ثمة شاعر يغرد في داخلك
كنت قد أزمعت على الصمت، وقطع «دابر» بوح حارق كالهجير. قلت هذا الصيف مالك الدنيا اليوم؛ فمن يسمع قولي أو يتدبر أي حال، تحت شلالات الشمس وفيض الجسد؟! حيثما أرسلت الطرف ارتخى والمنظور نخى، لا يحفل إلا بعين تساورها رعشة، وأخرى تهدهدها صبوة، وثالثة هي الشهوة النابحة، وآخرتي، أينها؟ فتنة جارحة.
كنت قد خلعت سربال الكلام، وطويته مع ثياب فصل غادر، بل إني جمَّعت صررًا من المفردات، والمصطلحات، وإليها مزيد صور واستعارات، معها الحر في رأسي، وحمَّى لحمي وكأسي، وقرف لا يفوت لأحلام لا تكف تموت، وعصرت كل ما تبقَّى في جسدي من حس، بل نفضت عني حتى همسي، قلت أريد أن أصير خفيفًا، نحيلًا، لا يبقى بيني والدنيا سوى المسافة إلى رمسي، لا يشدني شيء إلى اليوم، ولا غد وذاك فات، أستبيح أمسي.
أنا طويتني معها في كيس بسعة العالم، وأردنا أن نرتمي جميعًا في هوة بحدود القيامة، من يدري ربما تقوم بعدها القيامة، ما دام لا أحد يسمع كلماتنا، يزدري ألسنتنا ولغاتنا، ولا يحفل لوقوفنا الطويل أمام باب الله، وخلف أسوار التاريخ، ندق، ندق بقبضة عاتية، ونفتل من سبيب الريح عاصفة هوجاء حسبناها حتما آتية، فلم نظفر بغير انكسار العمر وبضع كنايات خابية. لم أكن واحدًا أبدًا، لم نتعلم أن نكون واحدًا يومًا. تربينا أن المجد هو الحشد؛ ولذا وحدي أتعدد، تتكاثر أسمائي وأفعالي وعبارتي وغضبي وحسرتي لعبور الشهب البارقة، دائمًا، بلا نار كالتي حسبناها يومًا ستلعلع، وما هي إلا تلهث نحو انطفائها في لجة صمت مريب، لا ينادي على أسمائي، يهمل الفعل، يشيح عنها مزدريًا سبيل صفاتي. نعود ندق، لكن بقبضة واهية، فترت منا الهمم، بجسوم وتاريخ كاللمم، لا تسعفنا اللحظة الفانية.
كنت، وكدت، وها أنا ذا أفعل، لا أفعل، لا أرخي اللجام، فمن أنا إذا حان الجموح ولم أجد لا راحلتي ولا فرسي، وسأتوهم أن جسدي غمدي أستل متى أشاء منه سيفى، وأخوض الغمر، ولا بأس أن يصبح جدي هو الكيخوطي، وأنا الذي أجداده النبي الكريم محمد، وعمر، والمتنبي، فالوهم خير من العدم، ولعمري طواحين الهواء أجدى من رقدة الجبناء. وفجأة، في المسافة الفاصلة بين استقالتي من الكلام وانتشار جسد الصيف على ما تبقَّى لنا من ساحل البلاد؛ فجأة أطلَّت سحابتك وشاحًا ظليلًا قلت — ومعي من جدَّفوا طويلًا في تيه العمر — هذا فيئنا بعد طول أصياف، وللتو رأيت الشمس تنحسر لتترك لكلماتك الامتداد، كله. فأنت بإيجاز تكلمت فأبنتَ وبنيتَ وأضأتَ وتوضأتَ بطهارة من يتحاشى أن تعلق به الأدران. أنت تسكن عادة في سريرتك؛ فإن سمع الهديل قربك حسبوه منك، بينا تكظم الغيظ، وتطوي الندب إلى الندب، وحنجرتك، أيضًا، تبقيها برعمًا فيما الأصوات حولك، حولنا لجاج وهياج، تتدافع الشعارات مع المناكب، وحمرة الخجل يبددها انتفاخ الأوداج. وهذا من أجل ما تعرف، مع من لم ينسوا أن المناضل، أن الإنسان، شرف وعهد.
