يوم جرحتني … تلك الرباط
ما الرباط؟ مدينة؟ أرض؟ أهل؟ أصحاب؟ متاه؟ هلام؟ وقت فاتر من أذان العصر إلى المغرب؟ انزلاق غضروفي؟ صخب مدخن بالشبق السري من «باب البيبة» إلى «ديور الجامع»؟ انفلات اللمسات على جلد أملس؟ أم نمش ناضج قليلًا على بشرة بيضاء؟ أم الغياب الذي يتركه كاتبها العريق عبد الجبار السحيمي حين يدير لها ظهره، واهبًا نجواه إلى المحيط؟ أم الدوران اللامُجدي لعبد الكبير الخطيبي في «ثلاثية» مدينة لا تتثلث أو تتسدَّس إلا إذا كبرت في عين الرائي، وتقاذفت من جوفه الحمم؟
يكفي أن تقول الاسم لترتعد له الفرائص، و«تخرُّ له الجبابر ساجدينا»، ذاك حال عهد مضى، كل شيء مضى، وما نقوله الآن ونمضي فيه فتات تلفٍ، لعله زادٌ لما تبقى من الطريق. لكن الطريق إلى هذه المدينة التي اسمها الرباط — مرة — والسراط — مرة أخرى — ليس سالكًا دائمًا، وأنت فيه تتقلب على جنبي الهلع والولع. عليك لكي تراها أن تحلم بها؛ فإن حلمت لن تدركها، فيا ويلك! كلهم ذاهبون إلى الرباط وعائدون منها. في الذهاب رحلة إلى المجهول، والأمل والخوف خفق ورعشة حتى الأسنان. وفي العودة نصر وإما خيبة. لكن في الحالين ركون إلى السكينة. كل صاحب حاجة يقصدها، فإما تقضى الحاجات أو تصلى بنارها، ففيها الخصام، وهي «الخصم والحكم». ما أكثر الأسياد، الأنوف الشُّم أذلتهم، أو بمجدهم عصفت. وما أكثر الحفاة العراة، الأرضة صيرتهم مردة، ونفخت لهم الأوداج. فيها ذاقوا الشهد، وقبلها ما عرفوا سوى طعم الماء الأجاج.
وتبقى على الأغلب فزَّاعة نزَّاعة إلى الإذلال وإملاء فروض الطاعة؛ لذلك يميل ساكنتها على العموم، والوافدون إليها على الخصوص إلى الاستكانة طالبين السلامة … أوَليست هي، بعد هذا وذاك، كناية عن المخزن، بل المخزن بالذات والصفات، الذي حارت في فهمه ألباب وعن إدراكه عقول؟ وما أنا من هؤلاء، ولا من أولئك؛ فلم يكن لي عندها بدٌّ ولا وطرٌ أقضيه، لا ابتغيتُ من مخزنها شيئًا ذا بال على أي حال. فإني — يعلم الله — اقتفيت أثر والدي، جعلت قرة عينه في محراب القرويين بفاس، يوم كانت مسقية من صوب الغمام. وإذ تقلبتُ على جمر العمر بتُّ لا أعلم هل هي سانحة أم بارحة ما ألقى في هذه الأرض التي تنظر إلي تارة شزرًا، وتارة خفرًا. وقد امتد بيننا حبل مكين من الأسوار والأسرار، والكلام الملغز كالأبد.
والآن، جاء دورك أيها الرباطي الأثير، من أسميه الباحث السرداني عبد الفتاح الحجمري، ديدنه أن يتمتع بوضع الأصدقاء والطلبة على السواء، يوقعهم في شرنقة أسئلتهم الحلزونية ويتركهم معقودي اللسان ثم يذهب ليجيب شي دويرة في حي ديور الجامع، هناك يناغي صباه قليلًا؛ فإذا عاد وجد أحمد المديني يرشف قهوته في مقهى «الكموفل» بحي أكدال، وهو على عادته على أهبة الإقلاع، فسارع يسأله: «أوَلا ترى أنه آن الأوان لتحط الرحال فتكتب روايتك القادمة عن هذه الرباط؟» ولا يدري هل هو استفهام أو إنكار غابت صيغته، أم ربما تعجب، أم كلها، وقد أحس أن العيش في هذه المدينة — وأي مدينة أخرى مثل — الورطة ليس منها فكاك؛ ربما صارت الرواية فكاكًا. وقتها أجاب من تلقاء نفسه: إنك لكي تكتب عن مدينة، لكي ترويها، خاصة، ينبغي أن تتحول في جسدك شريانًا مثل ذلك الماء الذي يهبط عميقًا بين تجاويف الصخور وأحشاء الجبال، ثم ينبغي تتركها خلفك كتلة مكتنزة جماع ما يكتنزه الزمن. أن تنساها تمامًا إلى تصبح حكاياها وصورها صحوك ومنامك حيثما حللت. ولعلك أردت أن تضيف سببًا آخر يجعل الواحد مربوطًا إلى الرواية أو الرباط سيان، لا يفطن إليه العجزة من ذوي النفوس القاحلة، شاخوا في بعثرة الحروف بلا طائل، ظانين الرواية تقليعة أو عهنًا منفوشًا، أو ربما اجترارًا لخيبات وأعمار يائسة. هيهات، لعلك أردت أن تضيف سبب المحبة والسرور، ثم الحزن والشجن، وفراق يتلوه لقاء، يليهما القلب إذا رفرفت فيه ألوية الحب … ثم لم تجد بدًّا من السكوت، مثل شهرزاد عن الكلام المباح.
