الثورة: كيف غيَّر الأكسجين العالَم؟
كثيرًا ما يقال إن أنطوان لوران لافوازييه قدَّم للكيمياء مثلما قدَّم إسحاق نيوتن للفيزياء وتشارلز داروين لعلم الأحياء؛ فقد حولها من مجموعة من الحقائق المنفصلة إلى علم ذي مبادئ موحَّدة.
ولكن التوقيت حاسم؛ فأعمال نيوتن في القرن السابع عشر تُمثِّل بداية عصر التنوير؛ الثقة في المنهج العقلي باعتباره وسيلةً لفهم الكون وتحسين وضع البشر. وبدأت نظريات داروين في الهيمنة باعتبارها حقائقَ ثابتة للعلم في القرن التاسع عشر، واستسلمت الثقافة أمام منظور الحداثة الأهوج. وكانت كل القواعد القديمة للفن والموسيقى والأدب تتغيَّر في ذات الوقت.
ماذا عن لافوازييه؟ كان مصيرُه مصيرَ تنوير العالِم الجديد الشجاع؛ إذ إنه ذُبح خلال عهد الإرهاب تحت حكم روبسبير. وقد تعثَّر التفاؤل الليبرالي للفلاسفة والمفكِّرين، مثل فولتير ومونتسكيو وكوندورسيه، أمام الأهواء المتقلِّبة والوحشية التعسفية للثوار الفرنسيين. وأُطيح بالمنطق، وأصبحت الكيمياء في العقود التي تلت ذلك علمًا يغلب عليه الطابع الرومانتيكي بدرجة كبيرة.
كان لافوازييه محصِّلًا للضرائب قبل أن يصبح عالِمًا مشهورًا، وكان ذلك — إلى حدٍّ كبير — ما حدَّد مصيره، لكنَّ خبرته الكيميائية أمَّنت أيضًا له مكانة بارزة في منصب مدير إدارة البارود لدى لويس السادس عشر. وعندما كان أمينًا لصندوق أكاديمية العلوم والسكرتير التنفيذي لها، عارَض بقوةٍ حلَّها مِن قِبل إدارة اليعاقبة المناهضة للنخبوية في عام ١٧٩٣م. كان لافوازييه هدفًا سهلًا للثوريين الذين كانوا يطارِدون مَن يخالفهم الرأي، والذين صمَّموا على تطهير الأمة من أي شخص يجدون مبرِّرًا للتشكيك في وَلائه للجمهورية. وهذا هو السبب في أنْ أُطيحَ برأس لافوازييه عام ١٧٩٤م عقب الإطاحة برأس والد زوجته مباشرةً.
وبعد ذلك بقرنَيْن من الزمن، ظلَّ الجدل محتدِمًا حول كَوْن لافوازييه فعليًّا المكتشِف الحقيقي لواحد من العناصر الأكثر أهميةً في الكيمياء؛ وهو الأكسجين. وأصبح موضوعَ مسرحيةٍ كَتَبَها اثنان من الكيميائيين الروَّاد في العالم؛ وهما: رولد هوفمان الحائز على جائزة نوبل، وكارل جيراسي المشارِك في اختراع حبوب منع الحمل. في مسرحية «أُكسجين»، قرَّرت لجنة نوبل في عام ٢٠٠١م منح جوائز «نوبل بأثر رجعي» على الاكتشافات الكبيرة التي حدثت قبل تأسيس الجائزة في عام ١٩٠١م، وقرَّرت أن جائزة نوبل للكيمياء الأولى يجب أن تُمنح لمكتشِف الأكسجين؛ لأن «الثورة الكيميائية نتجت من الأكسجين» على حد قول إحدى شخصيات المسرحية. أطلق لافوازييه على العنصر اسمه، لكنه لم يكن بالتأكيد أوَّل مَن صنعه، ولا مَن عرف أنه مادة متميِّزة ومهمَّة. واحتدم الجدل داخل لجنة نوبل حول المرشحين الثلاثة الروَّاد، وعُرِض في المسرحية لقاءٌ افتراضي بين المرشحين الثلاثة في عام ١٧٧٧م كَشَفَ عن رؤًى جديدة تتعلَّق بنزاعهم من أجل إثبات كلٍّ منهم الأولويةَ لنفسه.
إلا أن هذا جزء فحسب من الحكاية. لا يقدِّم الأكسجين المبدأ التنظيمي الرئيسي للكيمياء الحديثة فحسب، ولكن يبني أيضًا جسرًا بين الجديد والقديم؛ بين جذور «خيمياء» روبرت بويل الكيميائية والتركيبات العجيبة في الوقت الحالي التي تُخلَّق دون انقطاع في مصانع الكيماويات. وبالجمع بين الاثنتين، فإنه يمثِّل مرحلة حاسمة في تطوير مفهوم العنصر.
شيء في الهواء
تسبَّب لافوازييه في صدمتين لعناصر أرسطو؛ فتجاربه على الماء أدَّت به إلى أن يَستنتج في عام ١٧٨٣م أن الماء «ليس مادة بسيطة على الإطلاق، وليس مناسبًا أن نُطلق عليه لقب عنصر، كما كان يُعتقد دائمًا.» وفيما يخص العنصر السائل الآخر من العصور القديمة، أَعلن أن «الهواء في الغلاف الجوي يتكوَّن من اثنين من السوائل المرنة المختلفة وذات الصفات المتضادة»، أَطلق عليهما اسمَي «الهواء السام» و«الهواء الصالح للتنفس». بعبارة أخرى: ليس الماء ولا الهواء عنصرًا.
ومع ذلك، لم يكن في نية لافوازييه هدم ما جرى عليه العرف بالكامل، ويقول مثبِتًا ذلك: «نحن لم نتظاهر بإدخال أي تغييرات على مصطلحات كتلك المصطلحات التي أضفى عليها العُرفُ القديم قدسيةً؛ ومن ثَمَّ … احتفظنا بكلمة «هواء» للتعبير عن هذه المجموعة من السوائل المرنة التي تُشكِّل الغلاف الجوي.»
