دعاة الزور و«لبن العصفور»!
بات معلومًا لدى الخاص والعام — إلا عند الجاهل والعنيد — خصائص ومزايا المناخ السياسي الجديد الذي ينتقل إليه المغرب منذ سنوات، ويزداد تحدُّدًا وضبطًا سنة بعد أخرى بفعل عوامل وطنية متضافرة، وأخرى خارجية مؤثرة. وواضح لكل ذي نظر وبصيرة ما أثمره هذا المناخ من انفتاح وانفراج على أكثر من صعيد، نعلم جميعًا أن التسويات والتراضيات المستحبة المنضوية تحت العنوان الدالِّ لحقوق الإنسان لتُعد إحدى تجلياته الأنضج والأبهى. جدير بالتذكير أن هذه الوضعية الموسومة بالجدَّة والتحوُّل ذات حلقات متواشجة، في سلسلة ما تنفكُّ تتطور وتأخذ سمات التغيير الذي يعمل الفاعلون الكبار في المجتمع على إحداثه وإنضاج صيرورته بكل الوسائل الناجحة والممكنة.
هل نحتاج إلى تعيين أسماء هذه الحلقات أو سرد الأمثلة — الصالحة والطالحة — للتمثيل على ما خاضت فيه أكثر من جهة، منها الأصيل والنزيل وحتى الدخيل، كلٌّ — حسب العبارة التقليدية — أدلى ويُدلي بدلوه في بئر التحوُّل ومجرى الانتقال يغرف كما يشاء ليسقي أو يغرق، بعد ذلك، كما يشاء أو لا. وإن اللافت للنظر حقًّا أنه إثر انفتاح القمقم خرجت الملائكة والعفاريت، وحتى الخراتيت صوَّحت وإنها لتصيح. والنعام الذي كان رأسه في الرمال أخرجه يستأسد حاملًا سيوفًا من خشب، يحسب أنه سيسوس الخلق وذاكرتنا معه كما يسوق الرعاةُ الأنعام. ليست هذه لهجة تأسٍّ ولا للتشفي؛ فأنا أعتبر أننا محظوظون حقًّا لأننا ما زلنا ننعَم بالحياة والصبر لنرى تقلُّب الأيام والسجلات تفتح والأصوات والأقلام تتبارى لتخطَّ — بمداد الحقيقة تارة والزور تارات — ما جرى ويجري في تاريخ هذا البلد الأمين. أوَلا ترون كيف أن الشجاعة أضحت مواتية والألسنة متدلية تخوض في الصافي والعكِر؛ لينسج أمام الجميع كتاب المغرب الذي طالما افتقد كُتَّابه ومؤرخيه.
غير أنه، وقد انفض أول الزحام وأصبح بالإمكان استعادة هدوء العقل بعد فورة الحماس المصاحبة عادة لكل مثير؛ فإن علينا أن نشترك جميعًا في الدعوة إلى عودة الأمور إلى نصابها، أي مكانها الصحيح الذي يبدو أنها حادت عنه في غمرة الطريقة الفولكلورية التي استخدم بها من لدن البعض حق حرية التعبير الذي لا جدال فيه مبدئيًّا وأولًا. ولكون الذين تعاطَوا مع الواقع الجديد في تحوُّلاته المتواصلة ليسوا كلهم مؤهلين سواء لإنجاز الحفور الضرورية للماضي السابق عليه، أو لمساءلته في حد ذاته. طبعًا ليس طرق باب السياسي والمجتمعي والثقافي — أيضًا — حكرًا على فئة دون أخرى ولا على جيل دون جيل، شأنها شأن اختيارات البحث والتأويل في مناخ يتَّسم بالتعددية، وينحو أكثر فأكثر نحو حرية التعبير وحق الاختلاف. إنما تعالَوا نتساءل بما أن التاريخ ذاكرة جماعية موقرة وموثقة وتحتاج دائمًا إلى التوثيق صونًا لها من النسيان والتدليس، هل يحق لأي عابر سبيل أن يتصدَّى لمهمة خطيرة كهذه بسَمتِ التبجح وحده، وعُدته سلاح المحو وقلب الحقائق وخلط المفاهيم وتشبيك الشعارات بطريقة الحواة؛ لتقديم أي شهادة مزعومة عن واقع كان، وآخر في طور الكينونة. نعم، يحب الناس الإثارة وينجذبون إلى الفضائحي، وعندنا — كما عند غيرنا — إعلام يغذي هذين الحافزَين — في أخفِّ تسمية — ويتعيَّش بهما حدَّ الرخص والدجل المستخِف بالعقول وتبخيس الناس دون درجة البشر، في موجة غوغائية فوق الغثيان، غير أن المبادئ الوطنية والقيم النضالية والوقائع الدامغة والمحطات الحاسمة — في تاريخ شعب ومسيرة أمة في آيات مجدها أو حتى في منحنيات انكسارها — لا وليست قابلة للعبث والتقشير بخفة كما يقشر اللب والفستق، وإلا نصبح كلنا — من داخلنا — عرضة للاستباحة.
