هذا الكتاب … ولماذا؟
لا شك أن كل كاتب يطرح على نفسه، في وقت من الأوقات، سؤال جدوى الكتابة، والسبل الكفيلة لبلوغ مرماه أو مراميه منها، إن هي وُجدت محددة في سريرته وعقله. مثل هذا السؤال قد يأتي جهيرًا ومباشرًا، كما قد يظل مضمرًا يتلجلج في الصدر، محدثًا تلك الحيرة الملازمة عادة للمبدع الذي كثيرًا ما يتحرك في مساحة الحدوس والهواجس، ويسعى إلى تشخيص الرؤى وبلوغ الهدف من العمل بأدوات الرؤية والصناعة الفنية وأساليب المجاز.
وسؤال الجدوى قرين بمفهوم للكتابة يضعها في خدمة الأغراض الاجتماعية والإنسانية عامة، تلبي، وإن على مستوًى مغاير، إحدى حاجات الإنسان في الأرض وتستجيب لها بالعبارة والصورة والإيقاع، مناطها الإحساس قبل الموضوع، أو إن هذا يحمل روح الأول ويتشكل بصيغه قبل كل شيء. لم يكن الأدباء في حاجة إلى التبلور الفكري والنقدي لمفهوم الالتزام، كما تَحدد في خمسينيات القرن الماضي، لِيعوا بأن الأدب، والكتابة عموما، تستمد مضامينها، كيفما كانت، من قلب المحيط الاجتماعي المتبدِّل، ومن فضاء الحياة الإنسانية وتجاويف الذات المركبة، وبالتالي تتطلب من الكاتب الانخراط في تغذية وعي الجماعة بتبني مشاغلها والدفاع عنها وفق اقتناعات وبقوالب معينة، تؤكد كلها في نهاية المطاف حضور الفرد ضمن المجموع، وتلازم الشعور الذاتي بالمكون الموضوعي. لقد أدركوا ذلك في مختلف العصور، وجاءت إبداعاتهم مصداقًا له، بهذا القدر أو ذاك، حسب الشروط الموضوعية التي سادت في أزمانهم، وعلى ضوء الأهمية المعطاة للكلمة، وللتعبير الثقافي الإبداعي عمومًا.
بَيدَ أن تطلُّب التزام الكاتب بالدعوة إلى حتمية انخراطه في الشاغل الجماعي، نتيجة إملاء أيديولوجي، أو للتغير الذي طرأ على نسَق الكتابة من تغيُّر — الأدب تحديدًا — ووظيفتها في المجتمع، هو في الحقيقة وليد الحقبة التاريخية التي أنجبت صيغة الالتزام بعناصرها المركبة المتعددة الأبعاد. ذاك التغير المرتبط أصلًا بنشوء وضع المثقف كما أنجبته الظروف السوسيوثقافية في فرنسا على وجه الخصوص. وبالإمكان القول بأن شعوب العالم الثالث، ومنها البلدان العربية، قد خضعت بدورها، وحسب نوعية الملابسات التاريخية التي صنعت أحداثها وصراعاتها — الاستعمارية بالذات — إلى تبلور وضع متميز — للمثقف أولًا وللكاتب لاحقًا — جوهره الدفاع عن السيادة، ورفع شعار الإصلاح، واكتساب هُوية التحرر والتحديث. هي الخصائص التي طبعت كتابات ونشاط شرائح المفكرين والكتاب العرب — فضلًا عن رجال السياسة والإصلاح الوطني — لتضعهم في صفٍّ واحد تقريبًا مع قادة الحركات الاستقلالية. وعليه فإن الكاتب انتمى إلى بلدان الشمال أو جذوره في الجنوب، وبالوضع الجديد المتبلور تدريجيًّا لممارسته أو «مهنته» جعل إنتاجه — إبداعه — أبدًا في قلب حاضره وهموم البشر في زمنه، ما يؤهل كثيرًا من النصوص، أمهاتها في الحقيقة؛ لتكون شاهدًا على عصرها راسمة تقاسيمه وناطقة بحقائقه ولواعج ناسه. كما أن هذا الانغراس في الإحساس الجماعي وشاغله يوسِّع من دائرة تعريف الإبداع الأدبي، في حيزه المستقل، كي يتسع على تعددية المعنى، وليصبح تعبيرًا إنسانيًّا بقدر ما يشفُّ عن ذات فريدة متفردة بمشاعرها، وعكسه صحيح أيضًا.
