المثقفون، والمعلقون، والآخرون
لا نبغي القيام هنا بأي عملية تفكيك أو تصنيف لواحدة من المراتب التي ينشغل علم الاجتماع الثقافي الجِدي بالبحث فيها، ورسم منحنيات تطورها تاريخيًّا وقيميًّا، وبالعلاقة مع الحقل الاجتماعي المتحول. إن ذلك مهم بلا أدنى شك، وإن كان يحتاج دائمًا إلى تبرير، وأن لا يسقط في نزعة ثقافوية هاجسها النظرية وصنافاتها أكثر من الموضوع ودلالاته. شأن يتطلب بكل تأكيد احتياطاته المنهجية وسياقه التاريخي في كل حين، غير أنه — وفي نهاية التحليل — مرتبط بنسق ذي مفاهيم محددة يمكن إجمالها في الوعي والنقد والالتزام والتنوير، وفي ارتباط دائم مع شروط الواقع الموضوعية، ذلك الارتباط الذي يستمر متحكمًا في المرتبة رغم كل ما اعتراها ويتواصل من تبدل على صعيدي الشكل والأداء؛ هكذا فإن التقنوقراطي — مثلًا — ليس بديلًا عن المثقف التقليدي ولا التاريخي، وإنما هو في عرف ثقافة معينة إما تطوير له، أو تنويع عن صيغة براغماتية، أو إبدال عند الذين ظنوا أنهم أقبروا جميع الأيديولوجيات أو عجنوها في عولمة هجينة، أضحت بدورها أيديولوجيا مغشوشة.
ونحن لحقتنا عدوى التنظير في هذا الباب، انشغلنا به، لا أدري أتعويضًا عما فات من ماضينا الصحيح والقوي في تجسيد موقف ملتزم — يسمى اليوم فاعلًا، وأهله (فاعلين) — أم لأن فينا من يعتقد أن المعرفة «المزعومة» لا ينبغي أن تختلط بالشعبوية، بالمثقفين الشعبويين، في زمن الزمرة المندمجة، أو كل طموحها الاندماج في السرب الجديد. وقد لفت نظري وأنا أفكر في حالنا، أن الذين استعرنا مقولاتهم، وصرنا عبيدًا لنظرياتهم، وهم مراتب شتى، لا ينسون أبدًا النبع أو رأس الخيط. منذ أسابيع ورحى الانتخابات الإيطالية دائرة على أشدها انقلب فيها المجتمع الإيطالي إلى مرجل يغلي بأنواع الصراع كلها، وألقت القوى الاجتماعية بثقلها كاملًا، ليس في المعركة الانتخابية أو بحسابها وحدهما، فهذا تحصيل حاصل، ولكن من أجل الحضور في المنعطف التاريخي ليوقف الهيمنة الكاسحة لسلطة برلسكوني وآلة حكمه الفاسدة، سياسيًّا وماليًّا وخلقيًّا — أيضًا — أو ستتكرس دهرًا ومعها تنتصر ثقافة الماركتينج والصفقات المرتشية، وسلطة «الميديا» الأحادية، ورهن السيادة والشخصية الوطنية — ما بات بعض عندنا يعتبره مفاهيم عتيقة — بالمافيات السياسية أو بنظامها.
لقد انخرط المثقفون في إيطاليا في معركة مواجهة استبداد برلسكوني بكل ما أوتوا من شجاعة وشرف؛ الكتَّاب، الأدباء، الباحثون، الجامعيون، الصحفيون، الفنانون في جميع تعابير الفن. لا يوجد واحد من هؤلاء الملتزمين نأى بنفسه عن حُمَّى ما يدور، هكذا لم يفُت أومبرتو إيكو — مثلًا — الباحث السيميائي والروائي الذي يستمد حبكاته من العصور الماضية، أن يجلد ظهر الفساد والمزورين في بلاده، يعي أنه يتقدم مشتعلًا نحو النار، بعبارة خلِّنا الشاعر رشيد المومني. كثير من هؤلاء المثقفين ليسوا شيوعيين رضعوا حليب نظرية غرامشي عن «المثقف العضوي» ولا بالضرورة من أنصار رومانو برودي الذي قاد لائحة أحزاب اليسار، وإنما أبناء ثقافة التنوير الغربية الإنسانية، وكما وقف آباؤهم ضد النازية والفاشية يعرفون اليوم أن حرية التفكير والتعبير والعيش بكرامة والدفاع عن الديمقراطية والتعددية من الالتزامات المحددة لهوية المثقف، ولحماية مجتمعهم من السقوط في براثن ماضٍ شرس؛ التزامات سابقة على رطانات يحلو لمثقفين بلا قضية أن يلوكوها في الفراغ.
