في انتظار الجولة القادمة
سواء انتمى صاحبها إلى الشرق أو إلى الغرب — دعك من مغاربنا — تبدو الكتابة عند صاحبها نوعًا من القدَر الممضِّ يحكم عليه بملاحقة ذاته في ذوات الآخرين أو من خلالهم، أو البحث عبر هؤلاء عن الحيِّز المحتمل القابل لاحتواء ذاته على سبيل الواقع أو المجاز. يفعل ذلك خارج دائرة الأمل واليأس معًا لأن ما يبغيه يجهله سلفًا أو يطمره في مكمن الكتمان، لا يذيعه إلا مقسطًا أو مقمطًا بالسحر، يمشي وراءه وهو يكتشف تحليقه في اللحظة نفسها التي يرافق فيها أسراب الطير والعيش والمنية.
يعيش جميع الناس بالأمل، بالحلم؛ فلولا الحلم لأكلوا أنفسهم من طول ملال ومقت عيش. لا يفضُل الكاتب الآخرين بشيء كبير، يريد أن يقول هذا ليبعد عنه تميزًا سيثقل على كاهله حتمًا بلا طائل، وخاصة في بلدان يعتبر الابتلاء بالقراءة والكتابة فيها مضيعة للوقت وامتيازًا متروكًا للواهمين. لا تستغربوا أن جميع أنظمة العالم الثالث — منه عالمنا العربي التعيس — لا تتعامل مع الكتاب والمثقفين عمومًا بالجِد الكافي، إلا أن تسخرهم كراكيز لمآربها، وإذ يظنون أنهم يقبضون على زمام الأمور؛ فإنهم يفعلون ذلك بعباطة تثير الشفقة حقًّا. هناك تفوق واحد — ولو بشكل معكوس — يستطيع الكاتب أن يدعيه، حين يتوسوس بكتابته، وتغدو حلبته الأولى والأخيرة تقريبًا. إن له أن يزعم مثلًا، وليس له أن يخشى في ذلك أحدًا أو شيئًا، كونه يعيش في الوهم ومن أجل الوهم. بهذا الادعاء تنفتح أمامه أوسع أبواب الحرية، حتى ولو كان مغلولًا بألف قيد؛ ولذا فهو يتهيأ بالقول، يقتات به، وفي مضماره — أليس هو مضمار العالم، في النهاية — يصول ويجول، ويخيل إليه أنما في موقع النبوءة؛ كأنما فقط، وإلا سيتوهم أبعد.
بالرغم من كل تلك النظريات التي وضعت الكاتب عهودًا ومدارس في خانات الواقعية والالتزام والانتماء — وما شاكل — مما هو من قبيل محاولة التدجين والترويض لكائن لاتوافقيٍّ متمرد بطبعه؛ فإنه يظل خارج المعتقدات السائدة والأيديولوجيات المروَّجة بحقٍّ أو باطل. قد يُتاخمها أو يُمالئها فيما يبقى خارجها، لا لأنه — جدلًا — يعيش في داخل كُنهٍ ما، وليكن کنهه بل بسبب اعتقاد آخر بمثابة وهم بأنه أيديولوجيا نقيض تخوِّل له الزعم أنه خلافًا للرأسمالية والاشتراكية اللتين أوكَلَتا لهما تدبير الثروة والفقر في العالم؛ ومن ثم إعادة توزيعهما بكيفيةٍ ما؛ فإنه — هو الفرد الأحد — مهمته أن يتولى تدبير الحزن بين بني البشر. ومقتضى هذه المسئولية التي لم يضعها على عاتقه أحد — سوى وهمه طبعًا — أن يتصرف؛ أي يكتب، أن يتخيل، أن ينشئ لغة، ويخلق كائنات، ويحرث أراضٍ، ويرسل حُداءه في فَلوات؛ كل ذلك ليجعل الحياة محتملة بعض الشيء، والعالم — عاليه وسافله — قابلًا للعيش. بهذا المعنى فالأصل في الأشياء الحزن لا الفرح، وفظاظة الوجود لا وداعته وانشراحه. الأصل عنده — وهو ما يراه مشخَّصًا في الواقع بفجاجة — التكالب اللانهائي على حياة تُعاش بنقيضها، أي بالعدم، والتطلع اللامحدود لنفوس لا تستطيع أن تشيد فضاء بحبوحتها الروحية إلا بإلغاء كينونة الآخرين. أيُّ شقاء هذا، وأيُّ ورطة على الكاتب تدبيرها ليعيش!
