معركة جانبية في منطقة النمور
كانت عربة القطار التي يركب فيها الشياطين، تضج بالحديث، وكان بعض ركاب العربات الأخرى قد انضموا إليها، وعندما دخلها «أحمد» متمهلًا، وهو يهتز بين المقاعد بتأثير اهتزاز القطار، كان «ود حامد» قد انتقل إلى حيث يجلس الشياطين، في نفس الوقت الذي التفَّ فيه كثيرون حول «خالد» يسألونه عمَّا حدث.
وعندما رأوا «أحمد» التفتوا إليه، فإن الركاب كلهم لم يكونوا يعرفون السبب. فهذه أول مرة، تحدث فيها مثل هذه الحادثة.
وعندما قال «ود حامد» ذلك ﻟ «أحمد» ابتسم قائلًا: لقد تخلصوا من خبير آخر من خبراء الماشية.
اتسعت عينا «ود حامد» ولمعت وظهرت الدهشة على وجهه، وكأنه لا يصدق ما سمعه واستغرق في التفكير لحظة واستأذن «ود حامد» منصرفًا، وهو يقول بالإنجليزية أيضًا: لنا معًا حديث طويل.
تفرق الركاب، حتى لم يبقَ سوى الشياطين، وقال «أحمد»: إنها عصابة «سادة العالم»!
ثم أخذ يشرح لهما ما حدث حتى رؤية الوشم الذي وجده فوق كتف الرجل المصاب، والراقد في عربة الإسعاف.
أخذ كل شيء يهدأ، وانتظمت عجلات القطار، وبدأ الركاب ينامون، فقد كان الوقت يقترب من الثالثة صباحًا، قالت «زبيدة»: يجب أن تناما قليلًا، وسوف أظل أنا مستيقظة.
أغمضا أعينهما، وإن لم يناما مباشرة، وبدأت أضواء الفجر تأخذ طريقها إلى الوجود بسرعة، وسمعت «زبيدة» صوت «ود حامد» يقول: أيها الأصدقاء، إننا نقترب من «واد مدني».
ردت «زبيدة»: صباح الخير يا عم «ود».
قال «ود حامد»: صباح الخير يا ابنتي، هل لا يزالان نائمين؟
ردت: نعم.
ظهر «ود حامد» في ثيابه البيضاء الناصعة، وقال: يجب أن يقوما، إننا سوف ننزل في خلال نصف ساعة.
فتح «أحمد» عينيه فرآه، وحيَّاه.
قال «ود»: أيقظ «خالد» فإن الصباح هنا جميل تمامًا. و«ود مدني» مدينة تستحق رؤيتها من بعيد.
وقف «أحمد» في نشاط، بينما كان «خالد» قد استيقظ على أصواتهم، ونظر «أحمد» إلى «زبيدة» وقال: سوف أذهب إلى هناك.
فهمت «زبيدة» ماذا يعني، غير أنه لم يكد يصل إلى منتصف العربة حتى رأى الرائد «أبو الحسن». فحيَّاه، وكان الرجل يبدو حزينًا.
قال «أحمد»: إنها خسارة بلا شك.
أبو الحسن: لقد انتهى الآخر أيضًا.
فكر «أحمد» بسرعة، لقد كان الرجل المصاب فرصة، لمعرفة المزيد من التفاصيل، لكنه قال في نفسه أيضًا: لا بأس. إن «برازيني» بداية طيبة.
بدأت تضح معالم «ود مدني»؛ كانت الشمس تغمرها، فبدت كأنها غارقة في ضوء النهار.
قال «ود حامد»: هل ننفذ اتفاقنا؟
ابتسم «أحمد» ورد: بالتأكيد.
أخذت درجة الحرارة تزداد، حتى إن «زبيدة» قالت: ألا تعمل أجهزة التكييف في القطار!
ابتسم «ود حامد» وهو يقول: أي أجهزة يا ابنتي تلك التي تنفع هنا؟!
بدأ القطار يُهَدِّئ من سرعته فقد دخل المدينة، وكانت شبه خالية، إلا من أعداد قليلة متناثرة، ووقف القطار في النهاية، وبدأ الشياطين يغادرونه خلف «ود حامد».
قال الرجل عندما أصبحوا على الرصيف: أنتم في ضيافتي.
