق إذن شعر الحلاق نفسه؟ إذا كان الحلاق يحلق شعره، فهو إذن ينتمي لمجموعة الأشخاص
الذين لا يحلق لهم الحلاق، لذا فهو لا يحلق لنفسه. ولو لم يحلق شعره فهذا يعني أنه من
المجموعة التي يحلق لها الحلاق! في كلتا الحالتين نحصل على هراء متناقض. هذا اللغز
البسيط ليس الهدف منه التسلية وحسب؛ إذ إنه يضرب بجذوره في قلب الاتساق الرياضي نفسه
ويلغي أي محاولة ولو بسيطة لتعريف الرياضيات في ضوء مجموعات من الأجسام التي تطيع
مجموعة من القواعد. وهنا تتهدد حتى أبسط قواعد الحساب الأساسية.
36
الاعتراض الثاني على فكرة تجمارك: هو أنها مصاغة بصورة رياضية. ليس هذا، بالطبع،
مستغربًا من جانب نظرية وضعها فيزيائي رياضي، وهي مدعومة باكتشاف أن الطبيعة في حقيقتها
ذات شكل رياضي. لكن إذا دخلنا منطقة «كل شيء ممكن»، فلن يكون هناك ما يدعونا للاقتصار
على الرياضيات. وإذا اقتصرنا على الرياضيات فسيستتبع هذا السؤال: لماذا الكون المتعدد
رياضي؟ ومن الذي يحدد ذلك؟ وبالتأكيد يكون بمقدورنا تخيل كون متعدد يكون محددًا بوسائل
أخرى. على سبيل المثال، مجموعة الأكوان المُرضية من الناحية الجمالية، ومجموعة الأكوان
الطيبة أو الشريرة، ومجموعة الأكوان الافتراضية. وحتى داخل نطاق الرياضيات العام يمكننا
التشكك في قواعد المنطق الأساسية التي تُبنى عليها المعادلات الرياضية ونتفكر في كون
تكون فيه الأجسام مستقاة من أشكال المنطق الممكنة كافة. وإذا آمنت بحق بأن كل شيء يوجد
فمن المفترض لهذه الأشكال الأخرى من الكون أن توجد هي أيضًا.
ربما هي موجودة بالفعل؟ قليل من الأشخاص يرغبون في اتباع منطق تجمارك إلى نهايته.
إن
أغلب العلماء، حتى من يؤمنون بوجود شكل من تعدد الأكوان، لا يجرءون على افتراض أن كل
شيء موجود. وهذا يعود بنا مجددًا إلى المشكلة الأساسية التي واجهناها في بداية هذا
القسم: ما الذي يقرر ما هو موجود؟
(١٣) أصل القاعدة التي تفرق بين ما هو موجود وما ليس موجودًا
إذا لم يكن بالإمكان وجود كل شيء فلا بد من وجود توصيف أو قاعدة تحدد كيف يمكننا
التفريق بين ما هو «حقيقي» وما هو «ممكن لكنه في الحقيقة غير موجود». وهنا يبرز السؤال
الحتمي: ما القاعدة التي تفصل بين الاثنين؟ ما الذي يحدد ما يوجد بالفعل ويفصله عما كان
يمكن أن يوجد لكنه غير موجود؟ من بين كل الكيانات الممكنة التي ليس لها تفسير، ينزع شيء
ما «مجموعة فرعية»، ويمنح «أفرادها» ميزة الوجود. شيء ما «ينفث النار في المعادلات»
ويخلق كونًا أو أكوانًا تصفها هذه المعادلات. غير أن اللغز لا ينتهي عند هذا الحد؛ فنحن
لا نحتاج هنا فحسب إلى تحديد «ذلك الشيء الذي ينفث في النار» ليجعل ما يمكن أن يوجد
موجودًا بالفعل، ولكن علينا أيضًا التفكر في أصل القاعدة نفسها، القاعدة التي تحدد ما
يوجد وما لا يوجد. من أين أتت هذه القاعدة؟ ولماذا تنطبق هذه القاعدة تحديدًا وليس
غيرها من القواعد؟ باختصار، كيف انتقيت العناصر الصالحة؟ والآن، ألا يردنا ذلك إلى
تنويعة أخرى من فكرة الكيان «المصمم» أو «الخالق» أو «المختار»؛ كيان ضروري يختار
«القاعدة» و«ينفث النار» فيها؟
يلخص الشكل
٩-١ هذه الفكرة، وهو يبين ثلاث مجموعات يفصلها حدان،
«أ» و«ب». المنطقة الأفتح لونًا، التي يحدها الحد أ، تضم جميع الأشياء التي يمكن للمراقب
أن
يرصدها بشكل نظري. يمكن أن تكون هذه المجموعة جزءًا — مجموعة جزئية — من مجموعة كل ما
هو موجود، التي يحدها الحد ب. خارج المجموعة الأفتح لونًا، لكن في إطار الحد ب توجد،
مثلًا، الأكوان التي لا تحتوي على حياة أو مراقبين. المنطقة الداكنة خارج الحد ب هي
مجموعة الأشياء التي يمكن نظريًّا أن توجد، لكنها في الواقع لا توجد. اتحاد هذه
المجموعات الثلاث يكون مجموعة لكل الأشياء المحتمل وجودها منطقيًّا؛ أي كل ما يمكن من
الناحية النظرية أن يوجد.
