لإعادة الاعتبار للعمل السياسي
منذ وقت غير بعيد كان عموم الناس في مغربنا يعتبرون الخوض في شئون السياسة مَجلبة للنحس والتهلكة، وقرآننا الكريم يأمرنا بأن لا نلقي بأنفسنا إلى التهلكة، وهكذا تراهم يتجنبونها بالفعل ويشيحون عن أصحابها بالقول، حتى إن من بينهم من قذفهم ﺑ «مساخيط الوالدين». وفي رواية أخرى كان للسياسة في هذا البلد الأمين شان ومرشان، وذلك في وقت بعيد أيضًا، أيام كان رازحًا تحت الاستعمار الفرنسي، فسُمي رجالها فخارًا واعتبارًا بالوطنيين، وصارت كنايتها هي الوطنية؛ فكأن من لم يؤمن بها ويلتزم بخطها ليس مغربيًّا أي ليس وطنيًّا، هكذا لا تتحصل المغربية ببطاقة التعريف ولكن بالوطنية.
عانى الوطنيون بالطبع صنوفًا من القهر والعنت بين مطاردات وسجون وإقامة بالإجبار وفي المنافي، فضلًا عن العوز وضيق ذات اليد؛ فالقوم أيامها لا فكَّروا ولا حلموا بالمغانم، كنزهم وفداهم حب الوطن. وجاء الاستقلال فانزاحت على ما سمعنا وقليل مما رأينا سدف الظلام، خِلنا بعدها أن الأنوار ستعمُّ مختلف الأرجاء، والخير العميم سيطرق كل باب، حتى ظننا أننا سنعيش عيشة التنابل، ولم يكُ شيء من ذلك. قال لنا الغانمون الفالحون، وقد وضعوا اليد على الزرع والضرع ولم يُبقوا لابن امرأة من غير أرحامهم إلا ما يقيه مغبة الصرع، قالوا هذه سياستنا. وحين أوشكت المخمصة أن تودي بالفئة الناجية، نادى آخرون أعلون بالنفير أن «كلوه بقشوره». وعندئدٍ قرر المستضعفون في الأرض أن لا مناص من أن يشهروا على الملأ ضربًا آخر من السياسة، يسميه الماركسيون نقيض الأطروحة، وفي ديننا الحنيف هو القصاص الذي فيه حياةٌ لأولي الألباب.
يوم ولجت كلية الآداب في ستينيات القرن الماضي لم أكن أفهم عن السياسة إلا أثر ندبَين غائرَين تركهما جندي بخنجر بندقيته في ساقي وكعبي، وظللت أهرول بجرحي مع تلاميذ انتفاضة الدار البيضاء الشهيرة، ونحن نستغرب كيف تطاردنا قوة مسلحة لأننا خرجنا في مظاهرة نطالب بحقوق مشروعة أو تافهة، لم أعد أذكر. لكن العهد لم يطل بي لأفهم بأنك في المغرب لا تحتاج إلى المصنفات في الأيديولوجيات ولا الانضمام إلى الأحزاب والنقابات لكي تصبح حيوانًا سياسيًّا، يكفيك أن تسمع شرطيًّا يُحمرِنك أو يُبهدلك وأنت مطأطئ الرأس لكي تصبح لينينيًّا في دقيقة، أو أن ترى كيف كان عمر بن جلون ينتقل بين شارع كاميل دي مولان — سكناه — وزنقة الجندي روش — جريدتنا — وهو يقهقه غير مبالٍ بأولئك الذين لاحقوا زمنًا لحمنا وكلماتنا. الظلم والاستبداد أكبر وأنجح مدرسة لتعلم السياسة بجرعات مريرة دفعة واحدة على الريق. أما إن كنت عرفت الصحفي المناضل عبد الله بوهلال، كما قابلته في مطلع السبعينيات ﺑ «المحرر» الأسبوعية؛ فستفهم قبل أن يرتد إليك طرفك، تراه يطل عليهم — هو والمرحوم الوديع الأسفي— من نافذته وعيونهم تثقبها بالحراب، وقبل أن يقوم أبا عبد الله بجولته الإنسانية المسائية في شارع الخامس يمر أولًا إلى بيت الوالدة لتقبيل يدها طبعًا، والأخص ليطمئن أن الجلباب البُني الخشن جاهز للملمات، هو ما يُفتقد في الليلة الظلماء وليس البدر ذاك البدر الذي لا سبيل إلى مغازلته في «الكوربيس» حين تكون العين قد غارت في الأحداق، والأمعاء تلفَت من المسغبة، والحرية يا لها براعم مأسورة في القيود، هكذا لم أكن محتاجًا سوى لتلك السيارة التي ستختطفني من حضن زوجتي في سبعينيات وارفة بالصبابة وذؤابات الشباب وتلقي بي في غيابة الجب لكي أصبح أخطر سياسي في قرارة عنادي، ولن أطالب بأي تعويض ينسيني أن كل من يولد ويعيش في وطن عليه أن يستحقه أو هو رقم في بطاقة التعريف فقط.