كان تقييمه لهذه «المجموعة من السوائل» منقوصًا إلى حدٍّ ما، وهذا أمر متوقَّع؛ فالأكسجين والنيتروجين يمثِّلان ٩٩ بالمائة من الهواء؛ ولكن المتبقي مزيج رائع. في الغالب هو الأرجون (انظر الفصل السابع)، ذلك العنصر الخامل للغاية. وتوجد نسبة متغيرة صغيرة من بخار الماء (يكون كافيًا ليتجمَّع في سحب ويسقط في هيئة أمطار عندما يبرد الهواء)، ويمثِّل ثاني أكسيد الكربون نحو ٠٫٠٨ بالمائة من الهواء. وتشمل الغازاتُ النزرةُ الأخرى الميثان وأكسيد النيتروز وأول أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكبريت والأوزون. ولم يكن قد اكتُشف العديد من مكوِّنات الهواء الثانوية حتى العقود القليلة الماضية. ولكن على الرغم من تركيزاتها المنخفضة، فإنها تلعب دورًا حاسمًا في كيمياء الغلاف الجوي والبيئة. وبعضها من غازات الدفيئة التي تُسبِّب ارتفاعَ درجة حرارة الكوكب، والبعض الآخر ملوِّثات سامة. ولبعضها مصادر طبيعية، والبعض الآخر من صنع البشر، والعديد منها يأتي من المصدرين. ولفهم خصائص وسلوك الغلاف الجوي، ينبغي عادةً على الكيميائيين في الوقت الراهن أن يضعوا في الاعتبار التفاعلات التي تشمل عشرات أو حتى مئات الغازات النزرة ومشتقاتها.
الأكسجين والنيتروجين من العناصر، ولكن معظم هذه الغازات الأخرى «مركَّبات» شكَّلها تفاعلُ واتحادُ اثنين أو أكثر من العناصر المختلفة معًا. في غاز الأكسجين، كل ذرة من الأكسجين تتَّحد مع ذرة أخرى من الأكسجين، أما في أول أكسيد الكربون، فترتبط ذرة أكسجين بذرة كربون.
وعلى نحو مُرْبك إلى حدٍّ ما، عندما يستخدم الكيميائيون مصطلح «عنصر»، فإنه يمكن مِن ثَمَّ أن يشيروا إما إلى نوع معين من الذرات — الأكسجين في الصدأ أو الماء لا يزال عنصرًا بهذا المعنى — أو إلى مادة طبيعية تحتوي على نوع واحد فقط من الذرَّات مثل غاز الأكسجين أو قطعة من معدن النحاس الأحمر. وبعض العناصر — بما في ذلك معظم المعادن — عادةً ما تكون موجودة بشكل طبيعي في المركَّبات، وتتَّحد ذراتها مع ذرات تلك العناصر الأخرى. وتوجد عناصر أخرى بشكل طبيعي في شكلٍ «عنصريٍّ» أو نقيٍّ؛ مثل الكبريت أو الذهب. ولا يختلف ذلك عن القول بأن القط هو شيء مجرَّد ذو خصائص مميزة — أذنين مدبَّبتَيْن وذيلٍ ومَيْل إلى القرقرة ومطاردة الفئران — وهو أيضًا ذلك الكائن النشيط الدافئ الذي يجلس بالقرب من مدفأتنا.
إذن، يتكوَّن الهواء (في الغالب) من الأكسجين والنيتروجين، ويتكوَّن الماء من الأكسجين والهيدروجين. ولكن العناصر التي تشكِّل الهواء لا تشكِّل نفس نوع الخليط الموجود في الماء؛ فالروابط الكيميائية تربط كل ذرة من الأكسجين بذرَّتين من الهيدروجين في الماء، ولا يمكن الفصل بينهما إلا عن طريق تفاعل كيميائي. أما في الهواء، فإن العنصرين يكونان مختلطين فيزيائيًّا فقط؛ مثل حبيبات الرمل والملح. فيمكن فصلهما دون تفاعل كيميائي. وفي التطبيق العملي، اكتشف لافوازييه ضرورة استخدام تفاعل كيميائي للقيام بالفصل؛ إذ إنه سمح للأكسجين بالاتحاد مع المواد الأخرى من خلال الاحتراق، تاركًا وراءه نيتروجينَ شبهَ نقيٍّ. ولكن التقنيات الحديثة يمكنها أن تقوم بالفصل الفيزيائي بين هذين العنصرين.
ظلال الأكسجين
لم يكن ما استنتجه لافوازييه بشأن الهواء جديدًا؛ فمثلما أنه لم يكن أوَّل من صنع الماء من العنصرين المكوِّنَيْن له، لم يكن بمقدوره أن يدَّعي لنفسه الأسبقية في استنتاج أن الهواء يحتوي على مادتين غير متشابهتين. فالشيء الذي ميَّز ادعاءات لافوازييه لم يكن الملاحظات، وإنما التفسير.
كان النصفُ الثاني من القرن الثامن عشر هو عصر «كيمياء الهواء»، عندما كانت خواص الغازات — التي عادةً ما سمِّيت «هواءً» — محطَّ اهتمام هذا المجال. وكان اختراع «طست تجميع الغازات» — جهاز لجمع الغازات المنبعثة من المواد عند تسخينها — على يد رجل الدين الإنجليزي ستيفن هيلز في أوائل هذا القرن، هو الدافع الأساسي وراء هذا الاهتمام. وفي حين أنه في العصور القديمة كان مصطلح «هواء» يشير ضمنيًّا لأي شيء غازي، فإن جهاز هيلز ساعد الكيميائيين في معرفة أنه ليست كل هذه «الانبعاثات» متشابهة، وبهذا لا يمكن تبرير النظر إليها باعتبارها العنصر النقي نفسه.