لنر الآن كيف ترتبط المحاولات الثلاث لتفسير الكون بهذه المجموعات. لنتدبر أولًا
نظرية كل شيء الخالية من المتغيرات الحرة: تدعو هذه النظرية، بوضوح، إلى أن الحد أ غير
موجود بالأساس؛ وأن هناك كونًا واحدًا وحسب — كوننا المرصود (انظر الشكل
٩-٢). هذه النظرية لا تضع في الاعتبار فكرة وجود «أكوان أخرى» لا
يمكن رصدها بسبب كونها غير ملائمة للحياة، لذا لا وجود للحد أ. لسوء الحظ لا يزال الحد
ب موجودًا. وليس عند نظرية كل شيء ما تقوله بشأن الحد ب؛ إذ إنه يظل لغزًا.
ماذا عن نظرية الكون المتعدد؟ يوافق مناصروها على وجود الحد أ، وهم يلجئون للمبدأ
الإنساني، أو تأثير انتخاب المراقبين، لتفسير حجمه وشكله (بصرف النظر عما يكونان، إذ
إننا لا نعرف بعد). ومجددًا، لا تساعدنا هذه النظرية على رسم حد المجموعة الثانية، الحد
ب؛ ذلك الذي يفصل بين مجموعة كل ما يوجد «بالفعل» ومجموعة كل ما «يمكن أن» يوجد لكنه
غير موجود. الحد ب بعيد عن متناول المنطق الإنساني. قد تستطيع نظرية تعدد
الأكوان/النظرية الإنسانية تفسير سبب ملاءمة الكون للحياة، بيد أنها بكل تأكيد ليست
نظرية كاملة للكون، مهما كثرت المزاعم التي تدعو لذلك، فهي لا تزال تترك الكثير من
الأمور دون تفسير، منها على سبيل المثال، أننا لا نزال بحاجة لأن نعرف ما الذي يرسم
الحد ب. وفقًا لتجمارك، لا وجود للحد ب، وبموجب هذا المنطق تكون مجموعة كل ما هو موجود
هي نفسها مجموعة كل ما يمكن أن يوجد (انظر الشكل
٩-٣). لكن كم عدد
المستعدين للمخاطرة بالذهاب لهذا الحد؟ عندما يتعلق الأمر بالوجود يعتقد أغلب الناس أن
بعض الأشياء غير موجودة، لكن ما هي؟ ولماذا هذه الأشياء تحديدًا؟
النظرية الثالثة تقضي بوجود نوع من الانتخاب الإلهي. وبصورة عامة تقضي هذه النظرية
بأن هناك إلهًا، أو مجموعة آلهة، يضعون الحدين «أ» و«ب». وفي الديانة المسيحية يسمو الخالق
فوق مجموعة كل الموجودات أو يحتويها كمجموعة فرعية. ولكن الآن يظهر لغز آخر وحد جديد؛
ذلك القائم بين الإله الموجود
بالفعل ومجموعة كل الآلهة المحتملة الأخرى.
37
(١٤) معضلة السلحفاة
هناك قصة شهيرة (ينسبها البعض لبرتراند راسل، فيما ينسبها آخرون إلى الفيلسوف
الأمريكي الذي عاش في القرن التاسع عشر ويليام جيمس) وقعت إبان محاضرة عن طبيعة الكون؛
فبعد انقضاء جزء من المحاضرة وقفت امرأة في الصفوف الخلفية لتخبر المحاضر بأنها «تعرف»
بالفعل كيف يتألف الكون: فالأرض موضوعة على ظهر فيل عملاق، يقف على ظهر سلحفاة عملاقة.
