عبد الله إبراهيم: الدرس الآخر
رحل السياسي والقاصُّ ورجل البيان، الوطني المغربي الكبير الأستاذ عبد الله إبراهيم ملتحقًا بزمرة من خيرة رجال العلم والسلفية الوطنية ولفيف الشهداء، الذين أبلَوا البلاء الحسن في خدمة هذا البلد، وصبروا وصابروا محافظين على مِلتهم ومبادئهم مخلصين لرسالة تاريخية جليلة وأوفياء. رحل فتجب التعزية لجيله من الكبار أولًا، ولعموم ساكنة المغرب العربي الذين عاش الرجل طيلة حياته شعلة بينهم حاملًا أحد ألوية نضالهم، صامدًا وسط الإعصار، كما أحبَّ هو أن يسمي طراز حياته.
والتعزية هي للوفاء وللاعتبار، وبدونهما يستتب النسيان الذي ليس غفلة الذاكرة وحدها، بل يصير وبالًا على أهله، وأي وبال. وإذ نعلم أنه لا رادَّ لقضاء الله، يتلقاه المؤمنون بالصبر الجميل؛ فإن رحيل الكبار يدفعنا، ينبغي أن يدفعنا، للتفطن ولتأمل أحوالنا، بعض حاضرنا على ضوء ماضينا، ومحاولة استيعاب وتركيب تاريخنا من خلال ملامح هؤلاء الذين نراهم يرحلون تباعًا وفي سيماهم ترتسم مشاهد تاريخ حيٍّ صاغوه وعجنوه بدمهم وأعمارهم وجذوة علمهم وما اعتنقوا من مبادئ سامية، أنارت لنا الطريق برفقتهم، ونأمل أن تهدينا كذلك بعدهم، وهم الشهداء — المخلصون — في جنات النعيم.
وإن من مفارقات الدهر أن نجد — أحيانًا — في الفقدان ولادة، أو إسهامًا في ما نحن في حاجة إليه دائمًا من إعادة تأسيس الحياة وتجديد إهابها، وهو ما لا يتأتى إلا بتشخيص ظواهرها القوية ومُثلها القويمة، وبالخصوص استحضار الماضي في مرآة الحاضر، واستطلاع صورتنا نحن عبر تلازم حميم. إن موت الكبار، وإن تمثل فقدًا في أوانه إلا أنه كسب، أو هو صورة حياة أخرى في امتداده، ما يحتاج دومًا إلى تأمل الوجود بطريقة مركبة ومتفاعلة. وجود يحتاج إلى الزمنية ليتحقق، وهذه تتشكل بداهة من الأضلاع الثلاثة للزمن؛ الماضي والحاضر والمستقبل. وعلى الرغم من تحققها البدهي في التصور العام إلا أنه لا وجود لأي ضلع منها إلا بإعادة إنتاجه في التصور الذاتي المنبثق من واقع فعلي ينشئه مؤسسو التاريخ وبناة مراحله المختلفة. إننا نعني التراث، أو كيفية توليده، هذه التي لا تنتج عن طي الصفحات تباعًا، كما في الفهم الميكانيكي للزمن، ولكن — بالأحرى — عن تخلق وعي بعملية الطي الحتمية بحكم التسارع الضروري لمجرى التاريخ. وبالنسبة لأمة، لوجود شعب؛ فإنه يحتاج إلى سياقاته الوقائعية بفاعليها ومغازيها ومعضلاتها، ثم بعد ذلك إلى اندراجها في نسق تاريخي شمولي يعتبر العامل المكمل الضروري لصنع الهوية الوطنية.