نظر «خالد» إلى «أحمد» الذي قال: علينا أن ننتهي من شيء في المدينة أوَّلًا، فهل يمكن أن … تعطينا العنوان أو رقم التليفون؟
أخرج «ود حامد» بطاقة صغيرة، وقدمها إليه. وكانت البطاقة تحمل العنوان والتليفون. وقال قبل أن يودعهم: سوف أبقى لثلاثة أيام، ثم أرحل إلى «الأبيض» يجب أن أراكم قبل ذلك.
سلموا عليه، ثم أسرعوا بالخروج من المحطة، فاستقلوا تاكسيًا. وسأل «خالد»: أعتقد أن «فندق النيل» هو أقرب الفنادق إلى وسط البلد؟
رد السائق: إنه لا يتوسطها تمامًا، غير أنه فندق جيد.
عرف السائق أن هذه وجهتهم، فأخذ الطريق إلى هناك. وكانت الشوارع تكاد تكون خالية، بفعل حرارة الرياح الموسمية، المحملة بالرطوبة. وعندما توقف التاكسي أمام الفندق، غادروه بسرعة إلى الداخل، حيث كانت الحرارة أقل بكثير، وعندما احتوتهم إحدى حجرات الفندق كان أول شيء فعله «أحمد» هو أن بدأ يرسل رسالة إلى «عثمان» و«مصباح»: من «ش. ك. س» إلى «ش. ك. س» هل قرأتم النشرة؟
وبسرعة جاءه الرد: خبر أول؛ السمك يطفو كثيرًا فوق السطح. خبر ثانٍ؛ لا أثر للصيادين.
أرسل «أحمد» رسالة أخرى: قابلنا أحد الصيادين، غير أنه اختفى، نحن في الطريق، في الوقت المناسب.
نقل رسالة «عثمان» إلى «خالد» و«زبيدة»، وكانت الرسالة تعني أن الماشية ترتفع إصاباتها دون أن يظهر أحد أفراد العصابة.
عقد الشياطين جلسة سريعة فقال «خالد»: أعتقد أن أفراد العصابة، سوف يأخذون طريقهم إلى منطقة المراعي. فالمكان الذي ظهر فيه «برازيني» يقع على خط مستقيم مع مسرح الأحداث، بل إنه يتوسطها تمامًا، فإما أن نعود إلى نفس المنطقة، أو نذهب إلى «الأبيض» بوصفها مركز المراعي.
قالت «زبيدة»: إن «برازيني» لن يظهر هنا مطلقًا، الآن على الأقل؛ ولذلك فإن وجودنا هنا، لن يكون ذا فائدة؛ يجب أن ننطلق لننضم إلى «عثمان» و«مصباح» إنهما في منطقة الأحداث.
لم يرد «أحمد» مباشرة، وظل يفكر قليلًا، بينما كان «خالد» يقول: إننا نستطيع أن نتصل ﺑ «ود حامد» ثم ننطلق إلى مراعيه هناك. إنه في النهاية فرصة لنا.
قال «أحمد»: إنني أفكر في طريقة أخرى، إن مركز أبحاث الماشية يوجد هنا في «واد مدني»، ولا بُدَّ أن العصابة تدور حوله. لقد تخلصت من اثنين من الخبراء وباقي اثنين. إنني أعتقد أن العصابة لن تدعهما؛ فإن وجود الخبراء يمكن أن يؤثر تأثيرًا قويًّا على أعمال العصابة، فلا بُدَّ أن هناك أمصالًا ضد هذه الميكروبات.
وإذا كان فريق يعمل في إبادة الماشية في منطقة المراعي، فلا بُدَّ أن فريقًا آخر يدور حول مركز الأبحاث.
خالد: هذه بالتأكيد طريقة جيدة، غير أننا يهمنا الآن أن نوقف هذا الهلاك في منطقة المراعي.
زبيدة: إنني من رأي «خالد».
صمت «أحمد» قليلًا، ثم قال في النهاية: إذن علينا أن نتحرك فورًا.
رفع سماعة التليفون، وأخرج بطاقة «ود حامد» ثم تحدث إليه، وأخبره الرجل أن هناك عربة سوف تنطلق بعد ساعة إلى «الأبيض»، وأنهم يمكن أن يستقلوها، وإن كان السفر بالسيارة شاقًّا إلا أن «أحمد» أخبره إنهم على استعداد للرحيل فورًا.