على سبيل المثال، كان يوجد «الهواء المُثَبَّت» الذي درسه الصيدلي الاسكتلندي جوزيف بلاك (١٧٢٨–١٧٩٩م). اكتشف بلاك في خمسينيات القرن الثامن عشر أن هذا الغاز يَنتُج عندما تُسخَّن أملاح الكربونات أو يضاف إليها حمض. وأشار إلى أن الهواء «مثبَّت» في المواد الصلبة حتى يتحرَّر. وعلى النقيض من الهواء العادي، فإن الهواء المثبَّت يعكِّر ماء الجير (محلول هيدروكسيد الكالسيوم). ونعلم الآن أن هذا يرجع إلى تكوُّن كربونات الكالسيوم غير القابلة للذوبان؛ أي الطباشير. واكتشف بلاك أن النَّفَسَ البشري والغازات المنبعثة خلال عملية الاحتراق والناتج الغازي من عملية التخمُّر، جميعها لها نفْس التأثير على ماء الجير. هذا الهواء المثبَّت هو ثاني أكسيد الكربون، الذي تتحلَّل الكربونات إليه عند تسخينها.
أطلق دانيال رذرفورد (١٧٤٩–١٨١٩م) — تلميذ بلاك — على هذا الغاز اسم «الهواء السام» بدلًا من ذلك؛ ويشار إليه في الأساطير بأنه الانبعاثات الضارة التي يُعتقد أنها تنبعث من الأرض وتُسبِّب الوباء، وبدا اسمًا ملائمًا؛ حيث إن الحيوانات لقيَت حتفها في الجو المليء بهذا الغاز الجديد. ومع ذلك، «هواءُ» رذرفورد ليس نفس هواء لافوازييه السام؛ فهواء لافوازييه هو النيتروجين. ورغم ذلك، يُنسَب الفضل في اكتشاف النيتروجين إلى رذرفورد نفسه؛ لأنه اكتشف أنه عنصر خامل في الهواء العادي. وذَكَر رذرفورد في ١٧٧٢م أن نحو خُمس الهواء العادي فحسب «جيد» ويدعم الحياة. وإذا استُهلك هذا الهواء الجيد بطريقةٍ ما، فإن ذلك سيسبِّب انطفاء الشموع واختناق الفئران. وقدَّم هنري كافنديش (١٧٣١–١٨١٠م) وجوزيف بريستلي (١٧٣٣–١٨٠٤م) — وهما عالمان إنجليزيان آخران متخصصان في كيمياء الهواء — نفْسَ الملاحظات في ستينيات القرن الثامن عشر. في الواقع، توجد نتائج مماثلة يعود تاريخها إلى زمن روبرت بويل، ولكن كان بلاك أوَّل من قدَّم (بفارق بسيط) فكرة أن النيتروجين عنصر منفصل كما أصبح معروفًا بعد ذلك.
كانت تجارب جوزيف بريستلي باستخدام حوض هيلز مثمرةً للغاية؛ إذ عزل نحو عشرين هواءً مختلفًا؛ منها كلوريد الهيدروجين وأكسيد النيتريك والأمونيا. ولكن لم يَعتبِر هو ولا أيٌّ من معاصريه هذه الموادَّ في البداية مركَّباتٍ مختلفةً في حدِّ ذاتها. كان إرث عناصر أرسطو لا يزال قويًّا، وفضَّل متخصِّصو كيمياء الهواء اعتبار كل غاز «هواءً عاديًّا» تَغيَّر بطريقة ما؛ كأنْ يصبح في حالةٍ أعلى أو أقل من عدم النقاء. وحتى لافوازييه عجز عن الفِكاك من أَسْر هذه الفكرة.
مع ذلك، يعكس هذا التحيز أكثر من مجرد الولاء للأفكار الكلاسيكية. كان كيميائيو الهواء لديهم نظرية لشرح التفاعلات الكيميائية للغازات، وقد صاغوها بحيث تتناسب مع كل ملاحظة جديدة. واستشهدت النظرية بأردأ العناصر الزائفة في الكيمياء سمعةً؛ وهو الفلوجيستون.
تطوَّرت الخيمياء إلى الكيمياء الحديثة على عدة مراحل، يمكن القول بأن نظرية الفلوجيستون كانت آخرها. ويمكننا تتبُّع هذه المادة الافتراضية وُصولًا إلى كبريت جابر بن حيان، وهو مكوِّن مفترَض في جميع المعادن. كان الكبريت «الحقيقي» — المادة الصلبة الصفراء التي تُستخرج من الأرض — مادةً قابلة للاشتعال، وهو مكوِّن في البارود وكبريت العمود الذي يفور تحت نيران الجحيم. لذلك من المفهوم كيف أصبح كبريت الخيمياء من جواهر باراسيلسوس الثلاثة «تيرا بينجويس» عند يوهان بيشر؛ أي الأرض الدهنية، وهي الجوهر الزيتي للاحتراق. أطلق جورج إرنست ستال (١٦٦٠–١٧٣٤م) — تلميذ بيشر — اسمًا جديدًا عليه؛ وهو فلوجيستون من كلمة إغريقية تعني بالعربية «احتراق».
كان الفلوجيستون عند بعض الكيميائيين هو النار نفسها؛ شكل من أشكال العنصر القديم. أما البعض الآخر، فاتفقوا مع تعريف بيشر ﻟ «تيرا بينجويس» القائل بأن «المعادن تحتوي على جوهر قابل للاشتعال ينطلق في الهواء بفعل الاحتراق»، قابلين عدم وضوح الخطوط الفاصلة بين «العناصر» و«جواهر» الخيمياء.
يبدو معقولًا بما يكفي أن نفترض أن الخشب يُطلِق مادةً ما في الهواء؛ وذلك استنادًا إلى تراقص النيران والدخان فوق قطعة خشب تحترق. إذن، هذه المادة كانت الفلوجيستون؛ جوهر القابلية للاشتعال. أتريد دليلًا؟ أوقِدْ شمعة في حاوية مغلقة. سينطفئ لهب الشمعة في النهاية كما أشار مؤيدو نظرية الفلوجيستون؛ لأن الهواء أصبح مشبعًا بالفلوجيستون المنبعث من الشمعة، ولا يمكنه استقبال المزيد منه.
