المتفوِّهة، مثقفونا الجدد!
لا أبغي حديثًا عن المثقفين في تاريخهم الطويل والمتقلب تقلب الظروف السياسية والاجتماعية التي يمرون بها، والمفاهيم التي ينتجون وتشكل رأسمالهم المعرفي يتميزون به عن القوى الأخرى التي تحكم سيطرتها على الواقع، في قطبَيه السياسي والاقتصادي بالدرجة الأولى. بالمقابل، لا أحد أنكر أن هذا التاريخ يلقي بثقله حتمًا على كاهل كل حالة يوجد المثقفون في مركزها، أو حين يعتبرون أنفسهم مركز ثقل قياسًا بالمراكز الأخرى. وهو منشأ توتر وصراع دائمَين بين أطراف لا تؤمن بإمكانية التكافؤ في مواقعها، وتظل تتنابز بالألقاب، وتتواجه شدًّا وجذبًا بالسلطة التي يريد أن يحتكرها هذا الطرف أو ذاك. لا يوجد تعميم واحد للتاريخ المعني، كما لا تتوفر لوحة ترتسم عليها الخانات والمياسم التي تتوزع هذا الصنف من البشر، الذي يتحير هو نفسه في تعريفه قبل أن تحار في فهمه ألباب العامة ممن يُعتبرون جزءًا من دائرة اهتمامه بالالتزام الفعلي، كما هو الشأن عند المثقف العضوي، أو بالعناية والاستلهام لدى المتعالين في الأبراج، أو الولاية (=الوصاية) وابتزاز الفهم والتوجيه في خانة أخرى.
باستثناء الإغريق— والصين تقريبًا — لا نعرف حضارة أخرى تمكَّن فيها المثقفون؛ فاختصوا بموقع وقرار وحظوة، أي بسلطة، مندرجين بذلك في تصنيف اجتماعي — طبقي — محدد، وهو ما كان — بالتالي — أملى عليهم واجبات محددة، وعرَّضهم بحكم تناقضات الموقع إلى أداء ثمن باهظ أحيانًا. وفي التاريخ العربي الإسلامي لعب الفقهاء والشعراء وكتَّاب الدواوين وبعض المتكلمين — الذين نعني بهم آل التفلسف عامة — لعبوا أدوارًا قريبة من هذه وإن ظلوا دائمًا تحت رحمة جبروت الحكام وأمزجتهم؛ ففي أمة يقوم دينها على عقيدة التوحيد لا مكان — في رأي الحاكم — لتعددية الرأي ومواقع القرار. وفي أوروبا نفسها التي نقرُّ جميعًا بأنها مصدر التكوُّن والتفتُّح الفعليَّين الممتدَّين لفصيلة المثقفين، لم ينتزع هؤلاء بداية عتق رقبتهم من أغلال هيمنة الكنيسة المتحالفة مع الإقطاع والممثِّلة للسلطة الإلهية، إلا بثمن التكفير وعواقبه؛ لينطلق من ثَم تاريخ جديد تصنع فيه فلسفة الأنوار وبداية مرحلة أخرى في التفكير الإنساني دشنت معه ثورات وإصلاحات في مختلِف مرافق الحياة، وأخذت معه الثقافة ووضع المثقف مفهومًا مؤسسًا على قاعدة التغيير والتجديد والالتزام المقترنة بالتضحية إذا لزم الأمر وهو يلزم.