نظن أن مؤرخِي هذا البلد ومفكريه وكتَّابه وإعلاميِّيه ومناضلِيه، وعمومًا حراس وحماة ضميره الوطني، هؤلاء وغيرهم من الجنود المجهولين، مدعوُّون إلى الانخراط بعزيمة أمضى في تحصين مرحلة التحوُّل التي يعيشها — ما همَّت عثراتها وسلبياتها، فهي جزء منها — وبما أن الذاكرة التاريخية للشعوب مرآة تاريخها ولسان تراثها ووعاء بعض هويتها بحكم ما جری وتأسس وأُرسِي؛ فإن العمل ينبغي أن ينصبَّ على هذه الذاكرة إما لتجميع شتاتها، أو لكشف خباياها، أو للتعريف بها على الوجه الصحيح الذي يكفل تعليم الأجيال ويقوي عضد الأمة. فهل يحتاج الوعي الوطني لكي يأخذ مجراه على النحو المطلوب والسنن المستجد، وهل يحتاج مطلب النهضة ومقصدها اللذان ليس منهما فكاك وإن طال السفر؛ أو يحتاجان إلى صدور مراسيم أو قرارات رسمية كيفما بلغت وجاهتها ورجاحتها، ليعتبرهما الرعيل الفكري والسياسي المناضل بإخلاص جبهة مفتوحة يعتبر النزال وغاية النصر فيها محكًّا لاختبار المبادئ والمشاريع، ناهيك عن النوايا. أكيد أن هنالك فرسانًا في الحلبة — ولا بأس إذا وُصفوا بالدونكيخوطية والمثالية — ولكن ما نعنيه هو الجيش العرمرم لا بد يحسم في المعركة. إنها خطوة أولى إذ يتم بها ضبط حقائق الماضي، على الأقل في معالمها الكبرى، تُعدُّ خطوة ثانية في تشكيل المرآة الناصعة للحاضر، وهو يتحوَّل، ينظر فيها الذين يريدون نحته على شاكلة ملاحهم المشوهة أو المزورة، فينفضح زورهم توًّا. في مرحلة التناوب التوافقي رفعت الحركة التقدمية شعار وجود جيوب لمقاومة التغيير، وكانت محقة بلا جدال. واليوم لعله يوجد ما هو أعتى حين يقتحم معركة التغيير في بلادنا بصفاقة مذهلة أغرار ووصوليون ونَعرويون وظلاميون يطلون المنابر بجميع الأصباغ والعناوين، يحملون أسماءنا ويدَّعون صفاتنا، ويتسللون كذلك ليلًا إلى أحلامنا. في كل الحقول، أولاد الزور — هؤلاء — يتناسلون، ولا تعجبوا إذا غدًا قالوا سنجلب لكم، لغَدِكم «لبن العصفور» — طبعًا ليس المراد رواية الكاتب المصري يوسف القعيد، بالعنوان نفسه — أو ما نُسميه على الطريقة المغربية «حليب الغولة» تأتي به إن أردت أن أحكي لك الحكاية، وأنا بدأتها بلا حليبهم، وليكملها كل واحد من رأسه أو ليحلب العصفور، كما يدَّعون!