أمريكا، أمريكا!
نحن الستينيين، تقادمَ علينا الدهر. نحن الذين بدأ وعينا يتفتح في ستينيات القرن
الماضي ومنه نخوض عباب عالم لم يَعُد بمقدور أحد أن يعرف الآن إلى أين يمضي. لكننا
قدماء ومحدثين بِتنا نسلم أننا نعيش الزمن الأمريكي بإطلاق، إلى حد أن اختفى، أو كاد،
من يرى في عبارة «الإمبراطورية الأمريكية» تسمية قدحية أو تشي بأي وبال. اليوم حتى
النخاع، حتى الذهول، بل الذهان، وأمس بشفاه الحلم غرد، وكان في بداية التحليق بأجنحة
خفيفة الطيران، مرحة تارة، وأخرى جارحة.
نحن أولئك، وخلف تلك الطاولات المدرسية المتهالكة طنَّ في أسماعنا اسم أمريكا للمرة
الأولى مقترنًا مباشرة بالدمار، أي بهلاك العالم وفنائه؛ قال مدرس التاريخ ونحن في
الكوليج إما ربحة أو ذبحة، وقد فهمنا فيما بعد أنه يقصد الخراب الذي سيلحق بالعالم إن
لم ينسحب الأمريكيون من «خليج الخنازير» في إنزالهم المخابراتي الاستفزازي للإطاحة
بنظام فيدل كاسترو إبان الأزمة التي حملت الاسم نفسه في ١٦ أبريل ١٩٦١م، وتواجه فيها
الردع النووي الأمريكي السوفياتي (كينيدي خروتشوف). لم تسقط السماء فوق رءوسنا يومها
لأن المرتزقة الذين نزلوا في Bahia de los cochinos
مُنوا بهزيمة ماحقة على يد الرفاق المغاوير، فيما واصلنا نحن تلاميذ مولاي إدريس نتمتع
بحريرة بوعياد وسرحات الخيال في سينما بوجلود، بفاس المجيدة يومئذٍ. كان هذا قبل أن
نكتشف عالمًا آخر، مدهشًا ومثيرًا، واعدًا ومنذرًا بكل المفاجآت بتينك العينَين
الفاتنتَي التصوير لإليا كازان يقدم لنا، ونشاهد ونحن أغرار، فيلمه البديع: «أمريكا،
أمريكا!» (١٩٦٤م) مختصر السيرة الذاتية لعائلته التي رحلت مبكرًا شأن الآلاف نحو اﻟ
American dream.
هذا الحلم الأمريكي رعيناه نحن الستينيين منذئذٍ في الخلاء القفر لظهر المهراز، بفاس
أيام كانت عامرة ونبض طلاب المغرب؛ إذ أدخلنا همنغوي إلى عشب أنفسنا، هو وفوكنر،
وويتمان، وكل أولئك الكتاب المبجلين الذين قبسنا منهم شرارة إبداع إنساني غذى تراث
أمتنا وأنعش خيالها. نحن، أيضًا، زدنا على أحزاننا مأتم جون كينيدي، وترمل جاكلين، ولم
نستسغ دخول أوسطول أو ناسيس إلى فراش العائلة، عجبًا كأنها عائلتنا. ولأمرٍ ما، ورغم
كل
الغيظ والصرع — لا الصراع — الطبقي الذي شحننا به رفاق لأنفسهم، متشنجون يتهجون
الماركسية، ضد أمريكا وهي تلقي أطنان القنابل على الفيتنام وتحرق بالنابالم النساء
والأطفال؛ رغم ذلك تركنا لها ولنا فسحة الأمل بأن ترعوي فتكفَّ عنا شرورها، لا توغل
دعمًا لإسرائيل باغتصاب فلسطين، ولا تعترض على حق الأمة العربية في بناء كيان مستقل،
وأن تتوقف عن دعم الدكتاتورية ومناهضة الديمقراطيين في بلدان العالم الثالث، ومنها
بلدنا المسكين في تلك السنوات المدلهمة. ظل العلم والأدب والفن وحسناوات هوليود، أيضًا،
يشدنا بأكثر من آصرة إلى آفاق «العالم الجديد». وفي الأسواق، رغم الداء والأعداء،
الحسين السلاوي يتسلسل في العصاري بين كأس الشاي و«سبسي» الأشجان، بصوت مرح أم ساخر أم
على الأرجح أسيان، نافثًا: «… ما تسمع غير أوكي، أوكي، كمان، باي باي، المريكان!» وفي
ضواحي النواصر، قرب عاصمة أولاد حريز، وفي قلب القنيطرة، ما زالت نسوة يمضغن لبانًا
قديمًا متحسرات على زمن مضى، ورجالهم، يا للرجال! يحركون أيديهم في الفراغ بعد أن يئسوا
من النبش في حثالة «لاباز» أو زبَّالة المريكان!
