الحاجة إلى المدرسة الوطنية
ما نعنيه بتسمية واصطلاح المدرسة الوطنية هو المدرسة العمومية، هذه التي تعلمنا فيها وتربَّت الأغلبية الساحقة من المغاربة منذ الاستقلال، بل قبل ذلك، وما تزال. ونحن لا نغفل هنا أن صفة الوطنية أطلقت على مجموعة من المدارس أسست في مدن مغربية متفرقة (الدار البيضاء، فاس، تطوان، مكناس، من بين أخرى) إبان فترة الاستعمار، على يد فقهاء وعلماء ورجال سياسة ينتمون إلى جيل الحركة الوطنية، واضعين على عاتقهم النهوض بالثقافة الوطنية واللغة العربية في مواجهة الدخيل الأجنبي، وللحفاظ أو بعث هوية وطنية معينة من الضياع تحت ضغط ما اعتبر من تهديد الأجنبي، في مظاهر ومضامين شتى.
لا يعني هذا أن المدارس التي أنشأها الوطنيون — كجزء من استراتيجية الكفاح الوطني — كانت معازل مغلقة أو متعصبة ضد الجديد شكلًا ومحتوًى، المتمثل في قسم كبير منه في ثقافة المستعمر، معبرة فقط عن روح المحافظة أو الأصالة، أو ما إليهما من المعاني، أي ما كاد بعض يحوِّله إلى وصمة تخلُّف وازدراء يلصقه بوجه هذه المؤسسات. أجل، فقد كانت مدارس متواضعة في إمكاناتها، أهلية أو خاصة في مواردها، وإن لم تكن تكلف إلا الزهيد قياسًا بفحش التكاليف الخصوصية لمدارس هذه الأيام، ما أكثر المتطوعين في رحابها، والعاملين بأجرٍ يسير. وهم في وضع المناضلين، كتلامذتهم من أبناء المناضلين، أولاد الشعب عامة، لا أبناء الأعيان الذين كانوا في وادٍ آخر.
وقد استمر نموذج المدرسة الوطنية (لنمثل له بمدرسة النهضة في سلا، لمديرها الوطني الكبير بوبكر القادري) زمنًا بعد الاستقلال، ثم أصبح في كنف الدولة ترعاه ماليًّا وتأطيرًا، وعوض أن يتطور ويزدهر بكيفية أفضل أخذ شكل هذه المدارس الحرة التي اتفق لها انتشار عجيب، ونراها تتجه إلى الهيمنة على «سوق» التعليم بشكل كاسح، بأسباب الحق والباطل على السواء، ونرى أن التطور أخذ منحى التغيير أو الإبدال، مع بدايات الاستقلال، مع تكفُّل الدولة بقطاع التربية والتعليم الذي يُعدُّ — إلى جانب الصحة — من أوجب واجباتها، ما تمثل في الاستتباب التدريجي للمدرسة العمومية، وصعدا في السنوات والعقود الموالية، إلى تحقيق مطلب أساس لجميع القوى الوطنية، أي تعميم التمدرس في جميع المناطق الحضرية والقروية.
ونحن نذهب إلى أن المدرسة العمومية هي ما يحمل وينزل منزلة تسمية ومسئولية المدرسة الوطنية؛ لذلك نجري عليها نعتها، ونحيل عليها وظائفها كذلك. وليس هذا مجال الحديث عن اختيارات ومناهج ومفاهيم وأساليب التربية والتعليم في هذا المضمار؛ فإن لهذا تاريخًا طويلًا، له مختصون أدرى بشعابه، فما نبغي من ضرب آخر، مطروح على صعيد القيم والإنذار بخطرٍ من بين مخاطر أخرى، يتهدد كيان هذا البلد، ويستوجب التصدي له بمستوًى ما بادر إليه مناضلو الحركة الوطنية، في ذلك العهد الذي يكاد يصبح نسيًا منسيًّا.
منذ الاستقلال، وإلى أيامنا هذه شكلت المدرسة العمومية الوطنية الهيكل التربوي الآمن والأشمل لتعليم عشرات آلاف المغاربة في كل الأطوار، وهي أربعة عقود ونيف. جيلان متتاليان تخرَجَا منها، والثالث قيد التكوين، بألوان وأنواع من التكوين متفاوتة، وكلٌّ أخذ اختصاصًا وسار في درب، والجميع يلتقي في أسلاك العاملين في مصالح الدولة المغربية في القطاعات العمومية وشبه العمومية والقطاع الخاص بكفاءات مشهود بها ولا جدال فيها.