فقال الرجل إن السيارة سوف تمر عليهم.
عندما وضع «أحمد» سماعة التليفون أخرج جهاز الإرسال وأرسل رسالة سريعة إلى «عثمان» يخبره فيها أنهم قادمون في الطريق.
استراحوا خلال الساعة، ثم أخذوا طريقهم إلى خارج الفندق، حيث جاءتهم السيارة التي انطلقت مباشرة، وكانت السيارة تضم غير الشياطين، سائقها «تونجا»، وهو شاب قوي مفتول العضلات. و«محمدين» مساعد «تونجا» وهو أصغر قليلًا في السن، يتميز بعينين كأنهما عيني الصقر، و«صالح» الذي يُعتَبر الذراع اليمنى ﻟ «ود حامد»، وهو رجل متقدم قليلًا في السن.
كانت السيارة تنطلق بسرعة خلال شوارع «ود مدني»، وقال «تونجا»: إننا نسرع الآن، حتى نكسب وقتًا، فالطرق وعرة فيما بعد، لكنها ستكون رحلة طيبة.
قال «صالح»: هل تخافون الحيوانات؟
ابتسم «أحمد»، وقال: من المؤكد أنها رائعة في بيئتها الطبيعية.
ضحك «محمدين» وهو يقول: غير أنها تكون رائعة أكثر عندما تهاجمنا.
مضت لحظة، قبل أن يقول «تونجا»: لكننا على استعداد دائمًا.
لم تكَد تمر ساعتان حتَّى بدأت الطبيعة الخلابة تغلب كل شيء، انتهت المناطق العامرة، وبدأت مناطق الغابات. كان الطريق الذي يمر بين الأشجار العالية جدًّا يبدو وكأنه خط رفيع فوق خريطة صغيرة.
سألت «زبيدة»: هل نسافر لساعات طويلة؟
رد «تونجا»: أمامنا تسع ساعات متصلة، يمكن أن تصبح عشرًا أو أكثر، لو اعترضتنا قوافل من أصدقائنا أهل الغابة.
ضحكت «زبيدة» وهي تقول: تقصد أصدقاءنا من الوحوش!
بدأت الحرارة ترتفع أكثر، غير أن الطبيعة الرائعة كانت هي التسلية الوحيدة الآن، وأراد «أحمد» أن يقطع الصمت فسأل «صالح»: هل تقطع هذا الطريق كثيرًا؟
بدأ «صالح» يحكي رحلته مع هذا الطريق منذ كان صبيًّا صغيرًا، وكيف يعرف كل شجرة فيه، وكانت حكايات طريفة، استمع إليها الشياطين في شغف، وكانت تسلية حقيقية لقطع تلك المسافة الطويلة.
فجأة صمت «صالح»، وبدأ يتشمم الهواء ثم قال: نحن مقبلون على معركة.
مد يده، ثم سحب بندقية بجواره حشاها بطلقات الرصاص، وكما فعل «صالح» فعل «محمدين»، وظل «تونجا» ثابتًا خلف عجلة القيادة. نظر الشياطين حولهم من خلال زجاج النوافذ السميك، ولم يكن هناك ما يدل على شيء، غير أنهم فجأة اهتزوا لهذه الأصوات الغريبة التي ترددت في المكان.
قال «صالح»: لقد اقتربوا.
سألت «زبيدة»: ماذا تعني يا عم «صالح»؟
قال في جد: إنه قطيع من النمور. وتشمم الهواء مرة أخرى ثم قال: إنه على بعد أمتار منا.
وفي حركة لا إرادية كان «أحمد» يمد يده إلى مسدسه، في الوقت الذي نظر فيه «خالد» إليه وقال: إنها معركة أخرى.
نظر له «صالح» ثم شعروا فجأة، وكأن عمارة قد سقطت فوق السيارة التي اهتزت بعنف، إلا أن «تونجا» كان يقظًا، فلم يجعلها تنحرف لحظة.
قال «تونجا» بجد شديد: خذوا حذركم.
ما كاد ينتهي من الجملة، حتى ظهر قطيع النمور. وظل «أحمد» ينظر إليه، وكان يربو على العشرة، وقال: إنه قطيع ممتاز.
سألت «زبيدة»: وما الذي سقط فوق السيارة؟
أجاب «صالح»: إنه واحد منها.
كانت النمور تقف في عرض الطريق، وكأنها تقطعه على المارة.
