بارازيني أول الخط
نظر «أحمد» إلى «ود حامد» مبتسمًا وقال: أستأذنك لحظة!
هزَّ الرجل رأسه مبتسمًا ابتسامة طيبة ثم اشتبك في الحديث مرة أخرى مع «زبيدة» … وفي نفس الوقت الذي انضم فيه إليها «خالد»، أخذ «أحمد» طريقه إلى نفس الاتجاه الذي جاء منه «خالد»، وعندما دخل العربة الأخرى، وقعت عيناه عليه.
تشاغل بالنظر إلى أرفف العربة، وكأنه يبحث عن حقيبة وكانت العربية ممتلئة قليلًا بالركاب؛ وفجأة سمع صوتًا: هيه، أنت أيها الشاب!
نظر في اتِّجاه مصدر الصوت، كان هو «دان» الرجل الذي تحدث إليه في الطائرة.
رسم «أحمد»، ابتسامة عريضة على وجهه، ثم تقدم إليه، وكأنه صديق قديم: أهلًا بالسيد «دان».
ظهرت الدهشة على وجهه، وقال ضاحكًا: ما زلت تذكر اسمي؟
حيَّاه بحرارة، ثم دعاه للجلوس، حيث كان يجلس وحده وقال «دان»: هذه فرصة طيبة أن القاك مرة أخرى، فإلى أين أنت ذاهب؟
لم يرد «أحمد» مباشرة، وأكمل «دان»: الشاي المغلي؛ إنه أعظم شيء يقتل هذه الحرارة، إنها تجربتي الشخصية، لقد كنت أفعل ذلك، عندما كنت في «الهند» حيث تكون الحرارة الرطبة، مرتفعة جدًّا، قل لي، إلى أين؟
رد «أحمد»: إلى «الأبيض»، في عمل.
ظهرت الدهشة على وجه «دان» وقال: أوه، نحن تسير في اتجاه واحد، يبدو أننا سوف نكون أصدقاء.
أحمد: أتمنى ذلك.
دان: هل تمتلك قطيعًا ترعاه؟
أحمد: لا، إنني أعمل عند صديق سوداني. وأنت هل تعمل في تجارة الماشية؟
ضحك «دان» وهو يقول: لا، إنني أعمل في إنقاذها.
أحمد: كيف؟!
دان: إنني خبير في أمراض الماشية، وقد جئت أشارك في هذه الحرب الدائرة الآن.
مر الجرسون، فناداه «دان»، وطلب كوبي شاي …
كان «أحمد» يفكر: هل هو أحد الخبراء الثلاثة الذين ذكرهم رقم «صفر»؟! هل يسأله؟ لكنه لم يفعل ذلك، ونظر إليه «دان» بطرف عينه، ثم ابتسم قائلًا: فيمَ تفكر؟!
بوغت «أحمد» بالسؤال، إلا أنه أجاب بسرعة: في الحرب!
دان: أي حرب تعني؟ إن الحروب كثيرة؛ حتى إنها تكاد تغطي كوكبنا الذي نعيش فوقه.
أحمد: حرب الماشية.
دان: إنها مسألة طبيعية. إن مرض النوم يمكن أن ينتشر في أي مكان، ولقد كنت في الهند، لنفس السبب!
أحمد: وهل توقف هناك؟
دان: في طريقه إلى ذلك.
أحمد: إذن، توجد بعثة طبية هنا، من أجل هذا المرض الغريب.
دان: نعم، توجد بعثة كبيرة، على رأسها ثلاثة من الخبراء … أرسلتهم الأمم المتحدة، لإنقاذ ثروة السودان الحيوانية.
وصل الجرسون، وقدَّم لهما الشاي، فأخذا يرشفانه في هدوء، مع رتابة صوت العجلات، واهتزاز القطار.
قطع صمتهما قول «دان»: إنني لم أتعرف عليك حتى هذه اللحظة.