كيفما كانت الظروف المتفاوتة في المجتمعات العربية الحديثة في الحقبة الاستعمارية وبعدها؛ فإن وضع المثقف العربي انبنى على القاعدة نفسها، ومهما تعددت روافد التكوين وحوافز الفعل؛ فإن رسالة التنوير خطاب جامع مشترك، هو جزء من الخطاب الوطني الكلي. وليست القسمة أو الزوج: سياسي/ثقافي، إلا حذلقة متأخرة، وعند البعض رطانة تخفي كالنعامة رأسها في رمال سياسة أخرى. هنالك خصوصيات وتعيينات متمايزة لكل طرف في هذا الزوج، ما في ذلك شك، وهي من البداهات التي لا نحتاج أن نعيدها على مسمع «العزيز واتسون». في حين نحن في حاجة إلى أن نذكِّر ونعيد إلى الأذهان ما كان عليه المثقف العربي، والمغربي في صميمه، في الإبان المذكور، والإبان الذي لم نغادر بعد اشتراطاته والتزاماته، وخاصة في وقت أصبحت فيه السياسة والثقافة معلنة في المزاد.
لن نطيل في العدِّ والتصنيف، ونخص بالذكر هنا جماعة وضعت في حسابها أن يصبح لها صِيت ولو بحساب إبادة كل ما يعترض خطتها في الطريق. عرفنا في بلادنا المثقف الوطني، والمثقف الملتزم، فالعضوي، والمثقف المصنَّف بالرجعي، والمحافظ، والانتهازي الوصولي، والمثقف المحتال أيضًا، وهؤلاء جميعًا، انتمَوا أو استقلوا، تميَّزوا نوعًا ما بالوضوح وكانوا يحسبون المساحة التي يتحركون فيها بقدر لا بأس به من الدقة والانتباه، إدراكًا منهم بأن محاوريهم، فأحرى خصومهم، لا أغبياء ولا بلهاء، وهم في الأحوال جُلها لا يخفون من أين جاءوا وإلى أين يرغبون في الوصول. وبما أننا في بلد صار كالمختبر أو السيرك من كثرة التجارب والمضحكات فقد طلع علينا — كآخر تقليعة للمثقفين — صنف فهم من العهد الجديد، وثقافة حرية التعبير وحقوق الإنسان، وحتى من النظريات الملفقة للعولمة والحكامة الجديدة وصولًا إلى بيع الخبرة للأجنبي بالجملة والتقسيط؛ فهم أن بإمكانه أن يفتح فمه بما شاء وكيفما شاء، ولذلك نحن نُسمي هؤلاء المتفوِّهة، لا نميمة ولكن هوية تناسبهم ومن الآن إليها ينسبون.
يقول هؤلاء — لا فض فوهم — بأن المغرب يرزح تحت ثقل الماضي، ومنه كثير من الأحزاب والمقولات والشعارات، وأن أوضاع الحاضر تشهد على إفلاس الأمس جملة وتفصيلًا، والسبب هو تفشِّي السياسة في كل شيء وسطوة السياسي حدًّا لا يطاق، وإلا فانظروا إلى عزوف الناس عن الأحزاب! وأين هي الديمقراطية؟! ومن يطبقها في صفوفه؟! ولماذا لا نستبدل الحقوق والبرلمان بأريكة «فرويد» ودروس «لاكان»؟! وانظر إلى هذه الهرولة من أجل الجاه والخنوع أمام السلطة والحكام! والمطلوب هو نقد كل من قبلنا — من حولنا — ليخلوَ الجو لنا، لنبوس وحدنا يد الحكام، وتعلينا السلطة ملء السمع والبصر أعلى مقام، ولا سياسة بعد اليوم إلا ما نبصم عليه نحن بالسبابة والإبهام!
هؤلاء المتفوهة، مثقفونا الجدد، ورم في جلدنا اليوم، يتكاثرون كالجراد الجوال، ولا يهمهم من يشتري ولكن من يدفع الأول، في الداخل والخارج، وفي السر والعلن، والحَس أنت تاريخك وقيمك الوطنية؛ فإن أشداقهم تنتفخ، ولسانهم يطول على سادة لقنوهم أبجدية الكرامة فباعوها بصك النذالة، لذلك احذروهم، نازلوهم وافضحوهم قبل فوات الأوان، فلا مانع لديهم مقابل أي رخص، أن يعرضوا الوطن في مزاد وأن يبيعوا أختام السلطان!