في تعليم معنى الوطن
اتسمت الاحتفالات التي نظمت في بلادنا أخيرًا بمناسبة الأعياد الوطنية الثلاثة المجيدة بقدر عالٍ من الأبهة والبذخ الماديين الرمزيين في آن. في كل مدينة وقرية بهرجة وبريق وأهازيج، وليس أفضل من خمسة أيام من الدعة للترويح عن النفس، ونسيان الوطن — أكاد أقول — للاحتفال باستقلال هذا الوطن. هل يجوز لأحد — ولو من باب الوسواس الخناس واشتغال الهواجس — أن يفكر بالعكس فيلوم أو يتشكك في النوايا والمقاصد أو غيرها، سواء من جهة الأقوال أو الأفعال؟ وهل ثمة أغلى من ذكرى كهذه ليعبر الشعب وملك الشعب والمؤسسات الحاضنة لحماه عن فرحة بلا حدود، سواء بمظاهر البهجة، كما بفيض الخاطر.
کلا، لا يجوز، بل الصواب طلب المزيد، خاصة حين نعرف — نحن نعرف حد الجنون — أن أُسرًا مغربية تبذخ بسفهٍ لتافه المناسبات، ولا تستحي أن ترى قصورها مطوَّقة بأحياء ومزابل الصفيح، وبالآدميين المضوَّرين — كالكلاب — بالجوع، أعلام عاهة على مداخل المدن. نريد طلب مزيد فرح، وسخاء بهجة، لشعب نراه عامًا بعد عام يغطس في لُجج الحزن، ولا سبيل يبقى له للأمل غير الصبر والتوكل على الغيب. وأُسرًا أخرى نعرفها لعلها تنظر إلى كل البسطاء والفقراء بسخرية وازدراء وهي تَراهم يسرعون الخطو متكاتفين متدافعين، كي يجدوا موطئ قدم — فقط — قبالة رُكح، أو محيط ساحة، أو أقل من ذلك خلاءً أغبر، إنما سيأتي جوق للغناء، وتسمع «الجرة»، وتمر خيل توقع بحوافرها الأسفلت، أو يدوِّي من جوف المكحلة البارود الذي يقول ما لا يقال والخيل قد أرسلت إلى الأفق جميل الصهيل، ومن يدري فقد يهل السلطان بطلعته إثرها كما يتنزَّل سيدنا قدر ليلتها، ليسعِف عيونًا تنظر إلى السماء بألف رجاء.
فكرت في أننا ذهبنا جميعًا — جلًّا — إلى الحفل، ولم نذهب؛ وذلك ببساطة لأن الحفل هُيئ لنا مثل مائدة حافلة بالأطايب تكالَبنا عليها وبخَلنا على العريس بهدية العرس. تذكرت أول شيء — وهذه مثلبة لم أتخلَّص منها بعد — ما كنا عليه في ماضينا التليد مع الأعياد الوطنية أعظمها عيد العرش؛ حيث لا بيت إلا ويرفرف فوقه علم، ولا زنقة أو حي بلا حفلة، حتى الصبية يلعبون لعبة العيد، تراهم يبحثون عن الجريد والخرق لصنع خيمة أو خباء هو للعيد السعيد. تذكرت الأناشيد محفوظة عن ظهر غيب، والكشفية الحسنية، والأسر الطيبة تجتمع حول الشاي والقرنفل وخبز سميد، والزغاريد ترقرق دائمًا احتفالًا بالعيد. وبعد أن جُلتُ في ذاكرة البلاد سنين عددًا، وبدا لي عمر الذكرى كأنه مضى أو سيمضي بددًا، قلت لا بأس أن أشير بما لا يعجب في ما ظنه البعض أعجب، وفي قلبه أنه كان حريًّا بنا نحن أن نصنع احتفالنا، وأن نُهيئ أو ننخرط جميعًا في تهييئ طقس بهجتنا، وإذا كان من واجب الدولة والتزامها أن توفر ما يلزم ماديًّا، وأن تواكب إعلاميًّا؛ فإن القوى السياسية والثقافية الوطنية، وكل الفئات الشعبية، لهي ما يمثل قطب الرحى في مضمون أعياد الكفاح ورموز السيادة. ما من شك أن في عنوان الأعياد الوطنية في المغرب تلاحم وتظافر العرش والشعب، وهو شأن محمود، لكن التعبير عن هذه الصيغة بروح جماعية ومنظمة وتشاركية أمر لا غنى عنه.
