حديث مع … «ود حامد»
عندما نزلت الطائرة في مطار «الخرطوم» كانت الممرات السوداء تلمع تحت مياه المطر الغزيرة، ففي هذا الوقت من العام تهب الرياح الموسمية، التي تحمل كميات هائلة من المطر.
اقترب «خالد» من «أحمد» وسأل: ألا تؤثر الأمطار في تلك الجراثيم القاتلة؟
أجاب «أحمد»: إنهم يربونها تربية خاصة في مزارعهم حتى تتحمل كل أنواع الطقس، فهي تستطيع أن تعيش في هذا الجو الصيفي الممطر.
ثم ابتسم قائلًا: لعلها جراثيم موسمية، كالرياح!
لكنْ ثمة منظر لفت نظر «زبيدة» داخل الطائرة، كان هناك رجل ينام وقد أخفى وجهه تحت قبعته.
اقتربت من «أحمد» ثم لمست ذراعه، فنظر إليها هزَّت رأسها في اتِّجاه الرجل النائم. اتجهت عينا «أحمد» إلى المكان، في نفس اللحظة، التي رفع فيها الرجل يده، يزيح قبعته من فوق وجهه، ثم نظر من النافذة التي بجواره وتمطى ثم قال، وكأنه يتحدث إلى نفسه: رحلة طيبة!
نظر إلى «أحمد» وسأل: هل وصلنا من زمن؟
اقترب «أحمد» مبتسمًا، ثم قال: منذ قليل، لكن يبدو أن الرحلة كانت طويلة، بالنسبة إليك.
تمطَّى الرجل مرة أخرى، وهو يزيح القبعة أكثر وقال: فعلًا، لقد كانت رحلة طويلة.
أحمد: لعلك لم تبدأ الرحلة من «القاهرة»!
الرجل: فعلًا بدأتها من «بيروت»، لكنني لم أنم إلَّا عندما غادرت الطائرة مطار «القاهرة».
قالت المذيعة: إن سيارة خاصة، تقف الآن أمام الباب مباشرة، حيث إن المتوقع أن يستمر المطر طويلًا.
اتَّجه الركاب القليلون من الباب، وكان الشياطين متفرقين بينهم، وأخذ الواحد بعد الآخر يختفي من داخل الطائرة، ليظهر خارجها، وكان سلم الطائرة مغطًى؛ ولذلك لم يصِب المطر أيًّا من الركاب، الذين أخذوا أماكنهم داخل السيارة، فتحركت مباشرة … وكان طاقم الطائرة يجلس في جانب منها.
ظهر وجه الرجل في اتجاه الطاقم هو يسأل: هل تصل الحقائب حالًا؟
أجاب أحد أفراد الطاقم: نعم؛ قبل أن تنتهي من الإجراءات.
فكر «أحمد» قليلًا: لا بُدَّ أنه لم يأتِ «السودان» قبل ذلك، وإلا كان قد عرف أن خدمة الطائرات السودانية ممتازة.
وصلت السيارة إلى الباب، فقفزوا بسرعة إلى داخل صالة المطار، وعندما انتهت الإجراءات، كانت الحقائب في انتظارهم.
لمح «أحمد» الرجل وهو يأخذ حقيبة من فوق السير الدائري الذي يحمل الحقائب فتقدم منه في هدوء، وسأله: هل هذه أول مرة تأتي فيها إلى «السودان»؟
أجاب: نعم؛ ولولا أنَّها مهمة خطرة، ما كنت قد أتيت في هذا الوقت بالذات، فأنا أعرف تلك الأمطار الصيفية الغزيرة.
كانا يمشيان معًا، بينما بقية الشياطين، يتابعونهما … واجتازا الصالة، ثم خرجا إلى الساحة الخارجية، فارتفع صوت الميكروفون الداخلي: «السيد «دان» يتفضل في مكتب استعلامات المطار.» وتكررت الجملة عدة مرات قبل أن يلتفت الرجل قائلًا: إنهم يستدعونني.