المعادن عمومًا لا تحترق بلهب لامع، ولكن عندما تُسخَّن في الهواء، يمكن تحويلها إلى مواد جديدة باهتة. أُطلِقَ على هذه العملية اسم التكليس في القرن الثامن عشر، وكانت المنتجات تسمى مواد مُكَلْسَنة. إذا سُخِّنت المادة المكلسَنة في وجود الفحم النباتي، يُسترد المعدن. كان من المفترض أن المعادن تُطلِق أيضًا الفلوجيستون خلال التكليس. واعتُبر الفحم غنيًّا بالفلوجيستون (وهل من سبب آخر لاحتراقه بشكل جيد في الأفران؟!) وهكذا كان قادرًا على إعادة هذه المادة إلى حالة التكلُّس وإعادة إنتاج المعدن.
توجد مشكلة واحدة فقط؛ صحيح أن الخشب — بفقدان جزء من كتلته عندما يحترق — يبدو أنه يطلِق مادةً ما في الهواء، ولكن المعادن المكلسنة «تزداد» وزنًا. كيف يمكن أن يزيد وزنها بفقدان الفلوجيستون؟ تَملَّص معظم الكيميائيين من هذه المسألة، وأكَّد البعض الآخر أن الفلوجيستون عديم الوزن، أو أنَّ له وزنًا سالبًا أو يمتلك القدرة على نقل قابلية الطفو.
طُوِّرت نظرية ستال للفلوجيستون ليس لشرح الاحتراق فقط، بل أيضًا لتفسير عمليات أخرى كثيرة، بما فيها عمليات بيولوجية. فهي تفسِّر الأحماض والقلويات، والتنفس وروائح النباتات. فكانت نظرية كيميائية منحت علم الكيمياء وحدة مبهرة على الأقل، إنْ لم تكن شاملة.
في عام ١٧٧٢م، كان لافوازييه لا يزال مؤمِنًا بفكرة الفلوجيستون، ولكنه كان قد بدأ يشك في أن الأمر برمَّته يتعلَّق بالاحتراق وحسب. واقترح في نهاية ذلك العام أن المعادن تستولي على الهواء («المثبَّت») عند التكليس، وأن المواد المكلسنة تُطلِق هذا الهواء المثبَّت عند «اختزالها» مرة أخرى إلى معادن مع استخدام الفحم والحرارة كعوامل اختزال. وعندما سمع عن الهواء المثبَّت الذي أشار إليه بلاك عام ١٧٧٣م، أوضح أن هذا هو ما تتَّحد معه المعادن لتشكِّل المواد المكلسنة. وفسَّر ذلك على الأقل الزيادةَ في الوزن. كما قلَّل من الحاجة إلى الاستعانة بالفلوجيستون مطلقًا.
ثم أَوْضَح صيدلي فرنسي يُدعى بيير باييه لِلافوازييه أن «مادة الزئبق المكلسنة» — التي نسميها الآن أكسيد الزئبق — يمكن تحويلها إلى زئبق ببساطةٍ عن طريق التسخين، دون الحاجة إلى الفحم «الغني بالفلوجيستون». علاوةً على ذلك، لم يكن الغاز المنبعث في هذه العملية هواءَ بلاك المثبَّتَ، ولكن كان شيئًا مختلفًا تمامًا. ماذا كان هذا الغاز؟ بدأ ذلك يتضح لِلافوازييه عندما جاءه جوزيف بريستلي لتناوُل العشاء.
كانت دراسات بريستلي العلمية — وهو قَسٌّ منشق عن الكنيسة المشيخية — مدعومة من قِبل إيرل شلبورن الذي كان بريستلي في بيته مُعلِّمًا. وفي أغسطس من عام ١٧٧٤م، أجرى بريستلي تجربةَ باييه نفسَها؛ فقام بتسخين أكسيد الزئبق وجمع الغازات الناتجة، وَوَجد أن لهبَ الشمعة الموضوعَ في هذا الغاز يحترق بتوهُّجٍ أكثر مما لو وُضع في الهواء العادي، وأن قطعة الفحم المشتعلة تصبح متوهجة؛ أيْ إنه في هذا «الهواء»، كان الاحتراق يزداد قوة.
اعتقد بريستلي أنه من الواضح أن «الهواء» كان يفتقر بشدة إلى الفلوجيستون؛ ومن ثَمَّ كان متعطشًا بشدة لامتصاصه من المواد المشتعلة. لم يتزحزح بريستلي قط عن قناعته بنظرية الفلوجيستون طوال حياته، وأَطلَق على غازه الجديد اسم «الهواء الخالي من الفلوجيستون».
في عام ١٧٧٥م اكتشف بريستلي أن الفلوجيستون يمتلك خاصية أكثر إثارةً للدهشة؛ فالفئران التي وضعها في وعاء زجاجي مليء ﺑ «الهواء الخالي من الفلوجيستون» عاشت لفترة أطول بكثير من الفئران الموضوعة في وعاء مماثل يحتوي على الهواء العادي. كان ثمة شيء «حيوي» يتعلَّق بهذه المادة، وعندما استنشقه بريستلي نفسه، قال: «بدا تنفُّسي خفيفًا وسهلًا جدًّا وسلسًا لبعض الوقت بعد ذلك.» وتصوَّر أنه يمكن أن يُستخدَم كمادة معزِّزة للصحة، على الرغم من أنه «حتى الآن، لم يَنَلْ شرفَ استنشاقه سوى فئراني وأنا فحسب.»
ربما كان بريستلي مخطئًا في هذه الجزئية؛ إذ إن جون مايو (١٦٤١–١٦٧٩م) — مساعد روبرت بويل في عام ١٦٧٤م — أكَّد أنه يوجد غاز ينبعث خلال تسخين النترات (نترات البوتاسيوم) يحوِّل دم الشرايين إلى اللون الأحمر في الرئتين. أكَّد مايو على أن المعادن تكتسب وزنًا خلال التكليس بسبب امتصاص جزيئات من الغاز «الهوائي النيتروجيني» هذا (الذي لم يكن بالطبع سوى الأكسجين). وفي الفترة من ١٧٧١-١٧٧٢م، أجري صيدليٌّ سويدي يدعى كارل فلهلم شيله — وهو واحد من أفضل علماء الكيمياء التجريبية في عصره — نفسَ تجربة مايو، وعَزَلَ الغاز الذي عزَّز عملية الاحتراق، وافترض أن هذا المكوِّن القابل للاشتعال من الهواء العادي يتَّحد مع الفلوجيستون خلال الاحتراق، وأطلق عليه اسم «هواء النار».
