لا بحر في المغرب!
بدأ الماء ملتبسًا وهو يحوم حولكِ، هو الذي عادة ما يقتحم بلا هوادة، لا يحفل بنظرات الريبة أو التوجس يلقيها عليه — عليك، أيضًا — الخائفون من عري مبجل بفصاحة لا تضاهى، لعينين تصعق من فتنتها الأمواج كان ذلك قبل «تسونامي»، وأشهد أنه باقٍ؛ لأن إعصاركِ لا يفوت، وما هو إلا مثل البراكين، الهدوء منها خدعة للفوران الأعنف؛ يقينًا لن تهدئي. لم أسمع من قبل؛ للخطو حفيف وله ذكرى ورفيف، مثل النوارس في شاطئ «أصيلة»، ونظرتي إليها وهي تطير لتحوم حولكِ ملتبسة الطيران أربكها سماع خطو شفيف عند الأطلسي؛ فاختلَّ عندها الإيقاع إلى أن اهتدت بخفق في ناظريكِ إلى البحر الخفيف.
في الزمن الذي سَميتِه كان السُّقاة كلما ذهبتِ إلى البحر يجلبون الموج إلى سرير رملكِ، ولهم غناء كالحُداء: «اميها باردة!» لك وحدكِ، وليظمأ العالم، بعدكِ، حتى الفناء. أحيانًا يستعجلون حضوركِ، لا يعلمون أن القاصي والداني يلهج باسمكِ، عند بابكِ، فيدفعون المد زرافات ووحدانًا إلى شرفات الخد، وينتظرون العمر كله أحيانًا كي تهطل دمعة واحدة عند أعتابك. في زمن آخر تشابهت فيه الأسماء؛ نحَل الموج والسقاة أنفسهم باعوا قِربهم من عطش وصاروا يغرفون من بكاء. وقفتُ قبالة بحركِ فلم يصلني صداكِ، ولا شممتُ رائحة الأنواء. دفعتُ صدري للمدى فلا أنتِ حضرت ولا أيقظكِ النداء. هكذا أنتِ رشقة باللحظ، على سُدة الأعالي تمضين صعدًا إلى السماء. لا تقبلين بغير سدرة المنتهى وخلفكِ الوالهون، من هم؟ ندوب، جراح، بقية أشلاء.
لم أحسب سيفيض حنيني؛ لكن الجزر تباعد، والمد إليك ما أبقى مني، كل شيء أخذ. الطريق إليكِ الآن قشرة ملساء، كأن لم تُحفر فيها تضاريس الجسد، ولا امتد بيننا ما عددناه الأبد. الطريق؟ أي صدفة، نبوءة، حبلت بطيف لقاء، أم تراه بات غبارًا وقتنا صيَّرنا هباءً؟ كلا، مرح، فرحٌ أفرح، أسلس الوقت لآخر، غدونا فيه مثنى وفرادى، لا ترى وجيف الوامقين فيه إلا وصلًا ومهادًا، ولكم أعطينا كل ما ليس يعطى وفرًا وانقيادًا. لم نبالِ إن كان العصف مرَّ أمس أم سيأتي غدًا. لن نبالي، ما دام هواها «امیها باردة» دومًا مرقدًا.