قال «أحمد»: لا بُدَّ أن أحدًا في انتظارك.
هز «دان» رأسه وهو يقول: وداعًا.
حيَّاه «أحمد» وظل يرقبه وهو يأخذ طريقه إلى مكتب الاستعلامات.
وفي النهاية، أشار «أحمد» إلى تاكسي، فاقترب منهم، وبسرعة كانوا داخله.
قال «عثمان»: إلى فندق «النيل الأبيض».
كانت السيارة تتقدم ببطءٍ بتأثير المطر الشديد، وسألت «زبيدة»: هل يظل المطر أيَّامًا؟
أجاب السائق: نعم؛ وقد ينتهي بسرعة. إن ذلك يخضع لسرعة الرياح!
«زبيدة»: وهل هي شديدة الآن؟
«السائق»: بعض الشيء.
كانت مساحات الزجاج الأمامي، لا تتوقف عن الحركة وهي تزيل المطر، ولم يظهر أي شيء على جانبَي الطريق، فأغمض «أحمد» عينيه واستغرق في التفكير.
وعندما توقفت السيارة أمام الفندق، قال السائق: إقامة سعيدة.
شكره الشياطين، وأخذوا طريقهم إلى الداخل، وكانت صالة الفندق رطبة قليلًا، بعكس الجو الخارجي الحار بعض الشيء، وشعر الشياطين بالنشاط، فاتَّجه «عثمان» إلى مكتب الاستعلامات وحجز الحجرات المطلوبة، فأخذ الشياطين طريقهم إلى المصعد، حيث كانت حجراتهم في الطابق السادس، وعندما تفرقوا، كانوا قد اتفقوا على اجتماع الغد في العاشرة صباحًا، وعندما ضمتهم حجراتهم لم يكن أمام أي واحد منهم، إلا أن يستعرق في النوم.
غير أن «زبيدة» كانت أول من استيقظ في الصباح، وفتحت نافذة حجرتها. وكانت السماء صافية تمامًا، حتى بدت زرقتها قوية.
كان الفندق يقع على ناصية شارع كبير، تبدو حركته نشيطة. وظلت «زبيدة» ترقب حركة الشارع، إلا أن جرس التليفون استدعاها. وعندما رفعت السماعة، كان صوت «أحمد» يلقي إليها تحية الصباح.
وقبل أن تنقضي ربع ساعة، كان الشياطين جميعًا في حجرة «أحمد»، وكان يبسط أمامه خريطة لأفريقيا، وقد ثبَّت عليها بعض الدبابيس الملونة، يحدد بها المنطقة التي تقع فيها الأحداث.
تقدمت «زبيدة» وبدأت تعد الساندويتشات للشياطين، بينما «أحمد» قد بدأ الكلام، وأشار بقلم رفيع في يده يحدد المساحة المقصودة: هذه هي المساحة التي سوف نتحرك فيها، إنها تقع بين خطي عرض ١٠، ١٥ درجة، وخطي طول ٢٥، ٣٥ درجة، وهي منطقة مراعٍ. وتقع كلها في مديرية «كردفان». إن أمامنا أربع مدن رئيسية، سوف تبدأ منها حركتنا. «الخرطوم» حيث يمتد منها خط حديدي إلى «واد مدني»، الذي يمتد إلى «الأبيض» و«الفاشر»، وخط آخر يبدأ من «الخرطوم» إلى «الأبيض» مباشرة. وداخل شبكة الخطوط هذه، تتناثر القرى، كما نرى، مثل «الرهد» و«سنجكاي» و«أم روابة» و«رابة» … إننا نستطيع أن نبدأ حركتنا من الآن، بالرحيل إلى «الأبيض»، فهي أكثر المدن التي تصلح لإطلاق «قنابل النوم».