إذن، كان لهواء بريستلي الخالي من الفلوجيستون ماضٍ خفيٌّ. كان عمل شيله لا يزال مجهولًا في عام ١٧٧٥م؛ حيث لم يعلِن الصيدليُّ النتائجَ التي توصَّل إليها (والتي تضمَّنت حقيقة أن «هواء النار» يشكِّل خُمس الهواء العادي) حتى عام ١٧٧٧م.
تناول بريستلي وشلبورن العشاءَ مع لافوازييه في باريس في أكتوبر ١٧٧٤م، وذكر بريستلي نتائجه على مائدة الطعام. وجنبًا إلى جنب مع نتائج باييه، أَقنع ذلك لافوازييه بفكرة أن المعادن — رغم كل شيء — لا تتَّحد مع «الهواء المثبَّت» لتشكيل المواد المكلسنة. وأشار باييه فقط إلى أن الغاز المنبعث من أكسيد الزئبق كان مثل الهواء العادي، وأعلن لافوازييه في مارس ١٧٧٥م أن تجاربه الخاصة مع أكسيد الزئبق كشفت أن جميع المواد المكلسنة مزيج من المعادن مع هذا الغاز.
وعند رؤية هذا التقرير، أدرك بريستلي أن لافوازييه لم يقدِّر تمامًا الخواص «السامية» «للهواء الخالي من الفلوجيستون» الذي اكتشفه؛ فلم يكن مجرد هواء عادي. وأرسل إلى الفرنسي عيِّنة من الغاز للتحقُّق من أن الأمر كذلك. ونتيجة لهذا، قدَّم لافوازييه بحثًا إلى الأكاديمية الفرنسية في شهر أبريل عرَّف فيه جوهر الاحتراق — غاز بريستلي — باعتباره «هواءً نقيًّا» له خصوصيته. وتمشيًا مع غطرسته المعروفة، لم يُشِرْ إلى إسهامات بريستلي وباييه.
قدَّمت مسرحية «أكسجين» بريستلي ولافوازييه وشيله في صورة ثلاثة متنافسين على اكتشاف الأكسجين. لم يكن دور شيله على أرض الواقع معزولًا للغاية كما قد يبدو في المسرحية؛ فقد أُرسل بيانه الخاص باكتشافه إلى الناشرين عام ١٧٧٥م، ولكنه استغرق عامين لنشره. أهم من ذلك أن شيله أرسل خطابًا إلى لافوازييه في سبتمبر ١٧٧٤م يحدِّد فيه النتائج التي توصَّل إليها. مصير الخطاب ليس معروفًا، ولكن في مسرحية «أكسجين» يصبح جزءًا أساسيًّا من الحبكة الدرامية.
ربما كان لافوازييه متعجرفًا في معالجة قضايا الأولوية، ولكنه فعل أكثر من مجرد نَسْخ نتائج الآخرين. بالنسبة إلى بريستلي، كان الأكسجين سيُنظر إليه دائمًا على أنه شكل من أشكال الهواء العادي معدَّل عن طريق إزالة الفلوجيستون. ورأى شيله أيضًا الأمور في هذا السياق نفسه، لكن لافوازييه توصَّل إلى فهم أن هذا «الهواء النقي» كان في الواقع مادة في حدِّ ذاته. وفي هذه الحالة، لم يكن الهواء نفسه عنصرًا، بل عبارة عن مزيج. كان لافوازييه هو مَن جعل الأكسجين عنصرًا.
يكشف معتقَد لافوازييه أنه لا يزال يحمل نظرة تقليدية إلى حدٍّ ما عن العناصر. فكان ينظر إليها عادةً على أنها مثل الألوان أو التوابل؛ أي تمتلك خصائص ذاتية تظل واضحة في الخليط. ولكن الأمر ليس كذلك؛ فالعنصر الواحد يمكن أن يحمل خصائص مختلفة جدًّا اعتمادًا على ما يتحد معه؛ فالكلور غاز سام أكَّال، ولكن عندما يتحد مع الصوديوم مكوِّنًا ملح الطعام، فإنه لا يكون ضارًّا على الإطلاق. والكربون والأكسجين والنيتروجين هي المواد المشكِّلة للحياة، ولكن أول أكسيد الكربون والسيانيد (مزيج من الكربون والنيتروجين) مواد قاتلة. كانت هذه فكرة يصعب على الكيميائيين قبولها. وتلقَّى لافوازييه نفسه هجومًا عندما أشار إلى أن الماء يتألَّف من الأكسجين والهيدروجين؛ إذ إن الماء يطفئ الحرائق (وفقًا لأحد النقاد، الماء هو «أقوى مضاد للفلوجيستون نملكه»)، في حين أن الهيدروجين قابل للاشتعال على نحو هائل.
لم يتسبَّب اكتشاف الأكسجين في التخلِّي عن الفلوجيستون فحسب؛ حيث كان الاثنان متعارضَين جذريًّا؛ فالأكسجين هو النقيض الفعلي للفلوجيستون. فهو يُستهلك أثناء عملية الاحتراق، ولا ينبعث منها. وتنتهي عملية الاحتراق عندما يصبح الهواء خاليًا من الأكسجين، ليس عندما يتشبَّع بالفلوجيستون. في الواقع، الصورة المعكوسة تلك هي التي جعلت الفلوجيستون يبدو ناجحًا للغاية؛ فقد احتاج العلم عنصرًا من هذا القبيل لشرح الاحتراق؛ لكنه نظر ببساطةٍ إلى المشكلة من الناحية الخاطئة. كان الفلوجيستون ظِلَّ الأكسجين.
جعل الكيميائيون الفلوجيستون جوهرًا غامضًا؛ فهو ليس محدَّدًا بدقة ويتناسب من ثَمَّ مع كل التفسيرات المطلوبة منه. فأحيانًا يكون له وزن، وأحيانًا يكون بلا وزن، وأحيانًا يكون نارًا فحسب، وأحيانًا يكون نارًا متحدة مع تراب، وأحيانًا يمرُّ عبر مسامِّ الأوعية، وأحيانًا لا يستطيع اختراقها. ويفسِّر الحمضية وعدم الحمضية في ذات الوقت، والشفافية والتعتيم، واللون وغياب اللون. إنه بروتيوس حقيقي يغيِّر شكله كل لحظة!