أما إن تجاوزنا هذه المقدِّمات العامة المبدَّهة؛ فإننا نطرح سؤالًا أكثر دقة نريد أن نثير من ورائه مسألة هل بإمكان الكاتب أن يكتفي — ونحن نعني هنا من يستخدم الكلمة في مضمار الأدب وبأدواته شرطًا — بأعماله الخاصة ليرتبط بالنسق الاجتماعي، وعبرها يحقق لإنتاجه الانتماء إلى الزمن التاريخي، بالوسائل المخصوصة للإبداع الأدبي مثلًا أم إن هذا النهج وحده قاصر عن أداء الرسالة على وجهها الأحسن؟
مصدر السؤال، في الحقيقة، وجود صنفَين من الكتَّاب بهما يتحدد الاختياران المذكوران — بل أكثر — إذا أخذنا في الاعتبار أن هناك كتَّابًا لهم عطاء في حقول عدة، ويسجلون حضورهم في الحقل الثقافي والسياسي والاجتماعي، وهي ظاهرة تجلت كأقوى ما يكون مع لفيف الكتَّاب الذين انتقلوا إلى إسبانيا لمساندة الجبهة الشعبية ضد عسكرتارية فرانكو (همنغوي واحد من عديد)، وأخذت في التنامي مع سارتر وكامي، وبلغت ذروتها عند عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، وعالِم اللسانيات الأمريكي الشهير نعوم شومسكي، فضلًا عن شعراء وروائيين مرموقين في أمريكا اللاتينية وعالمنا العربي أيضًا. وإذا كان غرامشي قد تحدَّث في مذكراته السجنية عن مفهوم «المثقف العضوي»؛ فإن هؤلاء ومن في فلكهم خرقوا حدود الدائرة الأيديولوجية الغرامشية، وربطوا وضعهم بمبادئ أخلاقية ثقافية ومُثل إنسانية. وهي عمومًا تمثِّل امتدادًا لإنسانيات وقيم الثقافة الغربية لعصر الأنوار، وتطويرًا لها، إما على أسس فلسفية، أو سياسية في صورة مناهضة الهيمنة الإمبريالية، وتبنِّي قيم التحرر عامة، أو بالارتباط بالفضاء الأرحب لحقوق الإنسان. وفي البيئات الثقافية العربية يبدو هذا المنزع أقوى حضورًا من غيره، بل الطاغي والأوكد. ولا شك أن دراسة تختص بأحوال الكتاب العرب على امتداد القرن الماضي، سواء مضامين أعمالهم أو مواقعهم الاجتماعية ومواقفهم السياسية تجاه قضايا الصراع الاجتماعي في بلدانهم، ستكشف وتقدِّم حقائق شديدة الدلالة في هذا المنحى، نحن في أمسِّ الحاجة إليها.
لن أذهب للبحث عن الجواب بتغليب صنف أو منزع على آخر، بل عندي جواب جاهز لأسئلة ذات طبيعة مفتوحة، وإنما أنا أتخذ السؤال مطيَّة لغرضي أو وضعي الشخصي مع آخرين، ولأسائِل وأحاور نفسي فيما أحدِّث غيري، إليهم أتجه بالدرجة الأولى وإلا لا مبرر لهذا التقديم. هكذا أعود لأتساءل: ألا تكفي الرواية أو القصيدة؛ النص الأدبي إجمالًا، بؤرةً لتسجيل الموقف إلى جانب تعبيره الذاتي على نحوٍ ما، وهو صنيع كتَّاب لا حصر لهم لم يقولوا شيئًا آخر خارج إبداعهم، وتفوَّقوا إلى حدٍّ بعيد في صوغ رؤيةٍ تتضافر فيها الأنا والآخر في انصهار تام؟ وإذ أحبذ هذا الاختيار، وأراه ينسجم مع العملية الإبداعية ذات المقتضيات السليمة، أضيف بأن بين هذه المقتضيات ما لا يسمح بأن يرتفع الصوت بالنقد والاحتجاج واتخاذ الموقف الجهير المباشر؛ الصوت الذي يبلغ أقصى مدًى ممكنٍ متجاوزًا الحدود المحسوبة — في النهاية — لجمهور التلقي الأدبي، وناقلًا خطابًا ذا سياقات وغايات مسمَّاة وعاجلة. وإذا كان الكاتب منخرطًا في الصراع الاجتماعي، منتميًا سياسيًّا أو نقابيًّا، أو فاعلًا في المجتمع المدني بلغة اليوم؛ فإنه لا محالة مسخِّرٌ قلمه في هذا النهج، في كتابات ظرفيةٍ ما في ذلك شك، لكنها بِنت واقعها، مرآةٌ له، وتبقى جزءًا من لحظة وعي تاريخية لشريحة أو طبقة اجتماعية، وقد لا تقل أهمية، وإحكام فكرة، وبُعد نظر أنضج وأبقى، وعندنا ما لا حصر له من الأمثلة، غربًا ومشرقًا ومغربًا ممن أفلحوا في هذا الميدان، ولهم فيه دلائل وآيات.