سأل «مصباح»: ولماذا اخترت مدينة «الأبيض» بالذات، وليست مدينة أخرى، مثل «الفاشر»؟ إنها هي الأخرى تقع في قلب منطقة المراعي.
أجاب «أحمد»: إن جراثيم المرض، البالغة، تحتاج إلى رياح قوية حتى تنشرها في أكبر مساحة … ولأن مدينة «الأبيض» تقع في الجنوب أكثر؛ ولأن الرياح التي تهب في هذه المنطقة في هذا الوقت من العام، هي رياح جنوبية تأخذ اتجاهها إلى الشمال، فإن «الأبيض» هي المدينة المناسبة.
قال «خالد»: إن قنابل الجراثيم، ليست صغيرة الحجم؛ ولذلك فإن مرورها إلى داخل «السودان» يمكن أن ينكشف، وأظن أن العصابة ليست غبية.
ابتسم «أحمد» وقال: انظر معي إلى الخريطة، هناك ست دول تحيط ﺑ «السودان»؛ «مصر» من الشمال، «إثيوبيا» في الشرق، «أفريقيا الوسطى» في الغرب، «كينيا»، و«أوغندا» و«زائير» في الجنوب … وعن طريق حدود أي دولة منها، يمكن أن تمر القنابل المطلوبة؛ خصوصًا في الجنوب، حيث توجد مساحات واسعة من المستنقعات، والأماكن المجهولة.
قال «خالد»: هل ستأخذ طريق «الخرطوم» … «واد مدني» … «الأبيض»؟ أم أننا سنأخذ طريق «الخرطوم» «الأبيض» مباشرة؟
لم يجِب «أحمد» على الفور، في نفس الوقت الذي قال فيه «مصباح»: أعتقد أننا ينبغي أن ننقسم إلى مجموعتين، مجموعة تأخذ الطريق الأطول، ومجموعة تأخذ الطريق الأقصر؛ بذلك يشمل بحثنا مساحة أكبر.
مرت لحظات، بعدها قال «أحمد»: إنني موافق.
وعلينا أن نتحرك أنا و«عثمان» إلى «الأبيض» مباشرة.
غادر الشياطين الفندق، وأخذوا طريقهم إلى محطة «الخرطوم» الرئيسية؛ حيث تنطلق القطارات إلى كل أنحاء السودان، وكان قطار «الخرطوم-واد مدني» يتحرك أوَّلًا، فتقدم «أحمد» و«زبيدة» و«خالد» فركبوا، ثم وقفوا في النافذة يودعون «مصباح» و«عثمان».
ظل الاثنان يتباعدان مع حركة القطار، حتى اختفيا تمامًا عن أعين الشياطين الثلاثة، وكان القطار يكاد يكون خاليًا، ففي العربة التي يجلس فيها الشياطين، لم يكن هناك ركاب سوى ثلاثة من السودانيين، كل منهم يجلس في مقعد منفرد، فقالت «زبيدة»: أعتقد أننا ينبغي أن نتحرك قليلًا داخل القطار.
قامت، واتجهت إلى مؤخرة العربات، في نفس الوقت الذي اتَّجه فيه «خالد» إلى مقدمتها، وظل «أحمد» في مكانه، يمثل غرفة عمليات الشياطين.