سألها المحاضر المرتبك عما تقف عليه هذه السلحفاة، فأجابته المرأة: «قد تكون بارعًا
أيها الشاب، لكنك لن تخدعني، فالسلحفاة تقف على عدد لانهائي من السلاحف!» (انظر الشكل
٩-٤).
تصف هذه القصة الطريفة معضلة لا مهرب منها تواجه أي محاولة لتوصيف الواقع: أين تنتهي
سلسلة التفسيرات؟ فمن أجل «تفسير» شيء ما، بالشكل المعروف، لا بد أن تبدأ من مكان ما.
ولتفادي النكوص اللانهائي — برج السلاحف الذي لا قاع له — عليك في نهاية المطاف أن تقبل
بشيء كأمر «مسلم به»؛ شيء يقر الآخرون بصحته دون الاحتياج لتفسير. عند إثبات صحة نظرية
هندسية، مثلًا، يبدأ المرء ببديهيات الهندسة،
38 والمقبولة بوصفها حقائق مثبتة وتستخدم بعد ذلك لاستنتاج النظرية ببرهان
منطقي يسير خطوة بخطوة. بالعودة إلى تشبيه السلاحف تمثل بديهيات الهندسة سلحفاة عملاقة
طافية في الهواء؛ سلحفاة قادرة على الوقوف وحدها دون أي مساعدة خارجية (انظر الشكل
٩-٥). نفس المنطق ينطبق على سعينا للعثور على التفسير النهائي
للوجود المادي.
المشكلة هنا أن ما قد يراه أحدهم حقيقة نهائية راسخة قد يراه آخر بوصفه أضحوكة. إن
العلماء الذين يتحرقون للتوصل إلى نظرية لكل شيء خالية من المتغيرات يتقبلون معادلات
هذه النظرية (النظرية
M على سبيل المثال) بوصفها
السلحفاة العملاقة المحلقة في الهواء، وهذه هي نقطة البداية لهم. لا بد من قَبول هذه
المعادلات كأشياء «مسلم بصحتها» واستخدامها كأساس غير مُفسَّر من أجل بناء توصيف كامل
للوجود المادي. أما أنصار فكرة الكون المتعدد (باستثناء تجمارك على الأرجح) فيتقبلون
مجموعة من الأعاجيب، منها وجود آلية لتوليد الأكوان، وميكانيكا الكم، والنسبية، ومجموعة
من المتطلبات الفنية بوصفها الأساس الذي لا يحتاج لتفسير. لكن علماء الديانات التوحيدية
يرون في الإله كيانًا ضروريًّا، ويعطونه دور السلحفاة العملاقة السابقة. كل معسكر من
هذه
المعسكرات الثلاثة غير مقتنع بالأساس الذي يتبناه المعسكران الآخَران. خلاصة الأمر أنه
لا يوجد حل منطقي لهذه المعضلة؛ لأنه في نهاية المطاف لا بد من قبول هذه الفكرة أو
غيرها على أساس الإيمان، ومن الحتمي أن يعكس الاختيار تحيز المرء الثقافي.
39 فلا يمكنك استخدام العلم لإثبات عدم وجود الله، ولا يمكنك استخدام الدين
لإثبات عدم وجود القوانين المادية الأساسية.