أبطأ «تونجا» من سرعة السيارة، في الوقت الذي قال فيه «خالد»: يجب أن تسرع أكثر.
رد «تونجا» في هدوء: إن الطريق وعر هنا، والسرعة قد تجعلنا فريسة سهلة لهم.
أخذت السيارة تتقدم ببطء حتى أصبحت أمام النمور مباشرة فلم يتحرك واحد منها، وبدأت صيحات كثيرة تملأ المكان، صيحات قرود وطيور، وكأن النمور تعرف كل ذلك، فكانت تنظر إلى أعلى، دون أن تتحرك فتزداد الصيحات، وكأنها صيحات الخوف، واضطر «تونجا» إلى الوقوف، ذلك أن النمور، لم تتحرك من مكانها.
قال «تونجا»: يجب أن تتعامل برفق.
إلا أن «صالح» قال: النمور لا تتعامل برفق.
أخرج فوهة الماسورة من ثقب في مقدمة السيارة، ثم ضغط الزناد، فدوت طلقة سقط على أثرها أحد النمور، فلقد جاءت الطلقة في رأسه مباشرة، وكأن هذه كانت الإشارة، فقد هاجمت النمور السيارة بعنف. لكن «تونجا»، كان خبيرًا، فقد تحرك حركة أسرع، وبدأت المطاردة. كانت النمور، تقفز في الهواء على جانبي السيارة ثم تصطدم بها، حتى إن السيارة كانت تهتز بعنف.
قال «تونجا»: إن الموقف خطر، وهذه النمور، تعرف ماذا تفعل.
كان الطريق وعرًا، حتى إن السيارة لم تستطع أن تسرع أكثر.
قال «صالح»: إننا في خطر! ثم أخرج ماسورة البندقية مرة أخرى، ثم أطلق طلقة أصابت واحدًا في قدمه، وكان النمر قد جُن، فقد هاجم السيارة بعنف وأصبح واضحًا أن السيارة يمكن أن تنقلب، فقد كان اصطدام النمور بها عنيفًا.
قال «محمدين» الذي كان يبدو عليه الخوف: إننا سوف نهلك!
أخرج «أحمد» قنبلة مسيلة للدموع، فنظر له «صالح» وسأل: ماذا سنفعل؟
ابتسم «أحمد» قائلًا: سوف ترى.
أشعل فتيل القنبلة، ثم فتح النافذة بسرعة وقذفها بين النمور وأغلق النافذة فانفجرت القنبلة محدثة صوتًا تردد في جنبات الغابة، ثم بدأت الغازات تنتشر بسرعة. وفي لحظات، كانت النمور تأخذ طريقها إلى داخل الغابة.
كان الشياطين يراقبون انسحاب النمور السريع بمتعة. وقال «تونجا»: لماذا لم تفعل ذلك منذ البداية؟!
قال «أحمد»: إنها تجربة مثيرة، لقد كنت أريد أن أرى كيف تتصرف.
أخذت السيارة تتقدم أسرع بعد أن مرت من المنطقة الوعرة، وقال «محمدين»: هل تعطيني واحدة منها؟ فضحكوا جميعًا.
وقال «أحمد»: قد تنفعنا مرة أخرى.
انطلقت السيارة في هذه المنطقة من الطريق، وقال «تونجا»: الطريق هنا جيد. سوف نسرع قليلًا؛ حتى نعوض الوقت الذي أضاعه أصدقاؤنا.
أخذ الجميع يتحدثون عن الموقف، بينما بدأ «صالح» يحكي لهم حكاية عن حادثة مماثلة. كان يحكي بالتفصيل حتى إن «محمدين» قال: يا عم «صالح» هل يمكن أن تحكي بلا تفاصيل؟
ابتسم الرجل وقال: لقد حكيتها لك من قبل، فدعني أحكيها للأصدقاء.
ولم يكد «صالح» يبدأ في تفاصيل الحكاية، حتى رنت طلقة، مرت بجوار كاوتش السيارة، وقال «تونجا» صائحًا: هناك شيء غير طبيعي!
فجأة، دارت السيارة حول نفسها، حتى اصطدمت بساق شجرة ضخمة، وقال «تونجا»: لقد أصيبت العجلة الأمامية! ولم تكد السيارة تقف، حتى انهال الرصاص من كل جانب.