وقف «أحمد» أمام النافذة، وفجأة؛ لفت نظره من بعيد، دخان كثيف كان ينبعث من انفجارات متتالية، وينتشر بسرعة، حتى يغطي وجه الخضرة، فقال في نفسه: لا أظن أن هذه «قنابل النوم»، وإلا كانت شيئًا ساذجًا؛ لأنَّها مكشوفة! قطع تفكيره صوت سعال مرتفع، فالتفت إلى مصدره، كان أحد الركاب مصابًا بنوبة سعال حادة، فأسرع إليه، في نفس اللحظة التي كان الآخران ينظران إليه. اقترب من الرجل وقال: أي خدمة أستطيع أن أؤديها؟
هزَّ الرجل رأسه بمعنى لا. غير أن نوبة السعال، اشتدت أكثر فأسرع «أحمد» إلى حقيبته الصغيرة، فأخرج منها زجاجة بها سائل أخضر، مصنوع من النعناع، يُستخدم في حالات ضيق التنفس، وعاد إلى الرجل بسرعة، ثم أمسك بوجهه، وصب نقطتين من السائل في فمه … ابتلع الرجل السائل، ثم أخذ يتنفس في عمق، وبدأ السعال يخف، وظهرت علامات الراحة على وجه الرجل، حتى هدأ تمامًا، فقال: إنني شاكر لك جدًّا هذه الخدمة.
هزَّ «أحمد» رأسه مبتسمًا، فقال الرجل: اسمي «ود حامد»، وأعمل في تربية الماشية.
كانت هذه فرصة طيبة، حتى يبدأ «أحمد» علاقة هامة في طريق مهمته، فقال: اسمي «رءُوف» من مصر!
ابتسم الرجل ابتسامة عريضة، وهو يقول: أهلًا بك في بلدك … لعلك في رحلة.
أحمد: نعم؛ فقد عشت عمري أتمنى زيارة «السودان».
ود حامد: لقد زرت «القاهرة» كثيرًا، ولي فيها أصدقاء من تجار الماشية، لكنني في الفترة الأخيرة، لم أستطع السفر إليكم، بسبب الكوارث التي تنزل بالماشية عندنا!
أحمد: لقد سمعت أن أمراضًا غريبة تصيبها، حتى تكاد تقضي عليها!
ود حامد: نعم مع الأسف ولا ندري سر مرض النوم الغريب الذي يصيبها، وبرغم أن الحكومة تحاول محاولات مضنية، إلا أن الإصابات تزداد يومًا بعد يوم!
صمت الاثنان قليلًا، غير أن «أحمد» عاد للحديث: لقد شاهدت منذ قليل انفجارات تثير دخانًا كثيفًا في اتِّجاه الشرق!
ود حامد: إنها عملية مكافحة دود القطن الذي يبدأ حركته الآن، حتى يكاد يقضي على المحصول.
هزَّ «أحمد» رأسه، فقد صدق تفكيره، وقال: هل تذهب إلى «واد مدني»؟
ود حامد: نعم؛ وسوف أبقى هناك لأيام، ألقى فيها تاجرًا أجنبيًّا، جاء ليعقد صفقة معنا، ثم أذهب إلى «الأبيض»، حيث يوجد المكتب الرئيسي لشركتي.
أحمد: أظن أن منطقة «الأبيض» هي مركز منطقة المراعي هناك.
ود حامد: هذا صحيح، وهي أكبر المدن في هذه المنطقة.
ابتسم «أحمد» وهو يقول: لكم تمنيت أن أكون راعيًا، إن هذا العمل يثيرني جدًّا.
قال «ود حامد»: غير أنه متعِب، ويحتاج إلى مهارة خاصة. وصمت قليلًا ثم أضاف: إذا كنت تريد تجربة هذا النوع من الحياة، فاصحبني حتى أنهي مهمتي في «واد مدني»، ثم ننطلق معًا إلى «الأبيض»، وهناك يمكن أن تمارس اللون الذي تحبه.
فجأة، ظهر «خالد»، وكانت تبدو على وجهه علامات الجد الشديد، وفي نفس اللحظة، ظهرت «زبيدة» وكانت تبدو هادئة تمامًا، فأشار «أحمد» إليها، ثم قال مخاطبًا «ود حامد»: إنهما صديقاي ونحن نقوم بالرحلة معًا!
اقترب الاثنان منهما، فقدمهما «أحمد» إليه، وعندما انهمكت «زبيدة» مع «ود حامد» في الحديث، بينما كان «خالد» يهمس في أذن «أحمد» بكلمات أدهشته.