ورأى في بلاد مراكش عجبًا
ولما كان قد أعياه الترحال قال لا بد أحط الرحال، عساني وراحلتي — يقصد جسده المنهك — نُصيب في هجير العمر بُلغة راحة. ولم يكن له في الأرض على ما وسعت، والقارات التي فيها مشى مشي الفاتحين، غير بلد واحد إليه يفيء ساعة الوحشة في الحلم، يرى نفسه يرتع في ملاعب الصبا تتجاذبه الروائح والأصوات، يطفو فوق الأرض والسماء إهاب، الأذرع إليه تمتد والأعطاف مفتوحة متهادية كريح رخاء.
أحيانًا، وهو في تيه عمر أخذه إلى بعيد كجد عتيق له، اسمه عوليس، كان يلتفت إلى هناك متسائلًا في شبه حنين أو عساه يهتدي إليها من جديد، ضيَّعها أو ضيَّعته — يقول سيان الآن! — فلا يرى أحدًا ولا شيئًا. يكاد يطلق من حنجرته صرخة محبوسة من سنين، يكاد يستوقف العابرين المتعجلين إلى زوالهم، يا هؤلاء قفوا هنيهة واصرخوا معي، فأنا — والله — حفيدُه، ولا قِبل لي بعيش يحفر بيننا كل هذا البعد، تعالوا ننخرط في نداء مشترك فهي لا بد تستجيب إن سمعتني فيقفون مبهوتين من غير طلب، مندهشين ممن ضاع — مثلي — حد العمى عن نفسه بما حوله مغمضًا عينيه عما في داخله، وأشاروا بأصابعهم فيما بينهم، ثم عادوا فأشاروا إليَّ وعندها فهمت أني بلغت من الهوى حدًّا طفح، ولم يَعُد لي اصطبار على البعاد فصرخت أين أنت يا إرم، يا إرم ذات العماد، لكن الصوت توقَّف مثل هواء راكد أو ماء آسن لم يتصادَّ ولا أحدث الرجع المبتغى؛ الصوت هوى وغار في جوفي إلى قاع متختر ليصَّاعد حممًا فاحتقن وجهي، ومن شفتي طفح اللهب، لأسمعني أقول إنها فيك يا أعمى، إن «إيتاكا» تسكنك دائمًا، وهي لم تغادرك يومًا؛ فاسكن إليها عساك واجد بعض الراحة.
عاد يقول على طريقة الممسوسين التي أصبح عليها: لا، ليست البلاد هي المشكلة، ولكن خلقًا هلك، وآخر غاب، وثالث لا أجده، ورابع تاه، وخامس تعبت من البحث عنه، وسادس كلما سمعت فيروز تغني طفر الدمع إلى عيني، وسابع أحسبه يفتك بي كلما دنوت منه، فأين أُولِّي وجهي بعد طول غياب يا بلاد؟! إليَّ، إليَّ، فإن فراشك ما زال، ومخدتك، والحروف التي كنت تتهجى مكسورة لملمتها في الطريق بين الدار والمسيد، وضحكات مرحة، أيضًا، كتقشير اللوز، جمعتها لك في حُق كما تجمع أصوات العفاريت، وعندما ستسمعها من جديد ستغمرك الطفولة ببياضها وأريجها، ولا أعجب إن طرتَ بأجنحة النوارس إلى البحر الذي أحببتَ دائمًا، ومن علو سواحلي أطللتَ عليَّ وعدتَ تخوض في رحلة عدِّ أشرعة المراكب المبحرة إليَّ، مرِحًا تطير تهفو لنبعي من خلال عطش أعرف أنه لا يرتوي عندك؛ فهل ظمئت اليوم لتقول إنه لا بد من بلاد مراكش وإن طال السفر؟!
