الوطنية أولًا، والمواطنة دائمًا
لا يسع المرء إلا أن يغتبط لجوِّ التعبئة الذي يسود أوساطًا مختلفة في المغرب، تتحمس لمناصرة جملة مبادئ، والدفاع عن ثوابت وما في حكمها للشخصية المغربية؛ دستورية وحقوقية. دليل وعي سياسي لا يقتصر على نشاط الأحزاب والتزامها بالتوعية، بقدر ما هو علامة أخرى على نضج يختمر في نفوس وعقول الجيل الجديد الذي لم تعرُكه مِحَن الماضي وتجاربه التي بها شُيد مغرب اليوم. وفي الجملة لنا أن نتفاءل بهذا الجو ونعتبره بادرة خير من قِبل من حسبناهم من النُّوَّم، وليس لأحد الحق أن يرتاب من هذه الناحية، خاصة حين يصدر الخطاب عن نخبة تكون قد حسبت حساب كل شيء، لنفترض أن كلامنا واحد، بحكم صدوره عن شخص ينتمي بالضرورة إلى الرأي العام.
والحق أن وسواسًا داخَلني وأنا أقرأ وأسمع نخبًا وأناسًا يتنادَون للدفاع والتعبئة باسم المواطنة، والوسواس الخناس، والعياذ بالله، يزرع الشك ويفسد اليقين حتى في ما قد يظهر للبعض من باب المسلمات والبداهة. آية ذلك أني حين لُذت بصديقي أديب رباطي وجدته كذلك في حَيرة من أمره مما حزب. وهو كما أعرفه مستغنٍ عن أمور شتى في هذه الدنيا، ومنها أن يظل غفلًا، غير متعصب لشيء جدًّا أو متطرف فيه، اهتداءً بأسلافه الذين قطنوا «بوقرون» و«سانية الطالبة رقية» في رباط الفتح الفانية. سألته: ما ترى فيما نرى؟ فأجاب بمنهجه «اللولبي»: «وهل ثمة حقًّا ما یُری؟» قبل أن يجيب باصطلاح حديث على غرار النقاد الجدد: «هناك مشكل مقروئية»، وكان يعني النص المشاع بين الناس يطلب مشايعتهم دَرءًا لتلك المفسدة. وعندي أنه قبل ذلك مشكل مرجعية، بما تتضمنه من عناصر المرسل والمرسل إليه والرسالة في مستوى البِنية السطحية فقط، قبل الانتقال إلى «قاع» الخابية.
أزعم أنه لا يجوز لأحد أن يعطي الدروس لأحد ويوجه النقد بأي لهجة إذا كان هو نفسه أو ثقافته أو دوافعه عاجزًا عن تنكُّب خطأ المنتقَدين؛ هؤلاء يريدون أن يضربوا صفحًا بثوابت شعب فيما توافق عليه من نواحٍ معينة، نظام الحكم في قلبها، بناءً على تراث وحركية سياسية ونضالية هي جزء من تاريخ هذا الشعب، ما له وما عليه. والمنتقِدون أنفسهم يرتكبون الجريرة ذاتها حين يقفزون على حقائق جهيرة في تاريخ المغرب يسمونها عرَضًا مكتسبات، يقومون بعملية مسح لا تقل خطورة واستفزازًا عن الدعاوى المتمادية موضع التشهير. إن المرجعية الصحيحة في هذه النازلة — بعناصرها المذكورة — والتي يحتاج كل حصيف ومَن ينصِّب نفسه مرسلًا جديدًا في سياق الرغبة لتوجيه الرأي العام والتصدي لأطروحات المتربصين بثوابت الإجماع الوطني، لا بدَّ له في شروط الصدقية والنزاهة الفكرية الدنيا، أن يتخذ الوطنية المرجع الأم في مقاربة الموضوع إذا كان يتوخى حقًّا تعبئة الأمة لصَون حقها والدفاع عن مشروعية تاريخها (إجماعها). وللتذكير — فقط — فالوطنية ليست صفة للوطن وحسب، ولكنها دلالة — محور دلالي كبير — معبرة عن حقل دلالي أكبر ارتسمت فيه وتفاعلت وتبلورت بالأدوات المادية مع القيم الرُّوحية والفكرية والشعورية التي صاغت وضع وشخصية الوطنية المغربية عنوان يقظة شعب وانتباهه لمعضلة تخلُّفه وحتمية السعي للتقدُّم، فتجديد بناء ذاته، ومواجهته للمستعمر، واندراجه في معادلة «ثورة الملك الشعب» ومنها إلى المعادلات اللاحقة، يمينًا ويسارًا.
أما المواطنة فهي وضع والتزامات أخرى تالية ومعضدة، وهي — إن اقتضى التذكير — صيغة تنتمي إلى حقل الثقافة الحقوقية والسياسية والدستورية الغربية، وهي تصوغ الشروط والعناصر التي بموجَبها يشارك الأفراد في الشئون العامة، منذ الإغريق، وحديثًا — خاصة — باعتماد الحقوق السياسية التي تختص بتنظيم المجتمع، وتقوم على أساس السيادة الوطنية. وستتكرس المناداة بها في تصريح حقوق الإنسان والمواطن للثورة الفرنسية (١٧٨٩م). ولا جدال في أن كل الشعوب في العصر الحديث عملت وناضلت، وكافحت لاسترجاع حريتها المسلوبة، كما بينها من يواصل النضال من أجل التوفر على جميع القدرات والخصائص الفعلية للمواطنة، والمغرب من هذه البلدان، والوطنية المغربية هي التي وضعته على نهج تحقيق مواطنة أفراده، وأيديولوجيتها المتعددة الروافد، ونضالات الأحزاب الوطنية، الديمقراطية النقابية، وقوى الثقافة والتنوير الحديث كأنوية للمجتمع المدني البِكر فالمتطور، والتضحيات الجسام؛ كله قام ويقوم بصنع قالب المواطنة الجديدة ليصبَّ في القالب التاريخي للوطنية التاريخية الخصوصية، هذه التي كان عليها في حقبة معلومة أن تواجه «المواطنة الغربية» صاحبة إعلان حقوق الإنسان، بعد أن لم تتورع عن دفع جيوشها في جغرافية الإمبراطورية الاستعمارية تتحكم في الرقاب وتنهب الثروات.
حسنًا إذ يلتقي الماضي بالحاضر في لحظة صيرورة تعيد صياغة الوجدان الوطني، وتزرع روحًا جديدة في مآل اليباس والتلاشي، وما همَّ الجحود والمحو الأعمى وعدم ترتيب الأولويات ولبس المفاهيم بما يورث النسيان، وحتى خلط الأوراق بُغية تسوية أي شيء بكل شيء؛ سنتسامح مع هذا كله وما في ضربه ما دام يجمح ويصهل بذلك الصوت الوطني الحار الذي كم بِتنا نفتقده في جموح أنانياتنا واسترخاصنا لكثير من القيم الوطنية ورموز السيادة. على أن أي وعيٍ، ويقظة ضمير، وموقف إخلاص ليس رهنًا بالظرف العابر بل بامتحان الزمن وديمومة اليقظة، كما أنها خصال ومبادرات تظل في حدود المعنوي، وحبذا لو عبَّر كل واحد عمليًّا عن حماسه لمقومات هذا الوطن من موقعه وبالأدوات الممكنة بين يديه، وهو ما لا يتأتى إلا بالسباحة في المياه العميقة والصافية للوطنية.