قال «أحمد»: اسمى رءُوف.
دان: أرجو أن نتبادل العناوين، فربما احتاج أحدنا الآخر.
ابتسم «أحمد» قائلًا: من المؤكد أنني سوف أحتاج إليك ما دمت مسئولًا عن قطيع، غير أني سوف أكون بلا عنوان ثابت.
دان: إذن؛ أعطيك عنوان البعثة.
أخرج من جيبه مفكرة صغيرة، قلَّب بعض أوراقها، ثم قال: هل لديك ورقة؟
أخرج «أحمد» مفكرة صغيرة، وقال «دان»: اكتب بعثة الأمم المتحدة. ن. «واد مدني».
ما إن انتهى «أحمد» من كتابة العنوان، حتى اقترب رجل ضخم الجثة منهما، وقال بصوت خشن: أهلًا بالدكتور «دان».
رفع «دان» وجهه إليه، وظهرت عليه ابتسامة مصطنعة وردَّ: أهلًا.
الرجل: معذرة، إن كنت قطعت حديثكما، غير أنني معجب بالدكتور «دان» كثيرًا، فقد قرأت له عددًا من الأبحاث الطبية.
ظهرت الراحة على وجه «دان»، فوقف «أحمد» وقال «دان»: إلى أين أيها الصديق، إن الطريق لا يزال طويلًا؟!
قال الرجل على الفور: أستأذن الصديق في بعض الوقت، فعندي بعض الأسئلة التي أريد أن أطرحها على الدكتور: إنني أعمل في الرعي، حياهما «أحمد» وانصرف، عندما قال «دان»: لا تنسَ.
أخذ «أحمد» طريقه إلى حيث «خالد» و«زبيدة» غير أن صورة الرجل الضخم، ظلت تفرض نفسها على ذهنه وعندما وصل إليهما، كانا لا يزالان يتحدثان، إلى «ود حامد»، فقال الرجل بوجهه الطيب: لقد تأخرت.
ابتسم «أحمد»، قائلًا: لقد التقيت بصديق. ثم أضاف بعد لحظة: هل لا يزال الطريق طويلًا؟
ود حامد: نعم؛ سوف نبيت الليلة في القطار.
لم يستمر الحديث طويلًا، حتى انصرف الشياطين وجلسوا متقاربين … كان الجو لا يزال ثقيلًا داخل القطار، الذي لم تكن سرعته مرتفعة.
أخبرهما «أحمد» بالحديث الذي دار مع «دان» وحضور الرجل الضخم … وكان الضوء خارج زجاج نافذة القطار، يخفت شيئًا فشيئًا، وكان هذا يعني أن الليل يأخذ طريقه إلى الوجود … وشعر الشياطين بالملل، فقد كان الوقت يمر بطيئًا.
فجأة؛ وقف «أحمد» وهو يقول: سوف أذهب إلى «دان».
سأله «خالد»: لماذا؟!
أجاب: عندي إحساس غامض أن هذا الرجل سوف يقودنا إلى الطريق.
نظرت «زبيدة» إلى «أحمد» وقالت: إن هناك سببًا منطقيًّا لذلك؛ إن دكتور «دان» شخصية هامة، ولا أظن أنه سوف يفلت من العصابة، التي قتلت «داندي»، كما أخبرنا رقم «صفر».
هزَّ «أحمد» رأسه، وهو يقول: إنها وجهة نظر صحيحة، ربما يكون إحساسي قد سبق تفكيري، سوف لن أتأخر.
أخذ «أحمد» طريقه إلى عربة «دان»، وعندما اقترب، ناداه «دان»: أيها الصديق الراعي.
حيَّا «أحمد»، الرجل الضخم، الذي قدمه «دان»: مستر «برازيني» تاجر جلود.