ورأيتني في ضائقتي هذه لا أُحير فعلًا ولا قولًا؛ فالتفتُّ إليك يا شيخي، أنا المريد تقطَّعت به السبل، ولم يَعُد ينظر إذا نظر إلا في سماء العمى، يتوجس من كل شيء، تستفزه الأهواء فكيف بالأنواء! ولا يدري على أي جانبيه يميل من فرط أناس يأكلون أنفسهم وأرض تأكل بعضها، فيا ويحها، أضاعت صورة وجهها في يومها قبل غدها، وأنت لا حول لك كي تُقيل عثارها أو تحمل عنها أوزارها، ماذا دهاك أم دهاها إما تسلَّط القبح عليها فأخفى بهاءها، وما عدتَ واجدًا إن بحثتَ ما يعيد فوقها دثارها أو ينير سمتها كالذي يُعلي مقامها، بعد أن مضى مجدًا كان مجدها، ورجالًا بالأمس شادوا بالدم ونياط القلب بنيانها.
أجابني بعد لأيٍ حتى خفتُ ما عاد يُسمع لي قول: أنتَ فعلتها، فمن أطلق نظره دامت حسرته، وأنت مذ ولدتَ اخترت بابًا يذهب إلى أبعد المسالك، هي المهالك، فتدبر شأنك أو ارتدَّ إلى مقام السريرة حيث لا تُفشى الأسرار، أقم فيه إلى أجل محتوم لا يعييك فيه الانتظار. لم يكن لي بعدُ هذا، وأنا في وهدة الردى، غير لساني خلته سيعبر بي إلى عشيرتي أنشر فيها كلامًا أحسب لم يقله أحد قبلي، لن يخطر على أحد بعدي، فوجدتُ مذ دخلتُ ذلك الباب الكلام يتخطى عتبات السلام ويثير الفتن بين الأنام، ووالله ما قصدتُ إلا أن أفك طوق الحمام.
عدت أنظر إليه أستفتيه في تشابه الفصول بأرضنا أنسانا شحوبها زماننا وتاريخنا وأرومتنا، ودربتنا على أن تنحني منا الرقاب حتى الكعوب لكي لا نظفر في النهاية سوى بقليل من تفاصيل الدعة ونقيم في طقوس المهرجان. عدتُ أقلِّب فيه النظر والطريق إلى سؤله كله حشرجة وسعال العابرين، وطحين الكلام منتثر فوقنا وقاماتنا تُساق بوجوه في الرغام. وهو لم يكن ليجيب ولم يبقَ إلا في ومض السؤال. من رأيت مضى، وأنا عييت من ذهابي في الفوات. لا ألتفت والأيدي تدفعني إلى حتف ما تبقَّى من حرقة الكلمات. حين أهبط في قرارتها لا يصعد أي دخان؛ فقد مضى عهد الحريق وادلهمَّ الطريق، أكاد أقول يا رفيق.
لن أجيب بعد اليوم من أكون، سواء في أوراق الإدارة أو لضرورة المحبرة أو طقس العبارة. في شبابيك المطارات العربية أجهل دائمًا من أكون. لا، بل أخاف ممن أن أكون. لو قلت: كاتب، لضربتني العين بعلامات التعجب: ماذا تعني، أوَتهزأ بنا، فيا أنت من تكون؟! لا أحد قطعًا. فقط، أحيانًا أرقص فوق حبال البلاغة، أخرى أمدُّ من جسدي جسرًا لعبور بلادي، وطورًا أشتاق للبكاء على صدر الحبيب. هذا طبعًا إن لم أتجرد؛ إذ ماذا يبقى حين أمسِي لا أحد؟! لم يَعُد أي خطاب يتقدَّمني. صرتُ ورائي. أما الأمام فشكل هندسي، مرة نملؤه بالولع. ومرة أخرى نطلق منه صيحة الغضب. ونرانا منذ أعمار وقفنا لا نعرف إلى أي شيء أو على أي نحو ينبغي أن نمشي. الوراء أيضًا شكل هندسي في صورة أضرحة أو طلول أو نبش بالأضافر في جدران الزنازين، مع فارق أنه لا يُلزمنا بشيء تقريبًا غير أن نقتات ببقايا لحمنا ونتعلم الإقامة في أتون الذكرى كي ننسى، وكي نجدد التعلم لا بأن الشهداء لا يعودون فحسب، بل بأننا نقتلهم كل يوم حتى يبقَوا أبدًا على ضفاف دمهم، ونبقى نحن على قارعة النسيان … ربما في انتظار الجولة القادمة!