عن تلك البناية الغامضة … لن أحكي
بدءًا، ليس فيما سأكتبه أو أسرده من جديد، غير أنه سيكشف أو يدون مرة أخرى بالقول وبالكتابة. فلا شيء يوجد أو يبقى بدون الكتابة، أي بالحفر والبناء وكمال الشكل من طلاء وزواق وعنوان في الأخير. ما ليس مكتوبًا يظل في الخفاء، في ليل القلب والذاكرة، إما يراود صاحبه فرصة الظهور أو يتقلب على جمر الانتظار. جميع الناس لديهم شيء يقولونه، ولذلك توجد الحكايات الشعبية في ثقافات الشعوب كلها بدون استثناء، وتوجد الثرثرة في المقاهي والنميمة في المجالس. يحتاج الناس إلى التكلم حاجتهم للطعام والهواء، وهو شرط للرؤية، ولهذا قيل: «تكلم حتى أراك.»
تصبح هذه الحاجة عادة ملازمة للكاتب، إما قسرية أو تلقائية، ويرى فيها البعض امتيازًا أو أعطية يُحسد عليها صاحبها؛ فإما أن يسأل كيف يتأتى له القول المكتوب والقوم في هدر دائم، أو يتهافت على الكتابة رهط كان خيرًا لهم السكوت. أما أنا فحين يوجد من يلح بالسؤال يصعِّب عليَّ كثيرًا أن أفهمه أني لا أكتب إلا من أجل أن أخفي، وقت تزدحم أمامي الكلمات والمشاهد فاتنة وسافلة، وتتدافع المواجد والمباذل، أيضًا، وأخاف ما ينبغي أن يبقى سرًّا مكنونًا — كالحب مثلًا — أمرًا مشاعًا؛ تراني وقتئذٍ ألوذ بالكلم أطوي فيه وأخبئ، طالبًا الستر بعد كل شيء وحسن المآل.
وقد تبيَّن لي بعد لأيٍ، أي عندما تخففت من خيلائي، وبدأت أُشرك الآخرين في همومي أو أحاول تفهم همومهم قدر الإمكان؛ تبين أن ثمة ضروبًا شتى من الخفاء والتخفي والإخفاء، سأعفيكم مما بات مشتهرًا منها اليوم وحديثه، كما حقوقه ومؤسساته، على كل لسان. أكتفي، فقط، بما ظهر لي أني أشترك فيه مع قوم يميلون مثلي إلى الطي والكتمان وإن اختلفنا جذريًّا في الوسيلة والأداء. وهنا لا بأس من تبيان الاختلاف حتى ينقشع كل عجب بلا سبب؛ فأنا أشتغل بالقلم، وهم بالآجر والبشر في آن. وأنا أخفي ما سيعلن أزعم فيه نفعًا للناس، بالترويح والتخفيف عن كروبهم، فيما هم يخفون ويتخفون للتخويف والترويع إذا جد الجِد واقتضى الأمر. أمرهم مختلف عن أمورنا اختلاف منطقهم عن منطقنا، وهذا واحد من أسباب عديدة أدت إلى ما أصبح معلومًا، منعوتًا، بسنوات «الرصاص». أتفق معهم في شيء واحد؛ مذهبهم القاضي بعملهم حرصًا على سلامتنا أجمعين لا مخصوصين، وللحفاظ على القانون، وهذه مناسبة أحيِّي فيها كل حريص على احترام القانون خاصة وأن أشياء كثيرة يمكن أن تحرِّض الآدمي على خرقه، إما للقصاص لكرامته في الحين أو لكي لا يتعرض لهجوم مباغت من اللصوص وجحافل الشحاذين لحظة توقُّفه لدى الإشارة الحمراء إجبارًا.