إنه حال قسم كبير من الكتاب العرب، والمغاربة في قلبهم. وعلينا أن نذكِّر في هذا المقام بوجود تداخل شبه تام بين تكوُّن المتن الأدبي الحديث في تصنيفه الأجناسي المجدد، وبين المتن الصحفي أو الذي احتوته الصحافة، الملتزم بالقضايا الوطنية الاجتماعية المباشرة، الذي شُحذت عليه أقلام الكتاب وشادت بناءه على مرِّ حقب الاستعمار والاستقلال، وإلى الآن. وما ذلك إلا لأن الكاتب الأديب كان وما يزال في مجتمعاتنا شأنَ الفقيه — رجل الدين سابقًا — عضوًا فاعلًا في الجماعة يوجهه جذره العقيدي وانتماؤه الوطني، عفويًّا أو ارتباطًا، إلى حشد القول في معركة الإصلاح وبناء المجتمع الناهض بعد سبات وبَوار. لا عجب إذا كانت النزعة الواقعية هي الغالبة على إنتاجنا الأدبي، أو ما استطاع أن يستقلَّ بنفسه مدونة أدبية. فهذه النزعة لا تعير الأدبية إلا أقل الاهتمام، وتذهب إلى جعل المضمون قاعدة النص، وقالبه وأسلوبه ليسا أكثر من أداة لتبليغه.
هل أحتاج إلى القول — بعد هذا — بأن حال البلدان العربية — حال بلدنا — هو من الزراية في نواحٍ شتى حدًّا يمكن أن ينظر فيه إلى الأدب إن لم نقل حِرفة بائرة، فهي مترفة، ليس فقط في مجتمع نسبة أميته عالية، وسكانه معادون بشكلٍ ما للقراءة نافرون منها، بل ربما لأن هناك ما كان، ويستمر، في حاجة إلى معالجة حارة بالمقال الصحفي والموقف الصارخ، لا تخييل ولا مجاز ولا لغة منمقة أو مغوِّرة. وهكذا تكون المقالة الصحفية — سياسية أو اجتماعية — ملتزمة في خط مباشر هي الجذع المشترك للكتابة الأدبية، حولها التقى الأدباء ومنها تفرقوا بعد أن أدَّوا واجبهم المِلحاح تجاه شئون الإصلاح والدعاوى المبشر بها من الأحزاب أو الوعي الوطني عمومًا.
أعتبر نفسي ابنًا لهذه المدرسة، فيها قرأت لوحي ومحوته مرارًا لأعود أسطُر عليه مستجدات الأيام، ومن أحد فصولها الداخلية التي كانت تُسمى نضالية في عهدٍ سلف — من أسف — تخرجت أو بالأحرى خرجت؛ لأن وسواسي ظل دائمًا أبعد من الآني، وأنا فيه وملتزم بمنهجِ تغييره لأفضل منه، وأنزع نحو القول الأدبي أنشُد فيه تعبير الذات القلقة في شساعة الوجود المعقد. لكن، وبما أن الإنسان ابن بيئته مهما شذَّ أو شطَّ طموحه وخياله؛ فقد كبرتُ ثقافيًّا وكتابة موزَّعًا متنازعًا بين سجلَّين من القول؛ واحد أدبي صِرف مركَّب بين إبداع ونقد وبحث، وثانٍ صحفي توجيهي تعبيئي مُبلغ للمقاصد من أيسر طريق. وفي هذا النهج الثاني صرفت زمنًا وإنشاءً، وأحسب أني صُغت بين أبناء جيلي الكثير، بينا غيري حبيس النزر أو مكتفٍ به لشأنه، مقالات مسترسلة على امتداد أعوام، وفي حقبٍ أغلبها مدلهمٌّ لا ميسور متاح بلا قمع ورقيب، حفلَت بها الصحافة المغربية والعربية عامة الموصوفة بالتقدمية خاصة. وقد أتيح لي أن أجمع قسمًا منها في أضاميم كتب، بينا أغلبها ما زال مفرَّقًا بين شتات الصحف والمجلات، على مدى ثلاثة عقود من مطلع السبعينيات وإلى مطلع القرن الجديد، وضعت فيها ما في الوجدان والعقل آراء وخواطر، ونقدًا وسخطًا واقتراحات، عن ما يسود حياتنا العامة من أزمات وشوهات في وجوهها المختلفة، وبعضها الآخر عما كابدته النفس من مشاعر ذاتية ومتفتحة في آن. هذا كله وسواه مرسل بلغة البوح تارة شاعرية مجازية ومشبوبة، وطورًا نبرُها غاضب وصوتها يصول ويجول، وفي الحالتين يبقى نشدان كل ما يعمر الحياة بالعدل والكرامة، وينصف الإنسان بالحب والجمال هو لحمتها وسداها.