ويا صاح، اعلم أني عشية يوم ٢٣ يونيو، من عامنا هذا ٢٠٠٤م، أدركت أن كل ما قلته تعليلًا لهروب الرباط عني رواية خرف وهرف، وافتراض من التفكير وترف. ففي لحظة واحدة وصاعقة كالقدر طارت «السكرة» والفكرة، معًا، لتحط محلهما الحقيقة شاخصة ومشخصة باللحم والعظم والحديد، لا بالكناية والاستعارة … أو وارف النظر. عندها أيقنت أن الرواية، أن الرباط، لا يمكن أن تُكتب من هلام — لذلك لم تُسرد مدينتك بعد، أو عبثًا — وأن لا بدَّ لها من أن تتحول إلى عظم، مدينة بحجم عظم، يا للهول والمفارقة؛ فيمر كاتب «كلب» مثلي، ويعضُّ على العظم، مُعملًا فيه فكَّيه كليهما، ومنذئذٍ وأحياء ديور الجامع، والملاح، وسيدي فاتح، والأوداية، وبوقرون، والعكاري، والقبيبات، وباب الأحد، وباب تامسنة، وحتى باب المكِّي الزكي، كلها تنهمر سردًا وحكايات، أولها ما ينطق به — عن الهوى — هذا اللسان:
اتفق لي يا صاح أني نزلت، في التاريخ المذكور، إلى جنوبي شارع محمد الخامس قاصدًا فيه وكالة مركزية لاتصالات المغرب، خرجت منها صفر اليدين لم أقضِ حاجتي كما هو المتوقع. وبينا أنا واقف في بابها خارجًا أبلع حسرتي هالني ما رأيت دفعة واحدة كالعباب: جنوب الساحة الممتدة بين «انفصالات المغرب» وبنك المغرب في مواجهتها، والبريد المركزي، على اليسار سور من السيارات تسمى قوات التدخل السريع مدججة حتى الأظافر من الداخل والخارج. قوات تحت الأقواس، لصق الجدران، وفي كل المحيط شباب وفتيان، وأكبر منهم عمالقة وصناديد. يرتدون جديد الهندام مكويًّا، عروق سواعدهم نافرة، وأحداق عيونهم حارقة، وأيديهم على الهراوات المفتولة قابضة، عروقها متأهبة لا تنتظر إلا إشارة الانقضاض.
وسط الساحة وقع بصري على شخص خلتُ أني أعرفه، بيد التولكي وولكي، وبالأخرى أصابعه تلعب مثل مايسترو ستعزف أوركستراه سمفونية الفناء؛ صدره عالٍ، ورأسه إلى السماء. انتقلتُ إلى الركن الآخر جهة مركز البريد الرئيس، أحس أعضائي ابتردت في لهب الحر، تاركًا بصقة أمام وكالة الاتصالات، وأنا أنظر إلى شرطة بلادي يقوم بيننا حاجز من حديد وزجاج، ورجل الساحة يدخل ويخرج من رأسي، أراه في صورة ماضيه أيام كان يشيد بالصراع الطبقي ويحث على مواجهة المستبدين والجلادين، والآن في صورة حاضره يعطي إشارة المايسترو، يتقدم الشباب «الأشاوس» الذين أنقذهم الجلاد من براثن البطالة بهندامهم الأمني الجديد وعضلاتهم المفتولة، يندفعون كجائحة نحو القسم الجنوبي من شارع محمد الخامس، أي بعيدًا عن ذلك البرلمان، والساحة التي يبرقشونها ويحصنونها لحمايته وبرلمانييه ومستشاريه. أرى قوات البلاد مثل جراد اجتاح العام الفائت، تحاصر شباب البلاد من خريجيه العاطلين والمشردين، الذين لم ينقذهم الجلاد من البطالة، لأنه — وببساطة — لكي يستتب الأمن لا بد لقوات الأمن من خريجين عاطلين ومنسيين يصرخون ويهتفون بحقهم في العيش فقط، لتنزل فيهم ضربًا ورفسًا وركلًا.
كانت الساعة يا صاح السادسة ودقائق مساءً من يوم ٢٣يونيو عامنا ٢٠٠٤م، أي لأمرٍ ما تذكرت يوم ٢٣ مارس من عام ١٩٦٥م حين وقعت الواقعة بمدينة الدار البيضاء، الشهيدة. هذا فيما اختلط بأقصى الشارع الخامس الرباطي الهتاف بالصفير يحتج السكان من النوافذ، والعابرون من المارة تنهال على رءوسهم وسيقانهم الهراوات، واللكمات تسدد إلى وجوههم، لم تشفع لي محفظة باليد فتلقيت ضربة في ذراعي، وأخرى على ظهري، أفٍّ لها من بلاد يضرب فيها الأبناء الآباء!! حاولت أن ألوذ بمكتبة كليلة ودمنة؛ فهالني أن أرى عند مدخلها بيدبا مضرَّجا بدمه، وهو في حال من الهذيان سمعته يقول: لم أرَ مثل هذا في أرض الإنس، ولا مسكن الجان، أوَهذه، إذَن، هي بلاد حقوق الإنسان؟!