هذا، وقد اتفق لي أن اجتمعت عشية الأعياد في مؤسسة جامعية إلى طلاب في ندوة دراسية ونقاش مفتوح خصصناه لمفهوم الوطنية وحصيلة خمسين سنة من الاستقلال، وأردت أن يكون أكثر الكلام لهم وبعض التعليق لي. وإذ لا يمكن للمرء إلا أن يعجب بما يبديه الطلاب من حماس في أي مكان؛ فإني وقفت على أمور حرجة ومقلقة لم أكن غافلًا عنها تمامًا، وإنما زدت بها اضطرابًا وخوفًا على مستقبل مأمول. فلقد كاد الطلاب يجمعون على إنكار أي دور لهذا الاستقلال في حياتهم، ولا هم تبيَّنوا أو يتبينون ما هو منجَز وحادث في بلادهم على امتداد العقود الخوالي، وإنهم — بعد هذا وذاك — يبدون كأنهم لا يبالون؛ فإن بالَوا فبتباعُد غريب، تحسبهم يعنون بلدًا آخر، والمعنيُّون من جلدة أخرى. لكن الأدهى والأمر هو ما يمكن فعلًا أن يستفز الملاحظ من جيلنا، على الأقل، ممثلًا في جهل فعلي بتاريخ المغرب جملة وتفصيلًا، والوقائع مع الأعلام والعلامات الكبرى لتاريخه الحديث، أو هي نتف لا تسمن ولا تغني، تعبِّر عن ضحالة في التعلم أو التربية، دعك من انعدام الإحساس بالمواطنة، أو هذه الأشياء كلها. وما أنا بالذي يُنحي باللائمة على أحد؛ ففيَّ الخصام، ومبلغ ما أتطلع إليه من هذا الوصف، يشهد الله أنه خالٍ من التجنِّي، مع وجود استثناء يؤكد القاعدة هو التنبيه، من نحو، إلى خطل عظيم، ومن نحو آخر طرح السؤال إن كنا نحن الأوَل قبل أبنائنا اللاحقين، نتحمل المسئولية وفي وضع المقصرين. نعلم أن درس التربية الوطنية عامٌّ في المدارس، وإليه قليل من التاريخ والجغرافية، لكنه تعليم المعلومات غير المرتبط بالقيم والمفاهيم، وقبلهما بالسيرورة التاريخية، يفرغ منه التلاميذ حين يحرقون دفاترهم أو يبيعونها بعد نتيجة الامتحان لأول دراجة عابرة. مؤكد أن الأجيال تتغير وتحمل اقتناعات أجدَّ، وطبعها رغبة الانعتاق من الأجداد والبحث عن هُوية مغايرة، كما تطلعها إلى الأمام رائدها لا الالتفات إلى الوراء. بَيدَ أن هذا لا يُعفيها من ثقافة الثوابت، مثلما أن حرصنا نحن على أهمية هذا الطلب ينبغي أن ينبِّهنا إلى البحث عن أسباب إخفاق ظاهر في هذا المجال. وإذا كانت الكلمة المفتاح اليوم في الخطاب السياسي بالمغرب هي المواطنة؛ فإنها ستبقى قوقعة فارغة بلا مفهوم الوطن تاريخًا وتطورًا ومسئوليات وتبعات، والقوى الوطنية بمكوِّناتها المختلفة، التي شيدت بناء الأمس مدعوَّة لتفحص بعناية هذا الاختلال الذي يمكن أن يشدَّ مستقبلنا إلى مجهول أو يزجَّ به في طريق المجهول، وأن تقترح له الملائم من العلاج قبل فوات الأوان. إن إحساسنا بالتقصير في تعليم الوطن كما ينبغي هو خطوة واثقة سنقطعها في مطلع خمسينيةٍ ثانية من استقلال لن نقبل أن يضيعه النسيان ولا تجاهل الغافلين.