وكان يا ما كان، حتى عاد الأسياد الأمريكان إلى عاداتهم القديمة — هل فارقوها يومًا؟
— وبالمختصر المدمر دمروا العراق من أجل «غرض نبيل» — أليس كذلك؟! — هو نحر، عفوًا نشر
الديمقراطية، ولا بأس في القتل ومن النهب، وإحراق المكتبات، وتحويل التاريخ إلى غبار،
فهُم من سلالة ميكيافيلي، فلحكم المدينة لا مناص من أن تصير قيد أنملة الأمير. ولطرد
«الدكتاتور المخلوع» وإقالة عثرة حمورابي، وعبور المها على رِسلها بين الرصافة والجسر،
لا مناص بعد استباحة دم العرب من استباحة أعراضهم بالفسق في مضاجعهم، وتعهير نسائهم،
وسودمة رجالهم، وابتذالهم حد المسافدة؛ لا بأس من ذلك كله، وبغرائب ما سارت به الركبان
عن سجن «أبو غريب»، ألحِق بها تدنيس القرآن الكريم في غوانتنامو، والأسرار المرعبة
الأخرى التي يحتفظ بها السيد رمسفيلد في الأقراص المدمجة للبانتاغون، مع ما يهاجمه من
كوابيس جثث الجنود الأمريكيين العائدين إلى قبور حفرها لهم، قبل الرحيل إلى أرض
الرافدين، حاكمُهم بوش، وقد نصَّب نفسه ربًّا للعالمين! إزاء هذا الهول كله لا ولن
أيئَس من أمريكا. لا أطمع في القرب من أحد، ولكن الأبواب التي ولجت منها إليها أراها
تعود تنفتح، يطل منها وجه Tristan Egolf الكاتب
الأمريكي الشاب، الذي أثار زوبعة في سنة ١٩٩٦م برواية «سيد إسطبل الخنازير» معبرًا
بموهبة كبار الروائيين وخبرتهم، وهو في مطلع الشباب يتحول — أردف بروايات أخرى لم تقل
شهرتها — إلى شاب مناضل ضد جبروت بلاده، وضد بوش بالدرجة الأولى، يتقدَّم المظاهرات
المناهضة للتدخل الأمريكي في العراق، والسلوك المنتهج في سجنَي غوانتنامو، وبوغريب،
ويواصل حملة بلا هوادة ضد نزيل البيت الأبيض إلى … أن انتحر أخيرًا وهو في سن الثالثة
والثلاثين برصاصة في الرأس. وسواء كانت رصاصة إضافية من مسدس بوش أردى بها مواطنًا
أمريكيًّا آخر قتيلًا، أم أن للانتحار سببًا مختلفًا؛ فإن سلوك تريستان إلغوف
الاحتجاجي، ومثله كثير في العالم الغربي حاليًّا من قبل المثقفين والمجتمع المدني الحق،
ليُسائِل العرب، نخَبًا سياسية وثقافية، كيف يقفون شبه متفرجين أمام آلة الاحتلال
والقتل والتدمير الأمريكية في العراق؛ فإن حرَّكوا ساكنًا فليرطنوا بين الفينة والأخرى
عن الديمقراطية والإصلاح، التي تندم أمريكا قبلهم على استرخاصها في بلدانهم قبلئذٍ، وها
هي ذي مصممة على أن تعيد كل المارقين إلى «السراط المستقيم» سراط الذين أنعمَت عليهم
أمريكا — هي أمامكم — وأمريكا وراءكم وليس لنا ولكم والله إلا الصدق والصبر!