في شالَّة، الموتى يرقصون أيضًا!
جاثيًا على الهواء، مجيلًا بصري في مطلق السماء … لأراكِ … فأرى الأزرق. أراك في الأزرق. يعود يُلاعبني لونه استدقَّ. جئتِ من غير موعد. جئتِ من ثغر بسمة يرتديكِ الشفق. حواليكِ ومنكِ تفتحت مغاني الألَق. من حسرة فائتة، أم من نظرة فاتكة عدتِ جئتِ، وأنا لا أعرف، لا أملك إلا أسبح باسمكِ، بعد رب الفلق.
في عري السماء رأيتُ أزرقها يلاعب خدك. الهواء يسري إليك، الأفق يدنو ليسمع شفيف الضوء رآني أراه تلألأ في شفتي … ك. الأرض كانت تمشي. الأرض التي لا تعرف إلا تدور، وقفَت، هفَت فالتفتَت، حولكِ دارت، رقصَت، ثم مادت تحتكِ ارتجفَت على إثرها المحيطات تخلع عليك وشاح الذهول وألوان الغسق.
هكذا نحن نبدو، حين نسير على طريق الكهولة. نناجي الأطياف، ونتوقع دائمًا أن نسمع «صوتًا هاتفًا في السحر». لكن الهمس كان حقيقيًّا وقد حطَّ اليمام على كتفي شالة ذاك المساء. لم يبقَ إنس ولا جن ولا نمل إلا وتنادى بالأريج الذي يرفُّ على شفتيها كل مساء. رآها التراب الغافي فأيقظ الأموات، واستفاق أبو عنان نفسه، امتطى صهوة أزمان خلَت مستعيدًا على مدى نظرة إليها كل صهيل الأبدية. الأسوار سوار لمعصمك، وسعف النخل لتستظل تحته أهدابكِ، واللمسة الجذلى تحيل التراب مِسكًا بين أناملك، وأهل الرباط، نيابة عن أمم الأرض وعن سكان قلبي ما زلت أراهم افترشوا أرواحهم على عتبات بهائك. ليس عشقًا ما أقول؛ فأنا لا أكون إلا في احتمال الجنون، أو لا أكون.
طبعًا من حق كل قارئ أن يسألني دائمًا في مهاد الكلام، ماذا تقول؟ فهل من حقي أن أتكتَّم يومًا عما أقول، وليعذرني مرة، فأنا لست إلا من لحم ودمع وبقايا طلول. ومن حق سيدتي عليَّ شاسع العذر، ما دام الكلم يضيق ليلمَّ شمائل الصمت في حفيف مشيتها، ونحن إثرها، أهُنا تتبع أذيالها، والسماء فوقنا لا أدري أم تحتها، تغدو سُحبها يزاحم نجمها، تهمي ثانيًا وثالثًا بالأزرق يفرش صوتها ويكسو خطوها، ثم تروح ومن خدها قطفت وردها. بالأمس كان جسمي قليلًا واليوم صار أقل، فلما قلتُ أبادرها بما ملكت يدي وجدته الأقل، فعاد لساني يشافه عسى ينوب عن زادي. لن أسامت جمالها، ولن أملك عمره. هي لا أعرفها، الحق إني أخشى على الأسماء من رهبتها، فأكمُن في بؤرةٍ من خفاء لا تؤدي إلا إلى هلاكي، فكيف السبيل إلى مهجتها وأنا الذي ما أملك من العمر قدامي غير الحنين إلى مقدمها.
أما هو فالفخامة عينها. أيها الرجل المهيب انتظرت تِسعين حولًا كي تحب. كيف تأتَّى لك أن تعيش حتى التسعين قبل أن تحب؟! هذا هو البطل المذهل في الرواية الأخيرة لغابريال غارسيا ماركيز «مومساتي الحزينات»، وسيسمِّي المحبوبة كأنها طفلة أنجبها، وما هو إلا يريد أن يختص بها، أن يؤلهها كي يتوثَّن في عشق لم يولد بعد ليستبقيَه إلى الأبد.