ولكن لافوازييه نفسه لم يتمكَّن من التخلي تمامًا عن الفلوجيستون. فعلى غرار كثير من معاصريه، كان يعتبر الحرارة مادة فيزيائية، وليست عنصرًا كما كان يُعتقد قديمًا. وأطلق عليها اسم «كالوريك» (أو سيَّالًا حراريًّا)، وبدت على نحو يثير الريبة كما لو أنها فلوجيستون في شكل آخر. كان الكالوريك هو ما يجعل المواد غازية؛ فكان غاز الأكسجين زاخرًا به. وعندما كان الأكسجين يتفاعل مع المعادن لتشكيل المواد المكلسنة، كان الكالوريك يتحرَّر (أي كانت الحرارة تتحرَّر)؛ ونتيجة لذلك يصبح الأكسجين كثيفًا وثقيلًا.
تتضح هذه الأفكار في مقالٍ كَتبه لافوازييه عام ١٧٧٣م، يحدِّد فيه ثلاث حالات فيزيائية مختلفة للمادة: صلبة وسائلة وغازية. وهنا ميَّز على نحو حاسم بين الطبيعة الفيزيائية والكيميائية للمواد، وهو الأمر الذي حيَّر القدماء وقادهم إلى مخططات قاصرة للعناصر. يقول لافوازييه: «الجسم نفسه يمكن أن يمرَّ تباعًا بكل هذه الحالات، ومن أجل جعْل هذه الظاهرة تحدث، من الضروري فقط جمعه مع كمية أكبر أو أقل من مادة النار.»
لا يكفي أن تكون المادة بسيطة أو غير قابلة للتجزئة، أو على الأقل غير قابلة للتحلُّل بالنسبة إلينا كي نقول إنها عنصر. ومن الضروري أيضًا أن تكون موزَّعة بوفرة في الطبيعة وتدخل كجوهر أساسي ومتأصِّل في تكوين عدد كبير من المواد.
على الرغم من هذا التراجع، غيَّر لافوازييه من طريقة تفكير الكيميائيين حول العناصر. في بداية القرن الثامن عشر، كان من الشائع الاعتقاد بأنه توجد خمسة عناصر فقط، وفي عام ١٧٨٩م عزَّز لافوازييه نظريته عن الأكسجين من خلال نشر كتاب بعنوان «أطروحة أوَّلية في الكيمياء»، التي عرَّفت العنصر على أنه أي مادة لا يمكن تقسيمها إلى مكوِّنات أبسط عن طريق التفاعلات الكيميائية. وذكر ما لا يقل عن ثلاثة وثلاثين عنصرًا. وتطلَّب إيضاحُ أن بعضها كان عناصر وهمية (الضوء والكالوريك) فيزياءَ القرن التاسع عشر. وكانت بضعة عناصر منها في الواقع مركَّبات لم يَكتشف الكيميائيون بعدُ كيفية تحليلها إلى عناصرها. ولكن الرسالة كانت واضحة؛ لا يوجد مخطَّط «بسيط» للعناصر. يوجد الكثير منها، وكان أمر اكتشافها موكولًا إلى الكيميائيين.
علامات على الحياة
تَمكَّن العلماء مؤخرًا من رصد أول كوكب يقع خارج مجموعتنا الشمسية؛ فقد اكتُشِف أول كوكب «خارج المجموعة الشمسية» عام ١٩٩٦م عن طريق التذبذبات التي ينقلها إلى النجم الأم وهو يدور في مداره. ولكن في عام ١٩٩٩م تَمكَّن علماء الفلك من رصد الضوء الذي ينعكس من هذا الكوكب، وكان أزرقَ قليلًا.
للأسف، هذا لا يعني أن الكوكب يشبه الأرض؛ فاللون الأزرق ربما يأتي من غازات أخرى في الغلاف الجوي للكوكب. ولكن ماذا لو وَجد العلماء يومًا ما كوكبًا يحتوي الضوءُ المنعكس منه على علامات كاشفة لوجود أكسجين، كما يحدث في عالمنا؟ حينها سيكون من الصعب استبعاد وجود حياة على ظهر هذا الكوكب.
تبدو هذه قفزة كبيرة: لماذا يعني الأكسجين الحياة؟ كان العلماء حتى ستينيات القرن العشرين يميلون إلى الاعتقاد بأن الغلاف الجوي للأرض الغني بالأكسجين — ما يقرب من خُمسه أكسجين وأربعة أخماسه نيتروجين — كان «معطًى مسلَّمًا به»، ناتجًا عن العمليات الجيولوجية على الأرض في بداية نشأتها. ووفقًا لهذه الصورة، يمكن للكوكب الذي يمتلك غطاءً من الأكسجين دعم الحياة، وإن كان هذا لا يحدث بالضرورة.
الآن هم يرون الأمور بشكل مختلف جدًّا؛ فالتركيب الكيميائي للهواء ليس شرطًا مسبقًا للحياة، ولكن نتيجة لها؛ فمنذ نحو مليارَي سنة، غيَّرت الكائناتُ الحية البدائية الغلافَ الجوي من غلاف خالٍ — إلى حدٍّ كبير — من الأكسجين إلى غلاف غني به.
لا توجد أي عملية جيولوجية معروفة يمكنها الحفاظ على مستوًى عالٍ من الأكسجين في الغلاف الجوي لكوكبنا؛ ففي نهاية المطاف، سيتفاعل الغاز مع الصخور ويُحبَس بعيدًا في الأرض. فقط العمليات البيولوجية هي التي يمكنها نزع الأكسجين — من المركَّبات التي يشكِّلها بالاتحاد مع العناصر الأخرى — وإعادته إلى السماء. فإذا انتهت كل أشكال الحياة على الأرض، فإن مستوى الأكسجين سيتضاءل تدريجيًّا إلى مستوًى لا يُذكر. ولهذا السبب، فإن الغلاف الجوي الغني بالأكسجين منارة تُعلِن عن وجود حياة تحته.