جلس «أحمد» معهما ودار الحديث، وكان «برازيني» يشكو من كساد تجارته بسبب ما يحدث للماشية، فهذه الأعداد الكبيرة التي تموت لا تجد فرصة الاستفادة منها، فذلك يحتاج إلى جهد كبير، ومن الضروري أن يحضر عمالًا كثيرين، حتى يمكن أن يقوموا بعملية نزع فروة الماشية.
قال «أحمد»: إن الأيدي العاملة هنا رخيصة.
أجاب «برازيني»: إن درجة الحرارة مرتفعة، وهذا يعني أنه من الضروري نقل الفراء بسرعة حتى لا يتلف.
دار الحوار بين «دان» و«برازيني»، بينما كان «أحمد» يرقب الرجلين، وفجأة اقترب رجل من «دان» وانحنى يهمس في أذنه، فابتسم «دان»، ثم نظر إلى الرجل وقال: إنهما صديقان، يمكن أن تنضم إلينا.
انحنى الرجل مرة أخرى، وتحدث إليه، فهزَّ «دان» رأسه، وهو يردد: وهو كذلك، وهو كذلك.
ابتعد الرجل في هدوء، وإن ظل واقفًا عند بوفيه العربة يرقبهم.
فكر «أحمد» قليلًا، وقال لنفسه: لا بُدَّ أنه حرس للدكتور. لقد كانت «زبيدة» محقة في تفكيرها.
نهض «دان» وهو يقول: إذن، نلتقي في الصباح.
تقدم «دان» وتبعه «أحمد» في الطريق إلى العربة، في نفس اللحظة التي ظل فيها «برازيني» يجلس مكانه، وعندما وصلا إلى باب العربة، التفت «أحمد» وألقى نظرة سريعة في اتجاه «برازيني»، وكان قد غيَّر مكانه، فأصبح يراهما … عبرا العربة، حتى اقتربا من مقعد «دان» الذي حيَّاه «أحمد»، وانصرف، وأخذ طريقه إلى الشياطين.
كان «خالد» يقرأ في كتاب، بينما «زبيدة» قد شردت تفكر، فانضم إليهما، ونقل ما دار بين الثلاثة، فقالت «زبيدة» في النهاية: من يدري؟ لعله واحد منهم!
فجأة، اهتزَّ القطار بعنف، أثر فرملة قوية، فاستيقظ الجميع في فزع، قال «خالد»: ماذا حدث؟
وفي أقل من لمح البصر، كان «أحمد» قد تخلص من عباءته، وقفز في اتجاه عربة «دان».
نظر «خالد» إلى «زبيدة»، ثم انطلق هو الآخر خلفه … وكان هناك صوت طلقات رصاص يرن.
أسرع «أحمد» إلى «دان» فوجده يلفظ أنفاسه الأخيرة، فجرى في اتجاه عربة الطعام، فوجد معركة بالكراسي والأيدي، وبين أفراد المعركة لمح «برازیني»، فقال في نفسه: إنه واحد منهم!
في لمح البصر كان يطير في الهواء، في اتجاه «برازيني» الذي لمحه، فأطلق كرسيًّا في الهواء، اصطدم ﺑ «أحمد» إلا أن «خالد» كان هو الآخر قد وصل، فعاجله بضربة إلا أن «برازيني» الذي اهتز لحظة، استطاع أن يستعيد توازنه، فلكم «خالد» لكمة قوية جعلته يطير في الهواء في نفس اللحظة التي كان فيها «أحمد» قد طار فوق مستوى المقاعد، ودخل في معركة مع «برازيني».
كانت طلقات الرصاص لا تزال تدوي في الليل خارج القطار، ونظر «أحمد» حواليه، فلم يجد «برازيني» أمامه، فوقف لحظة، وكانت المعركة لا تزال دائرة.
لمح «أحمد» الرجل الذي تحدث إلى «دان» مشتبكًا مع آخر، فأشار إلى «خالد» أن ينضم إليه.