كان العمل السياسي في مغرب الاستقلال الأول يختصر في النضال والاعتقال واستئناف لا ينقطع من جانب، ومكر وقمع وتلفيق وتزوير إرادة الشعب في أحزاب وانتخابات ملفَّقة ونهب الثروة الوطنية والارتهان للقوَى الأجنبية، ومثله وأدهى منه قلناه في أوانه. وهي كذلك الآلاف بين طلاب وعمال وفلاحين ومأجورين من كل الفئات يؤمنون حقًّا بضرورة التغيير، بحقهم المشروع في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والنضال المستميت لتحقيق مطالبهم بقادة صادقين لا يلوكون أو يفرقعون الشعارات بل أجسادهم «ليوم كريهة وسداد ثغر» من جانب آخر. فأين نحن اليوم من كل ما مضى، وهل يكفي مهرجان للإنصاف والاعتراف لنعتبر أننا كنا نستحق زماننا، ولنغفر لجلادينا ونئِد ماضينا، ونقبر ذاكرتنا وننسى أننا شعب أصالته في أن يلتقي دائمًا بوجهه حين يذهب إلى حقيقة نضاله أبدًا يخوضه لا في أن يوهَب الكلمات، وبِيدٍ يقبض على صرة وبالثانية على قبض ريح؟!
لا بأس، لكن أين نحن الآن مما كان؟ وهل يُعقل أن نخطئ الطريق إلى وجهنا نستبدله بوجهة الضلال والبهتان. لست لا ساذجًا ولا مغفلًا لأومن بأن السياسة هي السبيل إلى اليقين؛ فإني قرأت عند جهابذة كما لمست عن كثب أنها فن المكر، وأخلاقها مخصوصة بها أي ليست أخلاق مُثل، وهدفها الحكم والسيطرة والمال والجاه وتطويع الأنام، ولا عجب من ترويج نقيض هذا الكلام من حين إلى آخر لتدجين الدهماء وهدهدة بعض الأحلام. أسجل هذا وأنا أُدينه بشدة. يُدينه معي خلق كثير، كلٌّ بأسلوبه وعلى طريقته، خاصة الذين لا يقبلون أن تتحول السياسة أو فعلها أو ممارستها إلى وسيلة لقضاء المآرب وتسفه كأداة لتربية المواطن وتوعيته بحقوقه وواجباته كافة. ولا يقبلون جعلها مضمارًا للسباق على المكاسب أو تسعير المنازع والنعرات بأي وازع كان. وهؤلاء الناس لا ينشدون المدينة الفاضلة وفي الآن عينِه تعاف نفوسهم البيئة الملوثة بشعارات وبرامج ملفَّقة وأخرى مزورة منسجمة مع لحظة استغفال الجمهور، وابتزاز صوته الانتخابي وسرقة مستقبله. وتزوُّر العين عمن أقبل عليك أمس ويشيح عنك اليوم. عن الذين يُشعِرون مواطنيهم بالخذلان وهم يقدِّمون لهم أنصاف الحلول ويمضون في طلب مراجعة التركة حتى الفقدان، والذين … كم سأعُد؟!