أيها المصطفى ترجَّل
أُعلِنت ووُزعَت الجوائز المخصصة للإعلام المغربي في قطاعاته المختلفة لسنة ٢٠٠٥م، ومن بينها، بل وفي قلبها الجائزة التكريمية التي مُنحت للصحفي والمناضل المغربي الكبير، مصطفى القرشاوي الذي اصطفاه الله إلى جواره قبل بضعة أشهر. لم ينَل الراحل العزيز شيئًا من دنياه، وقضى جل عمره متقلبًا بين الاعتقال، والنفي، وملاحقات الأمن السري، وبين زمن طويل من المكابدة في العمل السياسي الملتزم مع القوات الشعبية، ومن أجل رسالة التقدم والتحرر. لكن مصطفى القرشاوي كان قبل هذا وذاك مثقفًا تقدميًّا متشبعًا حتى النخاع بالفكر الاشتراكي، وبروح العروبة ومبادئ القومية العربية، ومتطلعًا دائمًا لأفق التجديد، منخرطًا بعناد وحماس عزَّ نظيرهما في النضال الذي خاضه الجيل الاتحادي الستيني، وصعدًا لوضع المغرب على خط امتلاك حقوقه الديمقراطية ومناهضة كل أشكال الحيف والظلم. ولقد كانت الصحافة عند أخينا مصطفى هي المجال الأرحب، بعد المحافل الحزبية، للتعبير عن هذه المبادئ ورسم التطلعات، برز فيها بشكل خصوصي منظورًا وتفكيرًا وأسلوبًا، وأقوى مثال يمكن أن نسوقه هنا هو نجاحه في التشكيل الفعلي لجريدة «المحرر» إلى جانب الشهيد عمر بن جلون، وقدرته على استقطاب وتكوين مواهب وقدرات صحفية عرف كيف يعيد عجنها، ويشحنها بطاقة زمانه وروح الوقت المغربي المتوقِّد، ومنه تعلمت أن الإعلام رسالة والتزام دائمان للوطن والإنسان، وإخلاص للذات تعبر بوفاء، وليس تجارة ولا تسويقًا للمناسبات. في سنوات عمره الأخيرة، وقد أخذ المرض وضجر العمر ينال منه، كان معلمي وصديقي مصطفى يرى الأيام تتبدل، والسحنات تشحب، والشعارات تتهافت، والصغار يُمسخون كبارًا، والكبار ينزوون في الصفوف الخلفية علمًا بأن الصدارة هي دائمًا حيث يجلسون. ولقد عاش وظلَّ هو مكابرًا، عرفته عفيفًا؛ فشاهد ومعه شاهدنا وما زلنا، ورغم الداء والأعداء سنظل نعلن الشهادة بإباء، ولن نساوم، لا في الماضي فكيف بالحاضر. وأسفله شهادة من القلب كتبتها بغواية من صديقي الصحفي والأديب الوطني عبد الجبار السحيمي، رئيس لجنة تحكيم جائزة هذا العام، وهو يُسر لي نبأ التكريم «المتأخر» للراحل مصطفى بجائزة الإعلام لهذا العام، فإلى روحه، وشكرًا ومحبة لعبده، دائمًا.
•••
لم يكُ جسدك قد انفلت من بين قضبانهم إلا هنيهة من عمر هارب منك سلفًا، يقودك رأسًا إلى حيث الكلمات ستصبح لك المهاد بك البلاد. من غير وشي والجرح بعد ينزُّ، زُفَّت إليك الأرض وهي تَئز. خطواتك دائمًا سارت أمامك، وآثار ظلك المتقدم إلينا اقتفت أثرك؛ ولذا توهَّموا أن يلموا جسدك في قبضة كف، لذا أستطيع أن أستدعيك الآن فتأتي خفيفًا، حول مجلسنا تطوف رفيفًا، تُبادل قُبلتنا والهتاف بألف.
سأعود أراك من حيث أنت ملء مداك. قادمًا من أفقٍ مدلهم، ذاهبًا إلى رعشة منك، هي فداك؛ رحتَ تمضي نحو تلك الضفاف … التي بين عباب أمس، وشغاف همس، حملت قامتك الفارعة، تشق طريقًا أنت تسبقها، وحشودًا لزحف، هامتك مطلعها، خصالك أم الصهيل الذي به مراکش، حتى قباب السماء، يا صاح، ما زال، وحقك، وِردًا لها، وأنت موطنها.
ستُذكِّرني، وقد غمرتنا اليوم أمواج «الجندي روش»، تلك الزنقة العاتية، سلخت عمرنا، ما مضى، وما لم يتبقَّ من الأحلام أم الأوهام، هي الغانية؛ ستذكرني بأن الكلمات، شأن الدواة، إذا لم نغمسها، من الشوق حتى حبل الشنق، في معترك الدهر القهر ندفعها مهرًا لأرواحنا، غدًا عند تلك الملمات، ليست سوى سقطة، أم تراها ستغدو، كما غدونا، نثارًا من الذكريات.
مرحى! المجلس لك كله. المجلس نحن، أنت غمره. سأختزل الصورة على سبيل الشهادة، فما عاد أحد يحتمل ذاك الاستشهاد اللايُسمَّى؛ فإن تسمَّى سمَّاك أنت وحدك، صُلت فيه كما جُلنا إثرك، أوَلستُ ذاك المريد الذي من كل زمان مشى، بين الشفع وبين الوتر، يردد وِردك، الذي يطرز بردك معلنًا كالنبوءة في دراويش البلاد التي هي الآن وشيك … إني والله أعرفه، إنه حبيبنا المصطفى «المحرر»!
بابًا، بابًا طرقت. أنت الذي بلا بيت، سوى قضبان، أو ما افترشته «أمينة» من حسرات. جمعتنا، بل جمَّعتنا من شتات حول موقد تلك النار، بلا برد، بلا سلام، بل باللهب المستعر، عساه وطن من جمرها يكتوي، فتشكَّلنا هيئة للتحرير لأنَّا كنا المحرر، لا لجريدة حسب، بل وطن، حين كان ثمة معنى للوطن؛ نعيد الغضارة للفنن، والشذى للسوسن، والشدو لتلك الكلمات المزهقات، وكل ما يعبث به الآن بعض صبية الحي من كلمات، أو قبل أن يصبح العمر هباءً منثورًا حدَّ الترهات!
كلا، لذا فهذا الحشد، ويحه ما أنكرك، إنما لا بأس اليوم إذ يستدركك. لا ما فاتك، فأنت هو الوعد باقٍ، إنما أقل ما يمكن من الغضب المباح، من اللهفة الآسرة أم لعلها الخاسرة … يا رفيفًا لنا، نعم قد قضى قبلنا، ثم … انظروا، من يُكذبني، مرحى ترجَّل، كما عهدتك دومًا فارسًا، إنها ساعتك، لا مجد إلا ساعتك … معذرة أيتها السماوات؛ إذ نأتيك الآن ونسترد، حتى عنوة أو خلسة من شماتة الدهر، واحدًا من طوارق الفلوات … هيهات، أنَّى لنا أن نسترجع تلك الصَّولات، أم تراه العمر يمضي مضضًا أم بددًا، لم لا وأنت حر جالس في أحضاننا … بين خذني وهات …