وكان أقوى ما استوحشه أن يرى الناس مطلقًا، وأن يسمع الكلام على أي صورة جاء؛ ذاك اللغو الفطري الكاشف توًّا للطبيعة لا غير. قال له أصحاب إذا أردت أن تعود؛ فادخل من باب مراكش لا من أي مدينة أخرى، ولم يقدر نصحهم حق قدره إلا وهو يغادر من مدينة غيرها. فإنه دخل كالنسيم ابتسامات تفرش له الطريق، ودفعة واحدة أراد أن يحضن الهواء الساخن ويطيب به وجهه ويديه كالمتوضئ، لكنه بعد طول وقوف لم يجد سيارة أجرة تنقله إلى المدينة، فالسُّواق جميعًا أشاحوا بوجوههم إلى وجوه بيضاء ناصعة، وتركوه في بهيم الليل ينظر متعجبًا إلى بلده. وقد ظن الأمر مزحة؛ لكنه في اليوم التالي ألفى نفسه وآخرين ملفوظين كالنواة، والسيارات تتكالب على اللحم الأبيض وحده. لم يكن له اختيار في اللون الأسمر الذي يدبغ جلده، ولو خُيِّر لما ابتغى عنه بديلًا، وعزا الخلل إلى أن بعض السُّواق يحبون قهوتهم مخلوطة بالحليب، فيما لا يشرب هو إلا الصِّرف. ولما أخذ يتنقل في الدروب ويمشي في الأسواق، ويحاول أن يختلط قدر ما يستطيع وجد أن الكلام يحتبس في جوفه أكثر مما يخرج، ولم يعلم أن به عِيًّا في يوم من الأيام، رغم أنه تذكر أن الأيام دوَل، وهذا يوم عليه.
أجل، وإلا كيف به يسمع خليطًا من أصوات لعلها تشبه جميع اللغات ولا تشبه أي واحدة منها. في واحدة من كبريات مدن هذه البلاد نظر إليه تاجر مبهوتًا وهو يسمعه ينطق بالعربية التي تعلمها في بيئته الأولى واضحة مفهومة كما ظن، تواصل بها الأهل والأصحاب والتلاميذ، وغذَّوها بما تعلموا في المدارس؛ فتهذبت ورشقت ورقَّت عليلة. بوجه مكشر رطن بكلمات فرنسية كأسنان مخلخلة، وكذلك فعلَت بائعته الرقطاء. راح إثرها يذرع الشوارع يرفع عينيه إلى مداخل العمارات، ولافتات المتاجر، ولوائح الإعلان التجاري، ومثله؛ فظن أنه في كابوس، وأنه أخطأ في البلد المقصود عند ركوب الطائرة، أو أن القوم رُحِّلوا من ديارهم، جيء بغيرهم ليستبدلوا لغتهم على نحوٍ ما رأى، وسواه من الظنون. إنما لا شيء من ذلك، فسرعان ما استعاد صحوه، أي يقينه بأنه هو هنا — فعلًا — في البلد الذي كتب عنه عبد الواحد المراكشي كتابه الأثير: «المعجب في تاريخ المغرب» لزمن الدولة الموحدية وحدها، وقدر أن الشعوب تذهب إلى الأمام؛ لكن اختلط عليه أغلب ما رأى لا يريد أن يسميه، أو سيجد نفسه يجلد تاريخه وناسه، وسيُعييه الفهم ولن يفهم.
بلی، ستفهم، قال له إن توقفت عن الفضول، وعُدتَ تنظر إلى ما حولك على الفطرة التي خلقت بها، أي قبل أن «تتلوث» بتلك المدنيَّة الغربية، وتكفَّ عن تعلقك بالأزمنة الغابرة أيام كانت أمتك لها أزهى الحضارات، وتنسى أن الأرض تزرع فيها الأشجار والنخيل، وتعلم علم اليقين أن ساكنتها بيض ونحن فيها سود، وسادة وعبيد ونحن العبيد، ومتقدمون ومتخلفون، ونحن على ما ترى، وأن تجتث لسانك العربي من أصله ففي السوق ما هو أرخص وأروج قابل للترويج؛ باختصار، لم لا تفعل مثلي، مثل كثير: قل «كل أخاك!» بدل «أعِن أخاك» وابصق حيثما شئتَ أو ستموت من كمد، أو عُد من حيث أتيت!