البعد الثقافي للذاكرة الوطنية
إننا لدى استحضارنا لأحداث والمناسبات التاريخية الكبرى التي مرَّ بها المغرب، غالبًا ما نُولي الاهتمام كله — أو جلَّه — لطابعها الظرفي، ومظهرها السياسي الذي يتجلَّى أكثر من غيره — ولا نقول يطفو — في عيون المحتفلين والذاكرين، يلهجون بعاطر ذكره السياسي؛ هو إما يختزل اختزالًا منتقصًا من قيمته الحقيقية وهيبته العامة، ويطرح أو يقرأ مجتثًا من عمقه التاريخي، مفصولًا أو مربوطًا بأوهَى الصلات مع الحوافز والأسباب المسماة موضوعية، تلك التي تؤهل أعمال ومسيرة الشعوب إلى نتائجها المثمرة، وتفضي بها في الأخير إلى المواقيت/المناسبات ذات الإشعاع الوطني الرمزي.
والذين يستحضرون هذه المناسبات الكبرى، وفي قلبها المواقف واللحظات الوطنية الملتهبة، ما يمتد منها في ماضٍ بعيد أو قريب العهد بنا لنقل إن ذكرى عودة الملك محمد الخامس واستقلال المغرب — أقرب ميقات فيه وأنسب — إما يأتي الخطاب منهم رسميًّا أي متعاليًا، أو فئويًّا متحزبًا، أو تعلو فيه نبرة الامتيازية والاحتكارية للجماعات أو الأفراد المقيدين في سجل المقاومة. أما الشهداء — فرحمة الله عليهم — وهم أبطال بلا جدال. وبين هذه المستويات مجتمعة نبدو وكأننا نفتقد إلى خطاب توافقي حول ما لا يحدث أو لا ينبغي أن يحدث فيه الاختلاف عادة، بالرغم من عظم الآمال واتساع المطامح. كما تبدو المناسبات المعنية شبه معزولة عن عموم الناس، عن الشعب، منطلقها ومحركها. مرجع ذلك أن المنابر الرسمية والسياسية والنخبوية الأخرى، سواء في احتكارها للسلطة، أو لمبادئ ومفاهيم العمل السياسي، تكون قد تراخت صِلاتها بمحيطها الحيوي بشريًّا وفكريًّا، وكفَّت عن الإشعاع بروحه، فيما هي تتوهم، أو تتبجح أنها الناطق الجهير باسمه المعبر عن هويته.
ونحن نذهب إلى أن المشكل يكمن في وجود أو غياب — قل هشاشة — الأرضية الثقافية، نراها القاعدة الضرورية لإبراز وتبجيل أي مناسبة، ولحصر معانيها، بدون ذلك ستطفو على السطح شعارات، وتلتمع عناوين سرعان ما تنطفئ. ليس ما نقول تجريدًا؛ فإن الاحتفال — مثلًا — بالذكرى الواحدة والستين لتقديم وثيقة الاستقلال أكدت شطط هيمنة الخطاب السياسي الفضفاض، واكتساح مصطلحاته، ومضامينه لما عداه. لكن هل يكفي الحديث عن الاستقلال والسيادة، ومواصلة تحقيق مطلب الديمقراطية لنعتبر أننا قلنا المطلوب أو أن هذه المفردات التي هي مفاتيح من غير شك تستوعب غيرها وتجيز إلغاءه بنبذه في التجاهل والنسيان؟ وإلى أي حد يمكن تصور بناء ذاكرة وطنية عتيدة تستغني عن اللبنة الثقافية الأساس؟
إن المبادئ الكبرى لوثيقة المطالبة الاستقلال (١١يناير ١٩٤٤م) إذا كانت قد أجملت وعي النخبة السياسية، ورسمت استراتيجية الحركة الوطنية المغربية تجاه المستعمر مباشرة، وإزاء ما ينبغي أن يئول إليه مستقبل البلاد في أفق منظور؛ وذلك كتعبير عن العنفوان الذي بلغته هذه الحركة في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي؛ فإن تلك المبادئ لها مقدِّماتها وأُطرها العقيدية والفكرية الأولى التي صيغت بها في حركة إصلاحية بمقولات محددة تعتبر السلفية أكثرها تعيينًا، وهو ما يدخل في تشكيل أو إعادة تشكيل ثقافة مرحلة. مثلما يعني أننا بصدد هُوية ثقافية تتجه هيئة من العلماء ورجال الإصلاح ورجال السياسة — بدورهم — إلى نقل المحيط الوطني بجميع مكوِّناته إلى مجالها ومضمونها الإحيائيين والمجددين — أيضًا — قياسًا بالسائد قبلهما. ومعلوم أن قضية الإصلاح في المغرب، وهي مطلب ما زال مطروحًا بإلحاح من قِبل القوى الوطنية الديمقراطية، إنما وضعت كمفهوم ودعوة منذ العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. وُلدت بحذر واستحياء، لتتبلور — لاحقًا — وعيًا معقولًا ومطلوبًا لدى نخبة ذهبت تقترح مشاريع ومفاهيم إصلاحية، أولًا، لدفع غائلة التدخل الأجنبي، وثانيًا، لمناهضة أوضاع فكرية وسياسية واجتماعية، تقليدية وجامدة باتت تمثِّل تشجيعًا وحافزًا للتدخل المذكور، وعائقًا مستحكمًا في وجه نهضة أو حركة إحياء وتنوير تحديثية للمجتمع.