الحقيقة أن المسألة جد في جد، وسببها ما نقله إليَّ أحد الفضوليين ممن يحبون افتعال المشاكل وجعل الحبة قبة. فإن هذا الصاحب — والعهدة على روايته — لاحظ في أحد الشوارع التي تترعرع بالبناء والازدهار؛ بناية قال إنها فريدة من نوعها، قد لا تسر الناظرين. سألناه: أفي أساسها؟ أفي عمدها؟ أمن علوها وهيئة طوابقها وشرفاتها؟ أم لعلك ما أحببت هندستها وبناءها جملة وتفصيلًا؟ أجاب: لا هذا ولا ذاك، وإنما هي جملة أمور لفتت نظري وشوشت خاطري وذكرتني ببعض ما مضى، نعده مضى … قال، أما ذاك فشأن آخر، وعليك أن تعلم الآن بأني ما رأيت من قبل عمقًا يحفر تحت بناء كما رأيت، ولا عمالًا ينظرون إليك شزرًا إذا اقتربت من ورشهم كما نظروا، ولا معدات متماسكة وصنعة مهرة ومشرفين مدققين بمثل ما يحيط بهذه العمارة. علقت هذه كلها صدف وفيها الجيد المطلوب للبناء خير من الشقق التي تشبه البسكويت وتتشقق بعد شهر، وعليك أن تدفع عمرك أقساطًا بعدها. عقَّب للتو بأنه لم يذكر الأهم، أو ما جعله يسقط في ألف حيرة، خاصة والصورة لافتة للأنظار … وبعد تردد أضاف: وفيها مخالفة واضحة للقانون! كنت أعرف صاحبي وقد حصل على المغادرة الطوعية من وظيفته — شأن الآلاف — لم يعُد لديه غير البصبصة والتسكع، فعزوتُ انشغاله لهذا السبب. لكنه ذات صباح أجبرني على مرافقته لمشاركته همه الطارئ والتحقق كيف يخالف بعض الناس القانون في النهار الجهار، وهم لا يبالون.
هكذا ركبنا حافلة كراسيها من القصدير أليَق بالدواب من أولي الألباب، قذفَتنا وراء الطريق السيار في حي حديث العمران، وطفقنا نشاهد عماراته الصاعدة، المتقابلة من الرصيفَين، فيها المكتمل بناؤه وكثير في طور البناء. قال صاحبي إنه يصل إلى هنا مشيًا وقد لاحظ كيف أن جميع الأوراش تحمل ألواحًا كبيرة، بارزة كتبت فوقها التراخيص الإدارية بالبناء — حسب القانون — وأسماء المقاولة والتعهدات الأخرى … إلا هذه، قال: انظر، وهو يشير إلى مبنى تبدو اللبنات الضخمة والمعدات الموازية وما أنجز منه أنه سيكون عتيدًا وسيلبي — ولا شك — احتياجات خصوصية. أثارني فضوله فتحفزت واقتربت أكثر، وأيقنت وقد طفنا الورش من كل جوانبه أنه خلو من أي رخصة. اقتربت من عامل أشد نحولة من بشار بن برد في بيته الشعري الشهير، مستفسرًا فنكص كالخائف قبل أن يجيب متلعثمًا: «اخبارها عند اكبارها، أنا غير كنصور طرف ديال الخبز هنا، وكل واحد يعوم في بحره!» مباشرة وقف علينا أربعة صناديد؛ واحد يحمل فأسًا، والثاني مطرقة ضخمة، والثالث جهاز طولكي وولكي، وحيَّرنا الرابع يده مدفوعة إلى جانب من خصره. هذا هو الذي سألنا ما تبغون؟ فاربدَّ وجه صاحبي لا يُحير جوابًا، ولا أعرف كيف حضرت بديهتي، وقد توجست غموضًا وشرًّا، فقلت: احنا غير كنقلبوا على شي برطمة للكرا، وأحسن للبيع، وقلنا ربما … لا، استأنفوا بحزم، ما هي لا للبيع ولا للشراء، وزيدوا خلفة مع الطريق!
فعلًا زدنا خلفة لا نفهم من أصدر الأمر بمنع التجول وحرماننا من محاربة الكولسترول بالمشي المنتظم. وبعد أن بلع صاحبي ريقه، لا أدري خوفًا أم تعجبًا، بادرني بالسؤال: «هه، ما رأيك في هذا الشي؟» لم يكن لي رأي، والمسألة لا تحتاج أي تهويل من نوع مزاج صاحبي؛ فهؤلاء أناس يبنون عمارة لهم أن يحتفظوا بصلاحيتها لأنفسهم، أما الباقي ففضول، القانون أو الكانون، هذا شيء آخر، وهل من القانون أن تتجسس على ما يُسر الناس وما يعلنون؟! بهذا المنطق حاولت أن أقنع صاحبي، ثم — فجأة — وقد استعدت ولعه بالقصص، استحضرت من عمق الذاكرة قصة قصيرة مؤسسة لقاص الستينيات محمد إبراهيم بوعلو فسألته مناوشًا: «أونسيت» بناية «بوعلو في قصته الشهيرة؟» توقف وصمت مليًّا قبل أن يجيب: «وهل هي قصة تنسى …؟!» أطرق ليستأنف كالمستدرك: «… إنما ذاك زمن بعيد، ونحن الآن في وقت جديد، أم تظن أن الأمر ربما …» سايرته: «من يدري … ربما … أو شيء من هذا القبيل، بالعبارة الأثيرة لشيخنا المحبوب محمد السرغيني.» وعدنا أدراجنا مهرولين يتبعنا ظلنا أو ظلال، وقد نهيت صاحبي عن الخوض في الكلام غير المباح.