في كتابَيَّ المعنونَين «كتاب الضفاف» و«كتاب الذات ويليه كتاب الصفات» قدر لا بأس به من هذه النصوص والخصائص، وُضعا معًا في فترة إقامتي الأولى بباريس، من الثمانينيات إلى التسعينيات الماضية، وحفلَا بصبوات الشباب وتطلعاته الجامحة. وقد توقفت فترة عن نشر المقالات والتعليقات في الصحافة، منصرفًا إلى أعمالي الأدبية في الرواية والقصة القصيرة والبحث الأدبي هو ضالتي الأولى، ثم ما لبثتُ أن عدتُ إلى كتابتها «بتواطؤٍ» مع جريدة «الاتحاد الاشتراكي» المغربية البيضاوية العريقة، سليلة «التحرير» و«المحرر» اللتَين نشأَت فيهما وترعرعت أقلامٌ مغربية من رعيل الستينيات والسبعينيات الماضية، حملَت مشعل النضال التقدمي، وارتادت آفاق التحرر الاجتماعي والسياسي، كما رسَّخت أسس التنوير الفكري والتحديث الأدبي، ولم يكن تصور الكتابة عند أصحابها خارج رؤية مشروع بناء مجتمع جديد منعتق من قيود الاستبداد والجمود، ولا بد أن يتطابق معها مبشرًا ومنورًا نصيرًا.
هكذا، وعلى امتداد عامَي (٢٠٠٤–٢٠٠٦م) أصدرتُ مقالة أسبوعية على الصفحة الأولى من صدر الصحيفة المذكورة، وكنت خلالها متناوب الإقامة بين الرباط وباريس، وهو ما أثر — بطبيعة الحال — على نظرتي لمحيطي وإدراكي للأشياء وإحساسي بالحياة بين عالمَين. أظنه ذلك التأثير الذي حوَّلني إلى كاتب غير ملزم أن يتقيد بضوابط المكان الذي يوجد فيه، وربما — إن صح القول — أصبح نصه — المشيد تباعًا — هو مكان وورقة إقامته المشروعَين والمحتملَين، وعداه توافق وتسويات. لقد أعطت هذه المرحلة حصيلة مقالات متعددة الأغراض متشعبة في مقاصدها متباينة القاموس والأسلوب والنبرة، لكنها جُلها مطبوعة عندي بثلاث خصائص على الأقل، تاركًا للقارئ الفطن أن يستدرك المنقوش عليها ظاهرًا وباطنًا:
-
(١)
طَرقها للقضايا الملحة في واقع يومي متشابك الخيوط مركب الأبعاد، يملي على الكاتب عرضًا أو شرحًا أو فضحًا في خط انتقال إلى الأحسن، والقطع مع ثقافة الغيبوبة والاستسلام.
-
(٢)
معالجتها لمواضيع وانشغالات أوسع من هذا الواقع في حركته العرضية، بالاندراج في السيرورة المفتوحة والمتفتحة، بعيدًا عن يقين السياسي المتخشب أو أي معتقد متصلب، ولزوج الثقافة والإبداع هنا مع التحليق برفيف الأخيلة ورفقة سِيَر الكبار حضور سارٌّ ومتعدد الدلالة.