ولقد تبلورت الرؤية الإصلاحية للسلفية المغربية في مطلع شأنها؛ لتأتي على غرار السلفية العربية المشرقية ممثَّلة في عَلميها البارزين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، هما معًا تريان أن صلاح الدين وتجديد سالف عهده من صلاح الدنيا وإعادة تأويل أحوال المجتمع، كما هي عبارة اليوم. ولم تستلهم هذه الرؤية في تكوينها العناصر الدينية وحدها، بل انفتحت على جميع مكونات العصر المقبولة لديها، واتجه رواد السلفية المغربية، إما ارتجالًا أو منهجيًّا، شأن الزعيم الوطني العلامة علال الفاسي إلى صياغة منظومة فكرية وإصلاحية تنويرية متكاملة بواسطة ومن خلال «النقد الذاتي» (كتاب الفاسي المؤسس في مجاله)، له نظائر في ديباجات مقالات متفرقة كتبها دعاة راسخون للتحديث أعلاهم كعبًا محمد الحسن الوزاني، وسعيد حجي. والحاصل أن هذا شكَّل القاعدة الثقافية والأرضية الصلبة التي نهضت عليها دعاوى الإصلاح والتغيير السياسي من كل نوع، وهو ما يسوغ لزمرة الدارسين المغاربة بنعت سلفيتهم وتمييزها عن سابقتها المشرقية ﺑ «السلفية الوطنية».
لقد كانت هذه الحركة، أو روادها على الأصح، واعية بأهمية الثقافة وتأثيرها على تحويل البِنيات وإحداث التغييرات الحاسمة، في ترابط مكين مع المبادرات الطبيعية الحقوقية، والممارسات الكفاحية المباشرة. كما نجحت في أن تجعل المسألة الثقافية من لب صياغة الذاكرة الوطنية التي بدونها ليس الحاضر سوى قشة في الهواء، أو مولود لقيط. في هذا السياق لا بأس من الإشارة إلى ذلك التواشج المكين الذي استطاع وأفلح المغاربة على عهد الكفاح الوطني ضد الاستعمار أن يقيموه بين المقترب الفني التحديثي وبين المضامين والقيم المؤهلة للشخصية الوطنية، وكذلك فعل أسلافهم بُعيد الاستقلال وقد وعَوا أن معركة جديدة قد فتحت، وللأدب، للفكر، للثقافة عمومًا أن تكون حاضرة فيهما بقوة وبصيرة.
ومن أسف أن هذا الموقف لم يقابله وعي مماثل لدى النخب السياسية التي مارست السياسة بكيفية احترافية، ووفق جدول أعمال نضالي خالص مرة، وبراغماتي مرة أخرى. ما من شك أن رؤاها وأيديولوجيتها منبثقة من تصورات نظرية بعينها، ولها بعض السنادات الفكرية يمكن التماس أصولها في عمومياتها، وإن ظلت في غالب الأحيان مشدودة إلى ثقافة الشعار، وإلى المنزع الأيديولوجي بدرجة أكبر. نقول قولنا دون تبسيط لتلك العلاقة الملتبسة الإشكالية القائمة بين السياسي والثقافي في محيطنا؛ لكن الجدلية المفترضة، وبرهن عليها الواقع في مواقف ومناسبات ومنابر شهيرة — من الأفضل أن نسكت عنها في هذا السياق — رجحت دائمًا الكفة الأيديولوجية أو ما يقوم مقامها من شعارات فيها مُتهافت كثير بِتنا نسمعه ممن يفتقرون إلى أي مشروعية تاريخية، وأي مصداقية يومية.
لقد وجد الحقل السياسي كثيرًا من الصعوبات ليتأسس في المغرب، والمفاهيم والمقولات التي وُلدت وتنامت وتجددت في فضائه تتعرض للتشويه والإفقار والتهجين، وعندما تتعامل المؤسسات السياسية بأيديولوجياتها الموروثة والموضوعة مع هذا الحقل والمنتجين داخله إما كعنصر نافل، أو تابع، أو على سبيل الاستئناس وللترويض، وليس كشريك فاعل كامل ودائم؛ فإنها لا تقلص فقط من أهمية الثقافة، ولا تكتفي بتهميش المثقف، وإنما تحكم على نفسها بالضحالة، وتنعزل في أوهام صياغة هياكل ونماذج وتصورات يمكنها أن تنتسب إلى الأيديولوجي والظرفي؛ لكن أنى لها أن ترقى إلى الإبداع الحضاري الذي ينتجه ويؤصله ما هو ثقافي؛ لذا قلنا ونعيد بأن إحياء الذاكرة الوطنية سيتبددان كالزبَد إذا لم نجعل الأرضية الثقافية أساسًا لهما، فعل السلف ذلك، ونحن الخلف لا بد أن نجدد العهد بهذا الوعي.