ويرجع الفضل اليوم إلى الجيل الأول من الاستقلال في ترسيخ جذور هذه المؤسسة وبلورة مضامينها، ونمذجة تحديث هياكلها، فهو — إذَن — وبكل نواقصه وأخطائه — وحتى هشاشته — جيل وطني مسئول بكل معنى الكلمة. تشبع بتراث وأنجب جيلًا آخر، كما أسهم في صنع تراث هو لنا، ولا يمكن إتلافه بسهولة كما يتصوَّر البعض. هذا، وحين اشتد عضد المدرسة الوطنية العمومية من جميع النواحي كان اتجاه التعليم الخاص أو الحر — تسميته الأولى — يأخذ طريقه ويتصاعد بعد الاستقلال. وكانت مدينة الدار البيضاء حقل تجربته الأغنى، لا سيما في التعليم الثانوي. ولم يكن هذا التعليم مدفوع الأجر — نقيض المجاني — مثار أي إعجاب أو إغراء، بل ملاذ الخائبين أو ممن تلفظهم العمومية على الأغلب، وهذا قبل أن تنطلق موجة روض الأطفال نتيجة تحوُّل اجتماعي وتربوي، وتمتد إلى توسيع ظاهرة التعليم الخاص إلى مختلف الأسلاك؛ أي من الروض إلى السلك العالي.
ليس غرضي الخوض في تفاصيل هذا النمط من التكوين، ولا الحطَّ من قدره، ولا التشكيك في نوايا القائمين عليه، وإن كنت متعصبًا لغيره، بحكم تعلمي بين الناس سواسية، لا فرق إلا بما جُبل عليه الآدمي من موهبة وتقوى، لا ما رُزق من مال وحده. وإني لأرى اليوم قومًا ذوي مال — لا علاقة لهم، ولا لغيرهم، بثقافة الليبرالية والرأسمالية على الإطلاق — يتهافتون على الربح من باب التعليم، وإذا كان هناك دائمًا أناس مدفوعون بحوافز تربوية ومقاصد محمودة؛ فإن آخرين يتكاثرون تراهم كأنهم يُقامرون عينهم أولًا، على ما يجنون مالًا كيفما اتفق، لا من ثمار التربية والتكوين، وإلا كيف يستوي الاستثمار في الحانات والمطاعم والمخابز والعقار، ومثله كثير.
وإلى هذا الحد، فالناس أحرار — هكذا — في تدبير أموالهم وذكائهم، ضمائرهم — أيضًا — على ما يناسبهم. إلى هذا الحد فقط، ما دام عاليها انقلب سافلها؛ لكن أن تتحول المدرسة العمومية الوطنية إلى ما يشبه السبَّة والعيب، وتُولد — بل تستفحل — حالة التشنيع على التعليم الرسمي الذي وُلدنا فيه وتعلمنا وكبرنا وأنجبنا، وهو رأسمالنا، وفي أحضانه ترعرعت لغتنا وثقافتنا وكثير من مُثُلنا بتكافل مع ما لُقنَّاه تربية لدى أهلنا ومجتمعنا كلًّا، فهو لعَمري فوق الاحتمال. أجل، فقد ذهب التبخيس بمدرستنا شأوًا بعيدًا يشترك فيه الواعون والانتهازيون والجهلة. وما أبغي فتنة في هذا الموضوع، وأشهد أن شعبنا البسيط الحقيقي جدير بأبنائه، تعلموا بل نبغوا، هم باحثون، مبدعون، ورواد حيثما تشاء، لم تنبت لهم الأجنحة في روض «الملائكة» ولا صاروا رواد حق وحرية وعقل لقرابة بجان دارك وديكارت، هم أفذاذ بأنفسهم أولًا. وما أنا ممن يعيشون في ذعر الخوف من المؤامرات أو اصطناعها تهويلًا للعالم؛ لكني أدرك أن عبثًا شديدًا يطول قيمًا ومبادئ لا لبس فيها، تعايشنا بها، وهي لُحمة لمجتمعنا، كما أن معاول الهدم تمتد لتضرب مكاسب وأعمدة تم إرساؤها بجهد ونضال. وخلافًا لما يتوهم بعض الخلق؛ فإن تاريخ المغرب، ثقافةً ولغة ومؤسسات وثوابت وطنية وتضحيات تحررية وتطلعات أكبر للعدالة والكرامة، ليست لا للبيع، ولا التفويت، ولا المساومة، ولا التبديد، ولا التقسيط، ولا التبخيس بأي حال، وكذلك مدرسة الشعب.