في نفس اللحظة، رأى «برازيني» يفلت من باب عربة الطعام إلى العربة الأخرى، حيث يوجد الباب، فانطلق يعدو بسرعة، إلا أن كرسيًّا طار في الهواء فاصطدم بظهره إلا أن ذلك لم يعطله لقد كان من الضروري أن يلحق ﺑ «برازيني».
تجاوز العربة، وأصبح عند الباب، إلا أنه وجد الباب مغلقًا، وكان القطار لا يزال واقفًا، فشمل العربة أمامه بنظرة سريعة، وفجأة رنت رصاصة بجوار أذنه، فانبطح على الأرض سريعًا، وتتالت الطلقات، فاضطر أن يزحف تحت الكراسي، هدأ صوت الطلقات الداخلية قليلًا، في نفس الوقت الذي كانت فيه الطلقات الخارجية لا تزال ترن، فخرج في هدوء من تحت الكراسي، ورفع رأسه في حذر، فلمح بطرف عينيه رجلًا يمسك مسدسًا.
أخرج مسدسه، وبدأ يصوبه نحوه، فلمح «برازيني» يظهر من خلف الرجل، ثم يتجه إلى النافذة الزجاجية، ويضربها بمؤخرة مسدسه في عنف.
صوب مسدسه إلى ذراع «برازيني»، ثم ضغط الزناد، وعندما رن صوت الطلقة، انهالت الطلقات فوقه، إلا أنه انبطح تحت المقاعد، وهو يسمع صرخة دوت في فضاء العربة، وعرف أنه أصاب «برازيني».
زحف بسرعة، غير أنه توقف لحظة، كانت أصوات أقدام سريعة تجري، وبدأ القطار يتحرك، لكن حركته كانت بطيئة، ورنت طلقات لها صوت اصطدام بمقاعد العربة.
زحف مرة أخرى، وبدأ يتبين أن هناك تبادل طلقات نارية بين طرفي العربة، وعندما أخذ القطار يسرع، توقف صوت الطلقات في اتجاه واحد، ثم بدأ الصوت يعلو خارج العربة.
أخرج رأسه في هدوء، في اتجاه «برازيني» فلم يجد أحدًا، وسمع صوت «خالد»: لقد ابتلعهم الليل.
خرج بسرعة، فوجد عددًا من الرجال بينهم «خالد» يقفون أمام نافذة مفتوحة، فاتَّجه إليهم بسرعة.
قال واحد منهم: لقد قضوا عليه.
أسرع إلى «دان»، ولكنه كان قد فارق الحياة، فاتَّجه بسرعة إلى مؤخرة العربة، كان هناك شخص ما، يرقد بلا حراك، فانحنى فوقه يتسمع إلى نبضه، وكان النبض ضعيفًا.
قال «أحمد»: إنه لا يزال حيًّا؛ نحتاج لبعض «الكورامين» لتقوية قلبه.
أسرع أحد الرجال واختفى. وقال «أحمد»: هل كانت هناك حراسة للدكتور «دان»؟
رد رجل: إنني الرائد «أبو الحسن»، المسئول عن حراسته.
فنظر «أحمد» إلى الرائد «أبو الحسن»، وقال: يحتاج إلى إسعاف سريع، فحركة القطار، يمكن أن تضره.
قال «أبو الحسن»: ننقله بسرعة إلى عربة الإسعاف.
حمله بعض الرجال، وأسرعوا به، وكانت عربة الإسعاف في نهاية القطار، فدخل «أحمد» معهم، وأخذ الممرض ينزع عنه ملابسه. لفت نظر «أحمد» شيء فيه، فاقترب يتأكد منه، دون أن يلفت نظر أحد.
وعندما بدأ تنفُّس الرجل ينتظم، قال «أحمد»: لا بُدَّ من حراسة مشددة.
وعندما ترك العربة، كان قد تأكد نهائيًّا من الطرف الآخر في حرب الميكروبات.