«تموت الحرة ولا تأكل بثديها»
بِتنا جميعًا اليوم عرضة للسؤال والمساءلة، تتولد منا وحولنا، تناوشنا في الداخل، وتستفزنا بأشكال مختلفة من الخارج، الذي نراه يتحول تدريجيًّا إلى وضع/طرف مستوعب لكل ما يسبقه، يدخلنا فيه. منذ أن استفقنا، نحن الذين ننتمي إلى أمة تخلفت عن المدنية الحديثة ووجوه التقدم العلمي والغلبة العسكرية، منذ أزيد من قرن وحتى الحاضر، على واقع مدلهمٍّ من كل النواحي، تظهر فيه تقاسيم صورتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، أيضًا، مشروخة كلية في مرآة ماضٍ تليد ومجيد، وحاضر معوق في مشاريع نموه ومطامح تغييره. حاضر انكسرت آمال نهضته في انحسار أفق النهضة كمشروع تاريخي، إحيائي مجيد.
كنا قد طرحنا على أنفسنا في الماضي عشرات الأسئلة، حوَّلنا بعضها لاحقًا إلى إشكاليات، أردنا إجمالًا أن نعثر لها على أجوبة عاجلة بقدر خطورة وإلحاح أزمات نهشتنا من كل جهة. وهو ما شكل أفق ومسعى النهضة التي سعت أمتنا إلى نهج مسارها عبر مسالك وبواسطة اختيارات متعددة ومتضاربة، بُغية تحقيق إقلاع تاريخي. وكلما تقدَّمنا نحو هذا المسعى كبر في أذهاننا «الوعي بالتفاوت» بالتسمية الصائبة للباحث عبد المجيد قدوري، بين تردينا وازدهار الغرب، جمودنا وتحدي مظاهر المدنية الحديثة. بَيدَ أن هذا الغرب نفسه الذي اتجهت إليه النخب العربية والعالمثالثية كلها لتستمد منه أدوات ونماذج التحديث وإعادة الانطلاق على الأصعدة كلها، انطوى في وجوده — إزاءنا — ومنذ البداية، على «صدمة الحداثة» ومعناها أن من تلوذ به ليحررك من جمودك وتخلفك ويأخذ بيدك لتشييد صرح مستقبلك، هو ذاته من يحتلك، ويغتصب السيادة، ويكبلك بالقيود، ما زاد في نفوسنا الإحساس بمهانة مضاعفة.
ما من شك أن الغرب، بصورة مدنيته الحديثة التي شكلت وما تزال مرجعية التقدم الأولى لدينا، ولمخيالنا، أيضًا، هو كل مركب، ويحتاج لأن يؤخذ ويقرأ كظاهرة موضوعية، وليس في هيئة فتية رومانسية نظير تلك النظرة الاغترابية ألقاها هو على شرق عجائبي مفترض. لكن هذا لا يمنع من ضرورة فرز عناصر الظاهرة لتبرز أنسجتها وعلاقاتها الداخلية. منها قيم التنوير ووجوه التحديث وأسباب النمو الاقتصادي، ومثلها مبادئ العدالة والمساواة وإقرار الديمقراطية. إنما منها، كذلك، القوة والتوسع والسيطرة على توجيه وثروات الشعوب المستضعفة، ما صنع زهاء قرن من الاستعمار لهذه الشعوب، آثارها ممتدة بعد.
لم تتغاضَ النخَب الفكرية كلها عندنا عن طبيعة هذه الثنائية المركبة لغرب أُريدَ له أن يتحوَّل غدًا لحاضر مُهان، وإن نزعت إلى الانطواء في ظل أيديولوجية أو ثقافة نصير لها ضد أخرى، بما يرجح اختيارها. هكذا فالغرب ليس واحدًا، وما عاد كذلك، وعوض التوصيف المطلق جرى تداول تسمية الغرب الرأسمالي قابله غرب آخر اشتراكي مناهض للاستغلال الرأسمالي وللاستعمار، وغرب ماركسي أيضًا سيمثل قطبًا جديدًا حتى ولو لم يُحسب عليه جغرافيًّا. بَيدَ أن هذا الأخير نفسه لم يكن معنيًّا بترسيخ نزعة التحرر؛ حيث نشر مظلته بقدر ما عمل، وتحت غطاء ترضيات لحاجات وطنية عاجلة، على فرض هيمنة أخرى ولنزع قرار وسيادة البلدان التي امتد فيها سواء من أوروبا الشرقية أو جنوب شرق آسيا، أو إفريقيا وبعض أطراف العالم العربي، عالمنا — نحن — المتقلب في مهبِّ رياح الاستبداد والولاء للأجنبي، والنزوع للتحرر من إكراهات هذين الوضعَين نشدانًا لوضع أفضل.