تعتمد جميع الحيوانات على الأكسجين، ولكن وجود كائنات لا تعتمد عليه لا يدعو لكثير من الدهشة. فتوجد أنواع عديدة من البكتيريا اللاهوائية؛ أي التي لا تستهلك الأكسجين، بل إنها في الواقع تنفر منه. تزدهر هذه الكائنات الحية في وحْلِ قاعِ البحرِ والمستنقعات، وفي حقول النفط العميقة، والعديد من الأماكن الأخرى التي لا يتخلَّلها الهواء.
عندما بدأت الحياة قبل أكثر من ٣٫٨ مليارات سنة، كانت الخلايا الأولى لا هوائية. ربما كان الغلاف الجوي في ذلك الوقت مزيجًا من النيتروجين وغازات مثل أول أكسيد الكربون وبخار الماء، أو ربما الميثان. وعلى غرار أي كائنات حية أخرى، كانت هذه البكتيريا البدائية في حاجة إلى مصدر للطاقة لدفع عملياتها الكيميائية الحيوية. ويَعتقد بعض الباحثين أن هذه البكتيريا ربما وَجدت في البداية هذا المصدر في الحرارة والطاقة الكيميائية للبراكين تحت سطح البحر.
ولكن يوجد مصدر للطاقة أكثر انتشارًا ووفرةً؛ وهو ضوء الشمس. في مرحلةٍ ما في بدايات التطور، عرفت الحياة كيفية استغلال أشعة الشمس من خلال عملية التمثيل الضوئي. تُستخدم الطاقة الضوئية لتفكيك غازِ ثاني أكسيد الكربون وتجميع جزيئات الحياة الكربونية. ويتمثَّل المنتَج الثانوي لتفاعلات التمثيل الضوئي لدى معظم الكائنات الحية في الأكسجين. وعلى مدار ملايين السنين كان هذا الغاز ممتزجًا بالمواد الأخرى؛ مثل الحديد المذاب في البحار. ولكن في النهاية استُهلكت «مستودعات الأكسجين» تلك وبدأ الأكسجين يتراكم في الغلاف الجوي.
يبدو هذا في صالحنا، ولكن بالنسبة إلى خلايا التمثيل الضوئي كان ذلك أكبر تفشٍّ لتلوثٍ عالميٍّ شهده العالم على الإطلاق. فبالنسبة إليها كان الأكسجين محض سمٍّ. يُنظر إلى الأكسجين باعتباره عنصرًا ودودًا، ولكنه في الواقع واحد من أشد العناصر الأكَّالة والمدمِّرة؛ فمجموعة قليلة فحسب من العناصر الأخرى تتفوَّق على الأكسجين في ميله الشديد للدخول في تفاعلات كيميائية.
وعلى أي حال، لا يتطلَّب الأمر سوى شرارة واحدة لإقناع غابة بأكملها بالتفاعل مع الأكسجين. وكانت النتيجة في عامي ١٩٩٨-١٩٩٩م ضبابًا دخانيًّا غطَّى إندونيسيا وغيَّر المناخ المحلي. وتوجد أدلة جيولوجية لحرائق غابات عالمية حدثت في الماضي البعيد تجعل من هذا الحريق شيئًا لا يُذكر مقارنةً بها.
ويحذِّر إنجيل متَّى من عدم اكتناز كنوز على الأرض؛ «حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ» تلك الكنوزَ؛ إذ إنه حتى وقت قريب لم تكن توجد أي وسيلة لحماية الحديد والصلب اللامِعَين من مَيْل الأكسجين الشديد للاتحاد بعناصر أخرى. كما أنه يصبغ اللوحات القديمة باللون البني؛ لأنه يغير الطلاء. فعندما تتعرَّض المعادن للهواء، فإن معظمها يكتسب قشرة من الأكسيد في غضون ثوانٍ.
ومع ذلك، فالطبيعة قادرة على التكيُّف. وإذا كان الهواء مليئًا بالسم، فسوف تتكيَّف الطبيعة تبعًا لذلك. فنحن نتنفس الأكسجين ليس لأنه جيد بطبيعته بالنسبة إلينا، ولكن لأننا طوَّرنا طرقًا لجعله أقل ضررًا بالنسبة إلينا. تزيل الإنزيمات المركَّبات القاتلة التي تتكوَّن عندما يُستخدم الأكسجين في حرق السكر في مصانع الطاقة داخل خلايانا. وتشمل هذه المركَّبات بيروكسيد الهيدروجين، الذي يُستخدم كمبيِّض صناعي ومنزلي، وحتى الجذور الحرة المكوَّنة من الأكسيد الفائق الأكثر تدميرًا. تضرُّ هذه الموادُّ الجزيئاتِ الحيويةَ الحساسةَ من خلايانا، بما في ذلك الحمض النووي. تمتلك الخلايا آليات جزيئية تسعى لإصلاح الضرر، ولكنَّ تراكم الضرر الذي لا مفرَّ منه عاملٌ مهمٌّ في حدوث الشيخوخة.
لا توجد إذن مزيَّة مثالية في الحياة على كوكب غنيٍّ بالأكسجين؛ فهذا هو ما انتهى به الحال على كوكبنا ببساطة. فرغم كل شيء، الأكسجين عنصر وفير للغاية؛ العنصر الثالث الأكثر وفرةً في الكون، والأكثر وفرةً (٤٧ بالمائة من المجموع الكلي) في القشرة الأرضية. من ناحية أخرى، ابتكر العالَم الحي (المحيط الحيوي) طريقةً للحفاظ على نسبة الأكسجين في الغلاف الجوي عند مستوًى يقترب من المثالية للكائنات الهوائية (التي تتنفس الأكسجين) مثلنا. فلو أنه يوجد أقل من ١٧ بالمائة من الأكسجين في الهواء، لأصابنا الاختناق. ولو أنه يوجد أكثر من ٢٥ بالمائة، لكانت كل المواد العضوية شديدة القابلية للاشتعال؛ أي ستحترق مع أدنى إثارة، وسوف تكون حرائق الغابات خارجة عن السيطرة. تركيز أكسجين يبلغ ٣٥ بالمائة كان سيكفي لتدمير معظم الحياة على الأرض في حرائق عالمية في الماضي (تحوَّلت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) إلى استخدام الهواء العادي بدلًا من الأكسجين النقي في المركبات الفضائية لهذا السبب بعد الحريق الهائل المأساوي والكارثي أثناء أُولى تجارب مكوك الفضاء أبوللو في عام ١٩٦٧م)؛ ولذا فإن النسبة الحالية البالغة ٢١ بالمائة تحقِّق حلًّا وسطًا جيدًا.