عندما قرأتك استعدت الأمل، بل اليقين بأن الأدب أجمل ما نملك في هذا العالم، وكي نجعل الحياة تُستحق وتغدو دومًا ممكنة. لا يكبر العالم بالثروات إلا عند الرجال الجوف، ولا يتسع بالغزوات إلا عند الهمجيين الجدد، ولكن بكاتب كبير يهبط إلى المياه العميقة في السريرة الدفينة، يحتسي ويحتسي ليسقي غبَّها كل الظامئين، ويغور بهم في السر أبدًا بين الشك واليقين، آخذًا بأيدينا، آه كم تُهنا في المسير، وما عاد لنا غير انتظار جنة الصابرين.
أرى البلاد تشعشع بالمهرجان. أرى الجياع، الحفاة، العراة في كل مكان، أسمعُني غرابًا ينعب في الأركان. أتساءل هل قدرُ الكاتب في وطني أن يُمضي العمر في تدبير الأحزان. في الأسواق الناس يمشون ويأكلون، ويشربون الشاي وسط الذباب ولا يأبهون، وفي الليل ينامون، لا يفكرون إلا كيف غدَا بقليل من السكر وقبطة النعناع لا بد يعودون. لا يبالون بالفقر، كأنهم لا يبالون، فهو منبتهم ومأواهم، منه جاءوا وأولادهم إليه يرجعون، وفي كل ليلة قدر ينتظرون البشري فهم دائمًا الصابرون، حتى والفقر معشش عندهم إلى يوم يبعثون. هؤلاء عامة الأرض، «الديدان التي تنحني»، الناس الطيبون يمضون زرافات ووحدانًا إلى المهرجان. تسبقهم آذانهم وفي أي باحة تتلوى أجسادهم والقلوب ملتاعة ساعة وأخرى منكفئة. لا بد من الفرجة وإن طال الحنين، ولذلك في شالَّة حتى الموتى رأيتهم يرقصون!
أما أنا فاستغربت للذين استغربوا لما وما جرى لمراكش في ليلة واحدة؛ مراكش — تلك — التي أصبحت محجًّا للأثرياء، وبيوتها وأراضيها في يد الأغراب وحدهم والغرباء، وكثير من أبنائها، بعد أن نكَّتوا طويلًا — كالعهد بهم — عادوا يبحلقون ولا يفهمون. مراكش التي في ليلة واحدة اقتصَّت لنفسها، هي وأحوازها، من بعض حرمان، في سبيل فرجة مبذولة بالمجان. كثيرًا ما تساءلت ماذا كان سيحدث لمراكش لو لم يكن فن «القشبة» مرهمًا لفقرها، وفضاء جامع لفنَا فناءً لانشراح روحها. لستُ ساذجًا لأقتنع بخلاصٍ مؤقت لليلة واحدة، ولكني أعفُّ عن حشر أنفي في الفتوى بما يحتاج إليه الناس أو لا يحتاجون. نلغط بخطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان صباح مساء، وترانا ننقلب في رمشة عين إلى وُصاة ومتسلطين نُفتي في الحلال والحرام. سيصبح ربما لكل ذي جاه في هذا البلد مهرجان، غَيرة على مدينته، أو جهته، أو عصبيته، أو نعرته، أو ما شئتم غيره؛ ليكن. أوَلم يعِش المغاربة عقودًا وحكَّامٌ وأحزاب مزورة ومتسلطون يقدِّمون لهم ويستخدمونهم أدوات في أشكال من الفرجة المدمرة، واليوم يسمعون بعد أن أثخنتهم الجراح، بأن هناك من يريد الترويح عنهم وزرع الفرح في أنفسهم، ومقاومة الجهالة بثقافة المهرجان. ليكن، أوَليس جزءًا من المال العام نأخذ منه حقنا؟! كل هذا الكلام يتهافت منطقه أمام سيدة طيبة مثل أمي أمس، جالسة في حضرة جوقة من العازفين بأسارير مبتسمة، لو سألتها كيف أنت، ولم جئت إلى شالَّة لردَّت للتو بتنهيدة: «جيت انفوِّج على قلبي يا وليدي … وهذا ما كان!».