إن عمر الانعتاق من الاستعمار التقليدي يسجل اليوم، بالنسبة لأغلبية الشعوب المستضعفة، نصف قرن أو أقل أو أكثر. لكنه العمر الذي ما يزال مقيدًا، يبقى فيه مطلب ومفهوم الحرية والتحرر معضلة حقيقية في سجله لم ينجز منه إلا النزر اليسير. كما يبدو الطريق الذي يمضي فيه محفوفًا بأعقد الصعاب وأشكل الظروف. ففي العقود التي توالت منذ الخمسينيات المنصرمة، وصعدًا إلى وقتنا، ما أضحى يسمى زمن بعد١١سبتمبر (مظهر عولمة أمريكية كاسحة) انطلقت الحركات الوطنية تقودها النخَب والإنتلجسيات، أصيلة أو متحكمة، لممارسة حق الحرية ونهج خط التحرر، متقلبة في هذا السبيل بين أيديولوجيات وأساليب في الحكم، وإصلاحية وطنية ليبرالية؛ ليبرالية ملفقة، بعثية، عروبية قومية، ناصرية، عسكرتارية انقلابية، واشتراكية، بمفهومٍ ما أيضًا. في هذه المناحي كلها وبينها قدح طموح الحرية والتحرر بأكثر من زناد، مشتملًا على كل شيء تقريبًا.
وبعد التنبيه للاختزال والتجريد الاضطراريين، اللذَين قد يستغلق بهما فهم بعض مرامي هذا الحديث، نقول إن المعنى — رغم كل شيء — يبقى واضحًا تمامًا، في أن الحركات المذكورة، سواء أمسكت بناصية الحكم — أي حكم — أو بقيت تتعكز على ماضيها النضالي، هي لا تكتفي عندئذٍ بإعلان ما يشبه نعيها — نعي ينسحب على الأفراد والجماعات، وينسحب على الفكرة، وليس على الصفوة التي رغم «موتها» السياسي، لا تقبل التفريط في مصلحة أو سلطة حتى وهي في وضع أوهَى من بيت العنكبوت — بل إنها من بعض الوجوه تنعى المستقبل هو الآخر؛ مستقبل تكالبت على الحاضر الذي تهيئه، قوى استغلال الرأسمالية العالمية، والتوسع الإمبريالي، والمعسكر الاشتراكي المدجَّن، والوطنيات والديمقراطيات الناهضة أو المزعومة في العالم الثالث، وصيغ غيرها لوضع يدعي، بصفاقة، المستقبل شعارًا له فيما يعاند في تثبيت شعار آخر أقوى موشوم على جلده حروفه تجمعها كلمة: إفلاس.
تأتي الحرية على رأس قائمة ما يضربه الإفلاس، وبذا تكون دورة تاريخية مديدة عمرها نصف قرن قد اكتملت عند جل الشعوب المستضعفة، العودة من جديد إلى نقطة الانطلاق المرسومة في لحظة ضياع، بل نزع سيادتها، وقضاء زمن في وهم استرجاعها، وفي بناء الدولة الوطنية بمختلف مقوماتها. وإذا كان العالم الراهن يظهر في صورة الهيمنة المطلقة والتسلط الجبار للولايات المتحدة الأمريكية، كقطب واحد أحادي، لا يكتفي باجتياح المناطق المغلوبة والهشة، بل يوشك على إلغاء الغرب التقليدي (القارة العجوز) من الاستمرار في رسم معالم الغد؛ فإن هذا العالم يبدو كل يوم — أيضًا — وهو يسفر عن وجه مغضن آخر، أقبحه أن تبارك دولة وأنظمة وهيئات وتجمعات نزع القرار منها، وتفويت سيادتها تقريبًا بثمن بخس، وفي أشكال حربائية، ومعها لا تجد نخب معينة أي غضاضة في التفريط فيما راكمته من قيم وحصاد تاريخ وطني، لا تعوزها المبررات والمسوغات والاجتهادات، ليس أقلها أن تتحوَّل السخرة وكراء ماء الوجه باسم واقعيةٍ ما عند المثقفين الذين أضاعوا وجوههم إلى عولمة ممسوخة.
الحاصل أن لا أحد يساوم على حريته، دعك من أن يقايض حرية غيره ممن يحكمه أو يواليه، ابتغاء مصلحة عامة مزعزمة. وقيم العدالة والحق والمساواة، مثل الكرامة والسيادة غير قابلة للتفاوت؛ لأنها جميعها تختبر على محك الحرية الذي لا يقبل الجدل، وإن وجد في أيامنا هذه من لا يضيره في شيء التفريط فيها، فلا بأس من التذكير بأن الحرة تموت ولا …