المثقف مشجبًا لكل ورطة!
من كثرة ما امتلأت بالمعنى حد الاختناق، وترامَت بين شطآن التفسير والتأويل حتى امتصَّها الرمل، انسرب فيه ماؤها ودمها نزف أيضًا مع أصحابها الذين دفعوا أحيانًا أرواحهم تجسيدًا لها، رأيناها تدريجيًّا، وهي تنقلب أمام أعيننا، وبمساعدة مباشرة منا، تتحول إلى قوقعة فارغة؛ أعني كلمة أو تسمية «المثقفون». أنت تعرفها جيدًا أيها الأخ والمناضل العزيز الأستاذ أحمد لحليمي لأنك خبرتها تاريخًا ومعنى وممارسة، أيضًا، كرجل دولة محنك، ولأنها ما انفكت وسواسًا لديك بحافز الخوف على المستقبل والأمل، كدأبك دائمًا، أو هذا ما لمسته في الحوار المثمر الذي أجرته معك يوميتنا البيضاوية بالفرنسية «ليبراسيون» (٢ مارس ٢٠٠٦م)، وأصدقك القول أني بعد أن قرأته، مستمتعًا بما حفل به من آراء وتحليل، كدت أطويه وأحيله ربما إلى قادم الأيام، صنيع كثير من بني عشيرتي، نحن الذين من أسف نتلهى أكثر بالشفوي ونبخل على محيطنا بالنقاش المكتوب، مما قد ينير السبل ويغفر لنا بعض الذنوب مع هذا الوطن المتروك حبله إلى غارب المجهول، فقلت لا بأس أستفتي نفسي وأسألك وقد أثرت الأشجان في حديث ذي شجون.
في الحوار الذي أُجري معكَ محاور وقضايا عديدة متآزرة، متنافسة في المعنى والقيمة، كلها تعنينا نحن القراء والمواطنين، تُسائلنا وتستحث هممنا للفعل ورد الفعل، وأحيانًا بعد فوات أوان، وخاصة من لدن فئة (فئات) المثقفين الذين يتوجه إليهم الخطاب اليوم — والأمس قبله — كما لو أنها تشكل حقًّا بنية أو هيئة متجانسة في الهوية، متضامنة دائمًا في المصالح والأهداف، وبالتالي يمكن نعتها مباشرة بلا تعقيد أو حذر، وتحميلها المسئولية كلما وقع محذور أو تبدلت الأحوال. رأيتك تتحدث عن صنفين من المثقفين — من غير أن ندخل في أي جدل حول التعريف الممكن لهذا الصنف من البشر، سنفترض النخبة والاستنارة والفاعلية، بشكل أو آخر — ينتميان إلى مرحلتَين تاريخيتَين متباينتَين، وتقيم بينهما قسمة رياضية حاسمة أغبطك على دقتها، خاصة ونحن في حقل رجراج شديد النسبية وأهلوه معروفون تاريخيًّا بذرائعيتهم، أو انتهازيتهم، وهو توصيف لا حكم قيمة. والواقع أن المثقف عندنا في المغرب مهما أسقطنا عليه من تعريفات وقولبة مذهبية خارجية إنما ظل يتشكل في سبائك الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي لبلاده، يتبادل وإياها الشكل ومحتواه، وإن ظل متوجهًا بالدرجة الأساس إلى الوجود الموضوعي النضالي، ذلك الذي كان حافلًا، كما سميته «بمشاريع المستقبل المنتجة لليوتوبيات»، وهذا منذ الحركة الوطنية وصعدًا في معركة الاستقلال الثانية التي خبرت جزءًا منها وساهمت في تشكيل صورة من «يوتوبيتها».
ثمة مسألتان في حوارك نراهما على جانب كبير من الأهمية، نعني أولًا: العولمة، وترى أنها بتحدياتها وإعجازاتها قد حدَّت شاغل إعداد المشاريع الكبرى للمجتمع (طبعًا، كلمة المشروع هنا حمَّالة أوجه) وحصرت الخطاب السياسي في نطاق وزاوية هما أنسب لمناضلي المجتمع المدني، تعني الدفاع عن حقوق الإنسان. والواقع أن العولمة ليست إلا عاملًا في هذا التوجه، ولا يمكن أن نعلق عليها، شأن صيغة المثقف الفضفاضة، كل التباسات وضعنا وأشكال عجزنا أو تراجعنا، سواء كنا سياسيين محترفين أو مثقفين «غير مقيدين»، هذا فضلًا عن أننا لسنا بعد مجتمعًا معولمًا، ونعيش على أكثر من مستوى في فضاء استعارات زائفة، قد تنفع للشعر لا ﻟ «المجتمع الحداثي الديمقراطي» المنشود. إن مفردات مثل العولمة، وثقافة التدبير، والحكامة وما شاكل، هي فعلًا إحدى يافطات «مؤسسة التقنوقراط» ولكنها لا يمكن بأي حال أن تتحول لا إلى بديل ولا مادة للثقافة والوعي السياسيين للتغيير.
أما المسألة الثانية فأخطر، من زاوية أنها — حسب طرحك — تحاول أن تسجن قسمًا من المثقفين، أغلبهم من الأطر الحزبية، في المهام الحكومية والالتزامات الرسمية، في تسيير الشأن العام. لا شك أن ثمة إكراهات معينة أمام كل من يتحمل مسئولية رسمية لا ينكرها إلا السذج، ولكن هل ينقطع المثقف عن هويته، عن كيانه لأنه صار وزيرًا أو مديرًا عامًّا لوزارة؟ هل کفَّ ريجيس دوبري عن ممارسة وعيه لأنه هو، أوجاك أتالي، عملًا مستشارين لمتيران، وأحمد لحليمي نفسه وهو المندوب السامي للتخطيط ما باله يرمي اليوم حجرة في البركة الآسنة، فهل يفعل هذا كمثقف، أم بوصفه تقنوقراطيًّا؟ الحق أن الموقف — الوعي — الذي يصدر منه الخطاب يتدخل بشكل كبير في مضمونه وتوجهه. وبالنسبة إليّ على الأقل؛ فإن ظهور المسلسل الديمقراطي، ومعه انخراط قسم من النخبة في تشخيص هذا المسلسل وإرساء عمده لا يمكن ولا ينبغي أن يلغي وعيها الثقافي، وعي الاستنارة وفعل التغيير، ولا ثقافتها النقدية التي بها ولدت، من أجلها توجد، وأظن بفضلها لا خيار لها في التزام صف التقدم والمستقبل، أو تخسر تاريخها وهويتها، عندئذٍ تُمسى تقنوقراطًا، وهذه مسألة أخرى.