يسرقون الحياة، والموت أيضًا
لا بد أن الأقدام المحمولة للرجال الحقيقيين الذين مضَوا، بين زنقة الجندي روش وزنقة الأمير عبد القادر، في «التراب الوطني» الخاص بنا نحن في الدار البيضاء، والمسمى ﺑ «الباطوار» (حي المجزرة القديم)؛ حيث تواصلت صحافة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بإصدار جريدة «المحرر» سنة ١٩٧٥م، بعد منعٍ طال صحيفة «التحرير» سنوات واستمر. لا بد أن نبض خطوات تلك الأقدام معلق في صمت غياب متوجس، على قلق بين عصف البارود وصخب الكلام، وما بين يدي الآن من لغة، خيوط دخان. كنا قد زففنا الرجال إلى أقدارهم وأشهدنا دمهم ودمعنا على الرحيل، فيما أبقينا الخطوة تمشي يخفق بها الريح؛ فإن بدا منها نصب أو عنَّ لها طلب حملناها هنيهة إلى مقبرة الشهداء … لتستريح … مؤقتًا، قبل أن نغذي الأرض بشهید جدید.
هنيهة فقط؛ لأن الرجال لا يليق بهم الوقوف طويلًا بأكفان الغياب، أو استجداء الضراعة من أكفٍّ لم تصافحهم يومًا ولا ارتعشت أصابعها بطلقة الكبرياء، لا ولن تعرف أن الموت المستحق جلال وبهاء. ثم تراهم، ها إني أمشي فيهم، بخطوتهم أمضي لنمضي فيتسع المسير أبدًا أمامنا، السُّرى خلفنا لترى الغدو بنا يسير. لذلك يُرى الرجال منا يغدُّون الخطو يعبرون الحياة بسرعة الومض ليلتحقوا بأطيافهم، أكفهم مخضبة بدمهم، أعناقهم على حدِّ النَّطع لهم دليل.
لذلك قلت دومًا، واليوم أعيد، للذين يصعدون بناية هذه الجريدة في «الأمير عبد القادر»، انتبهوا. خففوا الوطء، فالدرج والجدران والسقف والعمد، لهي من أديم تلك الأجساد. ليس استعارة ولا اجترارًا لأبي العلاء المعري، بل احتماء من هشاشة الذاكرة والخفة اللاتحتمل … ولأني، قبل هذا وذاك، كنت هناك ورأيت الصرح كيف تشيَّد، شيدناه لبنة لبنة. بنيناها، أجل وسقيناها ورعيناها، مذ ظهيرة ذاك الخميس النوفمبري (٥نوفمبر ١٩٧٦م تاریخ اغتيال عمر بن جلون) المترقرق ما يزال بالدماء — لما طعن الجهلة الشهيد عمر بن جلون في مقتل — لا يبالي أحد فينا بغد، بمجد، أو فلذة، إذا مات فينا سيِّد قام سيِّد!
لم ينسَ هذا إلا الأغرار وبعض الذين اتخذوا العباطة حرفة، ومعتمرو جبَّة النسيان، وهل يُنسى الذي كان؟! وفي الجمعة الماضي، حين تجمَّع المئات حول جدث واحد من كبار بناة «ترابنا الوطني الخاص» ومن ذوي البأس الشديد للاتحاد، إنما كانوا يحجون إلى ذاكرتهم ويغوصون في البحر اللجب مسبح شهدائهم؛ إنني أعرفهم، سيماهم في وجوههم من أثر ما نكَّل بهم الجلادون، وتداولتهم الزنازين، وتُهن في مضاجع الوحدة والأحزان. فيما أنكر غيرهم، فهل هي الصفاقة أم الجوع المتضوَّر يدفع بعض بني آدم ليقتات من بقول الموتى، بعد أن نهش الموتى وهم أحياء … والآن یا مصطفى، يا القرشاوي الحبيب الذي عرفت، وخبرت، ومعه عشت، وبه وثقت. يا الراحل أنت إلى سماء الملكوت (مايو ٢٠٠٥م). انتقلت تاركًا في عيني غدير بكاء، وقلبًا مثخنًا بكلوم فجيعة. أنت اصطُفيت فعلًا لرسالتك ونضالك، وحرائق اشتعلت بقدح كفاحك في مواسم وطن اليباس والمسكنة؛ لتضيء نار الوطن الكبرى من أولمب الكرامة. مذ طرقت باب بيتي في مطلع تلك السبعينيات المكبلة بالقيود والمسبلة الجفون يطاردك العتاة أعطيتك سريري، وأبي ستره، وأمي زادنا، صرتَ منا، نحن لك ملاذ لأيام معدودات، وطريقك غدت قبلتنا أبدًا … يا مصطفى!
لست في مقام الرثاء أو أرثي نفسي. ربما الرحيل جدير بي بعدك إن طاوعني الموت خير من حياة إضافية بتقسيط الهوان، وانتشار السفلة الدجلة في كل مكان. غير أن حق الراحلين عنا أجدر بالذكر مما تبقى من كل الباقين، لا سيما وهم الأحباب من شادوا البنيان. ومصطفى القرشاوي الذي لا يمكن أن يستأثر به أحد، فضلًا عن أنه فوق أي مزاد؛ مصطفى عندي هو المؤسس الفعلي لجريدة «المحرر» إلى جانب الشهيد عمر بن جلون، وهو الذي سيُغذِّي — بعد استشهاد الأخير — النواة الفكرية والأيديولوجية للمسار الحزبي والإعلامي، وسيعرف كيف يشدُّ لها همة الشباب والإرادات المخلصة، يدفعها في غمار تجربة الصحافة النضالية الملتزمة، التي أنجبت أحد أندر وأقوى الإصدارات ومحافل التحليل والتجديد والتنوير السياسي والثقافي المغربية — بل والعربية — في حقبة السبعينيات، وانطلاقًا منها. وعلى هذا الأساس ينبغي اعتبار الفقيد القرشاوي رمزًا للقيم النضالية لهذه الحقبة، في التاريخ الاتحادي بكل تأكيد، وفي المسار العام لبناء ثقافة تحررية مغربية اشتراكية عربية قومية، ومنها وعلى ضوئها ممارسة العمل السياسي وتنفيذ البرنامج الإصلاحي من خلال المجالات التمثيلية بالوسائل المتاحة فيها. رمز ملك للأجيال ويحتاج أن تتعلم منه، على الأقل ليفقه الذين لا يفقهون شيئًا في تاريخ المغرب الحديث تقريبًا أن ما يلوكونه من نصوص عن حقوق الإنسان والكلام المدفوع الأجر سلفًا، عن صكوك إدانة أو غفران — سيان — روحه وطاقته لمناضلين دبغت لحمهم السجون وشردت أبناءهم عاديات الدهر، وفي ذلك فليتفكر المتسلطون على الكلام — بين السياسة والصحافة — هذه الأيام.