-
(٣)
سواء كتبنا العابر، أملاه الالتزام الصحفي والمذهبي، أو الضمير الوطني، وهما لا يتعارضان، أو أخذتنا الجاذبية الغربية متلألئة بالجمال والحرية وقوة الكينونة؛ فإن هناك دائمًا كاتبًا واحدًا وروحًا منسجمة تتخلل النصوص، ويتناغم أداؤها من مقال إلى مقال يُرى في كل مرة يتنوع. أنت إذا أردت وضع قاعدة له لن تجد أفضل من قول البلاغيين إن لكل مقام مقالًا، وكذلك هي. وإنها مناسبة مواتية لي لأعلن أنني، ورغم ما يُتداول عن وجود لغة صحفية، أو عربية مبسطة عصرية مزعومة، لا أفرق في المقامات من غير أن أتناقض مع القاعدة. إذ — ومع وجوب أخذ حساب المتلقي — فإن للكاتب أسلوبه هو، وهل كان طه حسين إلا ذاته بين أمهات كتبه البحثية، وفي مقالاته الشيقة ﺑ «حديث الأربعاء»، وأنا ممن يعتبرون أن القارئ لا يبحث عن المعرفة، ولا التجربة وحدهما، بل يستحسن أن يذوق رحيقهما في شغاف وردة عطرة.
على أننا، وقد قررنا أن نصنع من هذه المقالات الأعضاء جسدًا كاملًا في هيئة كتاب؛ فإننا عمدنا إلى تقويم هذه الأعضاء لتستوي في صورة مصقولة ومشذَّبة. هكذا فإننا أولًا، قمنا بانتخاب الأجدى وما نحس به أبعد من المقروء العرضي ذي الطابع الصحفي المحض. ثانيًا، تدخلنا في هذه المقالات لم نبقَ في كثير أحيان سوى على الأصول، منقحين بما يلائمنا على أحسن وجه، واجدين حرية أوسع من حدود المنبر الصحفي المحكوم معذورًا ﺑ «قواعد اللعب». ثالثًا، وضعنا إلى جانبها نصوصًا أخرى لم يسبق نشرها، وإن انتمت جميعها إلى سياقها ومرماها، نعتبرها تقيم صلة وصل بين المحظور والمسموح، أو المباح. رابعًا، قمنا بإعادة تركيب الأطراف، إياها، لنقدمها إلى قارئٍ جديد، على الأقل مختلف، عندئذٍ أبدلنا زمنيتها السابقة بأخرى موضوعاتية، وإن كان من الضروري التنبيه إلى أن مقروئيتها تعتمد على استحضار ضمني من طرف القارئ لسياقات كتابتها، تبقى حية ملحة بصعابها المزمنة والآمال المنشودة فيها. بهذا التعيين والترتيب أتت على ثلاثة أقسام، هي ما خلصنا إليه بعد الغربلة والنخل آملين بروز النواة، وتوفير زاد مستساغ لقارئ نريد له أن يفيد ويستمتع في آن.
وإذ عرضنا مطلب هذا الكتاب والغاية منه — ليسمح لنا القراء تأكيد ما سبق التنويه به — أهمية أن يضطلع الكاتب إلى جانب شئونه وشجونه الأدبية الخالصة بالقضايا العاجلة والشواغل العارضة متقلبة بين مسائل المجتمعي والمعيش والسياسي؛ فإن تدخله في ميدانها إذ يؤكد وضع الأديب الملتزم الذي تحتاج إليه بلداننا دائمًا وهي تواصل معركة النمو وإرساء الحياة الحرة الكريمة، كما تحتاج إليه الإنسانية جمعاء، وقد أنجبَت أبناء يحفظون ذكرها وبقاءها بكلمات الوفاء والتبجيل لما يحقق للإنسان جدارة الوجود وتعظيم مُثله وقيمه الكبرى؛ أقول إن ذلك يعضد وضعه الأدبي ولا ينتقص من قدره أو يعرضه للابتذال، كما قد يتصور البعض. خاصة أن منظور الكاتب الحقيقي منظور فريد يغني كيفية قراءة المحيط، ويكشف عن مخبوئه، ويعطي لمساهمته صدقية أفضل ما دام حامل القلم هنا بعيدًا عن السجال، وغير مشارك في جوقة المطالب ولا سباق المصالح، إلا مصلحة العمل الوطني والضمير الأخلاقي.