طبعًا، اسمعيني يا جارة، أصابها الصمم عن سماع ما يجري حولها؛ فإما دفنت رأسها في رمال ماضٍ صار عندها منجمًا تغنيها «درره» عن «سنتمات» الحاضر أو انشدَّت إلى الغرب الغني بالأحداث والتيارات تقرؤه به وتفكر فيه، ولا بأس أن تفلسفه. أغلب حديث أو خطاب الحداثة في المجتمع الثقافي العربي ضربٌ من التعليق الفائض عن حداثة الآخر، وحواش لا يعتد بها الأصل، طالما هي تعمل بمقولات ومناهج سرعان ما يتجاوزها ليقرأ نفسه كما لا يستطيع غيره أن ينوب عنه في قراءتها. مثقفون كثيرهم لا ينتجون معرفتهم، ولا يرتبطون بالسياق المركب لمجتمعاتهم، هم معلقون على خبرة تقدَّم لهم سلفًا — وليكذبني من يشاء — أفضلهم يسوغ تقارير للهيئات الأجنبية تدغدغ ما تريده سلفًا، ولأنه مرتبط بترسيمتها وأفقها؛ فإنه يعتبر نفسه في قلب العصر، الحداثة، أوَلسنا في زمن العولمة؟! وهكذا فهم معلَّقون، مرة عن طيب خاطر ومرات بألف حساب. فهل استقلنا من واقعنا، لا نفع لنا بما يضيء أو يظلم من حياة شعبه، الذي هو شعبنا، أم يكفي بعضنا زهوًا إعلان انتسابه إلى ما أسميه «وليمة المجتمع المدني» أو إلى عصاب الكلمات الكبيرة، وسعار النعرات، ليثبت جدارة الانتماء إلى الوطن. لست ملقن دروس، لكن صفاقة الفراغ ورغبة تفريغ زمننا من كل قيمه، والانسحاب من تاريخه، وعرض ما تبقى منا فيه نماذج فولكلورية وأدوات سخرة؛ هذا كله وسواه أكبر من أن يطاق، ولنتركه بضاعة لدى جمهرة الذين يريدون احتراف تعليق مصير بلد بأكمله؛ تراثه، ونضاله، وأحزابه، وثقافته، ولغته، وطموحه بحبل تلك المشاريع والمقاولات.
لا بأس يبقى الآخرون. لا بأس، إنهم الحالمون، الواهمون. فيهم الشعراء؛ ملوِّنو خد السماء بزعفران الخيال، الفلاسفة الملتفون بعباءة المعنى يدق الأرض، لا يحفل بالسفهاء العابرين، الأيدي وهي تفرك حب السنبلة يصبحها قرص الشمس ويمسيها كرز المغيب، يوم تسود الدنيا وتربد الوجوه يتيه الحالمون تشعشع من عيونهم كلمات الأمل. الحلم ليس هو الأضغاث، ولا تعويضًا عن العدم، بل هو انعكاس الغائب على شفافية المرئي، كان محالًا ويغدو طاقة الخيال، هذا الضبط، خيال لا يطال عندما تكمل دورة الحساب والمعادلات والصفقات، تلتحق إن استطاعت به أعمارنا الصغيرة؛ فنحافظ قليلًا على أرواحنا، وكيف نشرب من العين بكف القمر، ولا نقبل الفطام من الحب ونمتحن الكلمات كل شروق، كلمات الأدب والسياسة والغرام، والأسواق أيضًا، أما زالت تفتح أمامنا أبواب العالم المغلقة؛ فإن كفت عن ذلك فعلينا أن نحذر حينئذٍ، فقد سرقها «البرابرة» وهذه أخطر مؤامرة على الحلم.