عن الحزانى، عن الفرحين، وعن أصحاب اليقين
في مغرب اليوم، وفي حمَّى ضربٍ من الخلط والتعويم السائدَين في مجالات شتى، انتقلنا إلى واجهة التصنيف الجديدة؛ فقام فينا ثلاثة دعاة يريد كل واحد منهم بخطابه وسلوكه وأحلامه (أوهامه)، أن يكون الحاضر ويشيِّد المستقبل باسمنا ونيابة عنَّا جميعًا، علمًا بأننا مجتمع بصدد التحول الديمقراطي والإيمان بالاختيار الحر. أراني مدفوعًا إلى هذه الصنافة لا قِبل لي بالمماحكة أو السجال، لا مع كبار القوم ودونك الأذناب! نرى من يصح عليه قول أبي ماضي الشهير: «قال السماء كئيبة فتجهَّما …» ويسعى ليقنع الخلق جميعًا بأنها كذلك، وأن الكآبة هي الملة الوحيدة الجديرة بالعباد؛ فإن هُم تركوا أنفسهم للحياة — في أحيان كثيرة هم فقراء أشقياء — سلَوا ربهم وهجروا دينهم، وطبعًا باءوا بوبالٍ شديد. هذا الداعية يلغي الحاضر ويعدم الكائن ويلحق المستقبل بالغيب دائمًا. وهو إذ يريد ربط غد العباد بالآخرة وحدها عن طريق تعميم حالة الحزن ونشر الاكفهرار — ذلك أن الفرح ليس إلا المجون والشيطان! — فإنه بهذه «الأيديولوجية» الجديدة غايته التحكم في الرقاب والسيطرة على الحاضر والمستقبل عنوة باسم ملة لا يد له في وضعها، كما ليس لأحد أن يستبد بتقرير شعائر وسلوك المكلفين فيها؛ فكيف لو نحن انتقلنا إلى ما يشرح الخاطر إما بالاستمتاع بعذب الغناء، وبما خلق الله من مباهج الدنيا وما وهبَ هو الوهاب للخير والجمال، والصوفية أجلُّ محبيه يسمونه الجميل، فيما البومة لا يرون في سماء دنيانا إلا التجهم؛ لذا نقول لهم إن السماء التي نحلِّق فيها نحن لا تطير فيها البوم ولا ينعق فيها الغربان.
الداعية الثاني، ينظر إلى السماء حد البلاهة أحيانًا. تحسبه مع كل نظرة يريد أن يفتح في وجهها أشداقًا لتضحك — قل تقهقه — ملء فيه وفيها، دليلًا على أن البهجة والرضا يسودان الأكوان. لا يفل الحديد إلا الحديد، ولذا لتكُن البهجة والفرجة والمهرجة العلاج الشافي لأوصاب المهجة، ولنطوِ الحاضر كله في موجة للغناء، لجسد لدنٍ يتغنج، للطبل والغيطة، وفرسان يضربون عين الشمس وهي حامية بعيون عمياء وقلوب دامية؛ لا يفل الحزن المصنَّع عندهم إلا الفرح المعلَّب، بالمفرَّق والجملة، الفرجة بالمجان يا سادة، لكن ساعة، يومًا واحدًا «حلم ليلة صيف» لكن ليس لأحد أن ينسى أن الطلق ممنوع وأن الرزق دومًا على الله! جميع بشر هذا البلد ينشدون الفرح، وأسخف نكتة تدغدغهم من شدة تكالب الأحزان. كيَّة في القلب وبسمة فاترة كالذل على الشفاه. في زيارة كاميرا قناة الفرحين تلك، إلى مؤسسة خيرية في مناسبة منظمة سأل المستجوِب المتذاكي طفلًا بدا منشرحًا وبيده لا شيء: «لماذا أنت فرِح؟» فأجابه بعفوية المغلوب على أمره: «لأني أرى الناس من حولي!» وهو الذي يعيش وراء جدران مؤسسة مغلقة دون الحياة … والفرح طبعًا.
وما أدراك ما أصحاب اليقين. هؤلاء يُفتون في كل شيء، آناء الليل وأطراف النهار. حاضرون جازمون عندهم جواب لكل سؤال، لا يتبلبل لهم فكر ولا بال. إذا وقفوا وراء المنابر بسطوا الطمأنينة والخير العميم بغزارة الفقر على جميع المواطنين. إذا وُضعت أمام أنظارهم معضلات الأرض — أرضنا نحن — بمعادلات بسيطة أوقفوا المنكر، قوَّموا المعوَج، بدَّدوا الغيم، نشروا الصحو. يملكون عبارات منمقة — لا فُض فوهم — وصيغًا منسقة وأرقامًا واستشهادات ملفقة يحفظونها عن الغيب كأناشيد الأطفال، لولا أن هؤلاء أبرياء وأولئك «مزيِّفو نقود». ليس قبلهم أحد، لن يأتي بعدهم أحد. الماضي زُوِّر والحاضر هم، والمستقبل فيه هم البديل والوسيلة والغاية والأمل والفلاح والنجاح والمصباح، وسواهم ليس إلا العدم. هؤلاء بالذات لا يتعلمون شيئًا من التاريخ، أحرى أن يستوعبوا دروسه. والتاريخ فضلًا عن أنه ليس ملكًا لأحد هو ذو مجرًى متغير، ليس مصنوعًا من الأبيض والأسود (من الحزن أو الفرح متباعدَين)، وهو ملك للشعوب التي تصنعه وتستطيع أن تقلب الدنيا فوق رءوس كل الأفَّاكين، ومن ضربهم المتاجرين بأنواع من اليقين لا تقبل عندهم الشك، أو النسبية، أو الاحتمال. من هؤلاء؟ سيسألني، أو ربما يحقق معي شخص على الطريقة البوليسية الفجَّة؛ فهناك دائمًا أشخاص أو أطراف تُستفز في حالات مماثلة. وبما أنني لا أمثِّل الادعاء العام، وبالتالي لست في موقف محاكمة. والكاتب يقدم بالدرجة الأولى شهادة ملتزمة عن واقعه، فعلى كل واحد أن يجيب بضميره الأخلاقي ونزاهته الفكرية، وعندئذٍ ستبدو مرآة الحقيقة صقيلة لمن شاء، مضببة لمن شاء، أما أنا فلا أراها إلا مشروخة في الوقت الراهن، نرى فيها وجهًا لنا وآخر نبحث عنه، ولذا نستحق أن نعيش ونناضل ونفكر ونكتب ونحب ونأسى ونسعد، وإذا ذهبنا إلى حديقة — مثلًا — رأينا زهرة تينع غير بعيد عنها نمل سحقته قدم متغطرسة، وفوق كرسي جلست امرأة حزينة تأتي إلى هنا كل صباح لتطعم العصافير. تحط العصافير فتلتقط فتات الخبز من على رءوس أصابعها تخطفها، تستأنس بها قليلًا، وحين ينتهي الفتات تعود لطيرانها، وأعود أنا والمرأة إلى … ماذا؟ لست أدري. ربما نسيت. لا أستطيع الجزم بأي يقين!