هذا الثبات في تركيز الأكسجين في الهواء يضفي دعمًا لفرضية أن النظم البيولوجية والنظم الجيولوجية للأرض تتشاركان في ضبط الغلاف الجوي والبيئة بحيث يكونان مناسبَين تمامًا لاستمرار الحياة؛ وهذا ما يسمَّى «فرضية جايا». وقد تذبذبت مستويات الأكسجين منذ أن أصبح الهواء غنيًّا بالأكسجين، ولكن ليس بنسبة كبيرة. وإضافةً إلى ذلك، فإن النسبة الحالية من الأكسجين في الغلاف الجوي كبيرة بما يكفي لدعم تشكيل طبقة الأوزون في طبقة الستراتوسفير، التي تحمي الحياة من الآثار السيئة للأشعة فوق البنفسجية الضارة القادمة من الشمس. الأوزون هو نوع ماصٌّ للأشعة فوق البنفسجية من أنواع الأكسجين النقي، الذي ترتبط ذرَّاته في صورة ثلاثية وليس في صورة ثنائية كما هو الحال في غاز الأكسجين.
كيف حوفظ على هذا المستوى الثابت من الأكسجين في الغلاف الجوي؟ كما رأينا، ينشأ الأكسجين خلال عملية التمثيل الضوئي عندما تُجرِّد الكائناتُ الحية جزيئاتِ الماء من الأكسجين. وتشمل كائناتُ البناء الضوئي جميعَ النباتات والعديدَ من أنواع البكتيريا. ويُستهلك الأكسجين عن طريق الحيوانات والكائنات الحية الهوائية الأخرى. ومن المغري اعتبارُ مستوى الأكسجين الثابت عاملًا يحقِّق التوازن بين هذه المصادر والمصارف في المحيط الحيوي. ولكن الأمر أكبر من ذلك؛ فالمحيطات تخفِّف من الاختلافات الكبيرة في أكسجين الغلاف الجوي؛ حيث إن تحلُّل المواد العضوية البحرية (الذي يزيل الأكسجين من الهواء) يتباطأ إذا انخفضت مستويات الأكسجين.
الأكسجين واحد من عناصر حيوية عديدة تُستهلَك ويعاد تدويرها باستمرار من خلال عمليات تتضمَّن المحيط الحيوي وصخور وبراكين الأرض والمحيطات. يُطلَق على هذه الدورات اسم «الدورات الكيميائية الأرضية البيولوجية»، وهي مرتبطة بعضها ببعض؛ فالتغيرات في دورات الأكسجين والكربون والنيتروجين والفوسفور مترابطة، فتهيِّئ التروس المنسجمة بيئة شبه ثابتة على كوكبنا. فالتغيرات في سرعة دوران أحد التروس — على سبيل المثال، بسبب الممارسات الصناعية والزراعية التي تضخ الغازات الغنية بالكربون في الجو — يمكن أن تخلَّ بعمل التروس الأخرى بطرق يصعب التنبؤ بها. هذا هو السبب في وجود الكثير من الشكوك بشأن المسار المحتمَل لتغيُّر المناخ العالمي الناجم عن الأنشطة البشرية.
ولأن التروس الكيميائية الأرضية البيولوجية تدور دائمًا، فإن كيمياء الأرض ليست في «حالة توازن». فعندما تصل العملية الكيميائية إلى التوازن، تتوقَّف جميع التغيرات. لا يعزى الثبات الكيميائي لبيئة كوكبنا إلى قلة النشاط، ولكن إلى التغير الدائم. هذا يشبه الفرق بين شخصٍ يبقى في البقعة نفسها من خلال الوقوف بثبات أو عن طريق المشي على جهاز للمشي.
يتضمَّن هذا الخلل في توازن بيئة الأرض عمليات غير عضوية في البحار والصخور، ولكن يُحفظ في نهاية المطاف عن طريق المحيط الحيوي؛ أو بعبارة أخرى: عن طريق الكائنات الحية. تظل التروس في حالة حركة، ويحدث ذلك في الغالب من خلال طاقة أشعة الشمس التي تحجزها كائنات التمثيل الضوئي. وإذا توقَّفت الحياة، فإن هذا الكوكب سيستقر تدريجيًّا نحو توازن ثابت سيكون مختلفًا تمامًا عن بيئة اليوم.
يمكننا أن نرى هذا من خلال النظر في الأغلفة الجوية للكواكب المجاورة لنا. ليس الزهرة والمريخ في حجم مماثل للأرض، ويتشكَّلان من خليط مماثل تقريبًا من العناصر. ولكن سماءهما تحتويان في الوقت الراهن على كميات ضئيلة فقط من الأكسجين — أقل من ١ بالمائة — وكميات صغيرة فقط من النيتروجين. يحتوي غلافهما الجوي على غاز ثاني أكسيد الكربون بنسبة ٩٥ بالمائة تقريبًا، على الرغم من أن غلاف المريخ الجوي رقيق للغاية، في حين أن غلاف الزهرة الجوي سميك جدًّا. وعلى كوكب الزهرة، هذا الغطاء الكثيف من غاز الدفيئة يرفع درجة حرارة السطح إلى نحو ٧٥٠ درجة مئوية. أما على سطح المريخ، فإن هذه الملاءة الرقيقة تُبقي درجات الحرارة باردةً عند −٥٠ درجة مئوية أو نحو ذلك. وفي كلتا الحالتين، غياب الأكسجين وقرب خليط غازات الغلاف الجوي من الخليط المتوازن يشيران من بعيد إلى أنه لا توجد حياة يمكن العثور عليها في هذين العالَمين.