(١٥) أشخاص كثيرون يرون أن الكون ليس إلا عبثًا
يمكن إرجاع معضلة السلاحف إلى طريقتنا المعتادة في التفكير. إن البحث العلمي بأسره
مبني على افتراض أن هناك «أسبابًا» تفسر كون الأشياء على ما هي عليه، فالتفسير العلمي
لأي ظاهرة هو برهان منطقي يربط الظاهرة بشيء آخر أعمق وأبسط، وهذا الشيء الآخر بدوره
مرتبط بشيء آخر أعمق، وهكذا. على سبيل المثال، يُفسَّر تغير أوجه القمر من الهلال إلى
البدر ثم العودة للهلال مرة أخرى من واقع حركة الأجسام في النظام الشمسي، التي تُفسَّر
بدورها من خلال قوانين نيوتن، والمدرجة بدورها في نظرية النسبية العامة لأينشتاين،
والتي (كما يؤمل) سيتضح يومًا ما أنها جزء من نظرية للجاذبية الكمية على غرار نظرية
الأوتار. بالعودة إلى امتداد سلسلة التفسيرات (أو النزول إلى السلاحف الأدنى) سنرى أن
هناك أسبابًا منطقية وراء تغير أوجه القمر، لكن حين نصل إلى النظرية النهائية المفترضة
(السلحفاة العملاقة)، ماذا سيحدث عندئذٍ؟ يمكن أن نتساءل: لماذا هذه النظرية الموحدة
«بعينها» وليست نظرية أخرى؟ لماذا نظرية موحدة تسمح بوجود قمر؟ لماذا نظرية موحدة تسمح
بوجود علماء عاقلين يمكنهم رصد القمر؟ من الإجابات التي يمكن إعطاؤها وقتها هي أنه لا
يوجد سبب، وأن النظرية الموحدة لا بد أن تُعامَل على أنها «النظرية الصحيحة
وحسب»،
40 وأن اتساقها مع وجود قمر أو مراقبين أحياء ليس أكثر من مصادفة مواتية من
الناحية المنطقية. إذا كان الحال كذلك فهذا يعني أن النظرية الموحدة — أساس الواقع
المادي بأسره — موجودة «دون سبب على الإطلاق». وأي شيء يوجد دون سبب يعد عبثًا. مطلوب
منا إذن أن نقبل بأن صرح التفكير العلمي — النظام الرياضي للكون — مبني في نهاية المطاف
على محض عبث! لا يوجد سبب على الإطلاق يفسر قدرة سلحفاة العلم العملاقة على الوقوف
بنفسها دون الارتكان على شيء آخر.
تأتينا إجابة مختلفة على مثل هذه الأسئلة من نظرية الكون المتعدد. إن نقطة البدء لهذه
النظرية ليست مجموعة فريدة اعتباطية من القوانين الموحدة، التي يتصادف أنها ملائمة
للحياة دون أي تفسير، بل نطاقًا واسعًا متنوعًا من القوانين، تُفسَّر فيها الملاءمة
للحياة في ضوء تأثير انتخاب المراقبين. لكن ما لم نتبنَ فكرة «أي شيء ممكن» التي دعا
إليها تجمارك، ستظل لدينا سلحفاة عملاقة غير مفسَّرة على صورة شكل معين للكون المتعدد
مبني على آلية معينة لتوليد الأكوان مع كل ما يصاحبه من ملحقات. وبهذا يحتفظ الكون
بسمتي العبث والعشوائية، فالسلحفاة العملاقة موجودة هنا أيضًا دون سبب، وهذا يجعل
النظرية في نهاية المطاف عبثًا هي الأخرى.
وقد كان أمام علماء الأديان في الديانات التوحيدية، الذين يقوم الإله عندهم بدور
السلحفاة العملاقة، متسع من الوقت للتفكير في هذه المشكلة. وهم يرون، أو على الأقل
بعضهم، أن معضلة أن ينتهي كل شيء إلى محض عبث يمكن التصدي لها باعتبار أن الإله كيان
ضروري. وكما أوضحت في موضع سابق من هذا الفصل، فهذه محاولة (فاشلة بكل وضوح) لوصف آلية
«قائمة بذاتها» — فكرة أن الإله يفسر وجوده — بدونها سنعود مباشرة إلى العشوائية
واللاسببية والعبث: إذا كان الإله موجودًا دون سبب، فإن تفسير علماء الأديان يصبح عبثًا
هو الآخر. ولكن أيًّا كان ما يحيط بفكرة الكيان الضروري من شك وريبة، فإن علماء الأديان
على الأقل قد حاولوا جاهدين أن يفسروا «كيف» تسبح السلحفاة العملاقة في الهواء، بدلًا
من ادعاء أن هذا إنما يحدث دون سبب على الإطلاق.
(١٦) ينبغي أن يكون التفسير النهائي للكون بسيطًا
من الجلي أن التفسيرات الثلاثة التي ناقشتها إلى الآن تتطلب منا أن نتقبلها استنادًا
على الإيمان. لكن كيف نفاضل بينها؟ من المعتاد هنا اللجوء لاختيار أبسط التفسيرات.
يعتمد مارتن جاردنر على هذا المبدأ كي يفضل فكرة التصميم عن الكون المتعدد حيث يقول:
«بالطبع القول بوجود كون واحد له خالق أبسط وأيسر في التصديق عن القول بوجود مليارات
لا
حصر لها من العوالم.»
41 يتفق عالم اللاهوت ريتشارد سوينبورن مع هذا الرأي ويفضل فكرة التصميم عن
فكرة الكون المتعدد غير المفسَّر أو الكون ذي الترتيب الوحيد.
