لمجد الغد
نعيش حاضرنا يتنازعنا الانشداد الثابت إلى ماضي الأجداد والجاذبية القوية نحو غد الأحفاد. الأول نعرفه — يظن كثيرنا ذلك — كبرنا في أحضانه وترعرعنا بخصاله وقيمه، وما نزال. والثاني ينافس سالفه أشد المنافسة بأسبقية الجديد وتحدي العمر الفتيِّ، يقتحم قلاع حاضرنا، نلمحه حينًا ونستشفه في غالب الأحيان. بينهما يوجد الوقت الحالي المنفلت دومًا، ولا ينبني وجوده الحقيقي إلا على درجة الوعي بالتوتر الحادِّ الناجم عن تجابُه الزمنين المذكورين، هو مشدود بينهما كالسهم بين القوس والوتر؛ فإن صوَّب جيدًا أصاب أو ارتد القوس إلى نحره، نحرنا نحن الذين نحيا حاضرًا نزعم أنه لنا من شدة تشبثنا الطبيعي بالحياة في قلبها ماضينا، بينا تأفل لمعَت كبرق خُلب، وغد يتحدى حقًّا وزعمًا.
مناسبة هذه الديباجة احتفال المغرب — ككل عام — بذكرى جديدة لثورة الملك والشعب، المعلومة في الذاكرة الوطنية بتاريخ ٢٠ غشت ١٩٥٣م، والمنقوشة في نفوس المقاومة والوطنيين الخلَّص بصدق العزم وإرادة الحزم لتخليص المغرب من بين براثن المستعمر، واسترجاع سيادة البلاد بتحقيق استقلالها، كمدخل أول لتغيير حالها وبناء غدها. وهو احتفال ينضاف إلى مناسبات أخرى، وإن كان يُعدُّ أنصعها وأقواها دلالة في التعبير التلاحم المتين، الذي نسجته السياسة الوطنية المغربية بين الحاكم والشعب، اللذين يستمدان مصداقيتهما الوطنية والتاريخية من ثورة ذات خصائص معلومة، فجَّراها في وقت تاريخي حاسم دفع بالبلاد في الاتجاه المطلوب؛ فكان الحاكم (الملك) في الموقع المطلوب أيضًا، واتخذ القرار المناسب الذي لولاه لذهبت به رياح الأيام سدى، والشعب ترتاده القوى المؤهلة بصفوة الحركة الوطنية، أشعلا فتيل الثورة ضد الاستعمار، ليستحق بذلك اسمه ووجوده، والهوية التي ستزداد تجذرًا في حاضره ذاك ولاحقِ مستقبله.
أحسب أن فهم هذه الدلالة يعني الوعي بمركزية «ثورة الملك والشعب» في تاريخ المغرب الحديث التي تتعدى الحالة الوجدانية — وهي تلقائية محببة — إلى بلورة الميثاق الذي صاغه المغاربة؛ للتعبير عن تكافلهم ووحدة مصيرهم تجاه المستعمر من ناحية، ومع أنفسهم في الاتجاه الذي سيأخذون بعد ذلك من ناحية ثانية. ولقد بلغ هذا الإحساس والوعي مداه، كما تسلسل تباعًا في غير تعبير وصورة، لنقُل إن استقبال المغاربة لملكهم عائدًا من منفاه — هم الذين لم يفارقوه البتة؛ إذ رأوه حتى في القمر! — هو تأججه الدرامي الذي لم نشهد له مثيلًا بعد ذلك. وأتت الحقبة الأولى للاستقلال، بصرف النظر عن ملابساتها، تمثِّل معنًى آخر في سياقه. وعلينا أن نلاحظ بأن الاختلال الذي أربَك هذا السياق وقطع انتظامه إنما حصل نتيجة تخلي طرف عن الالتزام ببنود ميثاق له أوفاقه وشهوده ووثائقه المعلن منها والمضمر، وتدخُّل قوى دفعت إلى قطع لحمة الملك والشعب، وزجت بالمغرب عقودًا في غياهب الاستبداد والقمع على نقيض مثل الحرية والعدالة والكرامة، كافح من أجلها وما انقطع جيل بأكمله ودَينه على كل عنق.
إن هذه الثورة التي لا يتضخم معناها أو يخف إلا لدى الغرباء عن الحس الوطني والوعي التاريخي لزمنية محددة، لهي كذلك إحدى بدايات التعاقد المبرَم علنًا بين العرش والشعب لخوض معركة مشتركة، من أجل هدف نبيل وسامٍ يراد له أن يكون له ما بعده. وما نضال الوطنية والتقدُّمية المغربية في طرحها لأيديولوجية مطورة لسننها أو مغايرة، ذات مبادئ تحررية كاملة، إلا أحد عناوين البَعدية المطلوبة، برسم فعل التشارك الذي يقتضيه أي تعاقد ويوجب الوفاء ببنوده. ومن أبرز تلك العناوين؛ المطالبة بملكية دستورية تنقض ما كان سائدًا من نهج الحكم المطلق، وبمؤسسات تمثيلية لبلورة الإرادة الشعبية في كل المستويات والمجالات عبر انتخابات نزيهة. وثمة كثير من النماذج والتمثيلات الناطقة باسم الفئات المطالبة بالتغيير؛ أي بضرورة احترام الميثاق والتعاقد، وقد اجتزنا فورة الحماس وصرنا أمام واقع آخر، واقع حكم الاستقلال، وكيف ينبغي أن يكون، وبِيد مَن، وعلى هَدي أي خطة وسياسة؟ ما دمنا حقًّا متشاركين من البداية في «ثورة الملك والشعب».
لن نسترسل في سرد ما شهدته المراحل السابقة؛ فهذا اختصاص المؤرخين، ويتعدى حاجتنا في تبيُّن الوشائج التي كانت مُحكمة بين العرش والرعايا الأوفياء، وبقوتها أو هشاشتها ينسجم الوضع السياسي عامة أو يتفكك حدًّا مريعًا. لننظر بالأحرى إلى واقعنا الراهن، إلى ما يتشكَّل فيه من فسيفساء بكل الأنواع والألوان، وبما ينزع إليه من مزيد تغيُّر وتحوُّل في المستقبل المنظور. لنعتبر بالماضي، وكم نحن في حاجة لنستخلص منه بليغ الدروس تقينا مغبَّة انكفاء بغيض إلى دهرٍ كبَّل أيدينا وقرائحنا؛ لكن تفتح في الوقت ذاته الأعين المُغمضة أو النفوس الساهية، وأخرى جاحدة على صفحات بِيض من كِتاب المغرب الحديث الذي دبَّجه الشهداء الأبرار بدمهم، وإرادة الوطنيين من كل سعيد بنضالهم. لنقُل — بعد هذا وذاك وهو بيت القصيد عندنا — بأن المناسبة التي ضمَّت الملك والشعب مرة أخرى في حضن واحد، ومثلها كل المواعيد الوطنية لتاريخنا، لَتحتاج إلى تجديد الحماس بها بجعلها أكثر من ذكرى، ووضعها في سياق المستقبل. أجل، فهي نقشت بحروف من ذهب مجد الأمس، بَيد أن قوتها ستصبح أعظم وإشعاعها أبهر عندما نجعل منها قضية يومنا، وبرنامج غدنا. في زمنٍ متحوِّل قلِق، مشحون بالأزمات، وفي زمن تلتهب فيه الحناجر لترسيخ أقوى للديمقراطية، وتتكاثر البرامج لرسم الخرائط المستقبلية لتنمية وإصلاح دائمين، وتطيب النفوس والجراح.