إن رحيل علم من عيار عبد الله إبراهيم، شأن وطنيين كبار أفذاذ في طليعتهم علال الفاسي، محمد بن الحسن الوزاني، المهدي بن بركة، عبد الرحيم بوعبيد، ورعيل آخر من رجال المقاومة والنضال الوطني الديمقراطي ممن شادوا. إن هذا الرحيل ليسجل اليوم صفحة جديدة مشرقة وغنية بالمعاني في كتاب التاريخ المغربي المفتوح، كتاب التراث الذي أسهموا في تأليفه، واطراد فصوله، وخصوبة مضامينه، وتعدد عناوينه. عبد الله إبراهيم الذي استهل نضاله منذ ثلاثة أرباع قرن خلت وأسلم الروح وفي أعطافه نبض لا يخفت لوطن متوثب، حفر خطه في المجرى العام، وبالخاص اختلف مع نفسه ورفقته، لكنه اختلاف الباحث لا المفارق أو المرتد عن طريق لا يزيغ عنها إلا هالك، لكي يلتقي دائمًا بمصيره ويده تقبض أبدًا على جمرة الإيمان، وهو يعلم علم الحكيم أن التاريخ العظيم، ما يدخل في الذاكرة الجماعية — التراث — يصنع من المصير المشترك فيما التفاصيل تذروها رياح الأيام. لقد كان الرجل قريبًا منَّا — من بعضنا — باديًا كأنه رحل وحده عنا ربما ليختبر وعينا وإحساسنا بالزمن الوطني، وإن ظل في الحقيقة شديد اليقظة، حريصًا على تنبيه الأوفياء لهذا الزمن بأن عليهم الإسهام في بناء تراث هذا البلد، ذلك ضمان مستقبل الوطنية فيه، ورحل وكأنه يمد للقلقين والحيارى والمتقاعسين — أيضًا — مرآة حياته لينظروا فيها قليلًا أو كثيرًا، عساهم يفهمون معنى أن تكون وطنيًّا ومواطنًا ذا تراث.
في مطلع سبعينيات القرن الماضي أثناء إعدادي رسالة جامعية عن القصة القصيرة بالمغرب، قادتني حفوري إلى اكتشاف نصوص قصصية للراحل عبد الله إبراهيم منشورة بين ١٩٣٧ و١٩٤٠م، أي في حقبة مبكرة هي عمليًّا المرحلة الجنينية لتخلق هذا الجنس الأدبي في تربتنا الأدبية. كانت في حقيقتها خيوطًا وأمشاجًا من قص أو ما يشبهه، تتوسل الفن شكلًا أما غايتها الأم ففي ما تروم إليه. أذكر أني فرحت كثيرًا بهذا النسج أراني متعجبًا متحيرًا مضطرًّا لمقابلة السياسي بالوجه الثاني له، الثقافي–الأدبي، غير قادر وقتها على النظر إلى الاثنين مجتمعين في لحمة واحدة، شخصية المثقف الوطني الملتزم، ذاك الذي وقد رهن نفسه لرسالة النهضة ومهمة التحديث، وضع كل الوسائل لخدمتهما، وهو إذ كان قد نادى برفع غشاوة الجهل والتخلف والانعتاق من النير الاستعماري، والانتقال إلى مجتمع راسٍ على أعمدة التمدن السياسي والثقافي؛ فإن هاجس التحديث لديه شمل المجالات كلها، والتعبير الأدبي في مقدمتها — أوليس الأدب لسان العرب — ما ظهر أجلى ما يكون عند جيل علال الفاسي، وعبد الله إبراهيم، والوزاني، وعبد العزيز بن عبد الله. القائمة لحسن الحظ تطول، تبهر بتكامل السياسي والثقافي وجدليتهما الدائمة في المنظومة الثقافية العربية بالمغرب — من جهة — وبتأهيل الأديب دومًا في المعمعة التي تخوضها أمته — من جهة أخرى — لا يهجع إلى كلمتين أو سطرين مرقعين يحسب أن الدنيا ستقوم بهما ولن تقعد.
نشر عبد الله إبراهيم قصة بعنوان «تأسيس» في فبراير سنة (١٩٣٧م. المغرب)، حبكتها غرامية ومادتها تاريخية، تسترجع أسباب وأجواء بناء جامعة القرويين. ولقد تبدت لي الرسالة واضحة من وراء هذا القص الفطري في طبع صاحبه، العميق في منظوره، وهو يربط صحو الحاضر وشرط نهضته — قياسًا بمجده الغابر — على قاعدة البناء، لقد فهم الرجل بنضج معنى التراث وساهم بقوة في تشييد صرحه، وإننا لمدينون له، لجيله، للمنحدرين من هذا النسب الأصيل بكثير يعجز اللسان حقًّا عن عده ووصفه. لكن الاعتراف به ممكن، ومنابر التعليم والتثقيف والتنوير كافة مدعوة، ونحن نجدد العهد بحماس بناء النهضة العربية المغربية، لكي تطلع جيل الحاضر وتثقفه بلغة وتراث الأجداد، لكي يعرف أنه لن يرفع رأسه أبدًا عاليًا في السماء إلا إذا أحس بجذوره الممتدة في تربة التاريخ — شأن عريق الأمم — وجديرها بالحياة، ورحمة الله على أساتذتنا سادتنا الراحلين.