«حدیث خرافة يا أم عمرو!»
وسُمع عن الشاعر العباسي ديك الجن قوله:
أما أنا فأعرف طفلة رباطية اسمها ميسان، لعبها يسلي، وهي في خاطري كظلي، لها أسلوب في التفكير طريف، شأن أبيها صديقي الأديب اللطيف. فهي عندما يستعصي عليها أمر، أو تختلف مع نفسها، تذهب وتجيء في صالة البيت واضعة يديها إلى الخلف ورافعة صوتها إلى السقف يعود إليها مع الصدى، وتظل هكذا إلى أن تنسى أو تستعيد كالعقلاء رشدها، أو لا … أنا مثلها الآن، كل شيء مستعصٍ عليَّ حتى إني لم أعُد أجد؛ فإن وجدتُ لا يشبعني ما وجدت، يظل يهيج بي وجدي لما بعد لمَّا أجد. عندئذٍ أستحضرها كجنية رشيقة، أقول لها ماذا أنا صانع يا ميسان بين صبابة تشدني إلى جبل العلم، لصاحب أشهر من نار على علم، ولصاحب أغلى، جبله في «تنقوَّب»، القلب من محبته، لو علمت، يذوب؟ تأخذني من يدي، تحملني إلى علٍ ونطير في السماء بأجنحة الملائكة، وتحط بي أخيرًا في هذا المجلس، وتطلب مني أن نمثِّل ونحلم ونتكلم بصوت كالكلام، أو صبيب الغمام، ماذا لو استطعنا أن نغنِّي:
يا سادة، يا كرام، ماذا يملك كاتب إذا تكلم غير الأوهام أو أضغاث أحلام، ولذلك سُمي معادل كلامه عند أجدادي العرب «حديث خرافة يا أم عمرو!» أن نجيء به هنا، لمجلس التنبؤ إما مفارقة، أو إحياء لنبوَّة لها خاتمها ليختمها، كيف؟! فهي بالأحرى مجازفة. أما إن شئتم الحقيقة فهي عندي تعطيل لوقتي، وإبطاء للجموح الذي انطلق عندي منذ ما يناهز ثلاثين عامًا، أي المستقبل الذي ربما تفكرون في الالتحاق به اليوم، أو غدًا، أم تراكم ستحلمون بالإبحار نحو ماذا؟ بهدوء لم أعهده فيَّ، وثقة لم تتخل عني أبدًا، أقول لكم: نحو أمسي. ومن جديد لماذا؟ أعود أقول لأنه لا مبدع حقيقي — رغم نسبية هذه التسمية في هذا الزمن الأغبر الذي يتسلل فيه الأقزام والمغشوشون ليلعقوا في جفان الكبار — إلا ويحاول الالتحاق بزمن مضى، ولا توجد تسمية للرومانسية أو معادل غير النوستلجيا، التي تعني عصاب الحنين لا الحنين الفطري، ومن ثَم فإن أي نبوءة للكاتب (أخاف أن أقول الشاعر، دعك من أن المبدع في مغرب اليوم تحول إلى مزحة لا تقل ازدراءً عن وضع الشعر على العموم)؛ إن أي نبوءة تقود إلى نقيضها، خارج دوافع المنافع الوقتية، أي حيث نجهل أين نمضي، مستبقين سؤال الشغف، وبعدُ، لماذا نصر على أن نمضي، وأنا أحب أن أجدد السؤال الآن أمامكم، إن استطعت أن أصرخ بملء حنجرتي، بالغضب الذي فات، والموت الذي من كثرة ما استقر مات؛ أن أصرخ إنني في وضع من لم يعُد ينتظر شيئًا، ولذا فليس لأحد أن ينتظر مني أي شيء، أنا الذي وضعت بيضي قبل ثلاثين سنة خلَون، ثم أتاها ثعلب فأكل الحمائم، ولذا — أيضًا — أشعر كأني شيخ هرم، في مجلس سيفسد بظله الثقيل على أهله ما هم فيه من مرح، ويبغون لمجلسهم من فرح؛ الأفضل عندي أن أمضي فلا أعديكم بقرحتي الرومانسية، ولكم تمنيت هذا لولا — لولا أني — كما أسلفت، واقع في تقاطع فرقدَين، ولا فكاك لي معهما — معكم — إلا هذا المابين، لا انتهازًا، ولكن اتباعًا لسلف صالح علمنا أننا في الملمات يمكن دائمًا أن نبحث عن مخرج لنا بالجلوس في المنزلة بين المنزلتَين.
وأنا في طريقي إلى المستقبل، التفتُّ ناحية الطفلة ميسان، التي كانت قد صارت امرأة هيفاء، فوجدتها تُطل من شرفة شقتها، وإلى جانبها طفلة تشبهها، وهما معًا ينظران إلى الأفق حيث مغيب الشمس. أشارت لصغيرتها قائلة: أترين هناك، ذلك الشفق الأخير، إنه عمو أحمد المديني، إنه يُلوح لنا بيده وهو ذاهب، فعلينا أن نودعه أيضًا ونتمنى له رحلة سعيدة، وانظري فقد ترك لنا اللون الأرجواني، وبعد قليل ستسطع النجوم، ومعنى هذا أن الجو غدًا سيكون صحوًا، والسماء زرقاء صافية الأديم.