سيتساءل القارئ محقًّا: من ذا الذي تُتوِّجه هذي الخصال، وهل إلى زماننا ينتسب أم إلى سالف العصر والأوان؟ فأجيب إني أحدثه بضمير المخاطب لئلا يلحقه أحد بالغياب، وعندي أن حضور الأوفياء وأهل التقى اليوم أوجب وأجلب للخير من كثير أشباح تملأ الساحات بأجسام ضخام. وأقول للقارئ ثانية سَمِّ أنت من تشاء ممن تحب أو تعتبر، وستجده حالًّا فيه يعيد إليك الأمل في ما خلته هوى وانقضى، وتفاءل به عندما يملأ الأفق الغربان العوادي، بنعيب تنبري لهزمه بيض الغُرر تعيد للأصل أصله، وخطانا إلى طريق الكبرياء. أعلم أني أحرج مقام الشيم عندك، فحسن العهد وصدق الوعد لا تبتغي دليلًا فهي من طبعك، خاصة من كانت سريرته ظاهرة وعلانيته مرضية، أنعم بها من عيشة راضية. إنما، وكما أفصح شيخنا التوحيدي؛ فإن «الكلام إذا وجد مسرحًا لم يقف، والخاطر إذا أصاب سحًّا لم يكف.»
أجمل الأمور، بعد هذا، أن نصدق أنفسنا ونحن نقبض على زمام مصيرنا في كلمات يحسبها الغُفل مضيعة وقت وترجيع أوهام، أما أنا فلن يلهيني شتاء ولا يعفيني صيف عن مواصلة تدبر بعض شئون الدهر، أم الزمان، وتعقب كيفية تقلب سلوك الأنام على مدار الأيام. لن يثنيني عن هذا الامتحان نضوب ماء الوجه عند كثير، ولا حتى متى يبلى ثوب المروءة وتعقم أمُّ الوفاء؛ لإيماني أن الكلمات — أيضًا — هي مرآة القلب، فلا تطلبها إلا عند الملتاع الصبِّ، تهبط عميقًا في جوف النفس وتغور كأن اللفظ انقطع يكاد صاحبها يقول نذرت للرحمن عمري أن لا أكلم الدهر إنسيًّا، لائذًا بعصمة صدقه، ومستلهمًا الحكيم سقراط يعلِّم الإنسان أن افرَح بما لم تنطق به من الخطأ أكثر من فرحك بما لم تسكت عنه من الصواب. لكن لا حيلة لي، فما هذا منتجعي، ولن يقال إننا بتنا نصمت جبنًا أو نسكت على ضغن وإحنة؛ فإن نطقنا لاعن غيظ ودمنة؛ الحِلم لنا خليقة والحُلم فوق رءوسنا مجد وسحابة نستمطرها كلما عطشنا، فتسقينا ربابة، إليها يفضي عشقنا، ومنها نئوب كلنا طرب … وصبابة …
وإذ أراك يمَّمت شطر ما تحسبه الباب الأخير للخروج لا أجد بدًّا من مخاطبتك ثانيًا ولاحقًا بأنك إلى دخول جديد أقرب، فيا صنو روحي وسميَّ جدي، أنا وأنت، بل نحن جميعًا أسباط ذاك العهد التليد لم تنطفئ في عيوننا هاتيك النجوم، وما زلنا على مِلتنا نقول هل من مزيد؟! وألطف القول آتيك به من فم المجرب والطبيب، في آنٍ، سيد البيان أبي حيان، يعنيك ويعنيني بترغيبه، ألا: «إنك قريب الدار بالأمل؛ داني النُّجع بالقصد؛ رحيب الساحة بالمنى، ملحوظ الحال بالحسد، مشهور الحديث بالدرك.» وأنت تعلم، بعد هذا وذاك، أن المؤمن قد يستفتي صحبه ولكن أبدًا لا يغادر قلبه، لا سيما إذا كان في داخله شاعر يغرد حين يطيب له الحب … مثلك.