كل ما حدث لي قبلكِ، فبعدكِ، كان بسبب البحر. فالذين ترعرعوا في ساحل الدار البيضاء ناموا دائمًا تحت أجفان البحر المقمرة، وسكنوا أحلام الحيتان السابحة في الأعماق، وكلما استيقظوا فارت الشمس من بشرتهم ساخنة، ولا ارتضوا لهم عيشًا بلا أنفة. أذكر أن رأسي كان متوازن الحجم والعقل في حسباني إلى أن قرأت ذلك العنوان على غلاف كتاب. نحن أولاد درب الأحباس البيضاويين تعلمنا أن لا نتسكع إلا بين المكتبات أو نركب الصيف في أول موجة. لذا حين قرأت العنوان أشكل عليَّ الأمر، ولم يكن من سبيل لفضِّه إلا الدخول إلى المكتبة: «مكتبة دار الثقافة» للشريف القادري. إنما الكتاب في الواجهة وأنا وقتها تلميذ مفلس، ووالله لا أنسى كيف شملني الشريف بنظرة حدب، وقد حدس حالي ومرامي، فسلَّمنيه مقابل وعد بتسديد لاحق ليحفظ كرامتي، حفِظه الله وأدام عليه سائر النعم. أعني رواية «لا بحر في بيروت» للأديبة السورية غادة السمان، وقد صدرت إذ ذاك (١٩٦٣م) عن دار الآداب اللبنانية. دفعة واحدة انقلبت بيروت التي على المتوسط، وما أبهاها في الزمن القديم، إلى مدينة القحولة، وجفَّ فيها رُواء الأحباب، أبطال يصارعون بين اليأس والأمل لبناء مدينة أخرى بلغة ونسيج المجاز. منذئذٍ وقعت في المصيدة — مصيدة المجاز — وفي ١٩٦٥م حين سقط مئات الجثث بالدار البيضاء (أي معنى للشهداء اليوم؟) حوَّلوا البحر إلى مقبرة، فتغذى الحوت بتلاميذ كانوا قد قرءوا تلك الرواية!
دخل تلاميذنا إلى المدارس الابتدائية، وارتقَوا إلى الثانوية فالجامعة. في كل المراحل علَّمناهم أن الوطن، عددناه دومًا مغربنا، يحده شمالًا البحر المتوسط وغربًا المحيط الأطلسي. وهم رأوا هذا بأم العين لا في الخريطة الجغرافية فصدقوا مثلما صدقنا، وحاشا أن نكذب على فلذات أكبادنا. لكنا — رغم أنفنا — صرنا في مقام الكاذبين، فهم كلما حل الصيف واحتَّرت أجسامهم، ولم يجدوا من سبيل آخر للنجاة، وقد لفظهم ذاك البحر غير البحر، إما ارتدَّوا إلى الغِيران التي يسكنون مُبعدين أو منبوذين، أو تجمَّعوا في خلايا نمل متكاثفة في أخاديد وجيوب يسمح لهم بالتقزم فيها كأنهم بقايا الهنود الحمر؛ وهذا ليُبللوا لحمهم بالماء المالح الذي وهبه الله، هو والعذب، لعباده بلا حساب أو تقتير. لكن هؤلاء العباد طغَوا في الأرض ونهبوها، ووزعوها لا بالقسطاس ولكن على قياس الجشع والترامي والصفقات. بذا ما عاد التلاميذ ولا المدرسون ولا كل أولئك الذين يقطعون الكيلمترات على الأقدام في عصر الصواريخ العابرة للقارات ليغطسوا في احتضار موجة ما عادوا وسواهم مغاربة، بل غرباء في زعم وطنهم، ومن استخفَّ فليجرب أن يرتاد واحدًا من تلك الشواطئ ليجدها مسيَّجة دونها ألف حارس وسياج لحفنة من البطرين، ولجميع الملايين حفنة رمل وكسرة خبز و«اميها باردة» يبيعها للمصطافين تلاميذ الخيام والصفيح ليقتاتوا منها، وغدًا يكبرون وإلى البحر يذهبون، وعندما يجدون أن تلك الحفنة صادرت الموج والرمل، وحتى المد والجزر، وحتى الأفق غطت فحرمت الشعراء من فتنة الغروب؛ عندها يرمون أنفسهم جزافًا في لُجة البوغاز كالمنتحرين، في عبور مستحيل إلى لا يقين.
أما أنا، وقد أيقنت أن لا بحر في المغرب؛ فإني حفرت في داخلي، وطفقت أُخرج ما رسب في قلبي والحشا من شجاها وشذاها وعميق مياهنا الجوفية؛ لأراها من سؤدد نظرتها، سعف نخلتها، هدب نخوتها، تعتلي هودج بحرها، تسقينا نحن العطاش بلماها، وتعيد للندى رقيق لمسته؛ فيصير ماءً تنفخ فيه من ذوبها وديانًا وفجاجًا، وها أنا ذا لا أملك — بعد صولتها — إلا أن أسبح بحمد الله وبزوغٍ وشيكٍ لغد هذا الوطن.