من يخاف … أحمد المجاطي؟!
أحمد المجاطي، للذين لا جايَلوه ولا عرفوه، مغربي من مواليد الدار البيضاء سنة ١٩٣٨م. فيها تلقى تعليمه الأول والثانوي، ورحل إلى دمشق العروبة، أيام كانت تُشد إليها الرحال، فيها دخل كلية الآداب بها، ومنها تخرج أوائل الستينيات، وعاد إلى وطنه ليعمل مدرسًا للغة العربية، وأستاذًا مساعدًا في كلية الآداب بفاس، عند نشأتها ليكون في مقدمة فرسان ظهر المهراز، فأستاذًا بآداب الرباط، وقد دافع عن رسالتَيه الجامعيتَين لنيل دبلوم الدراسات العليا ودكتوراه الدولة، خصصهما لدراسة الشعر العربي الحديث؛ فأفاد فيها وجدَّد واضعًا اليد على الإشكاليات الكبرى والخصائص المائزة لأهم التجارب في إبداعنا المحدث.
كان توجه أحمد المجاطي — وهو اللقب الذي غلب عليه بعد اسمه الرسمي (المعداوي) في السجل المدني — إلى دراسة الشعر منسجمًا كليًّا مع ثقافته الأصلية ونزوعه الفطري إلى النظم؛ فهو ترعرع في البيئة الأدبية للمدينة القديمة للدار البيضاء، وأخوه مصطفى المعداوي الذي رحل مبكرًا في حادثة مفجعة، كان شاعرًا مفلقًا، وفي بلاد الشام غرف الشعر من ينابيعه «وأين في غير شام يطرب الحجر!» وهكذا ظل هذا الفتى يهذي، كما قال أجدادنا، حتى قال شعرًا، ولكن أي شعر؟! ذاك ما سارت بذكره الركبان حتى … امتدت إليه يد المنون في شهر أكتوبر من عام ١٩٩٥م.
هي، إذَن، عشر سنوات مضت على رحيل فارس الشعر الحديث بالمغرب بلا منازع، وأحد كبار فحول الشعراء العرب طرًّا، المشهود لهم حفظًا، الثابت ذكرهم في سجل التأصيل والتجديد، مجلسه في القدح المعلَّى من اللسان العربي المبين، لم يكن يجد هويته ومغناه إلا في الشعر الجاهلي وامتدادًا إلى منافي البارودي، وهواه قريحته إخلاص للذات والحياة والوطن عزَّ مثيله، ولكم يحتاج أن يتفكر في ذلك المتفكرون. الذكرى اليوم ليست للنديب، ولا مناسبة كأخريات تعلن وفاءً شكليًّا لرجل — لا ككل الرجال — مضى، ولا هي من جانب كاتب هذه السطور انجذابًا حنينيًّا إلى ما كان المجاطي نفسه يسميها ﺑ «أيام لم يعجم لها عود»؛ ليكن فيها قليل من هذا، بينما الأهم — الأقوى — أن نقرأ من خلال الذكرى خصائص زمن ثقافي وإبداعي ووطني، انتمى إليه الجيل الذي أسس وشاد الحداثة الفعلية التي باتت على كل لسان يتشدق بها العادي والبادي، والبعض يتناطح بها ﮐ «العتاريس»، بينا هي متجذرة في تربة النصف الأول من القرن الماضي: زرعها الرواد، وسقاها أولادهم فامتدت فروع الشجرة إلى النصف الثاني من القرن يتصاهر قديم بحديث، (أليس عجيبًا أن يكون علال الفاسي العضو البارز في مناقشة رسالة المجاطي الأولى) ومن بعضهما يتوالدان فتأتي الخضرمة بمثابة جسر النهضة، انتقلت عليه قيم التطور ومفاهيم التجديد تلحق المبنى والمعنى، والشكل فيها صنو المضمون، مشدودة الأزر برسالة في منبتها، والإيمان بها والإخلاص لها مهما كلف ذلك من ثمن، حتى ولو كان الرحيل المتعجل الذي اختاره المجاطي ابن هذا الجيل الرسولي الجريح، عن عالم ارتأى أنه يخون قِيمه؛ فانزاح عنه إلى عزلته — تلك — المطلقة.
لا بد أن هذه الذكرى ستوقظ، بل ينبغي فعلًا أن توقظ، في بعض النفوس صدی هموم وذكريات هاربة أو كامنة مؤرقة مقترنة بالسيرة الاستثنائية لهذا الشاعر الفذ. أول من كتب المعلقات المغربية على حيطان ظهر المهراز، وتخرَّج على بنان موهبته المبجلة رهط من المبدعين، قدَح فيهم زناد موهبة فغردوا، أو خاصم فيهم تكلفًا مزعومًا، وعبثًا عاندوا ثم بادوا، حتى لو بقوا في وهمهم يهمعون في جنان الشعر وعلى ضفاف نضال قديم يسبحون. لا بد أن عناده، وتشدده «الشاذ» حرك المشاعر وأثار الفتن أحيانًا، ولكنه كان الوحيد الذي تلتقي حوله الأطياف والطرق كلها أو تفترق؛ لأنه لم يقبل أبدًا — وهو سابق على أمل دنقل — لا صلحًا ولا مصالحة ولم يخشَ في الحق لومة لائم قط؛ فعاش المرجل يغلي، والممسوس بالظلم يندد ويهذي، والجريح في بلد الاستبداد والجبروت، سليل أمة صارت إلى الهلكوت، بصوته الشعري يطلق حشرجة البارود، ويبصق سعلة الكمد.
لأمرٍ ما أحس أن جيلًا كاملًا يخاف أحمد المجاطي، الواقع في منعطف البعث والفناء، يحاول أن ينساه، وحين يرد اسمه يردده على مضض لأنه يخاف من حقائق شتى تثوي على لسانه، فيما له هيبة وتبقى لدى كل من يملك مثله «قامة ماردة». على مدى عشر سنوات بعد رحيله ندوتان يتيمتان حملتا اسمه ودرسه الشعري (واحدة من تنظيم بيت الشعر، والثانية لرابطة أدباء المغرب، وصدرت أعمالها في كتاب مستقل من منشورات الرابطة). تتذكر الأمم علماءها ومبدعيها الكبار بالإحياء وتجديد الاعتبار من كل نوع، أما نحن، فلأمرٍ ما نميل على الأغلب إلى الوأد والنسيان.
إنها طريقتنا في تشييد التراث. أكيد ثمة في البيت المغربي من يخاف أحمد المجاطي، وإلا لم …؟ لنقرأ أخيرًا — وعلى سبيل العبرة — هذه الفقرة في ذیل تقديم الرابطة لكتابها عمن لقبته شاعر المغرب بجدارة، وهو كذلك أبو قصيده الحديث:
«حين كنا بعدُ فتيانًا بزغ نور المجاطي في العراء شاعرًا للكارثة في أحلك ساعات بلادنا بعد الاستقلال، فأطلق صوته ليعطي مصيرًا فريدًا لحركة التحرير الوطني، وهو يتخطى تأويل تاريخ اليومي مجسدًا برؤياه الشعرية التوق العارم إلى الحرية ومقاومة السقوط والفناء. (…) أما اليوم، فإن المغرب — وبلغة واحد من عشاق هذا المارد — يقف في حلقه رجال يتكلمون بمعجم آخر، لا يحيا بكلمات الرواد من طراز المجاطي، ولا باندفاع الفروسية المهيضة، لم تترك وراءها غير سحابة من غبار أم بارودة من سراب.»