توابل مراكش الفناء
انفصل طريقانا، ثم عادا اتصلا تحت أهداب الجكراندا، تلك الشجرة المترعة — كما تعلمين — بهول البنفسج، خضَّب لونها نعاس عينيك في عز الظهيرة فاشتعلت مراكش بالولع وازَّينت يومها لقالق قصر البديع بإناث النظر، يرقصن رقصة الغجر، والخيل تعلك شدوها، لا تحط رحلها حتى رعشة السحر.
عمر من الزهو والغضب المستعر، ذاك العشق طافح في أحداقنا حدَّ الجمام، أتيناكِ فيه يا مراكش. يومها كانت قرية مجَّاط على مرمًى من شاعرها المكنَّى بها، مرتديًا — كما ينبغي له — المجدل والشد والكُمِّية. كان على موعد مع غدها؛ لذا مر أحمد المجاطي «وفي عينيه خُف حنين، وكنا اثنين …» وبتنا الليل تلو لليل، نعلك الحلم تلو الحلم، نراود الأشجان في الساحة، أنعِم بها، وقتها، من ساحة.
في عمر آخر جئت إليك محفوفًا بالنهرَين، بالرافدَين. كانت سماء بغداد عامها مدلهمًّا بقصف الرعاة الأمريكان، لم يبقوا من هواء الله فوق الأرض غير القار، محتبسًا في حنجرة الطير، وغطى عيون الشعراء فانتفض السبعة رجال — أولياء مراكش السبعة — فرشوا الواحة بالمسك، وجبروا عظم وخاطر التفعيلة المكسور. من الشعراء ثلاثة — حميد سعيد، سامي مهدي، وعبد الرفيع جواهري — ما زالوا شهودًا على ما أقول.
أمس قصدتك لأحفر في الصهريج بئرًا آخر من مائك؛ ليكرع منه، له وحده، حفيد صحرائك محمد باهي العطوش إلى أيام سالفات منك، السَّري في أبهاء لياليك. أميرٌ فاتته الإمارة في الفلاة؛ فتوجناه ثامن الرجال في واحة ابن تاشفين قصاصًا من زمن الطغاة.
صهٍ، هذه مراکش استفاقت! أو رأيت الحرقوص لوَّن خديها، والعربيات، نعم العروبيات، كالشليحات الزوينات، يرفلن فوق شفتيها، يغسلن رضاب الصباح، والخضاب في رسغها خطَّ سوارًا واعتلى سور الشمس، صار لها جناحًا.
سألتك من أين لونك؟ ما حطب النار؟ كيف تسري النار في الرياضات والجنان ليلًا نهارًا، تذوب كل الخلائق فيك من عهدِ عاد، صوت الله وعد من الكتبية وحتى نهايات البلاد وعيد. وأنت هنا تحت عين الشمس واقفة وسامرة وجامحة. أشرت خلسة إلى الغسق يلاعب طيفك من الرأس إلى الأخمص، بينما «الكوتشي» يطوف بك على إيقاع الخبب.
أما الغُلب فليس أن تتبدل عليك البلاد، يشحب معها لون الوجه والجدار، ذاك أصل في الطبيعة؛ الغُلب أن تغترب في أرضٍ لك وتُنتزع منك عنوة بالنظر والفعل لتصوغها، أي تشوِّهها أيدٍ، إرادات سواها، لا هي من تاريخك، وتجفو هواك.
ومراكش الواحة، مثل كل مدينة جذورها ممتدة في عروقنا ونسغها في السويداء، بادية أمامي كأنها ذاهبة في اليباب فيما يحسب أهل النبش والهبش أنها في مطية السحاب. الخلق فيها منتشر؛ لكنه منحشر كأنه ذاهب إلى يومه، على عجل. كانت مراكش مذ عرفنا فتيتها السُّمر الأماجد، والمرح المتراقص فيهم بين العين والحركة، دعكَ من غازلات الشهد خلف كحل الشبابيك، كانت يا سيدي مولاي مرادفًا للبهجة، وهي الحسن، وفي (الصحاح) بَهَجَ به فرِح وسُرَّ، والابتهاج السرور، وعندي أنها ذلك وأكثر.
هذا كله، قبل أن تظهر سلالة الهبَّاشين، هؤلاء الذين يرفعون حاليًّا شعارًا صفيقًا دون أن تطرف لهم عين، عنوانه: «كيف نبيع المغرب أحسن» ستقول لي يا سيدي مولاي، ماذا سنفعل بهذا النخيل والأسوار والأنوار، والتين والزيتون، وبالأصائل، وفرق كناو وهداوة، وأولاد سيدي احماد وموسى. فضلًا عن فتات القصور والجنانات، وكراكيب لا تعني المغاربة جميعًا، يمكن أن نعيد فيها البيع وهي الإنسان — أولها — والخيل والبغال، باختصار ما هب ودب.