42 إلا أن ريتشارد دوكنز يستخدم نفس المبدأ بصورة معاكسة، إذ يقول: «فكرة
التصميم هي الأكثر تعقيدًا!»
43 من الظاهر، قد يبدو أن لدوكنز وجهة نظر، إلا أن نفس هذا الانتقاد يمكن
توجيهه لفكرة الكون المتعدد اللانهائي، الذي يتطلب كمًّا مهولًا من المعلومات التي لا
يمكن التحقق منها من أجل تحديده.
44 هنا يميل البعض لتفضيل نظرية الكون المتفرد الخالي من المتغيرات الحرة، إن
كان لمثل هذه النظرية وجود، إذا اتضح بالفعل — وهناك شك كبير في ذلك — أنها تقدم
توصيفًا بسيطًا أنيقًا للكون، وليس خليطًا قبيحًا من الرياضيات المعقدة.
من الواضح، كما عرضت في هذا الفصل، أن المحاولات الثلاث لتفسير العالم بشكل تام،
اثنتان منها علمية والثالثة دينية، تصل جميعها في النهاية إلى طريق مسدود، وتقتضي قبول
شيء خطير على أساس الإيمان وحده. هل هذا أقصى ما يمكن الوصول إليه؟ هل وصلنا لآخر تخوم
التفكير المنطقي؟ لا أعتقد هذا. حاولت في هذا الكتاب تفسير سبب ملاءمة الكون للحياة،
لكني الآن أريد أن ألقي نظرة أعمق على الجزء الخاص بالحياة: في مناقشاتنا إلى الآن كانت
الحياة والمراقبون يلعبون دورًا سلبيًّا بالكامل، ففي نظرية الكون المتعدد، مثلًا، هم
يوجدون في هذا الكون وليس في غيره، ومن ثم — دون أن يفعلوا شيئًا غير ما يفعلوه عادة،
أي العيش والملاحظة — يكونون هم التفسير المزعوم لملاءمة هذا الكون للحياة. وما دامت
الحياة والعقل عوملا بهذه الصورة؛ كنتاج ثانوي عرضي للطبيعة، فسيظل لغز الوجود مستعصيًا
على الفهم، على الدوام. ومع ذلك فهناك سبيل آخر يمكن استكشافه؛ سبيل لا يُنظر فيه إلى
الحياة والعقل كأمور سلبية مسلم بها، بل هي تلعب دورًا نشطًا في تفسير الوجود.
النقاط الأساسية
هذا الفصل يحتوي من آراء الكاتب الشخصية على قدر أكثر من الفصول السابقة.
-
من بعض الجوانب، مثل قابلية الكون العجيبة لاستضافة الحياة، يبدو أنه مصمم.
وبعض الناس يقترحون أنه كذلك بالفعل. غير أن فكرة اللجوء إلى مصمم فائق لها
مشكلاتها الفلسفية التي لم تحل بعد من قبيل طبيعة ذلك المصمم، وأصله، وتفرده،
وضرورته، وعلاقته بالزمن.
-
من المهم التفريق بين مفهوم التصميم في قوانين الفيزياء ومفهومه في الأجسام
أو النظم، مثل الكائنات الحية. لمظهر التصميم في الكائنات الحية تفسير علمي
قابل للاختبار مبني على نظرية النشوء والارتقاء لداروين.
-
يمكن تفسير مظهر التصميم في القوانين من خلال فرضية الكون المتعدد ذي
الانتخاب «الإنساني»، إلا أن نظرية الكون المتعدد ليست تفسيرًا كاملًا للوجود
لأنها لا تزال بحاجة لبعض قوانين الفيزياء غير المفسَّرة.
-
يعلق بعض العلماء آمالهم على «نظرية لكل شيء» متكاملة تفسر الكون دون اللجوء
لفكرة انتخاب المراقبين. إذا صح وجود هذه النظرية فستكون ملاءمة الكون للحياة
محض مصادفة سعيدة. ومع ذلك فهناك شك كبير في وجود نظرية واحدة نهائية.
-
ما لم يكن كل ما يمكن وجوده موجودًا بالفعل، فسيظل هناك عامل غير مفسَّر يفصل
ما هو موجود عما ليس موجودًا.
-
لتجنب النكوص اللانهائي (برج السلاحف)، لا بد من قبول شيء ما على أساس
الإيمان، حتى في التفسيرات العلمية، لكن ينبغي أن يكون هذا الشيء بسيطًا قدر
الإمكان.
-
لم تنتهِ رحلتنا بعد!